أدرت المحرك وبدأنا نبتعد بالسيارة، استقر جورج في المقعد الخلفي لينام، حينها تناهى إلى سمعنا صوت أنثوي ينادي، صوت أنثوي غليظ ومرتفع، يهتف بنبرة مهينة وبائسة: «شكرا على النزهة!»
لم تكن أديليد، بل كانت لويس.
المكتب
لاح في خاطري - ذات مساء، فيما كنت أكوي قميصا - الحل لحياتي. كان حلا بسيطا لكنه جريء. دخلت إلى حجرة المعيشة، حيث كان زوجي يشاهد التلفاز، وقلت: «أعتقد أنني بحاجة إلى مكتب.»
بدت الفكرة عجيبة، حتى بالنسبة لي. لماذا أنا بحاجة إلى مكتب؟ فلدي منزل جميل ورحب، ومطل على البحر، كما أنه يضم أماكن ملائمة لتناول الطعام والنوم والاستحمام وتجاذب أطراف الحديث مع الأصدقاء، وبه حديقة؛ إنه منزل لا يفتقر إلى الرحابة.
هذا صحيح. لكني ها هنا أكشف لكم سرا، وهو ليس بالأمر الهين علي: أنا كاتبة. لا يبدو هذا القول ملائما، يبدو غاية في العجرفة والزيف، أو على الأقل غير مقنع. فلأحاول مرة أخرى: أنا أكتب. هل هذا أفضل؟ «أحاول» أن أكتب. هذا يزيد الطين بلة. تواضع زائف. ماذا إذن؟
لا يهم. بغض النظر عن الصياغة، تخلق الكلمات مساحتها من الصمت، تخلق لحظة المجاهرة الهشة تلك. لكن الناس طيبون، فسرعان ما يبتلع الصمت اهتمام الأصوات الودودة، التي تصيح بأشياء مختلفة من قبيل: يا له من أمر رائع! هنيئا لك، وهذا مثير للاهتمام. يسألونني في حماس: ماذا تكتبين؟ فأجيبهم بأنني أكتب الأدب القصصي، حاملة خزيي حينئذ بهدوء، بل وبشيء من جسارة لم تكن يوما من سماتي؛ ومجددا، تكسر مثل هذه الأصوات المهيأة اللبقة - والتي، مع ذلك، تكون قد استنفدت ذخيرتها من العبارات المشجعة، ولم يعد بوسعها سوى قول: «أجل!» - دوائر الهلع الملموسة.
قلت لزوجي: ها هو السبب الذي أود امتلاك مكتب من أجله؛ لأكتب فيه. أدركت على الفور أن هذا بدا مطلبا صعبا، شيئا من ترف استثنائي. كي أكتب - كما يعلم الجميع - أحتاج إلى آلة كاتبة أو على الأقل قلم رصاص وبعض الأوراق وطاولة وكرسي؛ وأنا لدي كل هذه الأشياء في ركن بغرفة نومي، لكنني الآن أريد مكتبا أيضا.
إذا ما تطرقنا إلى هذا الأمر، لم أكن واثقة حتى أنني سأمارس الكتابة فيه. لعلي سأجلس هناك وأحدق في الجدار؛ وحتى هذا الاحتمال لم يكن سيئا بالنسبة لي. في حقيقة الأمر، إن وقع كلمة «مكتب» هو ما أعجبني، وقعها الذي يوحي بالوقار والسلام، والعزم والأهمية. لكنني لم أهتم بذكر هذا الجانب لزوجي؛ لذا شرعت بدلا من ذلك في شرح بلاغي منمق دار - على ما أذكر - على هذا النحو:
المنزل مكان ملائم ليعمل به الرجل؛ فهو يحضر عمله إلى المنزل، فتخلى له مساحة ليعمل بها، ويعيد المنزل تنظيم نفسه على أفضل نحو ممكن حوله. يدرك الجميع أنه يعمل؛ فليس من المنتظر منه أن يجيب على الهاتف، أو يبحث عن أشياء مفقودة، أو يتحقق من سبب بكاء الأطفال، أو يطعم القطة. بإمكانه غلق بابه. (قلت) تخيل لو أن أما أغلقت باب حجرتها، وأطفالها يعلمون أنها خلف ذلك الباب؛ يا إلهي! إن الفكرة في حد ذاتها مثيرة لحنقهم. أيضا تبدو المرأة التي تجلس محدقة في الفراغ، في مكان ليس به زوجها أو أولادها، مخالفة للطبيعة تماما. من ثم، المنزل لا يعني الشيء نفسه للمرأة، فهي ليست بشخص يأتي إلى المنزل، يحقق منه نفعا، ثم يغادره مرة أخرى. إنها «هي» المنزل، يستحيل الفصل بينهما. (وهذا حقيقي، بالرغم من أنني كعادتي حين أجادل حول شيء أخشى أنني لا أستحقه، أصوغ حديثي بمصطلحات تأكيدية وعاطفية أكثر مما ينبغي. في أوقات بعينها - ربما في أمسيات الربيع الطويلة، بينما الجو لا يزال مطيرا وكئيبا، وقد أزهرت بصيلات النبات الباردة، والضوء خافت للغاية بما لا يمني بالسباحة في البحر - أفتح النوافذ وأشعر بالمنزل يتقلص عائدا إلى الخشب والجص وتلك المواد البسيطة المصنوع منها، والحياة بداخله تهمد، فيتركني في العراء، خالية الوفاض، لكنني أشعر حينها برجفة من الحرية عنيفة وجامحة، أشعر بوحدة غاية في القسوة والمثالية لدرجة لا أتحملها في تلك اللحظة. ثم أدرك كم أنني طيلة الوقت محمية ومثقلة بالأعباء، وكم أنني مستدفئة ومقيدة بإصرار.)
Unknown page