تقديم وإهداء
القاهرة: نوستالجيا مستقبلية
1 - القاهرة والمكان
2 - تطبيقات على النمو المكاني في بعض مناطق في القاهرة
3 - القاهرة والزمان
4 - القاهرة والناس
5 - القاهرة والأنشطة الاقتصادية
6 - فصل في حياة القاهرة المعاصرة
7 - هل يمكن حل إشكاليات القاهرة
الخاتمة
ملحق الصور
المصادر والمراجع
تقديم وإهداء
القاهرة: نوستالجيا مستقبلية
1 - القاهرة والمكان
2 - تطبيقات على النمو المكاني في بعض مناطق في القاهرة
3 - القاهرة والزمان
4 - القاهرة والناس
5 - القاهرة والأنشطة الاقتصادية
6 - فصل في حياة القاهرة المعاصرة
7 - هل يمكن حل إشكاليات القاهرة
الخاتمة
ملحق الصور
المصادر والمراجع
القاهرة
القاهرة
نسيج الناس في المكان والزمان ومشكلاتها في الحاضر والمستقبل
تأليف
محمد رياض
تقديم وإهداء
منذ 600 سنة قال المقريزي شيخ الكتاب عن القاهرة في كتابه الرائع «الخطط»:
مصر هي مسقط رأسي، ومجمع أترابي، ومجمع ناسي ... وموطن خاصتي وعامتي، وجوي الذي ربى جناحي في وكره، وعش مأربي، فلا تهوى الأنفس غير ذكره، لا زلت مذ شدوت العلم، وآتاني ربي الفطانة والفهامة، أرغب في معرفة أخبارها، وأحب الإشراف على الكثير من آثارها، وأهوى مساءلة الركبان عن سكانها وديارها، فقيدت بخطي في الأعوام الكثيرة من ذلك فوائد قلما يجمعها كتاب، أو يحويها لعزتها وغرابتها إهاب ... فأردت أن ألخص منها أنباء ما بديار مصر من الآثار الباقية عن الأمم الماضية والقرون الخالية ... وأذكر ما بمدينة القاهرة من آثار القصور الزاهرة، وما اشتملت عليه من الخطط والأصقاع، وحوته من المباني البديعة الأوضاع، مع التعريف بحال من أسس ذلك من أعيان الأماثل، والتنويه بذكر الذي شادها من سراة الأعاظم والأفاضل، وأنثر خلال ذلك نكتا لطيفة وحكما بديعة شريفة، من غير إطالة ولا إكثار، ولا إجحاف يخل بالغرض ولا اختصار؛ فلهذا سميته كتاب: «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار».
ولد الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي في القاهرة 766 هجرية/1364 ميلادية، وتوفي بها عام 845 هجرية/1442 ميلادية، عن 78 عاما ميلادية.
لم أر أحسن مما صاغه المقريزي في تقديم هذا الكتاب عن القاهرة المعاصرة. فهي أحب المدن إلي؛ مسقط رأسي، وفيها قضيت معظم مراحل حياتي، دائم التجوال في أحيائها؛ أرقب بنيانها، وأسجل في الذاكرة نموها طوال عدة عقود من الزمن، وأكتب عن ذلك مذكرات لم تر النشر، وبحوثا نشرت في دوريات وحوليات وصحف محاولا استنتاج إجابة على تساؤلات تدور في أذهان الكثير من المفكرين والباحثين: القاهرة إلى أين؟
وهذا الكتاب محاولة لم شمل ما كتبت وما لم أكتب، وما أحس به تجاه هذه المدينة العظيمة التاريخية والمعاصرة. متبعا في ذلك منهج الجغرافي والتاريخي والاجتماعي والسياسي حسب مقتضى الحال، وإن كان كل ذلك يلخصه ويهدف إليه منهج «الحياة» لمدينة بموقعها ومساحتها وناسها وتفاعلاتها الدينامية العفوية التي تأتي من استجابة الناس التلقائية لظرف حياتي فقير أو غني، نشط أو راكد، عامل أو عاطل ... كل يسعى إلى مجرد احتياج للبقاء أو إلى مزيد من رفاهية عيش. كل ذلك يعلو على مخطط ترسمه سياسة عمران بحيث تطوعه للاستجابة التي يحس بها الناس أنها الاختيار الأفضل.
متمنيا لهذه المدينة الخالدة دوام البقاء زهرة للمدائن خالية من المتاعب التي نواجهها في السياسة والعمل والتنافر المعماري ومصاعب التنقل بين جنباتها الفسيحة، ووسط حشدها السكاني الذي تجاوز أحد عشر من ملايين الأنفس.
إلى القاهرة دائمة الحياة والمجد، وإلى أرواح المقريزي ومن سلكوا دربه إلى علي مبارك أهدي هذا العمل.
محمد رياض
مدينة نصر في 18 / 9 / 2000
القاهرة: نوستالجيا مستقبلية
الموضوع الآتي رؤية ذاتية أسقطها من الماضي على المستقبل. كنت أود أن يكون العنوان «القاهرة التي كانت»، ولكن تراءى لي أن الخلاصة ستكون نظرة حزينة للواقع الذي نعايشه في قاهرتنا المحروسة المحبوبة للمصريين والكثير من أشقائنا في العروبة والإسلام، ومن ثم مزجت الماضي بالمستقبل، متخطيا الواقع المؤلم الذي نعايشه. حنين جارف للماضي، وتشوق لما يمكن أن نعمله من أجل استعادة كل شيء جميل كان يميز هذه المدينة الخالدة.
الماضي الجميل
ولدت ونشأت وعشت حتى الآن قاهريا أصيلا. ربما كانت هناك جذور ممتدة إلى الشرقية، لكنني لم أعرفها إلا سردا قليلا من خلال قلة من أقرباء «شراقوه» مقيمين أيضا بالقاهرة. حين شببت عن الطوق كانت تحدوني باستمرار رغبة في المشي الطويل؛ للتعرف على شوارع حي الجمالية، وبرغم لهفة الأهل، فإنني كنت أغامر طويلا حتى انطبعت في الذاكرة خريطة من السيدة زينب إلى باب اللوق، وغربا إلى كوبري قصر النيل، وشرقا إلى عابدين والعتبة. وفي مرحلة الشباب اتسعت خريطة القاهرة لتشمل المدينة الفاطمية وبدايات شبرا والعباسية، وفي مرحلة التعليم الثانوي تسلقت المقطم فجر أحد أيام شتاء 1943 مع ثلاثة من زملاء الفصل في مغامرة خطرة حيث كانت هناك معسكرات للجيش الإنجليزي، وتهنا عن عين موسى التي كانت مسجلة عندي في خريطة، وعند العصر وجدنا أنفسنا عند الجبل الأحمر، وتكررت رحلتي بمفردي إلى القناطر الخيرية بطريق إمبابة-المناشي، راكبا دراجة أو ماشيا على الأقدام مع العودة بالقطار. أما الذهاب إلى الأهرامات؛ فكان يسيرا بواسطة الترام الذي كان يسير في منتصف الشارع بين خضرة وورود مما كان يشكل نزهة ما بعدها متعة وجمال، وتمعن في أمجاد مصر دفعني إلى قراءات كثيرة في التاريخ المصري القديم. ولا أنسى فضلا لأبي في مزيد من التعرف على خريطة القاهرة؛ فكل صلاة جمعة كنا نقضيها في مساجد بعيدة في المنيل وشبرا والجيزة، وعشرات المساجد من القلعة والسلطان حسن - الذي تعلقت به كثيرا - والرفاعي، إلى الأزهر وغيره من التحف المعمارية الإسلامي التي تتميز بها القاهرة عن بعض المدن العربية الأخرى، وهذا ما زادني اتجاها إلى قراءات في تاريخ القاهرة، وشم عبق الزمان في الغورية والسكرية والخيامية والجمالية ... إلخ.
أذكر هذه الخبرة الشخصية ليس لمجرد السرد، ولكن لنعرف كيف يحاول الشباب من جيلي أن يعرف مدينته إذا كانت كبيرة رحيبة مهيبة كالقاهرة.
قد ساعد على هذه الريادات بنية ملائمة للمشي والتنقل في شوارع القاهرة آنذاك، فقد كانت الشوارع كلها ظليلة بما زرع على الأرصفة من أشجار ظل كثيرة، وما كانت المحلات تفرده من ستائر معلقة أمام واجهاتها في الأحياء المتوسطة والشعبية؛ بل في أرجاء القاهرة القديمة كانت بعض الشوارع تظلها أسقف خشبية أو من قماش سميك لدرء أشعة الشمس عن السابلة أثناء حركتهم في الأسواق، وتتخلل هذه الأسقف منافذ عالية للتهوية والإنارة، وبمثل هذا التحوط البشري كان الناس تلقائيا وتاريخيا يتعايشون مع البيئة القاهرية الحارة خلال الصيف الطويل، بحيث إن مثل هذه الشوارع كانت تسري فيها نسمات منعشة أقل حرارة من الجو المفتوح.
وهذه هي إحدى أسس البناء عند العبقري المصري العالمي المهندس البناء حسن فتحي: درس حسن فتحي أشكال البناء المصري القديم والإسلامي في القاهرة والواحات والنوبة التي غرقت تحت مياه بحيرة السد أو بحيرة ناصر، مستخلصا مبادئ بسيطة لكنها شديدة الفعالية في التغلب على حرارة صيف المناطق الصحراوية، ويمكن تلخيصها في أمرين؛ أولهما: محاولة الحصول على الظل والنسمة من خلال تقارب المباني بحيث يقلل مساحة الفراغات التي تتسلط منها أشعة الشمس، وثانيهما: الإكثار من القباب على أسطح البيوت التي تزيد من حجم الغرف والصالات مع نوافذ عليا تتسرب منها الحرارة المتجمعة المنبعثة من الأجسام والنشاط البشري داخل الغرف؛ فالهواء الدافئ يصعد إلى أعلى والبارد ينزل إلى أرضية الغرف. كما أن وظيفة الأقبية أنها تشتت أشعة الشمس الخارجية في زوايا عديدة على كل درجات الميل للقباب بدلا من السطح المستوي للأسقف، وفي الممرات والدهاليز داخل البيوت تسري أهوية رطبة تخفض درجة الحرارة على أن يكون لها فتحات مواجهة للرياح الشمالية السائدة. ومن هنا كان بناء مساقط هواء «شخشيخة» ملونة الزجاج على أسطح البيوت، يمكن التحكم بواسطتها بفتح زجاج مواجه لتيار الهواء وإغلاق غيره. ومن هنا أيضا كان استخدام المشربيات على النوافذ له مثل هذه الوظائف المبردة لزمتة الصيف وخنقة الرطوبة. كل هذه المبادئ البسيطة في البناء هي نتاج تاريخ طويل لممارسات سكان المناطق الحارة الجافة من إيران إلى مصر وشمال أفريقيا، وكلها كانت في انتظار توافق فكر مبدع يربطها معا، وهكذا كانت عبقرية المعماري حسن فتحي، وما أحوجنا إلى الاحتفاء به هذه الأيام، ليس فقط بإقامة ندوات علمية؛ بل أيضا بمحاولة تطبيق توافقاته البيئية بصورة أعم مما هو عليه الوضع الآن.
القاهرة كما يعرفها من هم في سني، منذ الأربعينيات والخمسينيات، ينكر أن القاهرة الآن هي التي كان يعرفها منذ نصف قرن لولا بعض الشواهد الباقية الباهتة. فكثير من الشوارع والميادين تغيرت أسماؤها وتدهورت أحوالها. من يقول: إن شارع فؤاد (26 يوليو الآن) هو نفس الشارع الذي كان متنفسا يذهب إليه الناس للترويج في ظل إطار الأشجار التي كنت تحف به، ولمشاهدة مجموعة المحال شديدة الرقي: شيكوريل وشملا وبيع المصنوعات، وعصافير زاهر شفيق - إن أسعفتني الذاكرة - وقهوتي بول نور وبورفؤاد على ناصيتي سليمان باشا وشريف باشا، ومحلات «الأمريكين» والبن البرازيلي وحلواني أسدية والكازار وتسيباس ... إلخ. والشوارع المتقاطعة بما فيها من مقاه ومطاعم وسينمات، مثل: البودجا والكورسال والباريزيانا، وسينما ديانا وكايرو وسان جيمس، ومسرح رتيبة وإنصاف رشدي في شارع الألفي، ومترو وميامي وكافيه ريش ومشرب الشاي الهندي في سليمان باشا. وعشرات المطاعم الفاخرة الغربية والشرقية، مثل: الشيمي وكورسال وسان جيمس واليونيان، وسوق التوفيقية الشهير بأصناف منتقاة من الخضر والفاكهة، وسوق الممر التجاري بصناعاته الجلدية المصرية التي كانت تلقى قبولا حسنا من المصريين والأجانب المقيمين والسياح.
هذا قليل من كثير لشارع واحد محوري في القاهرة، يبدأ بمنتزه عظيم هو حديقة الأزبكية التي تقطعت أوصالها، ويحاولون الآن استعادتها بعد الخسارة! كان الشارع مسارا للترام والأتوبيس والسيارات، وبقربه من عماد الدين بداية مترو مصر الجديدة، وبرغم ذلك كانت الضوضاء والجلبة قليلة وعادم السيارات قليل بحكم انضباط قواعد إصدار التراخيص. كانت فئات الشباب تجوب الشارع صيفا بعيون مفتوحة على حركة الناس والتجارة، يتناولون وجبات سريعة وقطع الجاتو في محال متعددة، وكبار القوم يلتقون في البول نور في هدوء يحتسون القهوة، ورجال أعمال يختارون قهوة بورفؤاد مقرا للشاي وإجراء الصفقات.
كانت أمسيات الصيف القاهري أكثر من رائعة تتخللها نسمات رقيقة نقية الهواء، والكثير من العائلات تذهب لحفلات السينما في أبهى حلة من السادسة إلى التاسعة، مع القليل من محبي النظر إلى الجمال، والقليل جدا من المعاكسات الشبابية؛ لأن رجال الشرطة يؤدون واجبهم وسط طاعة واحترام الجميع وتقديرهم لما تؤديه الشرطة لأمن الناس. أما في الشتاء يغلق مبكرا إلا من بعض الذين يشوون أبو فروة في الأمسيات الباردة، وينسحب رواد المقاهي إلى داخل المقهى والطلبة في بيوتهم يستذكرون بانضباط نحسدهم عليه الآن؛ لأن المدرسة كانت حازمة بالنسبة لمن يتكرر رسوبهم.
ويمكن أن نتابع القول بالنسبة لشوارع المدينة الأخرى: سليمان وشريف وقصر النيل، وميدان الأوبرا وميدان الإسماعيلية «التحرير»، وميدان الأزهار في باب اللوق وميدان الحسين والسيدة زينب ... كل له طابع ورواد، والكل سعيد بما لديه، ابتساماته أكثر من تعقيد الوجوه، وعلى كوبري قصر النيل وكورنيش النيل في الجزيرة وأمام فندق سميراميس القديم حتى سور السفارة البريطانية، زرافات من الناس صغارا وكبارا يتنسمون الهواء، ويأكلون السميط والجبنة والبيض، ويسمرون حتى ساعات متأخرة من أمسيات ليالي الصيف بنسماتها الناعمة. كل ذلك دون جلبة وضوضاء، فقد كان الناس حريصون ألا تطغى حريتهم على حرية الجماعات الأخرى الجالسة إلى جوارهم في الصوت والحركة. كانت كل مجموعة تتحدث بصوت خفيض فيما بينها، وتتخلص من بقايا أطعمتهم في صناديق النفايات التي تعلقها بلدية القاهرة على أعمدة فوانيس الإنارة!
وميدان العتبة الخضراء كان اسمه في العصر العثماني العتبة الزرقاء، وتحول إلى اسم: ميدان الملكة فريدة، ثم عاد مرة أخرى إلى اسمه القديم. هذا الميدان العتيد كان تحفة فنية؛ حديقة وسطى معني بها أشد العناية، تدور حولها خطوط ترام الأزهر والعباسية والسيدة والقلعة وشبرا وبولاق والزمالك والعجوزة والجيزة. وبنايات البريد المركزي بساعته الدقاقة الشهيرة كانت مركز التوقيت القاهري، قبل أن ينتقل إلى ساعة جامعة القاهرة التي هي في الجيزة. والمطافئ المركزية إلى جوار البريد يقوم رجالها بالتدريبات المستمرة التي يتجمع حولها الناظرون للمشاهدة، ومسرح الأزبكية العتيد الذي شهد عشرات من الحفلات الشهرية لسيدة الغناء والطرب أم كلثوم، ومقاهي البواكي الواسعة في غرب الميدان الذي كان فعلا سرة القاهرة. وعند أول شارع فاروق (الجيش حاليا) مقهى ذو تراس كبير يسمى: قهوة رضوان الكبرى، هو ملتقى كثير من تجار الموسكي والأزهر، وأمامه مطعم العجاتي الكبابجي الشهير. ماذا أصاب هذا الميدان المركزي؟ رفع الترام وأعيد ورفع مرة أخرى. بنى فوقه طريق الأزهر العلوي، فأصابه بضربه قاضية، وعمارة البواكي غرب الميدان أزيلت جزئيا منذ عشرات السنين، وظلت طويلا منظرا فريدا في التشويه العمراني إلى أن أزالها مشروع نفق الأزهر. أزيلت الحديقة الوسطى، ثم أعيد بناؤها في الطرف البحري، وأصبح المرور في اتجاهين يسير حولها في قوس متعاكس مما يسبب إشكاليات مرورية كثيرة، ولا نعرف كيف سيكون تخطيط المرور بعد إتمام النفق، ومن الجلي أنه لا يمكن تخصيص الميدان للمرور في اتجاه واحد؛ لأنه ما زال حيويا، فهو مركز الارتباط الأساسي بين شرق القاهرة: الأزهر والدراسة وصلاح سالم ومدينة نصر والعباسية، وجنوب القاهرة: عابدين والسيدة زينب والقلعة، وغرب القاهرة: الأوبرا ووسط البلد والإسعاف وبولاق وكورنيش النيل بمراكزه التجارية الشاهقة، وشمال القاهرة: كلوت بك وباب الحديد والفجالة والسبتية وشبرا. مسكين حقا ميدان العتبة؛ أصيب بكل الأمراض التخطيطية والتدهور العمراني لكن موقعه الفريد يجعله يتحدى الشيخوخة حتى الآن. فماذا سيفعل به نفق السيارات المقرر تعسفا من الأزهر إلى الأوبرا؟ أم أن النفق لن يزيده مما حاق به من آلام، ويتجه إلى حديقة الأزبكية وميدان الأوبرا، ويفعل بهما ما لم يفعله الزمان؟ «جاردن سيتي» مدينة الحدائق بقصورها وفيلاتها وشوارعها الدائرية، كانت حيا من الأحياء صمم لهذا الغرض المعماري: أبنية موسرة المعمار والزخرف، وسط حدائق ظليلة فلا يطغى بناء على الآخر، ولا تسمع من الخارج سوى إيقاعات البيانو وموسيقى حالمة. الآن هي خليط من بقايا الزمن اللطيف وعمارات وأبراج لا تنتمي أصلا إلى مخطط الشوارع ذات الأقواس. تدخل إحدى الفيلات القديمة تشم الماضي، وتتصوره حيا كما كان، ولكنك تفتح عينيك على زحمة المكاتب، وتسمع طنينا مخدرا لأجهزة التكييف في مركز لبنك أو إدارة لشركة أو فرع لإدارة حكومية.
والضواحي الجميلة الغناء بأشجارها وخضرتها وبلابلها، في مصر الجديدة والمعادي والدقي، طغت عليها أكداس الإسمنت والزجاج في صورة العمائر علبية الشكل، تعلو فوق أراضي الفيلات السابقة، وتحجب الضوء والهواء، وتنفث غازات آلاف أجهزة التكييف بدلا من المسرى الطبيعي للهواء النقي، فضلا عن هدير وغازات مئات الآلاف من السيارات التي تجري في شأن وغير ما شأن!
المستقبل ... إلى أين؟
أين ذهبت القاهرة بصيفها الناعم، وشتائها المعتدل؟ لا شك في أننا لا نبكي رومانسية الماضي، فإن ما ذكرناه إنما هو لنتذكر ما كان. فماذا نفعل الآن في ظل المتغيرات الكثيرة البشرية، وأولها الزحف البشري، وحلول المخططين بالتوسع العمراني في الصحراء الشرقية والحقول الشمالية والغربية؟
من هنا أردت أن أضع بين يدي القراء المهتمين كتابا حديثا مقتصد الصفحات، يرصد بموضوعية - قدر الإمكان - أحوال القاهرة في المكان والزمان، وأعداد الناس وأعمالهم، ومصادر رزقهم، ومشكلات المدينة الخانقة من حيث كونها عاصمة سياسية واقتصادية وتجارية وثقافية، والجهد المبذول للإصلاح، لكنه عادة إصلاح جزئي دون نظرات شمولية لمعالجة شيخوخة المدينة العريقة. فكان هذا الكتاب الذي أرجو أن يكون إسهاما في معرفة حقيقة أوضاع المدينة التي نعيش فيها، وكيف نترفق بها في معايشتنا لها، ولنكون رأيا عاما يشجع على المزيد من الاهتمام بها وترقيتها بمشاركته الرأي مع الأجهزة المختصة في بلديات القاهرة الكبرى؛ لكي تكون القرارات الإصلاحية مستندة إلى مشورة الناس جنبا إلى جنب مع التخطيط الفيزيقي الذي يتولاه المهندسون المخططون. وبعبارة أخرى: فالمطلب هو أن يكون التخطيط غير أحادي كما هو حاله الراهن؛ بل شركة بين مختلف التخصصات البشرية المجتمعية والاقتصادية والصحية والجغرافية، بغرض حسن اختيار المواقع من أجل نشر التنمية وتنويعها بشمولية على الكثير من الأراضي المصرية قدر إمكاناتها الطبيعية، وقدر قدراتنا المادية والتكنولوجية. ومن خلال هذا المنظور الشامل سوف تجد القاهرة وغيرها من المدن المصرية بعضا من الحل لمشكلاتها المعاصرة؛ فإن تطور اقتصاديات الريف سوف تقل معه الفوارق في الخدمات وفرص العمل، وتقل تيارات الهجرة إلى المدن مما يثبت عدد سكان المدن على نسب نمو ذات قيمة أقل من الأوضاع الحالية، وهذا هو ما يسمح للمدينة أن تنمو طبيعيا، وأن تجد أحياءها القديمة، وأن يتحسن أداء بنيتها الأساسية، وبالتالي تقل إشكالياتها لتتناظر مع حجم الحياة في كل مدينة على حدة.
الفصل الأول
القاهرة والمكان (1) لماذا تنمو القاهرة؟ (1-1) العلاقات المجالية لمركزية القاهرة
هناك عوامل محددة لنمو المدن أساسها الرئيسي وظيفة المدينة، وللقاهرة وظيفة استمرت طوال فترة نحو 1400 سنة، ولولاها لكان الموضع الذي بنيت عليه هذه المدينة قد هجر كغيره من المواقع والمواضع. لقد كانت الوظيفة الأساسية لهذا الموضع منذ تأسيس الفسطاط عام 673م هي الوظيفة السياسية، وما زالت كذلك قاعدة الحكم في مصر، وباستمرار هذه الوظيفة وضحت وظائف أخرى للموقع أضافت إلى المدينة مبررات أخرى للبقاء والنمو، وترتب عليها علاقات أخرى صنعها الإنسان. وقد أدت هذه العلاقات المجالية إلى تركز الحركة التجارية والحرفية والصناعية بحكم أن القاهرة أصبحت فيما يشبه منتصف الطريق بين ثلاثة محاور هي: (1) محور الدلتا - الصعيد. (2) محور بين المغرب العربي والمشرق العربي. (3) المحور بين البحر المتوسط/أوروبا من ناحية والبحر الأحمر/عالم المحيط الهندي من ناحية ثانية. ويحتاج شرح أهمية كل من هذه الطرق بحثا آخر غير هذا المكان، لكن ملخص علاقات القاهرة المكانية بكل من هذه المحاور ما يأتي: (1-2) القاهرة ومصر
المحور الأول أهميته محلية خاصة بمصر؛ فهو الرابط بين المعمور في الدلتا والصعيد، وهو الأساس الذي دعم باستمرار - وإلى اليوم - أهمية موقع القاهرة داخل مصر، وساعد على استمرار الوظيفة السياسية، بل وهيمنة القاهرة على كل مصر معمورها ولا معمورها، وأدى ذلك إلى استمرار نمو المدينة مساحة وسكانا مما لا يدعو إلى مزيد من القول. (1-3) القاهرة والعالمان العربي والإسلامي
محور المشرق-المغرب العربي يتصف بأن له أهمية مزدوجة من علاقات مركزية القاهرة عربيا وإسلاميا معا. العلاقات المكانية العربية تدور حول أنه يعبر مصر من المغرب وليبيا في الغرب إلى بلاد الشام والحجاز وما وراءهما شرقا، وفي التاريخ ما لا يحصى من الشواهد والدارسات عن مركزية القاهرة منذ الفتح الإسلامي، وامتداده إلى المغرب بعد اتخاذ مصر قاعدة متينة للانطلاق إلى شمال أفريقيا وبلاد النوبة والسودان، وشواهد أخرى عن تأسيس الخلافة الفاطمية القادمة من تونس في مصر، ومن ثم انطلاقها إلى بلاد الشام، وهذه هي البداية الحقيقية لقوة القاهرة مقابل تداعي قوة بغداد التي انتهت على أيدي المغول في منتصف القرن 13م، وظهور القاهرة دون منافس مركزا عربيا إسلاميا وحيدا ضد ممالك الصليبين وإمبراطورية التتار . أما الأهمية الإسلامية، فتذهب أبعد من العروبة إلى ذلك الجزء من العالم الممتد من المغرب الأقصى إلى السند وتركستان، ومن إقليم السودان الأفريقي إلى بلاد التركمان في وسط آسيا والقوقاز والعالم الإسلامي في المحيط الهندي. هذا هو عالم إسلامي لم تكن فيه حدود الممالك والإمارات المتعددة مانعة للحركة بالنسبة للتجارة والناس في الجانب الأكبر من تاريخ العالم الإسلامي. ومن خلال ذلك توافدت على مصر بعامة والقاهرة بخاصة كل سلالات المسلمين من ترك ومغول وسودان وقوقاز وبربر وأندلس وأكراد وعرب من كل الأنحاء العربية.
وبرغم الحدود السياسية الحديثة إلا أن الحركة القومية العربية منذ أوائل هذا القرن قد جعلت القاهرة أيضا في منتصف هذا العالم، ويعطي هذا المحور القاهرة المعاصرة وظيفة عربية قومية، كما أعطاها في الماضي وظيفة سياسية وحضارية وثقافية في معظم التاريخ الإسلامي. (1-4) القاهرة والتجارة العالمية قبل القرن ال 20
وأخيرا فإن المحور الثالث بين العوالم المدارية والأوروبية أعطى القاهرة وظيفة تجارية وسياسية خارجية ذات استمرارية وديمومة؛ لأنها كانت وسيط التجارة الرئيسي بين العالم الأوروبي وعالم المحيط الهندي حتى اكتشاف الطريق البحري حول أفريقيا في أول القرن 16م، وأعطت هذه الوظيفة التجارية الدولية للقاهرة ثروة نظيرها قليل بين مدن العالم الإسلامي، وينعكس ذلك جليا على الرخاء والمعمار في العهدين الفاطمي والمملوكي، وقد انتهت هذه الوظيفة بنكسة مزدوجة: اكتشاف طريق الدوران حول أفريقيا، وسيطرة البرتغال ودول أوروبية أخرى على تجارة المحيط الهندي، وسقوط مصر داخل الإمبراطورية العثمانية (1516م) مما أدى إلى تدهور نسبي للقاهرة ومدن مصر عامة؛ إذ إن جانبا لا بأس به من تجارة التوابل الهندية والبن اليمني كان لا يزال يمر بمصر إلى أوروبا والدولة العثمانية. لكن قناة السويس أعادت إلى مصر عامة - بما فيها القاهرة - الأهمية القديمة بصورة معدلة.
ويجب أن نذكر في هذا المجال أن مصر لم تكن دولة عبور لسلع خارجية فقط؛ بل إن إنتاج مصر الزراعي وخاصة القمح والأرز وصناعات متعددة منها المنسوجات المصرية ذات الشهرة
1
من بين أشياء وسلع أخرى، كانت تتصدر قائمة أسس الرواج المصري الاقتصادي حتى في ظل ظروف القلاقل السياسية الناجمة عن المنافسة المستمرة بين المماليك في القرن الثامن عشر. فأرباح تجارة العبور هي حكر على كبار التجار والممولين للسفن في البحر الأحمر وشرق المتوسط، بينما أرباح الإنتاج الزراعي والمنسوجات والصناعات الحرفية المصرية تعم كل المصريين بأقدار مختلفة. (1-5) موجز وظائف القاهرة المعاصرة
وإلى جانب تدعيم الوظيفة السياسية والتجارية القديمة والحديثة ظهرت وظائف أخرى مرتبطة بموقع القاهرة بعد تبلور مصر ذاتيا كدولة ذات كيان واضح محدد منذ بداية القرن 19 بعامة، ومنذ أربعينيات ذلك القرن بخاصة حينما ثبتت الدولة المصرية في أسرة محمد علي داخل حدود معترف بها. فإذا استثنينا تطور الأحداث السياسية في تلك الفترة، فإن التطور الداخلي كان من الأهمية بحيث أصبحت القاهرة: (1)
مركزا للشبكة الحديدية الجديدة؛ مما أدى إلى انصباب خطوط الدلتا المروحية إليها، وخروج خط الصعيد الطويل منها، فأصبحت القاهرة بمثابة المعصم بين اليد (الدلتا) والساعد (الصعيد). (2)
مركزا تجاريا وصناعيا، خاصة بعد عام 1930، وقد أدى تطور الصناعة إلى ما يشبه الحلقة حول القاهرة الكبرى في الوقت الحاضر «شبرا الخيمة/مسطرد في الشمال، العباسية ومدينة نصر في الشرق، مصر القديمة، البساتين - دار السلام وحلوان في الجنوب، الجيزة/إمبابة في الغرب»، بالإضافة إلى الصناعات الحرفية التقليدية والصغيرة داخل قلب القاهرة القديمة من الدراسة إلى باب الحديد.
2 (3)
التركيز الكبير لمكاتب الشركات التجارية والصناعية داخل القاهرة بغض النظر عن كون أعمال هذه الشركات داخل أو خارج القاهرة.
3 (4)
التركز الكبير للأعمال المالية والائتمانية للزراعة والتجارة والصناعة. (5)
مطار القاهرة الدولي حرم الإسكندرية جزءا كبيرا مما كانت تتمتع به من حركة النقل، وبخاصة نقل الأفراد تمشيا مع عصر الطيران بعد تطوره السريع منذ منتصف القرن العشرين، وقد ساعد ذلك على نمو مكاتب ووكالات السفر، ووسائل النقل الداخلي، ونمو الحركة الفندقية بما فيها من عمالة وخدمات كثيرة بعد أن كانت أعداد الفنادق قليلة، وساعد على تنوع درجات الفنادق بعد أن كانت هناك هوة بين فنادق الدرجة الأولى القليلة
4
وبين فنادق الدرجة الثالثة في باب الحديد ووسط البلد والعتبة والحسين والسيدة زينب . (6)
انتشار وكثافة النقل الداخلي الجوي أضاف إلى القاهرة وظيفة أخرى من وظائف الاتصال الداخلي السريع بجانب الطرق والسكك الحديدية. (7)
نمو الوظيفة الثقافية للقاهرة دعم سيطرتها على الحركة العلمية والثقافية في رقعة أرضية أوسع من حدود مصر السياسية، مبتدئا بالأزهر إلى الجامعات الثلاث؛ القاهرة وعين شمس والأمريكية، إلى مراكز ومجالس البحوث العلمية والاجتماعية وعشرات المعاهد الفنية والمهنية والأدبية والمسرحية والسينمائية والفنون الجميلة والتشكيلية، وأخيرا الجامعات الأهلية الثلاث، وكذلك تركز الصحف الكبرى وأجهزة الإعلام ودور النشر والطباعة ... إلخ. (8)
نمو وظائف الخدمات الترفيهية والترويحية مرتبطا بالسياحة الداخلية والخارجية، ولو أن هذه الوظيفة لم تنم بعد بالقدر الكافي، وما زالت موظفة لخدمات السياحة الخارجية.
هذه الوظائف الكثيرة للقاهرة قد ساعدت بطريقة أو أخرى على أن تصبح القاهرة قطبا فيه من طاقة الجذب ما ليس لغيرها من المدن المصرية، مما أدى إلى نمو مستمر للسكان والمساحة العمرانية؛ نمو وئيد أولا، ثم نمو سريع حتى أواسط القرن العشرين، وأخيرا نمو مذهل منذ الستينيات،
5
ولهذا النمو الهائل بطبيعة الحال ميزة توافر الطاقة البشرية، وتركز الخدمات لإمكانات المدينة الكبرى، لكن له نتائج وعواقب وخيمة إن لم تتدارك في الوقت المناسب. أوضح هذه العواقب ظهور مشكلة المواصلات المعقدة، وختامها أن يصبح توفير مياه الشرب لهذا العدد المتزايد من سكان القاهرة مشكلة خطيرة كما يحدث في المدن الكبرى، مثل: طوكيو. ولا يجب أن ننظر إلى النيل على أنه مورد ماء لا نهاية له، فالوقت قريب ذلك الذي سوف يخطط فيه لاستخدام كل قطرة من مياه النيل للزراعة والصناعة واحتياجات الناس في المدن والقرى تخطيطا قد يؤدي إلى تقليل المياه المستخدمة بالمنازل إذا تزايد السكان عن ذلك كثيرا، وهذه مشكلة لها خطورتها وحيويتها في بلاد حارة معظم السنة.
شكل 1-1:
نمو القاهرة حتى القرن الثامن عشر. (2) أين نمت القاهرة؟
المكان الأرضي الذي نشأت عليه القاهرة منذ إنشاء الفسطاط في منتصف القرن السابع وإلى أوائل القرن العشرين، كان عبارة عن مستطيل يستدق طرفه الجنوبي عند مصر القديمة، ويستعرض كثيرا في اتجاه الشمال من شبرا إلى العباسية. هذا النطاق كان محكوما بعنصرين طبيعيين، أولهما: مسار النيل، والثاني: منحدرات الهضبة الشرقية: طره والمقطم والجبل الأحمر.
شكل 1-2:
الأوضاع الطبيعية والعمرانية في منطقة القاهرة منذ عشرة آلاف سنة. (2-1) النيل والقاهرة
اتسم مسار نهر النيل في منطقة القاهرة الكبرى بعدم الثبات وتغيير المكان طوال أكثر من ألف عام. فقد ظل النيل يهاجر غربا من مجراه، كان يسير من منطقة مصر القديمة إلى منطقة باب الحديد وشبرا الحالية إلى أن وصل مساره الحالي، وثبت عليه بواسطة الجهود البشرية في تجسير ضفافه إلى نحو ما نعرفه الآن. توضح الخريطة
1-2
بعض المقترحات المستندة إلى أدلة علمية وتاريخية أن النيل في المنطقة كان يسير في عدة أقواس ومنحنيات شأنه في ذلك شأن الأنهار في مجاريها الدنيا حينما يضعف التيار، وتقل المناسيب في السهول، فينعرج النهر كلما صادفته أقل العوائق شأنا، ويزيد انعراجا ويترك مساره إلى مسار آخر نتيجة الإرساب والإطماء والنحت البطيء، وقد كان بروز حافة طرة الهضبية سببا دفع مسار النيل غربا إلى قرب نهاية الوادي الفيضي، عند هضبة أهرامات الجيزة في قوس كبير يتجه بعد ذلك إلى الشرق والشمال الشرقي عند حافة المقطم، فيرتد صوب الشمال في ثنية كبيرة عند الجبل الأحمر، ومن ثم يتخذ مسارا شرقي المسار الحالي في منطقة شبرا، وفي هذا القوس ربما بدأ تفرع الدلتا بخروج الفرع البيلوزي صوب الشمال الشرقي، تلاه بعد مسافة مكانية وفترة زمنية تفرع فروع الدلتا الأخرى عند جزيرة الوراق. ثم تحركت قمة الدلتا شمالا إلى باسوس، وثبتت شمالها حيث هي الآن بواسطة المجهودات الهندسية التي تمثل القناطر الخيرية آخرها.
والملاحظ من هذا الوصف العام أن مسار النهر كان يقترب من مدينة «منف» عاصمة مصر الأولى ومن أهرام الجيزة ومن مدينة «أون» الجامعية (هليوبوليس القديمة). وبدون شك فإن «منف» كان لا يمكن أن تقوم بعيدا عن النهر، فالحضارة المصرية في مجموعها ومشتمل كينونتها حضارة نهرية، والنيل في مصر ظل الطريق الأساسي للحركة والانتقال - أشخاصا وسلعا - عبر آلاف السنين . وكان للعاصمة «منف» أفضلية المكان المنفتح على الدلتا والصعيد بعد توحيد مصر، مقارنة بأبيدوس - في سوهاج - عاصمة الملك نارمر موحد القطرين، وبالمثل فإن جامعة «أون» كانت تقع على النهر، أو على الأقل عند بداية الفرع البيلوزي، كوسيلة انتقال سهلة للطلاب والكهان والملوك.
وأغلب الرأي أيضا أن النيل كان لا يزال يسير في ثنية كبيرة شمال غرب «منف» إلى قرب هضبة الأهرام، ومن ثم كان طريقا مائيا سهلا لنقل أحجار طرة الضخمة التي استخدمها بناة الأهرام من ملوك الأسرة الرابعة، ورأي آخر نطرحه هو أن الملوك بعد ذلك كفوا عن بناء الأهرامات الضخمة؛ إما للتكلفة الباهظة في المال والعمال، وإما لتحول مسار النهر تدريجيا إلى الشرق بعيدا عن أهرامات محافظة الجيزة، أو للسببين معا.
وفي نهاية العصر الروماني وبداية الفتح الإسلامي كانت الضفة الشرقية للنيل تحف بسور قصر الشمع وجامع عمرو بن العاص، ثم تتجه شمالا بشرق غالبا على طول ما نعرفه الآن باسم شارع حسن الأنور، ثم قرب ميدان السيدة زينب وشارع الناصرية وعماد الدين، قرب عابدين والأزبكية وباب الحديد، وبطول مخازن السكك الحديدية، وينحرف مع خط حديد شمال الدلتا إلى ما نعرفه الآن بشبرا الخيمة. وبذلك فإن مأخذ خليج أمير المؤمنين كان في مكان ما قرب ميدان السيدة زينب، ومن هنا تسمية شارع السد نسبة إلى إقامة سد على بداية الخليج يفتح عند الفيضان؛ لتجري فيه المياه في حفل مهيب يسمى «جبر البحر»، وبذلك أيضا كانت كل أراضي غرب القاهرة الحالية من فم الخليج إلى شبرا مسارا للنيل وفيضانه السنوي.
وظل النيل يهجر مجراه الشرقي في اتجاه الغرب، ويترك جزرا متعددة نمت ثم اختفت بالالتحام بالشاطئ كجزيرة الفيل (شبرا) وجزيرة بولاق، أو بالتحام جزيرتي حليمة وأروى في جزيرة واحدة هي جزيرة الزمالك الحالية بعد تعميق مسار البحر الأعمى بينها وبين الجيزة. أما جزيرة الروضة فقد ظلت ثابتة في مكانها مع بعض تغيرات في سواحلها الغربية، وهو ما يثير تساؤلات جيمورفولوجية وهيدرولوجية حول أشكال واتجاهات النحت والإرساب النهري لتفسير هذا الثبات النسبي لجزيرة الروضة مع حدوث تغيرات كثيرة في الجزر القريبة منها. ولكن يبدو أن للإنسان يد في ذلك؛ ففي العهد الأيوبي قام الملك الصالح بحفر وتوسيع مجرى سيالة الروضة بعد أن كادت أن تنسد وتلتحم بشاطئ الفسطاط ودير النحاس، وذلك لسببين؛ أولهما: أن انسداد السيالة أو ضيقها وقلة عمقها نتيجة الإطماء سوف يقضي على مصدر مياه الخليج المصري الذي كان مأخذه من هذه السيالة، وفعلا اشتكى الناس كثيرا من قلة جريان الماء في الخليج وتوقفه تماما وقت التحاريق، والسبب الثاني: أن الملك الصالح كان قد أنشأ في جزيرة الروضة قصرا جعله مقرا له بدلا من المقر الرسمي في القلعة، وبنى حصونا ومعسكرات كبيرة لمماليكه الذين أسسوا فيما بعد سلطنة المماليك البحرية؛ نسبة إلى سكنهم جزيرة الروضة. وقد تلا ذلك حركة تعمير من قبل السكان في الروضة. وأراد الملك الصالح بأن يبقي على الجزيرة كأحد أسباب الدفاع عن مقر الحكم في تلك الفترة، وكوسيلة إضافية أغرق الملك عدة مراكب عند الرأس الجنوبي للجزيرة أمام شاطئ الفسطاط عند باب القنطرة بحيث يضمن تحول جانب لا بأس به من مياه النيل إلى سيالة الروضة لرفع منسوب المياه فيها.
أما الضفة الغربية للنيل فلا نعلم عنها الكثير؛ لقلة المصادر التاريخية بالقياس إلى الضفة الشرقية التي كانت معمورة منذ العصر الروماني. وآخر ما نعرفه هو أن النيل في عصر الخديو إسماعيل كان يسير شمال مدينة الجيزة بانحراف يسير إلى الغرب قرب حديقتي الحيوان والأورمان إلى الدقي والحوتية ثم إلى إمبابة، وقد ردمت كثير من هذه الأراضي بواسطة وزارة الأشغال إلى مسار الضفة الحالي، وعمر إسماعيل بعض مناطقها كإنشاء قصر الجيزة - شمال جامعة القاهرة مباشرة - وحدائق الأورمان والحيوان، ومن ثم إعمار المنطقة بالزراعة - قريتي العجوزة والحوتية وأرض الأوقاف التي بنيت عليها أحياء المهندسين وما جاورها - وإما بواسطة بناء القصور والفيلات الأنيقة في منطقة الدقي. (2-2) بركة الحبش
يرد اسم بركة الحبش كثيرا في المصادر التاريخية المختلفة، ويتفق الجميع على أنها كانت بركة شاسعة تمتد جنوب الفسطاط إلى قرب القرافة الكبرى ، أي شمال سهل البساتين، وأنها كانت أحد أهم المتنزهات لسكان القاهرة والفسطاط، و«خصوصا أيام النوروز والغطاس والميلاد والمهرجان وعيد الشعانين، ونحو ذلك من أيام اللهو والقصف والعزف، فكان لا يبقى صغير ولا كبير إلا خرج إلى بركة الحبش ... وقد صارت بركة الحبش من مدة وإلى الآن [أواخر القرن 19] أرض مزارع يغمرها النيل زمن فيضانه إذا كان وافيا، فإن لم يكن وافيا شرقت كلها أو بعضها، ولم يبق من القصور والبساتين الفاخرة التي بسط المقريزي الكلام عنها إلا التلال المشاهدة الآن في تلك الجهات.»
6
وقد ورد أيضا ذكرها حينما مد أحمد بن طولون قناة منها إلى مدينة القطائع، عرفت باسم: قناطر طولون.
وقد حاولت تتبع سواحل هذه البركة على خطوط المناسيب الكونتورية فلم أوفق؛ ذلك لوجود تداخل كبير في الارتفاعات والمنخفضات نتيجة عوامل هدم البيوت السابقة وتكوم مخلفاتها إلى جانب اتخاذ مساحات كثيرة منها كمحاجر، ويحتاج الأمر إلى كثير من عمليات الرفع المساحي لتبين حجم تلك البركة، ومهما يكن من أمر فالحقيقة الواقعة أن هذه البركة كانت موجودة، ولعبت دورا في حياة القاهريين فترة طويلة من الزمن كمتنزه طبيعي موسمي في الفترات التاريخية اللاحقة للعصر الفاطمي على أحسن الفروض. (2-3) الهضبة الشرقية والقاهرة
أما العنصر الثاني المحدد لنمو القاهرة فهو حافة الهضبة الشرقية ومنحدراتها التي تكون حادة في أماكن، وهينة في أخرى، وتعرف بأسماء متعددة أشملها ما نسميه جبل المقطم، وإلى الجنوب منه جبل طرة، وإلى الشمال منه الجبل الأحمر. وترتفع هذه الهضبة إلى ما بين 150 إلى 250 مترا، وتقطعها أودية من أزمان جيولوجية ومناخية سابقة تشكل طرق ارتقاء إلى سطح الهضبة، منها أودية: حوف قرب حلوان، ودجلة قرب المعادي، والدويقة شرق القلعة، وترسل هذه الحافة الجبلية ألسنة تلية في اتجاه النيل، وخاصة في القطاعات الجنوبية عند طره وإسطبل عنتر وكوم غراب جنوب مصر القديمة، وذلك بسبب اقتراب الهضبة من النيل، أو الأصح اقتراب مسار النيل من الهضبة. وحافة الهضبة هنا متقاربة خطوط المناسيب؛ مما يؤدي إلى انحدارات شديدة بطول المسافة من المقطم إلى حلوان، وتتباعد الهضبة تدريجيا إلى الشمال الشرقي، ابتداء من المقطم إلى الجبل الأحمر في صورة منحدرات وعرة حادة تظهر في مناطق الجيوشي والقلعة ومنشأة ناصر. ثم تتشكل بعد ذلك من مسطحات عريضة من الانحدارات الهينة شمال وشرق الجبل الأحمر في مدينة نصر، ومن أهم الألسنة التلية التي ألزمت عمران القاهرة بمناطق سهلية محددة هي: لسان المقطم المنحدر إلى مصر القديمة في منطقة كوم غراب وإسطبل عنتر
7
والرصد (+40−60 مترا) جنوب الفسطاط «سهل النيل عند مصر القديمة 20-21مترا»،
8
ووجه عمرانها صوب الشمال الشرقي عند المنحدرات الهينة لتلة أبو السعود الجارحي (+30مترا)
9
فيما عرف باسم الحمراء الدنيا والوسطى والقصوى، التي أصبحت مجالا لمدينة جديدة اختطها العباسيون عام 751 باسم «العسكر»، وهي تقريبا منطقة زين العابدين وفم الخليج (20-23 مترا). أما المرتفعات التي تحتلها القلعة الآن (75-95 مترا) فهي لسان ينحدر من الجيوشي والمقطم، وينتهي بجبل يشكر وقلعة الكبش (+35 مترا) وتلال زينهم (31-51 مترا). وعلى قلعة الكبش بنى أحمد بن طولون عاصمة لمصر المستقلة عن العباسيين سنة 870م باسم «القطائع». وبعد قرن أنشأ الفاطميون مدينة «القاهرة» عاصمة ملكية للخلافة الفاطمية على سهل رملي إلى الشمال من القطائع، وعلى مناسيب تتراوح الآن بين 22 مترا عند درب سعادة و24 مترا عند السلطان الغوري و28,7 من المتر عند ميدان الأزهر، وتتباعد هذه الألسنة التلية في شمال وشرق الجبل الحمر (80 إلى 120 مترا) بحيث سهلت ارتقاء العمران الحديث إلى مدينة نصر فوق مناسيب 100 إلى 150 مترا.
الخلاصة: أن القاهرة ظلت تنمو لمدة ألف عام داخل خط منسوب 20 مترا في الغرب و30 مترا في الشرق عند أقدام الحافات الجبلية للمقطم وألسنته المتقدمة غربا، واستمر ذلك الالتزام واضحا حتى عصر الخديو إسماعيل، حينما بنيت «القاهرة الحديثة» ضمن منسوب 20-22 مترا، وقد سبقه في العمران الشمالي للقاهرة محمد علي باشا بإنشاء قصر شبرا في شبرا الخيمة، وتسابق بعض الأمراء في بناء قصور شبرا كالأمير طوسون. وكل شبرا هي نفس المناسيب، بل تنحدر حينا إلى 19 مترا عند مأخذ ترعة الإسماعيلية الحالي. وتتكرر الصورة نفسها في النمو العمراني على طول خط القبة والمطرية والمرج ، منذ إنشاء قصر القبة غالبا في عصر إبراهيم باشا - واستخدامه سكنا للأمير توفيق فيما بعد - نجد المناسيب تتناقص قليلا من نحو 23 مترا في القبة إلى 22,4 مترا في الزيتون تمشيا مع الانحدار العام، وحينما امتد عمران بر الجيزة وإمبابة من النيل غربا إلى كل القاهرة الكبرى غرب النيل، فإنه إنما كان يمتد على أرض الوادي الزراعية ذات الانحدار اللطيف من الجنوب إلى الشمال، ومن الهضبة الغربية صوب النيل.
أما الأماكن التي خرجت عن قاعدة خطوط المناسيب 20-30 مترا، فتتركز في الشرق والجنوب على النحو الآتي:
كانت البدايات في سبعينيات القرن 19 حينما أنشئت حلوان الحمامات كمدينة استشفاء وترويح ونزهة. حلوان البلد قرب النيل كانت تقع على منسوب 22 مترا؛ لأنها توجد في الوادي النهري الضيق، أما حلوان الحمامات فقد أنشئت على منحدر هادئ من 68 مترا في الشرق عند مصحة فؤاد إلى نحو 45 مترا في غرب كتلة حلوان الحمامات السكنية القديمة، ويتمشى هذا مع الانحدار السريع لحافة الهضبة الشرقية صوب النيل، واستفادة من هذا الموقع أنشأت الدولة مرصد حلوان شمال شرق حلوان على منسوب 114 مترا. وفي الوقت الحالي يمتد عمران المعادي إلى حافة جبل طرة وأوديته بعد شق طريق أوتوستراد حلوان.
شكل 1-3:
تأثير التضاريس على توجيه العمران «نموذج من غرب مدينة نصر».
وفي أول القرن 20 جاءت التجربة الثانية في الارتفاع إلى مناسيب أعلى في صورة بناء مدينة مصر الجديدة على مناسب تتراوح بين نحو 40-45 مترا عند منطقة روكسي إلى 53 مترا في منطقة ميدان الإسماعيلية، وإلى 78 مترا في ألماظة. وبعد نحو ستة عقود جاءت التجربة الثالثة ببناء مدينة نصر التي تبدأ في الشمال من نحو 70 مترا عند التقائها بمصر الجديدة إلى نحو +150 مترا في الجنوب عند نهاية المنطقة الثامنة من المدينة، وهناك مخطط «القاهرة الجديدة» الذي يقع تحت الإنشاء الآن، والذي يمتد شرق مدينة نصر على مناسيب أعلى من 150 مترا، وتمثل مدينة المقطم أعلا منسوب في القاهرة حيث تصل الكتلة السكنية في المخطط الأول للمدينة في الهضبة العليا إلى 150-180 مترا، وسرعان ما بدأ تخطيط الهضبة الوسطى على مناسيب نحو مائة متر، وإسكان الزلزال شرق الهضبة العليا إلى منسوب 120-140 مترا، والأغلب أن إسكان الزلزال في المقطم سوف يلتحم مستقبلا مع عمران التجمعات السكنية للقاهرة الجديدة.
ومقابل هذه التجارب الناجحة بدرجات مختلفة، نجد تجربتين نتائجهما محبطة في نمو المدينة الكبرى؛ أولاهما: النمو الطفيلي العشوائي لمنشأة ناصر ووادي الدويقة على مناسيب 60 إلى 80 مترا على حافة شديدة الانحدار أمام جبانة برقوق/قايتباي (خريطة
2-7 )، والثانية: هي النمو العشوائي للبساتين ودار السلام بين شمال المعادي ومصر القديمة والفسطاط الجديدة وعين الصيرة.
وهكذا اعتلت القاهرة المناسيب العليا التي ظلت تمنع وتحجم النمو في اتجاه الشرق عشرات القرون، ويرجع ذلك إلى:
تضاعف سكان القاهرة، وبخاصة في النصف الثاني من القرن العشرين.
إمكان التغلب على الانحدارات العالية بواسطة تقنية بناء الطرق الحديثة، وشيوع نمط السيارة بأشكالها المختلفة.
القوى المركزية المتزايدة التي تجمعها القاهرة كقطب ذي مغناطيسية كبيرة في جذب وتركيز إمكانات الحياة العليا، وأوجه النشاط الاقتصادي والخدمي.
وبرغم التقدم في تقنية وسائل النقل والطرق إلا أن التضاريس الوعرة ما زالت تشكل عنصرا من عناصر الطبيعة ليس سهلا التغلب عليه، وربما كانت خريطة
1-3 (الجبل الأحمر وغرب مدينة نصر) تمثل بصدق أحد أشكال فعالية الوعورة الأرضية في توجيه مخططات العمران بعيدا عنها. (3) كيف نمت القاهرة؟
من المعروف أن هناك عدة أشكال في جغرافية المدن لتفسير تاريخ نمو المدينة. لكن ليست كل هذه الأشكال منفصلة عن بعضها تمام الانفصال، بل الذي يحدث أن يتم نمو مدينة على شكلين أو أكثر، وإن كان هناك شكل أكثر وضوحا يتم على أساسه النمو الأكبر للمدينة المعينة، خاصة إذا كانت المدينة ذات تاريخ طويل - كما هو الحال في معظم المدن الكبرى في الشرق الأوسط، وحوض البحر المتوسط، والصين والهند، وبدرجة أقل في أوروبا الغربية والوسطى - فالغالب في هذه الحالات أن يحدث النمو المديني بشكل معين في فترة زمنية وبأشكال أخرى في فترات لاحقة.
وفي حالة القاهرة يمكن تتبع نموها على البعدين الزماني والمكاني على ضوء معظم الأشكال التي يتم بها النمو المديني ، وهذه الأشكال هي: (أ)
النمو من نواتين مدنيتين أو أكثر والتحامهما معا. (ب)
النمو المركزي من نواة واحدة، ثم النمو التدريجي حولها. (ج)
النمو المخطط، وسوف تعالج هذه الأشكال ضمن تتبع حركة النمو لأجزاء القاهرة وأقسامها الجغرافية كل على حدة. (3-1) المنطقة المركزية من القاهرة
المقصود من المركزية المنطقة الأصلية للقاهرة من بولاق إلى الدراسة، ومن باب الحديد إلى مصر القديمة حتى بدايات القرن العشرين، والتي غلبت عليها تسمية «مصر المحروسة» خلال القرن 19، وهي ما يمكن أن نعبر عنه أيضا بالمنطقة الوسطى أو قلب القاهرة، وفي هذا الجزء من المدينة نجد عمليات التفاعل العديدة عبر القرون من إنشاء لمدن الحكم ونموها وتدهورها والتصاقها باتجاهات نمو مكانية أقدم وأحدث. وباختصار، فإن دينامية القاهرة تظهر في القاهرة المركزية؛ نمو من نواة ثم عدة نوايات ثم نمو مخطط، بينما الامتدادات التالية، وخاصة في القرن العشرين تسير في اتجاه واحد هو النمو المخطط؛ استجابة لمتطلبات الانطلاقة الكبرى في النمو السكاني المصري والقاهري.
القاهرة المركزية: نشأت في صورة عدة مدن الواحدة خارج الأخرى. أول هذه المدن الفسطاط التي سميت بعد ذلك مصر أو مدينة مصر سنة 641م، ثم نشأت العسكر إلى الشمال منها سنة 751م بعد الثورة المصرية ضد الحكم العباسي، وهروبا لقاعدة الحكم من كثافة السكن والسكان داخل الفسطاط. وبعد نحو قرن أنشأ أحمد بن طولون، والي مصر المستقل عن الخلافة العباسية، مدينة جديدة باسم «القطائع» إلى الشمال الشرقي من العسكر عام 868م، بين حافة المقطم عند موقع القلعة الحالية وبين قلعة الكبش. لكن نمو العسكر والقطائع توقف بعد سقوط الدولة الطولونية عام 906م. في الوقت الذي ظلت فيه مدينة مصر تنمو بالتدريج؛ لأنها كانت مركز السكن والتجارة، بينما كانت العسكر والقطائع مدن حكم. وفي سنة 969م دخل جيش الفاطميين مصر بقيادة جوهر الصقلي قادما من تونس بعد عدة محاولات فاطمية سابقة فاشلة للاستيلاء على مصر؛ نتيجة مقاومة كافور الإخشيدي، فلما مات سنة 868 سقطت مصر أمام الفاطميين. أنشئت قاهرة المعز في مكانها الحالي بين الخليج المصري والتلال الشرقية في الدراسة ، وأحيطت جميعها بسور من اللبن وخندق، وظلت عاصمة ملكية لمصر الفاطمية قرابة قرنين من الزمن، وكانت تحتوي على القصور الملكية ومقر الحكم والجامع الأزهر، بالإضافة إلى إقطاع أحياء لسكن أنصار الدولة الفاطمية من قبائل شمال إفريقية. ولا شك أن العمران ظل يزحف مع الضغط السكاني من مدينة مصر تجاه الشمال الشرقي؛ أي تجاه القاهرة الفاطمية منحصرا بين الخليج المصري من الغرب ومقدمات حافة المقطم من الشرق. وعلى هذا ظهرت ضواح جديدة لمدينة مصر منها الحمراء الدنيا والوسطى والقصوى، التي كانت في المنطقة الممتدة حاليا بين دير النحاس والسيدة زينب. وفي الوقت ذاته لم تمتد مدينة مصر شمال أو غرب مسار الخليج المصري؛ لكثرة المستنقعات، وطغيان مياه الفيضان عليها بين حين وآخر.
وقد أخذت أحوال مدينة مصر تسوء بعد الفتن والحروب الداخلية والمجاعة أثناء خلافة المستنصر من عام 1040 إلى 1074م، ثم حدوث النزاع بين الوزيرين شاور وضرغام، وتدخل الصليبيين وجيوش سلطنة ابن زنكي بقيادة شيركوه وصلاح الدين في مصر بدعوة من الخليفة الفاطمي، ثم إحراقها بأمر الوزير شاور عام 1169م، وقد عاد السكان إلى مدينة مصر بعد استقرار الأمور في بداية العهد الأيوبي، لكن السكن اقتصر على المنطقة الغربية، وخاصة بعد أن شيد الملك الصالح الأيوبي (1240م) قلعته في جزيرة الروضة، وهجر الجانب الشرقي من الفسطاط بعد الحريق تماما.
والحقيقة أن مدينة مصر كان قد أفل نجمها بعد الحريق؛ فبعد سقوط الدولة الفاطمية ونزوح الناس إلى القاهرة الفاطمية التي لم تعد عاصمة ملكية، اقتصر العمران في مدينة مصر على عدة شرائح عمرانية طولية في منطقة دير النحاس وجامع عمرو، ومنطقة مرتفع أبو السعود الجارحي، وحول الأديرة الموجودة في مصر القديمة، وظلت كذلك شرائح مبعثرة حتى الثلاثينيات من هذا القرن حينما نمت القاهرة، واتصلت عمائرها بمصر العتيقة أو بقايا مدينة مصر الفسطاط.
أما القاهرة الفاطمية: فقد نما عمرانها للدرجة التي أزيل معها أسوارها الشمالية والجنوبية لتبنى من جديد على مبعدة من المكان الأصلي «بدر الجمالي في أواخر العصر الفاطمي»، وأدار صلاح الدين الأيوبي سورا حول القاهرة إلى الفسطاط والقلعة والنيل، وهو بذلك أول من وحد نوايات القاهرة في نواة واحدة، وكان ذلك فكر عسكري لحماية المدينة، واستجابة لنمو العمران الذي كان قد تعدى الأسوار في منطقة باب الشعرية الحالية متجها إلى الالتحام بعمران ميناء المقس (أو المكس أو المقسي) وموقعها الآن منطقة باب البحر وباب الحديد وأولاد عنان، وكانت المقس هذه ميناء القاهرة الفاطمية والأيوبية، وتاريخها يرجع إلى ما قبل دخول عمرو بن العاص مصر - إذ الأغلب أن المقس كانت هي قرية أو مدينة «أم دينين» كما عرفها المؤرخون الأوائل مسرحا لمعركة بين الجيش العربي والرومان قبل معركة بابليون.
10
وقد ظلت ميناء للقاهرة حتى فترة الأيوبيين وأوائل العهد المملوكي. ثم انتقل النيل غربا فصارت بولاق هي ميناء القاهرة لفترة طويلة، ولم يمتد عمران القاهرة الفاطمية صوب مدينة مصر إلا في العهد الأيوبي وأوائل المملوكي بعد تشييد القلعة.
ويضاف إلى ذلك أن المنطقة الواقعة بين سفح قلعة الكبش وجبل يشكر وبين باب الخلق كانت تحتله بركة كبيرة، هي بركة الفيل، التي ظلت قائمة حتى عهد الحملة الفرنسية على مصر في أواخر القرن 18. وكذلك عبر النمو العمراني أسوار القاهرة الفاطمية في العهد الأيوبي المملوكي في منطقة باب الخلق متجها إلى منطقة باب اللوق وعابدين والناصرية بعد حفر الخليج الناصري في عهد السلطان محمد بن قلاوون (1325م) الذي كان مأخذه من النيل في منطقة التحرير الحالية، وربما تكونت عدة برك غربي الخليج المصري نتيجة هجرة النيل، منها: بركة السقايين فيما بين عابدين والسيدة زينب، وبركة الفرايين - نسبة لصناعة وتجارة الفراء - عند ميدان عابدين، وبركة قاسم بك محل شارع المبتديان، وبركة قارون في البغالة، وتحولت هذه المنطقة إلى بساتين وبعضها امتد داخلها العمران، وأكبر البرك كانت بركة الأزبكية التي ظلت حد العمران القاهري في الغرب - منطقة الموسكي، والعتبة، ووجه البركة - ويحيط بها شمالا عمران القاهرة الممتد إلى المقس على طول ما نعرفه الآن بشارعي كلوت بك والجمهورية.
وموجز القول: إن العمران المديني للقاهرة الفاطمية ظل ينمو خلال العصر المملوكي إلى أن عبر نهائيا الخليج المصري، وانتهى غربا عند خط يكاد يتفق مع مسار شارع الجمهورية الحالي بين المقس (باب الحديد) وعابدين والناصرية إلى السيدة زينب. كما أن العمران في الشمال امتد خارج الأسوار إلى منطقة الحسينية وبركة الشيخ قمر والظاهر وبركة الرطلي وأرض الطبالة (الفجالة). كذلك امتد العمران جنوب القاهرة الفاطمية في اتجاه القلعة، وبذلك يكون العمران في منطقة القاهرة قد نما بحيث أدى إلى التحام بين النواتين الرئيسيتين: مدينة مصر ومدينة القاهرة - أو ما سمي: مصر الفسطاط، ومصر القاهرة - برغم أنه حينما تم الالتحام كانت مدينة مصر قد تدهورت كثيرا، وقد تم الالتحام في منطقة: السيدة زينب - الناصرية - فم الخليج من ناحية، وفي منطقة: السيدة زينب - القلعة - الحلمية من ناحية أخرى.
ويمكن أن نلخص الموقف في هذه النقطة على النحو التالي:
النمو العمراني في منطقة القاهرة المركزية تم نتيجة التحام عدة نوايات، أقدمها نواة مدينة مصر في الجنوب الغربي، والمقس في الشمال الغربي، والقاهرة الفاطمية في الشمال الشرقي، والعسكر والقطائع والقلعة في الوسط والشرق. والحقيقة أن المنطقة الوسطى كانت منطقة ضعف تذبذب فيها العمران من نمو وازدهار إلى تدهور وخراب، وذلك راجع إلى اختلاف في وظيفة وطبيعة العمران في النواتين الرئيسيتين؛ مصر والقاهرة، فبينما الأولى مركز العمران والتجارة والسكان، كانت الثانية مركز الحكم والسياسة، ولم يحدث الالتحام بينهما إلا بعد انتقال مركز الحكم إلى القلعة وفقدان القاهرة الفاطمية لهذه الوظيفة.
شكل 1-4:
القاهرة في عصر الخديو إسماعيل (1869). (3-2) النمو المخطط في القاهرة المركزية في القرن ال 19
بعد أن تم تبلور العمران على النحو الذي ذكرناه، ظلت المدينة على هذا النحو متوقفة عن النمو خلال العهد العثماني، وفي آخر القرن 18 سجلت الحملة الفرنسية خريطة القاهرة في صورة مستطيل كبير حده الشرقي من القلعة إلى تلال قطع المرأة في الدراسة إلى تلال ومقابر باب النصر، وحده الغربي خط يكاد يوازي شارع عماد الدين ومحمد فريد من باب الحديد إلى السيدة زينب، وحده الشمالي من الحسينية إلى الفجالة وباب البحر، وحده الجنوبي من القلعة إلى طولون إلى البغالة (السيدة زينب)، ومن هذا المستطيل الكبير (خريطة
3-6 ) بدأت المدينة تنمو في القرن 19م، ومقدمات النمو أخذت صورة متكررة من إنشاء قصور للحكام خارج المركز المديني، وأهم الأمثلة: قصر محمد علي بشبرا، وقصر عباس بالعباسية، وقصرا القبة، والقصر العالي لإبراهيم باشا بجاردن سيتي،
11
وفي اتجاه تلك القصور كان العمران يمتد مع الطرق الواسعة المتجهة إليها من المدينة. لكن أهم دفعة في النمو المركزي للمدينة بدأ بردم بركة الأزبكية في عهد محمد علي، وإنشاء شارع الموسكي من ميدان العتبة الخضراء إلى الأزهر والحسين، وشق طريق من الأزبكية إلى بولاق، وتحسين شارع الخليج وغيره الذي يقود من الموسكي إلى القلعة، وبدايات إنشاء شارع محمد علي من القلعة إلى العتبة، وفي عهد الخديوي إسماعيل تواصلت هذه المجهودات في إنشاء الشوارع الحديثة المستقيمة من محطة القطار في باب الحديد إلى العتبة والأوبرا وقصر عابدين، وإنشاء كوبري قصر النيل عام 1872 للوصول إلى القصر الجديد الذي أنشأه إسماعيل في الجزيرة - الذي أصبح فندق عمر خيام الجزيرة ثم فندق ماريوت الآن.
وكذلك كان هناك دفعة جديدة في النمو المركزي، هي تلك التي التزمت بتخطيط منطقة واسعة سميت الإسماعيلية والتوفيقية، وشملت ما بين بداية ميدان التحرير إلى شارع 26 يوليو شمالا، ومن جسر قصر النيل غربا إلى دار الأوبرا شرقا، وهي الآن «وسط البلد»،
12
وارتبط ذلك التوسع بإنشاء جسر قصر النيل كخطوة في سبيل إنشاء طريق رئيس بين عابدين وقصر إسماعيل في الجيزة. لم يتم ذلك إلا بعد إنشاء كوبري البحر الأعمى (الجلاء) عام 1877، وعلى هذا النحو تقدم العمران المخطط بين باب الحديد وبولاق شمالا وباب اللوق وميدان الإسماعيلية (التحرير) جنوبا، متجها من المدينة القديمة إلى منطقة عابدين صوب الغرب حتى ضفة النيل، ويمر فيها طريقان رئيسيان؛ الشمالي: من الأزبكية إلى بولاق (شارع 26 يوليو)، والثاني: من عابدين إلى قصر النيل (شارع التحرير)، وفيما بين باب اللوق والسيدة زينب امتد العمران إلى الغرب أيضا حتى شارع قصر العيني والقصر العالي (قصر الدوبارة) غربا، وشارع المبتديان جنوبا. وفي هذه المنطقة الجديدة أنشئت عدة قصور للأثرياء، مثل: قصر إسماعيل باشا المفتش (وزارة المالية) في لاظ أوغلي، وكان لتركز الحكم بين قصر عابدين والوزارات في لاظ أوغلي أثر كبير على امتداد العمران في منطقة المالية والسيدة زينب وجنوبها إلى البغالة، لكن وجود تلال زينهم أوقفت النمو في هذا الاتجاه، ونما العمران بعض الشيء من الحسينية وبركة الرطل قليلا إلى الشمال صوب منطقة السكاكيني وغمرة والعباسية.
شكل 1-5:
جنوب وسط القاهرة نماذج من خطط عمران القاهرة.
أما النمو المركزي صوب الشرق والجنوب الشرقي فقد حدده مانعان؛ أولهما: تلال الدراسة، والثاني: عامل بشري متمثل في وجود منطقة مقابر الجبانة الشرقية «باب الوزير، وقايتباي، وبرقوق، والغفير» والقرافة الكبرى (الإمام الشافعي) في الجنوب الشرقي، وعلى هذا النحو يكون النمو المركزي للقاهرة قد تخطى عقبة البرك التي كانت تمتد في خط طويل من الأزبكية إلى الفرائيين إلى السقايين إلى بركة الفيل، واتجه التعمير إلى النيل فأشرف عليه أو يكاد فيما بين بولاق وقصر الدوبارة فقط، بالإضافة إلى منطقة قصر العيني. وكان هذا الاتجاه الغربي صوب النيل هو الذي يمثل أكبر قدر من النمو المركزي في القرن 19، بينما ظل ذلك النمو ضئيلا في اتجاه الشمال، ولعل السبب في ذلك وجود عقبة خطيرة هي امتداد خط السكة الحديد من باب الحديد إلى السويس شمال الفجالة وغمرة مباشرة، وخط الصعيد شمال السبتية، وقد كان لهذا أثره على ضعف وبطء حركة النمو المركزي من باب الحديد صوب شبرا ومن غمرة إلى القبة والضواحي في الزيتون والمطرية. (3-3) أحياء شمال القاهرة
سبق أن ذكرنا أن بناء القصور كان له دور في مد الطرق والجسور خارج القاهرة في خلال القرن 19، وقد ساعد ذلك على أن تتخذ الطرق مجالا للنمو العمراني؛ فشارع شبرا أصبح العمود الفقري للذراع العمرانية الشمالية للقاهرة. ومع اتصال العمران شمال محطة باب الحديد تكون محور عمراني آخر مع شارع الترعة البولاقية ، ومحور جزيرة بدران الموازي لخط حديد الصعيد، وقد تلاحمت المباني على طول هذه المحاور؛ بحيث إنه يمكن القول: إن منطقة شبرا وروض الفرج والساحل وحدائق شبرا والترعة تكون في مجموعها ذراعا سميكة ضخمة تمتد قرابة 4,5كم بين باب الحديد وترعة الإسماعيلية، وتتصل عبر هذه الترعة بالإشعاع العمراني الصناعي والسكني في شبرا الخيمة التي تمتد قرابة ثلاثة كيلو مترات.
شكل 1-6:
عمران شبرا وروض الفرج في العشرينيات من القرن العشرين.
وهناك الآن ذراع عمرانية جديدة تنمو وتمتد مع محور شارع بورسعيد شمال منطقة غمرة متجهة بدورها إلى ترعة الإسماعيلية، ولعل مصيرها مصير ذراع شبرا من حيث إمكان تلاحمها مع الذراع الشمالية الشرقية المتجهة إلى المطرية، ومع ذراع شبرا عبر منطقة مهمشا والشرابية والزاوية الحمراء ومنطقة السواح والأميرية، ويتكون بذلك استمرار عمراني حده الجنوبي خطوط السكة الحديد والمترو من باب الحديد إلى غمرة، وحده الشمالي ترعة الإسماعيلية، وحده الغربي النيل، وحده الشرقي القبة والزيتون. فإذا تم ذلك لم تعد هناك ذراع أو أذرع عمرانية مشعة من مركز المدينة؛ بل جزء آخر من المدينة يضاف إليها، ويمتد منه إشعاعات عمرانية إلى شبرا الخيمة ومسطرد. لكن في داخل هذا الاستمرار العمراني الشمالي ستظل خطوط السكة الحديد المتجهة شمالا أو شرقا عائقا وفاصلا ثقيلا بين القاهرة جنوبها وشمالها. ومن الممكن التغلب مبدئيا على هذا العائق بإنشاء أنفاق وجسور - كما هو الحال في نفق الشرابية وشبرا وكوبري شبرا العلوي - لكن هذه الأنفاق والجسور تؤدي إلى تكوين «عنق الزجاجة» في المواصلات؛ مما يؤدي إلى اختناق في النمو العمراني وتوقف أو نمو ضئيل. وأحسن الأمثلة على ذلك منطقة مهمشا والشرابية التي تقع في شكل بيضاوي يحيط به الخطوط الحديدية من كل اتجاه، وبرغم وجود نفق الشرابية وغمرة إلا أن النمو ظل شبه متوقف بالمقارنة بالنمو العمراني على طول محور طريق بورسعيد أو محاور شبرا، فضلا عن أن العمران في الشرابية ومهمشا غير صحي وفقير جدا؛ نتيجة لسكن عشوائي بموازاة الخطوط الحديدية، ولكن التحسين الحالي للمنطقة بعد استكمال كوبري 6 أكتوبر العلوي، ووجود منزل ومطلع له من شارع بورسعيد غالبا ما يؤدي إلى إعادة تخطيط المنطقة بصورة أحسن في الشرابية وبورسعيد والوايلي والزاوية الحمراء.
شكل 1-7:
عمران شبرا وروض الفرج في التسعينيات من القرن العشرين.
وربما كان الحل الأوفق نقل محطة حديد القاهرة من باب الحديد إلى شبرا الخيمة باسم محطة الشمال لخدمة الخطوط المتجهة إلى وسط الدلتا وشمالها والإسكندرية، ومحطة أخرى في مسطرد باسم محطة الشرق لخدمة النقل الحديدي إلى الشرقية ومدن القناة، ومحطة ثالثة في إمبابة أو الجيزة باسم محطة الجنوب، ويترك مجال الخطوط الحديدية القائمة لتسيير خطوط مترو سطحي ونفقي لمزيد من خدمة النقل في الكتلة السكانية الضخمة الشمالية والغربية من القاهرة. (3-4) أحياء الشمال الشرقي
أما الذراع الشمالية الشرقية فقد نشأت مع إنشاء خط حديد الضواحي الممتد من كوبري الليمون إلى عزبة النخل والمرج مارا بالدمرداش والقبة والزيتون والمطرية وعين شمس. وقد ظل العمران في هذه الذراع أقل سمكا من عمران شبرا حتى منتصف الخمسينيات؛ وذلك لأن السكن هنا، وبخاصة أحياء حدائق القبة
13
والزيتون وحلمية الزيتون والمطرية، أخذ شكل الضواحي المترفة؛ نمط الفيلات ومدن الحدائق بتأثير القصر الملكي في القبة وقصور بعض الأمراء في المطرية والمرج. وحول هذه الضواحي نشأت أحياء لسكن أفقر ولتقديم الخدمات، كدير الملاك جنوب القبة ومنشية الصدر شرق القبة والوايلي غرب القبة وولي العهد، والنعام وعين شمس شمال المطرية ومنطقة المطراوي غرب المطرية، بالإضافة إلى سكن عرب الحصن وعرب الطوايل قرب مسلة عين شمس، وقد تدهورت المنطقة بعوامل عدة منها: (1)
انتهاء الحكم الملكي الذي أفقد المنطقة البهاء الذي كانت تتمتع به من ناحية التنظيم العمراني وأشكال البناء. (2)
هجرة أبناء أكابر الناس وأغنيائهم إلى أحياء وأماكن أخرى أكثر تقديما للخدمات، في صورة فيلات أو شقق فاخرة، في مصر الجديدة والزمالك والدقي والعجوزة. (3)
تدهور سكن الفيلات بالتقسيم حسب شرع الإرث إلى شرائح صغيرة، ومن ثم التحول إلى نمط العمارات، وأغلبها اقتصادي وفقير؛ تلبية لاحتياج السكان الجدد الذين يحلون محل الأغنياء السابقين. (4)
وأخيرا سقوط أهمية قطار الضواحي كوسيلة نقل بطيء، بالمقارنة بنمو متسارع لعصر السيارات التي مكنت الأغنياء من الانتقال إلى أماكن متباعدة. ولحسن الحظ لم يفكر أحد في إلغاء قطار الضواحي الذي ظل يعمل دون كلل في خدمة الأعداد المتزايدة من السكان في هذه الأحياء، إلى أن أوقف القطار، وحل محله خط المترو كوسيلة أسرع وبتقاطر زمني أسرع مرات عديدة من تقاطر القطارات.
وتلبية لاحتياجات النمو المساحي والسكاني كان لإنشاء الطرق الجديدة غربي قصر القبة والمطرية والسواح والمطراوي من ناحية، وتحسين شوارع جسر السويس وبورسعيد والوايلي الكبير من ناحية أخرى، أثر بالغ في النمو السكني؛ أولا: في المناطق البينية الفضاء، وخاصة بين الزيتون والحلمية ومصر الجديدة والنزهة والمطرية وأرض النعام وعين شمس وعزبة النخل، وثانيا: إمكان زحف العمران خارج هذه الضواحي - للأسف - على حساب الأرض الزراعية الشمالية بين عين شمس وعزبة النخل والمرج والحرفيين وبركة الحاج ومدينة السلام، ومن المطرية غربا في اتجاه الأميرية ومسطرد. وكلها سكن فقير زاد من فقره مساكن عشوائية كثيرة داخل هذا النطاق، مثل: عزبة «أبو حشيش، وعزبة القرود» التابعتين لقسم الزيتون.
وتمتد هذه الذراع القاهرية الشمالية الشرقية قرابة عشرة كيلومترات من غمرة إلى عين شمس، ونحو 18كم إلى مدينة السلام، وهو بذلك يفوق امتداد القاهرة الشمالي من باب الحديد إلى آخر شبرا الخيمة الذي يصل نحو عشرة كيلومترات.
ومن المحزن تحول منطقة مسلة عين شمس والأرض الأثرية حولها من آثار في مساحة كبير مكشوفة إلى مكان ضيق مسور بالأسلاك، وسط غابة من الأبنية والعمارات الفقيرة المفتقرة إلى أي حس جمالي، فلا غرو أن أي حس جمالي يتنافى مع الفقر بأنواعه، ولأن هذا الزحف السكني قد بني على أرض أثرية، هي أرض مدينة «أون» الفرعونية التي زارها حكماء الإغريق القدماء، مثل: أفلاطون وأرسطو، وقبلهم المؤرخ الكبير هيرودوت، وعرفوها باسم: «هليوبوليس» التي هي ترجمة حرفية للفرعونية بمعنى: «عين شمس» وأنها مدينة العلم، وبالتالي أقدم جامعة عرفها العالم استمرت في عطائها العلمي والكهنوتي ما يزيد على ثلاثة آلاف سنة، وأقرب صورة لها في أذهاننا هي جامع الأزهر الذي تحول منذ إنشائه إلى جامعة حفظت علوم الدين والمعارف ألف سنة حتى الآن. فكيف فرطنا في هذه الأرض الأثرية التي قد تزيدنا علما ب «أون» إذا ما استمرت الحفائر حولها؟! ماذا تفعل مصلحة الآثار في هذا الخضم العشوائي من المساكن الكثيفة؟!
مصر الجديدة
وتتصل هذه الذراع من الشرق بالمنطقة العمرانية التي كانت تسمى عند نشأتها عام 1905 «واحة عين شمس» أو مصر الجديدة حاليا. ولقد تضخمت مصر الجديدة في كل الاتجاهات، عدا الاتجاه الجنوبي؛ حيث المعسكرات القديمة التي تفصلها عن العباسية لمسافة تبلغ 3,5 كم.
وضاحية مصر الجديدة لم تنشأ كذراع عمرانية، وإنما نشأت كمدينة مخططة يصلها بالقاهرة خط ترام سريع - مترو - من شارع عماد الدين في قلب المدينة إلى ميدان الإسماعيلية، بالإضافة إلى وصلة قديمة لترام عادي من العباسية - الترام الأبيض - إلى ميدان الجامع. ونظرا لنشأة مصر الجديدة المستقلة، فإنها في الواقع مدينة جديدة نشأت خارج القاهرة، لكن عملية الاقتراب العمراني بينها وبين الذراع الشمالية الشرقية بواسطة خط ترام قديم - شارع القبة - قد جعلتها في صورتها العامة جزءا من إشعاع عمراني مرتبط بذراع القاهرة الشمالية الشرقية، وعملية الاقتراب العمراني بين مصر الجديدة والعباسية كانت وما زالت يقف دونها عائق بشري؛ هو: معسكرات الجيش القديمة، والمنتظر بعد إزالة هذا العائق أن يتصل العمران بينها وبين المدينة الكبرى اتصالا تاما. وقد بدأ فعلا هذا التفكك بتخصيص الجزء الجنوبي من هذه المعسكرات لبعض كليات جامعة عين شمس والمستشفى التخصصي، وإلى الشمال منها مبنى الكلية الفنية العسكرية، وأمامها مصلحة الأرصاد الجوية والمساحة العسكرية، وبذلك تحول شارع الخليفة المأمون من ميدان العباسية إلى بداية منشية البكري إلى طريق تحف به مراكز وأبنية تعليمية وعلمية وتطبيقية وبحثية باستثناء مبنى وزارة الدفاع.
وجود العائق بين عمران مصر الجديدة والعباسية، سواء كان في صورة معسكرات أو في صورة أبنية جامعية وتعليمية وحكومية، هو السبب الذي يجعلنا نشعر بأن مصر الجديدة مكانيا وسيكولوجيا هي الضاحية الوحيدة التي تكون مدينة في حد ذاتها لها كفاية ذاتية، بينما بقية الضواحي والأذرع في احتياج مستمر إلى خدمات مركز القاهرة.
مدينة نصر
تمتد مدينة نصر إلى الجنوب والجنوب الشرقي من طريقي الميرغني وصلاح سالم على التوالي لمسافات غير محدودة؛ بطبيعة خطة شوارعها الشبكية التي يمكن أن تمتد إلى أي مسافة يصل إليها العمران، ولكنها في الوقت الحاضر تمتد مسافة نحو 6كم من مدينة الألعاب الرياضية حتى نهايات مدافن المدينة في الجنوب، ونحو عشرة كيلومترات من الشرق إلى الغرب، ويمكن القول: إن الطريق الدائري الحالي يمثل الحد الشرقي الذي يمكن أن يحيط بمدينة نصر من الشرق، ويفصل بينها وبين التجمعات السكنية التي تتجمع الآن تحت مسمى القاهرة الجديدة، ويحتاج الأمر إلى تحديد أكثر دقة يفصل بينها وبين القاهرة الجديدة بعد اكتمال الأخيرة.
شكل 1-8:
نمو العمران بين مصر الجديدة والزيتون ما بين 1930 و1995، (1) و(2) حدود عمران مصر الجديدة سنة 1930. (3) سراي القبة. (4) حديقة الميريلاند.
وقد أنشئت مدينة نصر في الستينيات كمنطقة عمارات مختلفة الأحجام، وإن كان معظمها لا يصل إلى أعلى من ثمانية طوابق، بواسطة القطاع العام باسم شركة مدينة نصر، وذلك على نحو مشابه لمشروعات الإسكان اليوجسلافية آنذاك، وما زالت هذه الأبنية قائمة في نواحي متعددة، وإن كان معظمها يتركز في المنطقة الأولى والثانية، وتركت بقية المناطق والأحياء لمبادرات القطاع الخاص والهيئات العامة؛ ولهذا نجد عمارات القطاع الخاص تصل إلى متوسط عشرة طوابق وأكثر، بينما أبنية الهيئات أقل من ذلك، وفضلا عن ذلك فإن الدولة خصصت أماكن متعددة لعدد من الوزارات والأجهزة المركزية؛ كوزارة المالية والجمارك والبترول والتخطيط والإحصاء والتنظيم والإدارة ... إلخ.
وإلى جانب ذلك اتخذت عدة شركات بترولية مقرها في مدينة نصر، وكذلك عدد كبير من النوادي التابعة للأسلحة العسكرية المختلفة، وأخيرا مدينة الألعاب الرياضية، واستاد القاهرة، ومركز المؤتمرات، وجامعة الأزهر في مقرها الجديد الذي يحتل مساحة ربما كانت أكبر المساحات التي تشغلها أي جامعة مصرية أخرى. (3-5) أحياء القاهرة الجنوبية
أما الذراع العمرانية المتجهة من القلعة جنوبا فهي قديمة ونموها محدود لعدة أسباب؛ منها: أن غالبيته يتكون من المقابر الكبرى للقاهرة منذ نشأة الفسطاط، وفيه كثير من الأضرحة لعلماء الدين، من أهمهم: الإمامان الشافعي والليثي، والسيدة نفيسة، والشيخ أبو السعود. وأخيرا فإن الذراع الجنوبية الغربية هي تلك الممتدة مع خط حديد حلوان من مصر القديمة، وهي أقل الأذرع العمرانية اتصالا؛ إذ إنه يتكون من عدة ضواحي سكنية منفصلة، منها: المعادي والمعصرة وطرة وحلوان. لكن مع كهربة الخط الحديدي، والضغط السكاني والنمو الصناعي فإن هناك اتجاه للعمران أن يتلاحم كما حدث عندما امتد عمران مصر القديمة والبساتين إلى دار السلام، وما هو في طريق الوقوع من امتداد بين دار السلام ومشارف حدائق المعادي، وبين المعادي وطرة.
وامتد العمران على شرائح زراعية جنوب المعصرة إلى حلوان والتبين، فتحولت الكثير من العزب، مثل: عزبة الوالدة وعزبة كامل صدقي وقرية حلوان البلد إلى أحياء عشوائية لسكن فقير. كما تدهورت حلوان الحمامات من ضاحية مخططة جيدا ومن أماكن استشفاء وترويح إلى سكن متوسط وفقير، وارتبط كل ذلك بالصناعات المتعددة التي أنشئت في جنوب القاهرة، وعلى رأسها: الحديد والصلب وفحم الكوك والسيارات والطائرات حول حلوان، والأسمنت شديد التلوث في طره، فضلا عن المحاجر الكثيرة المنتشرة شرقي أوتوستراد حلوان.
وربما كانت النقاط المضيئة في هذا الخضم هي مدينة 15 مايو المخططة لاستيعاب عدد كبير من العمالة الصناعية - في تعداد 1996 بلغ عدد السكان نحو 65 ألفا - وكذلك المساحة الكبيرة التي أعطيت لجامعة حلوان، ولا شك أن هناك مساعي من مختلف الوزارات والهيئات، وبخاصة وزارة البيئة، لتقليل التلوث الشديد الذي أشاع الكثير من أمراض الصدر والعيون في جنوب القاهرة. (3-6) أحياء غرب القاهرة الكبرى
ما سبق أن تناولناه من أحياء وأقسام كلها تقع شرق النيل داخل محافظة القاهرة، باستثناء شبرا الخيمة التي تقع في محافظة القليوبية. لكن القاهرة الكبرى تمتد عبر النيل إلى محافظة الجيزة التي تضم نواة مدينتين قديمتين هما: الجيزة وإمبابة.
وقد ظلت الجيزة مدينة صغيرة معظم تاريخ القاهرة، ولم يقدر لها النمو الهائل الذي تحقق الآن إلا في الفترة الحديثة بعد بناء قصر الجيزة وحدائق الأورمان والحيوان في عهد الخديو إسماعيل ، وكان ذلك بمثابة إيذان دفع العمران إلى النمو رويدا من مدينة الجيزة شمالا في اتجاه إمبابة، وغربا في اتجاه الهرم، وقد نمت الرقعة العمرانية الكبرى من الجيزة إلى إمبابة في خلال السنوات الثلاثين الماضية، وإن كانت مقدماتها عدة قصور متناثرة فيما بين الدقي والجيزة، وزادت عمليات النمو العمراني في المنطقة الوسطى بإنشاء جامعة فؤاد الأول - القاهرة حاليا - ومجموعة من الأبنية الحكومية، هي: مصلحة المساحة ومحافظة الجيزة، قبل انتقالها إلى شارع الهرم، ومعهد البحوث القومي، ومعهد بحوث البناء، ووزارة الزراعة والمتحف الزراعي ونادي الصيد، وكلها كانت تمثل مقومات للنمو حولها في الدقي التي بدأت بعمران راق من نمط الفيلات، ثم تحولت إلى مقار لعدد من المستشفيات والسفارات، وإن كان بعضها قد هجرها إلى أماكن أرحب على كورنيش المعادي والمهندسين وغيرهما.
وكان البناء الشاسع لمستشفى الجمعية الخيرية الإسلامية على واجهة النيل في عزبة العجوزة سببا في انهيار العزبة الزراعية، وتحول المنطقة إلى سكن راق من نمط العمائر الواسعة. وبالتدريج فقدت هذه النويات الصغيرة انفصالها، والتحمت مكانيا في كتلة عمرانية على واجهة النيل من العجوزة إلى الجيزة، وتعمقت كثيرا إلى الغرب، لكنها وقفت أمام عائق صعب المراس هو خط حديد الصعيد، وبالرغم من أن الضغوط قد أدت إلى اختراق هذا الخط في أماكن معينة بواسطة أنفاق وكبار علوية، فإنه ما زال يمثل عائقا قد يزول إذا ما اتخذت الجيزة محطة لبداية الطريق الحديدي إلى الصعيد، وربما نعود إلى التوصية باستخدام المسار الحديدي بين الجيزة وكوبري إمبابة مسارا لخط مترو سريع يتصل بمترو الجامعة والمترو المزمع إنشاؤه بين إمبابة ومطار القاهرة، مرورا بالدراسة والأزهر، ويكون بذلك خط اتصال سريع بين محطة حديد الجيزة ومحطة حديد الشمال المقترحة في شبرا الخيمة.
وقد تم الالتحام بين العمران على كلتا ضفتي النيل، بعد إنشاء الجسور والكباري الحديثة (16 جسرا حاليا) وإن كان أقدمها جسر يربط بين مصر القديمة وجزيرة الروضة منذ العصر الروماني والقبطي، والذي أعاد إنشاءه الملك الصالح الأيوبي عندما ابتنى لمماليكه قلعة الروضة، ومن ثم سمي هؤلاء بالمماليك البحرية، وكان هناك جسر آخر عائم يصل الروضة بالجيزة، وكلاهما يعودان إلى القرن 13م.
14
ثم ظهرت الجسور الحديثة منذ عصر الخديو إسماعيل، وكان أولها كوبري قصر النيل عام 1872 ليربط القاهرة بقصر الجزيرة الذي أنشأه في مناسبة احتفالات افتتاح قناة السويس، لكنه لم يتم آنذاك. ثم جسر البحر الأعمى (الجلاء حاليا) عام 1872، وهما معا يكونان أول جسرين متكاملين يعبران مجري النيل الرئيسي والفرعي حول الجزيرة، ويمكنان من العبور الحديث من القاهرة إلى بر الجيزة، ويخترقهما الآن شارع التحرير من ميدان عابدين إلى الدقي وبولاق الدكرور، وبذلك ساعدا على تعمير منطقة الدقي مبكرا عن بقية العمران في الجانب الغربي من القاهرة الكبرى.
وتوالت بعد ذلك الجسور العابرة للنيل.
15
في أوائل القرن 20 وذلك حسب مقتضيات النمو العمراني في أحياء الجيزة. وفي عهد الخديوي عباس حلمي الثاني نشطت حركة بناء الجسور بين القاهرة والجيزة، فأنشئ كوبري إمبابة لسكة حديد الصعيد 1890، وأعيد بناؤه على شكله الحالي لسكة حديد مزدوجة وسيارات ومشاة في 1925، وكان عام 1908 خصبا أنشئت فيه أربعة جسور مكملة لبعضها: عباس (الجيزة حاليا) والملك الصالح لربط جنوب القاهرة لعمران الروضة والجيزة، فكان طريق اختراق إلى تعمير منطقة شارع الهرم، وأبو العلا - أزيل مؤخرا لأسباب غير مقنعة، وكان يمكن أن يظل تحفة معمارية للمشاة والنزهة - والزمالك الذي أدى إلى تعمير حي الزمالك، وبدايات تعمير منطقة إمبابة التي لم يكتمل نموها إلا بمخطط مدينة الأوقاف في الخمسينيات، والذي تحول الآن إلى ما يعرف بالمهندسين والصحفيين ... إلخ، وتعتمد أساسا على طريق 26 يوليو الذي امتد طرفه الغربي منذ عامين إلى طريق الإسكندرية الصحراوي، ويعرف باسم محور 26 يوليو. وفي أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات وما تلاها أنشأت حكومات النظام الجمهوري كوبري الجامعة فيما بين المنيل وجامعة القاهرة، وعددا آخر من الجسور الصغيرة بين المنيل من ناحية وجاردن سيتي والقصر العيني وفم الخليج من الناحية الأخرى، وإعادة بناء جسر الملك الصالح وجسر الجيزة (عباس سابقا)، وكذلك عبرت النيل جسور للكباري العلوية؛ أولها كوبري 6 أكتوبر إلى الدقي وجسر روض الفرج إلى شمال المهندسين، وأخيرا جسر المنيب جنوب الجيزة وجسر الوراق شمالي إمبابة المكملين للطريق الدائري حول القاهرة الكبرى.
إن النمو العمراني على ضفة النيل في الجيزة لم يكن ممكنا إلا ببناء الجسور، وكلما زادت أعداد الجسور زادت دفعة العمران على حساب الأرض الزراعية في الجيزة. وعلى وجه التقريب فقد تآكلت - أو بسبيلها إلى التآكل - غالب الزمامات الزراعية في كل قرى شمال وجنوب طريقي الهرم وفيصل، وكل القرى غرب بولاق الدكرور: المعتمدية وزنين وصفط اللبن وطهرمس ومنشأة البكاري إلى كرداسة، وسيكون ذلك مآل الزمامات في قرى عديدة، كبشتيل والكوم الأحمر حول الطريق الدائري غرب وراق العرب، وكالبراجيل على طول محور 26 يوليو.
الخلاصة: أن الزحف العمراني يتقدم في جبهة عريضة من النيل إلى حافة الهضبة الصحراوية الغربية، وقد وصل هذه الحافة عند نهاية طريقي الهرم وفيصل، وتعداها في نهاية فيصل وميدان الرماية إلى عمق الصحراء في اتجاه أطراف مدينة 6 أكتوبر على طول الطريق الصحراوي إلى الواحات والفيوم. هذا فضلا عن الزحف العمراني الواسع كعملية حالية بين حي الهرم والبدرشين والحوامدية، وقرى وعزب كثيرة جنوب مراكز الجيزة والعمرانية والهرم، وكلها يضمها تعداد 1996 إلى القاهرة الكبرى.
شكل 1-9:
نمو القاهرة في قرن (1910-1995).
فهل سيأتي اليوم الذي يتشابه فيه عمران الجيزة مع عمران القاهرة داخل منظومة القاهرة الكبرى؟ لقد نما سكان محافظة القاهرة في الفترة بين تعدادي 1986-1996 بنسبة 11,2٪ بينما نمت أجزاء ومراكز الجيزة الداخلة في القاهرة الكبرى بنسبة 24,8٪ لنفس الفترة التعدادية - وذلك حسب التعداد الرسمي 1996 - وبعبارة أخرى: إن أقسام الجيزة تنمو بنسبة هي ضعف القاهرة على الأقل. فهل يعني ذلك أن محافظة القاهرة قد وصلت إلى حد التشبع بحيث تنمو - نظريا - بنسبة 1,1٪ سنويا، وأن الدور في تسارع النمو السكاني الآن هو في منطقة الجيزة؟ ومتى تصل الجيزة إلى حد التشبع؟ وهل تترك الأمور على ما هي عليه أم تتخذ قرارات متشددة بمنع تحويل الحقول الزراعية إلى حقول من غابات الطوب والإسمنت الفقير البشع كما نلاحظه الآن في أطراف القاهرة الكبرى الشمالية والغربية؟ ومتى؟ (3-7) دينامية النمو بين ابتلاع القرى والابتلاع المعاكس
هذا الشكل من النمو مألوف في معظم مدن العالم، وفي القاهرة حدث ابتلاع لعدد كبير من القرى والعزب، من أهمها: منية السيرج في شبرا، وقرى كثيرة في اتجاه الشمال منها: المطرية والقصيرين والأميرية، وكفر الجاموس في امتداد جسر السويس، ومن الأمثلة التي رأيناها رأي العين: ابتلاع عزبة العجوزة عندما أخذ النمو العمراني يتقدم من الدقي شمالا. ظلت العجوزة محتفظة بطابعها السكني القروي فترة وإن تحولت العمالة الزراعية إلى أعمال أخرى بعد التفاف العمران الحديث حولها، وترتب على ذلك ارتفاع قيمة أرض القرية؛ مما دعا أهل القرية إلى هدمها أو بيعها، وتحول الإسكان إلى عمائر فاخرة، والصورة تتكرر الآن في ميت عقبة في منطقة المهندسين ومعظم القرى غرب إمبابة وشمالها الغربي، وإن كان النمط حول إمبابة هو اتجاه السكن الفقير وليس الفاخر أو فوق المتوسط.
ولكن الملاحظ أن هناك دينامية أخرى معاكسة كأنها رد فعل للنمو العمراني الحديث الذي أدى إلى إذابة نمط القرية التي تقع تحت وطأته. فالقرى كبيرة الحجم أو التاريخية أو هما معا تتحول وظيفتها من الزراعة إلى أنشطة أخرى تؤدي بالمستفيدين الجدد من نفس القرية إلى تغيير نمط البيت الريفي إلى البناء بالطوب والأسمنت، وبذلك تتحجر مقاومة القرية للتحلل، ولكن لأن مساحات المباني الأصلية عادة صغيرة، أو صغرت بالميراث، فإن القرية بشكلها الجديد تصبح كثيفة البنيان وكثيفة السكان العاملين في مهن كثيفة العمالة بالقياس إلى الزراعة، وبالتالي تصبح جاذبة للسكن المتوسط والفقير، وحين يتم ذلك تتحول إلى الزحف حولها سواء كان ذلك في أرض زراعية ملاصقة أو إسكان غني من نمط الفيلات التي هجرها أهلها بواسطة تقسيم الإرث وغيره من الأسباب سالفة الذكر، وأصبحت بذلك مكونا أرضيا في سوق العرض والطلب على الأراضي، وقد حدث هذا أيضا أمام أعيننا في منطقة كالزيتون والمطرية حين زحف الإسكان الكثيف والفقير على مناطق الفيلات السابقة التي كانت طوال النصف الأول من القرن العشرين ضواح مترفة إلى متوسطة الإسكان.
وقد يحدث مثل ذاك في منطقة ميت عقبة حيث الصراع بين نمطي السكن الفقير وبين الغني والمتوسط ما يزال محتدما؛ لأن عمران المهندسين والصحفيين الحديث لم يتعد جيلين. وربما يساعد شق طريق رئيس في قلب ميت عقبة، هو محور 26 يوليو، على إضعاف مقاومتها للابتلاع، ولكن طوق النجاة لميت عقبة ومثيلاتها قد يتمثل في ضرورة احتياج الأحياء الغنية وفوق المتوسطة الدائم إلى وجود أحياء أقل مستوى تقوم بتقديم خدمات من أنواع عديدة، وبخاصة التجارة الصغيرة لمواد الغذاء. (3-8) النمو الطفيلي أو العشوائي
على عكس ظاهرة ابتلاع القرى المجاورة، يحدث أن تأتي جماعة مهاجرة أو أفراد من الفقراء و«تزرع» نفسها على أطراف المدينة الكبيرة مكونة - تجاوزا - «مساكن» فقيرة جدا. هذا هو النمو الطفيلي للمدن، ومساكن مثل هذه التجمعات تستخدم الصفيح أو ما يشبه ذلك من مواد مستهلكة سابقة الاستخدام كالأخشاب والكرتون والأقمشة، وما إلى ذلك مما يصنع فواصل وسقفا يمكن العيش تحته، وتسمى عادة: «العشش» أو «عزبة» أو «منشأة». أما الحكر فهو مناطق «متدنية السكن والموارد المالية» داخل المدينة مما يسمى
slum
التي ليس لها ترجمة عربية واضحة الآن.
وحين تلف المدينة حول هذا النمو الطفيلي بحيث يصبح داخل المدينة، فإن العشش تتحول بالميراث، ووضع اليد إلى أحياء متدنية مكدسة بالناس والفقر، مثال ذلك: عشش الشيخ علي جنوب بولاق، أو عشش زينهم بين طولون والسيدة، وقد أزيل معظم هذه العشش لارتفاع سعر أراضيها، وحلت محلها إما بنايات ووزارات على واجهة النيل، وإما بإقامة حي سكني شعبي؛ لتحسين الأوضاع السكنية والاجتماعية لسكان تلال زينهم.
ومن أمثلة هذه التجمعات السكنية: عزبة الصفيح شمال الشرابية، وعزبة الهجانة ومنشأة ناصر في شرق القاهرة، وعزبة «أبو حشيش» في الزيتون. والظاهرة المميزة في منطقة القاهرة ما كان في الماضي من وجود مضارب فقيرة للبدو الذين يعيشون على حافة الصحراء يرعون قطعانا من الماعز. وقد تحولت بعض هذه المضارب إلى عزب مبنية باللبن، ومن أهم أمثلتها: عرب الحصن وعرب الطوايل بالمطرية، وعزبة جبريل شرقي المعادي، وأكبرها الآن منشأة ناصر والدويقة على سفح وعر لحافة المقطم شرق القلعة، وعزبة الهجانة على طريق السويس شمال مدينة نصر، وحي المنيرة الغربي في غرب إمبابة، والكثير من السكن في قسم ثان لشبرا الخيمة، والكثير جدا من السكن في المنطقة الممتدة بين المعصرة وحلوان، وأخيرا معظم المنطقة الممتدة بين دار السلام والبساتين شمال المعادي. وسوف نعالج هذا الموضوع المهم والخطير بشيء من التفصيل فيما بعد. (3-9) المدن الجديدة
وفي هذا المجال لا يكون النمو المديني تلقائيا أو معتمدا على المبادأة الفردية، إنما يرتبط بعدة أمور؛ منها الإحساس بضرورة التخطيط من أجل: (1)
توجيه النمو المديني وجهته الصحيحة، وبخاصة إبعاده عن تبوير الأرض الزراعية. (2)
تقديم الشروط الصحية، وضمان خطوط المواصلات الداخلية التي تؤمن حركة السكان من المدينة المخططة إلى المدينة القديمة، ويقتضي ذلك في أحيان كثيرة التدخل الفعلي من جانب سلطات المدينة المحلية.
وتوجيه المدينة إلى وجهة نموها الصحيح أمر بالغ الأهمية بعد أن رأى الكثيرون الضرر الذي يعود من النمو العشوائي المعتمد على المبادأة الفردية. فقد أدى هذا إلى نمو المدينة على حساب الإقليم الذي يمدها باللبن والخضراوات، ولكن هناك مناطق تخطط للنمو على حساب هذا الإقليم الحيوي، نتيجة ظروف خاصة، أو نتيجة لأن هذه هي أحسن الأراضي للنمو المديني.
ومن شروط التخطيط أيضا: مد نطاقات من الخضرة داخل المدينة كمحاولة لاستيفاء شروط صحية وترويحية لسكان المدن. وقد نشأت حول القاهرة في النصف الأول من القرن 20 عدة مناطق عمرانية مخططة، مثل: مدينة مصر الجديدة أو المعادي والهرم ومدينة الأوقاف والمقطم، وفي النصف الثاني من القرن نفسه أنشئت مدينة نصر ومدينة السلام وحدائق شبرا، وقد روعي في تلك المناطق كثيرا من شروط التخطيط: الطرقات الواسعة ونطاقات الخضرة. وغالب تلك المناطق المذكورة قد خططت في داخل الإقليم الزراعي المحيط بالقاهرة غربا وشمالا وجنوبا؛ مما يسبب خسارة كبيرة للأرض الزراعية المحدودة داخل القاهرة الكبرى. أما مصر الجديدة ومدينة نصر ومدينة المقطم و15 مايو، فقد خططت في الأماكن التي كان يجب للعمران المديني أن ينمو فيها، فمعظمها مناطق صحراوية أو جبلية، وكذلك الحال بالنسبة لمنطقة المساكن الشعبية في تلال زينهم، وامتدادها إلى منطقة «أبو السعود» والفسطاط الجديدة.
شكل 1-10:
مدينة المقطم - الإمام الشافعي: اختلاف أغراض العمران.
والتخطيط الذي تم به بناء منطقة الهرم أو حدائق شبرا ليس على درجة من الكفاءة مثل تخطيط مدينة الأوقاف أو مصر الجديدة أو نصر؛ ذلك لأن العمران في هاتين المنطقتين امتد من قديم في صورة إشعاع عمراني كما سبق القول، لهذا كان التخطيط الذي تم بعد ذلك قائم على أساس عبء إعداد الأرض للعمران على المبادأة الفردية أو المبادأة التي تقوم بها شركات صغيرة للإعمار، والربح السريع يكون عادة الضوء الذي يهتدي به هؤلاء، مما لا يستوفي الشروط اللازمة في التخطيط الحقيقي. وفي حالة مدينة الأوقاف تم التخطيط لمساحة كبيرة في صورة متكاملة؛ لأن كل هذه الأرض أو معظمها كان مملوكا لمالك واحد وهو وزارة الأوقاف، وكذلك الحال بالنسبة للمعادي ومصر الجديدة والمقطم التي أعطي امتيازها إلى شركات كبيرة خططتها دفعة واحدة، ومدينة نصر التي تتولاها هيئة شبه حكومية، ومدينة 15 مايو تم إعمارها بواسطة وزارة الإسكان والتعمير، ومشروع الهضبة الوسطى في المقطم الذي تعثر كثيرا حتى الآن.
مدينة المقطم
ويهمنا في هذا المجال أن نذكر بشيء من التفصيل موضوع مدينة المقطم؛ فمن الناحية الصحية والجمالية لهذا المشروع امتياز كبير على غيره من مشروعات العمران القاهرية. لكن هناك عدة عقبات طبيعية وبشرية أدت إلى ما يشبه توقف المشروع عن النمو فترة طويلة نذكر منها العقبات الآتية: (1)
الانحدار سريع بين القاهرة والمكان الذي اتخذ للمشروع - حوالي 120 مترا من بداية طريق المقطم عند طريق صلاح سالم، وبين موقع المدينة، في مسافة لا تزيد عن 3كم - وذلك لأن المدينة اتخذ موضع لها الحافة الجنوبية لقوس المقطم في شرق القاهرة، ويشرف هذا القوس على منطقة القلعة والإمام الشافعي في صورة جروف عالية، وقد أدى ذلك إلى انحدارات عالية في بعض مناطق الطريق، مع الالتواءات والحنيات الحادة في مناطق أخرى، ومثل هذا لا يجب أن يكون في منطقة عمران دائم، فقد يصح ذلك في مناطق الجبال السياحية. (2)
إن الموقع الذي اختير لا يجعل هناك سوى طريق واحد إلى مدينة المقطم، وبذلك تخلق عنق زجاجة لشدة الحركة على هذا الطريق - فيما لو عمرت عمرانا كثيفا - ومع قلة الحركة اليوم فإن الطريق يحتاج إلى صيانة مستمرة مكلفة بالإضافة إلى احتمالات كبيرة للحوادث. (3)
إن الشعور بأن هناك طريقا واحدا يخلق إحساسا بأن الإنسان سكن «حارة سد» وهو إحساس مضايق بدون شك. (4)
إن الموقع الذي اختير يشرف على منظر لا يحب الإنسان أن يكرر رؤيته كل يوم، فهو يشرف على «القرافة الكبرى» على حد تعبير المقريزي؛ مقابر الإمام الشافعي والبساتين الممتدة قرابة أربعة كيلومترات تحت المقطم مباشرة. (5)
إن الطرق الأساسية التي تقود من المدينة إلى المقطم تمر بأكثر مناطق القاهرة ازدحاما وضيقا بالحركة: «شارع محمد علي وميدان العتبة»، أو تقود إلى منطقة خالية من الخدمات برغم اتساع الشارع: «فم الخليج»، أو إلى منطقة خدمات محلية في مصر الجديدة. (6)
ليس بالمقطم خدمات محلية إلا في صورة محدودة جدا، وخاصة خدمات التعليم. (7)
مدينة نصر منافس خطير من حيث الموقع والموضع والمساحة المخصصة للامتداد، من حيث المواصلات والخدمات.
ولكن تزويد المقطم بطرق حركة إضافية يمثلها أساسا طريق أوتوستراد حلوان، وطريق الهضبة الوسطى، وطريق إلى شرق المدينة عند مساكن الزلزال قد أعطى للمقطم أخيرا دفعة قوية للنمو العمراني؛ فمن خلال هذه الطرق - وما يستجد مستقبلا من طرق صوب الطريق الدائري - أصبح للمدينة اتصالات سريعة بمدينة نصر والمعادي وما فيهما من الأسواق، فضلا عن بدايات نمو سوق داخلية وخدمات تعليمية. وكذلك كان لتعديل حركة المرور في طريق صلاح سالم والقلعة أثره في ازدياد اقتراب المدينة من وسط البلد، ولكن ما زال الطريق الرئيس يعاني من حدة زوايا الانحدار وضيق الملفات، ويحتاج إلى تعديلات لكي يصبح مأمونا.
ولأننا لم نعتد البناء في مناطق المنحدرات الجبلية، فقد حدثت أخطاء كثيرة عن حسن نية؛ فقد كان كورنيش المقطم والشوارع حوله مطلبا مقصودا للسكن الفاخر الحدائقي من أجل لمسات جمالية في البيئة الصخرية. لكن نقص الدراسات عن ميكانيكية التربة والصخر، وما يعتريه من خطوط انكسار، واتجاهات انحدار، ونقص الصرف الصحي كانت لها آثارها المهددة بالمخاطر الشديدة. فإن تسرب المياه تحت السطح قد أدى إلى تآكل وانهيار صخور الحافة في حوادث مأساوية، ومن هنا بدأ الناس في إدراك أن التعدي على البيئة بصورة جائرة له مخاطر مهلكة، ولا شك في أن منطقة المقطم لها ميزات وفضائل على رأسها الانخفاض النسبي في درجة الحرارة، والتي يزيد إحساسنا به حركة الهواء الحر في صورة نسائم مستمرة، وهو ما نفتقده في الكثير من أحياء القاهرة؛ لكثرة العمائر التي تعوق مسرى الرياح في اتجاه، وتجعله قويا غير مرغوب في اتجاه آخر، والشيء الآخر الذي تتمتع به مدينة المقطم حتى الآن هو قلة تلوث الهواء لقلة السكان وحركة السيارات، ولكن تلك الميزة قد تفقد في حالة زيادة السكان والسيارات، أو زيادة السيارات لأبناء الأسر الغنية والمتوسطة، وهي الظاهرة الاجتماعية الحديثة في مصر، والتي معها تتناقص الميزة الثالثة للمقطم، وهي: الهدوء وقلة التلوث!
وخلاصة القول: إن التخطيط الجاد قد انتهى إلى الاهتمام بعودة النمو المديني للقاهرة مرة أخرى إلى مجال ومحور النمو الطبيعي؛ أي إلى الشمال الشرقي محاذية حافة المقطم،
16
ومعتلية خطوطا كنتورية لم تعتلها من قبل (80-150 مترا في مدينة نصر و180 مترا في المقطم)، وللارتفاع ميزة الجفاف والجو الصحي المفتوح، ومع قليل من المغالاة نقول: إن نمو القاهرة الطبيعي إلى الشمال الشرقي هو في اتجاه الرياح الشمالية الشرقية السائدة في معظم العام.
ما سبق من مدن أصبحت جزءا من المدينة لاقترابها الكبير منها، ولكن في الستينيات خططت هيئة تخطيط القاهرة الكبرى لإنشاء مدن حلقية حول القاهرة وعلى مبعدة منها، وتوالت أجهزة التنفيذ في وزارة الإسكان والتعمير والمجتمعات العمرانية الجديدة على تنفيذ مجموعة من المدن في المناطق الصحراوية شرق وغرب القاهرة، هي: 10 رمضان، ثم 6 أكتوبر و15 مايو، والتجمعات: أول وثالث وخامس باسم مدينة الأمل التي تحولت إلى مشروع القاهرة الجديدة، فضلا عن مدن: بدر والشروق والعبور، بينما تحول مخطط مدينة الأمل إلى شريحة عرضية موازية لطريق العين السخنة. أنجح هذه المدن من ناحية المكان والنمو الاقتصادي هي مدينة رمضان؛ وذلك لبعدها النسبي عن القاهرة. أما 15 مايو فهي الآن عمران حيوي للعمالة الكثيفة في منطقة حلوان، ومدينة أكتوبر تتحول تدريجيا إلى ضاحية جديدة للقاهرة الكبرى؛ لاقترابها، ولوجود طرق كبيرة تربطها بها، وسوف نعالج موضوع المدن الجديدة فيما بعد. (4) خطة المدينة
تكاد تنحصر الخطط التي تبنى عليها المدن منذ القدم في: (1)
الخطة الشبكية:
التي تتكون من طرق متوازية وأخرى متعامدة عليها، وأقدم مخطط شبكي في مصر هو: مدينة أخيتاتون؛ العاصمة التي بناها في شرق المنيا إخناتون الفرعون الموحد بآتون إله واحد رمز إليه بقرص الشمس منذ قرابة ثلاثة آلاف سنة. كذلك كانت خطة قاهرة المعز من ألف عام. (2)
الخطة الإشعاعية-الحلقية:
التي تتكون من طرق ترسم دوائر أو أنصاف دوائر حول النواة القديمة، ويقطع هذه الحلقات أو الدوائر طرق أخرى نابعة من المركز في اتجاه الحلقة الأخيرة في صورة إشعاعات من المركز، وهذه الصورة نادرة في مدن مصر. (3)
الخطة الطولية:
التي بمقتضاها تنمو المدينة في شكل طويل ضيق على محور واحد هو الطريق الرئيسي. (4)
الخطة الرومانسية:
وهي التي تتجنب هذه الخطط، ويلجأ المهندس إلى إقامة طرقات في صورة أقواس أو بيضاويات أو دوائر متقاطعة داخل إطار كبير من الخضرة.
ولما كان للخطتين الحلقية والطولية شروط غير متوافرة في منطقة القاهرة، فإن ذلك يترك المجال للخطة الشبكية أساسا، ولكن القاهرة بنيت - كما سبق القول - على أساس اندماج عدة نوايات ومدن سابقة، ونمو مركزي ونمو إشعاعي، وكل ذلك في مراحل تاريخية مختلفة؛ ولهذا فإن القول بأنه ليس في القاهرة ككل خطة واضحة، هو قول لا يجانبه الصواب كثيرا؛ بل إن ذلك لا يقتصر على القاهرة، لكنه يمتد إلى معظم مدن الشرق الأوسط القديمة. فخطط هذه المدن مكونة من عدة تصنيفات مرتبطة بتاريخها الطويل، وتتضح هذه الحقيقة من مطالعة الخرائط الأربعة التالية، حيث نجد في القاهرة تعددا واضحا بين مخطط شبكي صرف «عصر إسماعيل»، ومخطط أزقة ودروب مغلقة «القاهرة القديمة»، ومخطط رومانسي «جاردن ستي»، جنبا إلى جنب مخطط شبكي، وأخيرا مخطط «كليشيه» يستعمله المخططون المعاصرون بكثرة.
وبالرغم من أن القاهرة الفاطمية بنيت في صورة مستطيل، يخترقه شارع طولي كبير من باب الفتوح إلى باب زويلة؛ هو الطريق الأعظم الذي يسمى الآن: شارع المعز، فإن الحارات والشوارع المتفرغة بعرض وطول هذه المدينة - بعد تحولها من مدينة ملكية إلى مدينة سكنية عامة - تتداخل مع بعضها وتلتوي وتتقاطع في الوقت الحاضر، مما يجعل إعادة تنظيمها أمرا شاقا، وهو في الحقيقة غير مرغوب من أجل الإبقاء على المدينة التاريخية كما كانت - على الأقل في مخططها الأصلي الذي ورثناه منذ القرن 18. خريطة
1-12
تظهر جانبا من حي الجمالية، حيث كان مخطط الطرق والحارات بعد تحولها إلى مدينة سكنية منذ العهد الأيوبي يتشكل من «حارات وعطفات سد» تتفرع عنها أزقة كثيرة، وعلى أبواب الحارات الرئيسية والفرعية بوابات تقفل ليلا لكفالة الأمن والحماية.
أما الفسطاط: فالأغلب أنها نشأت وامتدت على خطة أقرب إلى الاستدارة منها إلى الاستطالة، وقد كان ذلك بفعل وقوعها على مرتفع هين بين السهل الفيضي للنيل وبين تلال الرصد ومنخفض بركة الحبش إلى الجنوب منها. وفضلا عن ذلك فقد سدت أبنية قصر الشمع - بما فيها من أسوار وتحصينات وكنائس قائمة حتى الآن - إمكانية النمو إلى الجنوب الغربي.
وإذا استثنينا الجزء القديم من القاهرة؛ «القسم الشرقي القديم من الحسينية والفجالة شمالا، إلى باب البحر وباب الخلق غربا، إلى السيدة زينب جنوبا» فإن الخطة الشبكية تظهر بوضوح في مناطق القاهرة الأخرى، أوضحها: باب اللوق - الزمالك - المعادي - قصر العيني - وسط البلد - شبرا عامة، وأقلها وضوحا في: جزيرة بدران والذراع الشمالي الشرقي ومصر الجديدة والعباسية، وهذه الشبكات ليست مكملة لبعضها إنما منفصلة؛ لأن كل شبكة وضعت وحدها وفي مرحلة زمنية مختلفة؛ لهذا نجد الرابط الأساسي لشبكات القاهرة ومناطقها القديمة عبارة عن طرق ماثلة على خط الشبكات تمثل الشرايين الأساسية للنقل عبر القاهرة: «شارع محمد علي - شارع الجيش - شارع بورسعيد - شارع رمسيس - شارع 26 يوليو - شارع التحرير»، بالإضافة إلى طريق صلاح سالم خارج المدينة، وطريق الكورنيش على كلا جانبي النيل، ويمكن أن تستثنى من ذلك الشوارع الرئيسية: قصر العيني - شبرا - عماد الدين (محمد فريد) التي تمثل شرايين أساسية ملتزمة بخطوط الشبكة السائدة في المناطق التي تمر بها.
أما الخطة الرومانسية: فتظهر في مناطق محدودة جدا من القاهرة، والهدف منها في فترة من فترات النمو المدني: تخفيف حدة الملل من الطرقات المتشابهة المتقاطعة، وخلق مساكن للأغنياء وسط إطارات كثيرة من الخضرة، على نحو ما ظهر سابقا في أوروبا، ولهذا سميت بمدينة الحدائق
City Garden ، وأوضح أمثلة الخطة الرومانسية جاردن سيتي؛ حيث تدور الشوارع في أقواس ودوائر أو في صورة طرق متقاطعة مشعة من مركز واحد كما في منطقة قصر الدوبارة، وكذلك كان الحال في حدائق القبة بين شوارع ولي العهد والوايلي ومصر والسودان.
ويظهر من الخريطة
1-13
مخططين متجاورين: الرومانسي في جاردن سيتي والشبكي الصرف في حي الدواوين، ويفصل بينهما شارع قصر العيني، وفي مدينة الأوقاف خطة رومانسية أخرى تتكون من أقواس محدبة تلتقي في الوسط في مركز شبكي، وتتخذ خطة مدينة المقطم صورة أجزاء من أقواس ذات أقطار كبيرة محاذية لحافة المقطم، وخطة مصر الجديدة مزيج بين خطة شبكية معدلة على محاور، وأقواس مائلة.
وأخيرا فإن مدينة نصر قد بني مخططها الهيكلي على خطة شبكية صرفة، وهو المخطط المتبع الآن في أغلب المدن والضواحي الجديدة، وفي داخل الشبكة عدة أحياء أو مناطق تقسم بدورها إلى ما يسميه المخططون: «مجاورة سكنية»
Neighborhood
ترتكز على مركز أخضر ومركز خدمات. وقد أصبح التخطيط في الفترة الأخيرة نمطيا كما يتضح من الخريطة
1-14
على النحو السابق، علما بأن تطبيقه على أراض مختلفة المناسيب أو معرضة لسفي الرمال النشطة أمر له تكلفة عالية من أجل تسوية الأرض وإزاحة الرمال السافية بصفة مستمرة، والمشكلتان - التضرس وسفي الرمال - شديدتا الوضوح في أراضي القاهرة الجديدة للذين يسلكون الطريق الدائري في قطاعه الشرقي.
وعلى أية حال، فإن كثرة استخدام هذا النموذج أمر يؤدي إلى تكرار المظهر الحضاري والعمراني
Landscapc
بصورة تبعث على الملل، ويؤدي أحيانا إلى فقدان الاتجاه؛ لأنه لا يترك للفروق الإنسانية فرصة التعبير الجمالي أو مجرد التفرد بشكل معماري أو لون البناء.
شكل 1-11:
المخطط الشبكي في وسط القاهرة المركزية.
شكل 1-12:
خطة الشوارع والأزقة والعطوف: نموذج من حي الجمالية بين باب النصر وبيت القاضي.
شكل 1-13:
المخطط الشبكي ومخطط الدوائر المتقاطعة في وسط القاهرة.
شكل 1-14:
نموذج «كليشيه» المخطط العمراني الحديث: المجاورات المغلقة علي محاور.
راجع كتاب عفاف لطفي السيد:
Egypt In The Reign of Mohammad Ali, Cambridge
طبعة 1988.
من الكتب المهمة في موضوع النمو الصناعي كتابات كثيرة، منها: أبحاث سعاد الصحن ومحمد محمود الديب المتعددة عن الصناعة والطاقة في مصر.
الكتب سابقة الذكر.
في أوائل القرن 20 كانت فنادق الدرجة الأولى معدودة: شبرد وكونتننتال وسميراميس وهليوبوليس ومينا هاوس، والآن هناك عدد كبير من فنادق النجوم الخمسة والأربعة، تتخذ أسماء سلاسل الفنادق العالمية كالهيلتون والشيراتون وكونراد وماريوت وأوبروي والمريديان ... إلخ.
عدد سكان القاهرة في فترات مختلفة: 398 ألفا عام 1882، 678 ألفا عام 1907، ومليون و64 ألفا عام 1927، ثم مليونان و90 ألفا عام 1947، وأربعة ملايين و220 ألفا عام 1966، القاهرة الكبرى عام 1966 = 4865000 شخص، وفي 1986 زاد السكان في القاهرة الكبرى زيادة مفرطة بلغت الضعف في عشرين عاما؛ حيث وصلوا إلى ثمانية ملايين و406 آلاف، زادوا إلى تسعة ملايين و879 ألفا في 1996، ومعظم الزيادة الأخيرة كانت في أقسام الجيزة وشبرا الخيمة.
علي مبارك، «الخطط التوفيقية» جزء أول ص75 طبعة الهيئة المصرية للكتاب 1969.
اتخذ كثير من حكام مصر هذه المنطقة من النيل إلى المقطم عبر تلة إسطبل عنتر خطا دفاعيا محصنا بأسوار وقلاع لحماية بابلون والفسطاط من الجنوب.
منطقة الكنائس التاريخية المسماة قصر الشمع على مناسيب 21-23 مترا، وجامع عمرو بن العاص 25 مترا.
المساكن الشعبية المواجهة لضريح وجامع أبو السعود على منسوب نحو 33 مترا.
هناك إشارات أخرى أن أم دينين كانت محل مدينة «أون» الفرعونية التي هي الآن قرب المطرية الحالية.
علي مبارك «الخطط» الجزء الأول ص83-84 طبعة بولاق 1306ه.
أغلب الإشارات المكتوبة تذكر أن تخطيط حي الإسماعيلية قد تم بعد زيارة إسماعيل لباريس، وإعجابه بمخططات المهندس الفرنسي الشهير هوسمان في منطقة واسعة من باريس، وقام علي باشا مبارك بتخطيط حي الإسماعيلية في 1869، وصمم مهندس فرنسي حدائق عامة على رأسها حديقة الأزبكية.
أنشئت شركة حدائق القبة 1908 لتعمير منطقة تفتيش القبة، وذلك بوضع مخطط لبناء فيلات وقصور للأغنياء جنوب قصر القبة على مساحة نحو مائة فدان.
المقريزي «الخطط » المجلد الثاني ص138 طبعة دار إحياء العلوم - لبنان.
أول الجسور الحديثة في مصر كان مرتبطا بإنشاء خط حديد الإسكندرية القاهرة. ففي 1856 بني كوبري بنها، وفي السنة التالية كوبري كفر الزيات، وارتباطا باحتفالات افتتاح قناة السويس وما تلا من احتفالات، أنشا إسماعيل كوبري قصر النيل في 1872، وتلاه كوبري البحر الأعمى 1877. ثم جاءت فترة الركود المالي الذي أعقب حكم إسماعيل وثورة عرابي والاحتلال الإنجليزي في حكم توفيق، وامتدت الأزمة إلى أوائل حكم عباس حلمي الثاني.
ولما بدا الانتعاش المالي بدأت أعمال هندسية كبيرة بإنشاء كوبري إمبابة لمرور سكة حديد الصعيد عام 1890 وسد أسوان 1902 وتعليته 1912، وإنشاء مجموعة من الجسور في القاهرة 1908، هي: كوبري عباس، والملك الصالح، وكوبري أبو العلا، والزمالك، وكوبري محمد علي عند الطرف الشمالي لسيالة الروضة. وأعيد بناء كوبري قصر النيل وتوسعته الحالية عام 1933، وفي العصر الجمهوري أعيد إنشاء الملك الصالح 1966 وعباس 1971، وأعيد تسميته كوبري الجيزة، وكان كوبري الجامعة والمنيل قد سبق ذلك في 1975، وكذلك كوبري فم الخليج، ويضاف إلى ذلك الكباري العلوية التي تعبر النيل في التسعينيات، وهي بالترتيب: 6 أكتوبر، وروض الفرج، والمنيب والوراق اللذان يرتبطان بالطريق الدائري حول القاهرة الكبرى.
تاريخيا نمت القاهرة في هذا الاتجاه من الجنوب الغربي إلى الشمال الشرقي: الفسطاط - العسكر - القطائع - القاهرة الفاطمية - العباسية - ذراع الزيتون - المطرية - مصر الجديدة - نصر.
الفصل الثاني
تطبيقات على النمو المكاني في بعض مناطق في القاهرة (1) حلوان في قرن من الزمان
التنمية البيئية الهادئة (1870-1950)
لا شك في أن عصر الخديو إسماعيل (1863-1879) على قصره كان عصر تحديث القاهرة وتنميتها. فهو بحق أحد البنائين العظام شأنه في ذلك شان ملوك أوروبا الذين غرقوا في الديون كما غرق إسماعيل. والفرق بينه وبينهم أن مصر كانت مستهدفة من قبل الإمبراطورية البريطانية التي كانت تنظر إلى مصر صاحبة قناة السويس على أنها واسطة العقد في إمبراطوريتها، ولا بد من احتوائها. وكانت مسألة الديون المصرية ذريعة أولى لإجبار إسماعيل ذي السياسات الطموحة على التنازل عن الحكم، كما كانت ثورة المصريين على الامتيازات الأجنبية في مصر وما تلاها من الحركة العرابية الخطوة الثانية لاحتلال مصر سنة 1882؛ أي بعد قرابة ثلاث سنوات من سقوط حكم إسماعيل.
وحين رغب الخديو إسماعيل في تنمية القاهرة في نطاقها الجنوبي (1874م)، أنشأ حلوان الحمامات شرق حلوان البلد كضاحية حدائق موسرة على غرار ضواحي المدن الأوروبية، مثل: فرساي، ومما ساعد على ذلك أن المشروع كان يتضمن الاستفادة من عيون الماء الكبريتية للعلاج والترفيه. بنيت المدينة على منسوب أعلى من الأراضي الزراعية - محطة سكة حديد حلوان تقع على منسوب 57 مترا، بينما المزارع على ارتفاع نحو 21 مترا - وروعي أن تكون البيوت الواسعة على نمط الفيلات وسط حديقة ولا تتعدى طابقين، وللتشجيع بيع المتر المربع بنحو مليمين، على أن تكون القطعة أكبر من 500 متر، ولا يزال هذا النمط قائما في صورة متفرقة من البلدة، وإن كان غالبه قد شابه القدم والإهمال، ولتشجيع حركة العمران وحركة المتنزهين بني خط السكة الحديدية (1877) من ميدان المنشية تحت القلعة بحيث يسير شرق مدافن الإمام وقرية البساتين إلى طرة، ثم يسير إلى حلوان في نفس مسار الخط الحالي، ولكن مع امتداد العمران وبداية التفكير في إنشاء ضاحية المعادي، رؤي تسهيل الحركة من وسط قاهرة إسماعيل بإنشاء خط حديدي من باب اللوق (1892) عبر مصر القديمة إلى طرة، ومن ثم يستكمل الخط مساره القديم، وفي 1915 ازدوج خط حلوان لكي يخدم ضاحية المعادي التي بدأت امتيازها شركة أراضي الدلتا في 1905.
شكل 2-1:
حلوان في العشرينيات.
شكل 2-2:
تداخل الصناعة مع السكان والزراعة في منطقة حلوان.
وفي العهود التالية أضيفت منشآت أخرى ترفيهية وترويحية وصحية، مثل: الحديقة اليابانية ومصحة فؤاد الأول ومستشفى بهمان للأمراض العصبية، فضلا عن الفنادق الجيدة بمستوى العصر، وبذلك صارت لحلوان مكانة ترفيهية متميزة يزورها مئات الناس من القاهرة للترويح في العطلات، وتوضح الخريطة
2-1
صورة التآلف الإقليمي لمنطقة حلوان-المعصرة حسب خرائط المساحة المصرية عام 1929؛ حلوان الحمامات مبنية على مخطط شبكي حدائقي على منحدرات هينة بعيدا عن مصبات الأودية السيلية القوية كوادي حوف، وبعيدا عن النطاق الزراعي الممتد على مياه ترعتي الخشاب والحاجر وتاركة القرى والعزب الزراعية تتابع نشاطها الزراعي دون تداخلات اقتصادية أو بيئية مؤثرة على الحرفة الأولى، ولو أن مجرد مد الخط الحديدي كان يقود في النهاية إلى مثل هذه التداخلات في الأنشطة وبخاصة الخدمية، والمعنى أن تخطيط حلوان اعتمد الظروف البيئية، ولم يجور على الأرض الزراعية، فصارت حلوان مشتى جميل المناخ صافي الأديم، وهو ما دعى إلى إنشاء مرصد حلوان - إلى الشمال الشرقي على منسوب 114 مترا - الذي كان ذائع الصيت عالميا كأحد المراصد المتوسطة في جو صاف غالبية أشهر السنة، فأين هو الآن من العطاء العلمي؟ لقد نقلت كثير من وظائف المرصد إلى منطقة جبلية صافية الجو في القطامية نأمل ألا تطولها أدخنة المصانع التي تبنى في مدن جديدة كمدينة بدر.
وبالرغم من هذا الشكل الجديد من العمران والطرق الحديدية والبرية في حلوان الحمامات، فإن سكان القرى والعزب الكثيرة، المنتشرة اسما حتى الآن، ظلوا يمارسون أعمالهم في الإنتاج الزراعي، ويعيشون في دعة؛ لقربهم من سوق القاهرة الذي يستوعب منتجاتهم من الخضراوات والفواكه، وخاصة الجوافة التي كان الباعة الجائلون ينادون عليها: «جوافة حلوان» على أنها ترمز إلى الجودة والحلاوة.
وفي هذا المجال لا بد من الإشارة إلى أن موقع حلوان ومناخها الطيب لم تفت ملاحظة الخليفة المأمون حين زار مصر لإخماد ثورة المصريين عام 832م، وكان عبد العزيز بن مروان قد سكن حلوان أثناء ولايته على مصر نحو عام 685م، بعيدا عن الفسطاط التي تفشى فيها الطاعون آنذاك.
التنمية الصناعية في نصف قرن
تعود بدايات الصناعة في المنطقة إلى مصنع للإسمنت في طرة، ومصنع سيجوارت للحراريات في المعصرة. وبطبيعة الحال فإن منطقة جبل طرة تتكون من نوع راق شديد التماسك والصقل من الحجر الجيري عرفه قدماء المصريين، ومنه اشتقوا أحجار الأهرام الضخمة، وهي بذلك مؤهلة لصناعة الأسمنت الممتاز، ولكن هذا المنطق لم يأخذ في الحسبان أن الرياح الشمالية شبه الدائمة سوف تلقي بالغبار والأتربة الناجمة عن الكسارات وتصنيع الأسمنت جنوبا إلى مدينة حلوان والقرى والحقول المحيطة بها. لكن زهوة التصنيع كانت أقوى من هذا التفكير البيئي المبكر، وحتى حينما أصبح رأسمال الدولة أو الشراكة بين القطاعين العام والخاص هو القائم بتنمية الصناعة فإننا نجده يتخذ النمط ذاته من حيث الإكثار من المصانع في منطقة حلوان، كأن مصنع أسمنت طرة أصبح مثالا يحتذى في تفضيل هذا الموقع.
صحيح أن مواقع الصناعة محكومة بمثلث «فيبر»
Weber
الذي تتكون رءوسه من الخامة والسوق وتكلفة النقل للخامة أو المنتج النهائي، وإذا كانت طرة قد اختيرت بأفضلية الخامة الموجودة، فما هو مبرر اختيار موقع صناعة الحديد والصلب علما بأنه قد أنشئ خط حديدي مكلف من مناجم الواحات البحرية وكوبري المرازيق لتصل الخامة إلى المصنع في التبين؟ قيل في هذا: إن السوق كانت العامل الحاكم في اختيار الموقع بالإضافة إلى استيراد الفحم من الخارج، ولكن سوق الحديد والصلب ليست مقتصرة على القاهرة، بل تعم المعمور المصري بدرجات متفاوتة، وكذلك فإن حافة الهضبة الشرقية من قنا إلى القاهرة تتكون من أنواع من الحجر الجيري الجيد، فلماذا كان التركيز على طرة من البداية؟
لا شك في أن عامل القرب من القاهرة كان الحافز البيروقراطي لاتخاذ منطقة حلوان قلعة صناعية، بحيث يستفيد المسئولون من ذوي «الياقات البيضاء» من سكنهم في القاهرة قرب كبار رجال السلطة، في الوقت الذي يعملون في مقار لمكاتبهم لا تبعد سوى القليل من الكيلومترات، وظهر شعار لتبرير ذلك؛ أن منطقة حلوان يمكن أن تكون مماثلة - بدرجة أقل - لحوض الرور الصناعي في ألمانيا، وبعبارة أخرى: يمكن أن يكون هناك «رور النيل» كما أن هناك «رور الراين»، والفوارق كبيرة معروفة بين الطموح والبيروقراطية وبين المقومات الفعلية في جوانب توافر الخامات والموارد المالية والتكنولوجية.
ونتيجة لهذا فقد تزاحمت الصناعة في المنطقة بشكل يعرفه الجميع. فقد توسع أسمنت طرة إلى أن أصبح عملاقا يرسل ملوثاته الغازية والصلبة عاليا في الجو إلى كل مناطق السكن في المنطقة، وكذلك أسمنت بورتلاند حلوان لصق جنوب غرب مدينة حلوان والقومية للأسمنت إلى الجنوب منها، وبذلك وقعت المدينة تحت حصار الأسمنت، وفي جنوب المعصرة مصنع 45 الحربي، وإلى الشمال الشرقي من حلوان مصانع النصر للسيارات والنصر للمواسير الصلب وحلوان للصناعات الهندسية وسيماف لصناعة عربات السكة الحديدية، ولصق المدينة من الجنوب مصنع الطائرات، ثم إلى الغرب منها مصنع مصر حلوان للحرير - وهو من أقدم الصناعات، أنشأه بنك مصر في أواخر العشرينيات - وفي منطقة التبين المصنع الهائل للحديد والصلب، ومصانع فحم الكوك والأسمدة، وصناعات الطوب الرملي والإسمنتي والطفلي. هذا إلى جانب عدد آخر من المصانع الأصغر تتبع القطاع العام أو الخاص، وجملة عدد المصانع يزيد على 40 مصنعا أحاطت وتداخلت وزاحمت كل المحلات السكنية من المعصرة شمالا إلى مدينة حلوان والتبين جنوبا وما بينها من قرى كثيرة تضخمت مثل كفر العلو وعرب غنيم وكامل صدقي.
وترتب على هذا انفجار سكاني عنيف؛ في سنة 1927 كان سكان قسم حلوان نحو خمسين ألفا، وفي إحصاء 1986 بلغ العدد نصف المليون بما في ذلك التبين (50 ألفا) و15 مايو (25 ألفا)، وبعبارة أخرى: فقد تضاعف سكان المنطقة عشر مرات في ستين سنة، بينما تضاعف سكان القاهرة ككل ست مرات في المدة ذاتها. وفي تعداد 1996 كاد النمو السكاني يتوقف في قسم حلوان عن نظيره قبل عشر سنوات؛ إذ بلغ نحو 519 ألفا، ولكن زاد سكان التبين إلى نحو 60 ألفا، بينما ارتفع عدد سكان قسم 15 مايو إلى 65 ألفا، وسكان طرة إلى نحو 59 ألفا، بمجموع كلي 703 آلاف لهذه الأقسام الأربعة. ويدل هذا الرقم المتزايد على عظم الزيادة السكانية الناجمة عن انتشار الصناعة في المنطقة، وتكدس الناس في أحياء الكثير منها عشوائي: «الهجانة، ومنشأة جمال عبد الناصر، وعزبة الصفيح»، أو قروي قديم: «الوالدة، وكفر العلو، والتبين، والمرازيق، والمعصرة البلد، وكامل صدقي ... إلخ» وكلها تساوي نحو ثلثي سكان المنطقة.
وتوضح الخريطة
2-2
هذا التداخل بين السكن والصناعة وبقايا الزراعة بصورة لا مزيد عليها. صحيح أن كثيرا من المصانع الكبيرة أنشئت في الأماكن غير المأهولة (قارن مع الخريطة
2-1 ) إلا أن مردودها السكني والسكاني أدى إلى تغير استخدام الأرض الريفي إلى سكن عمالي شديد العشوائية والفقر والتكدس.
وفي 1996 بلغ عدد سكان الشريط الجنوبي للقاهرة من دار السلام والبساتين والمعادي إلى منطقة حلوان سالفة الذكر، مليونا و432 ألفا، وربما زاد عن مليون ونصف المليون شخص في الوقت الحاضر، أكثر من نصفهم يقطنون سكنا متهالكا أو عشوائيا في حاجة ماسة إلى إرشاد ورعاية حكومية ومشاركة فعالة من كثير من الجهات والجمعيات الأهلية؛ لتحسين أحوالهم السكنية والمعيشية.
المشكلات الحالية (1)
غبار الأسمنت والغازات المنبعثة من المصانع الثلاثة، والكثير من المسابك الأهلية ما زالت تهدد حياة السكان. المشكلة مثارة من عشرين سنة، وحلها في تركيب «فلاتر» على جميع الأفران، لكن يقال: إنها تقلل الإنتاج بنحو الربع أو يزيد، ولهذا يقال أيضا: إن الفلاتر تعطل بعض الأيام لزيادة الإنتاج رغم أن الجهات الرسمية تؤكد أن ثلاثة أرباع المصانع قد حسنت موقفها في هذا المجال، ويؤكد السكان أن الغبار، وخاصة من أسمنت طرة، يغطي المنطقة إلى حلوان والتبين بدليل تلويث الغسيل المنشور. (2)
مصنع الحديد والصلب، وفحم الكوك تتطاير بها برادة الحديد وغازات ضارة في منطقة التبين وما حولها. (3)
الصرف الصناعي مشكلة خطرة، ويلقى به في ترعة الخشاب والنيل، ويؤكد المسئولون أن غالبية المصانع قد حسنت الصرف الصناعي بوسائل تقنية جيدة، بما في ذلك تنقية مياه الصرف الصناعي قبل وصولها إلى النيل. (4)
وتبقى مشكلة الصرف الصحي للسكن الفقير المكدس مشكلة المشكلات؛ ما زال الصرف في «ترانشات»، أو يجد طريقه إلى ترعة الخشاب التي تشق مناطق السكن العشوائي والقروي القديم.
وهذا هو ما يهدد أساسات البيوت الفقيرة، ويزيد من مخاطر الموت. وهناك مشروع لردم ترعة الخشاب، وجعلها مصرف مغطي. لكن لم يتم الردم إلا في جزء يسير من المعادي حتى المعصرة، والباقي ما يزال مستخدما للصرف الصحي. (5)
قوانين البيئة بصفة عامة مهملة. هناك محاولات للتشجير في الشوارع، وحول المصانع، أو إنشاء غابة في التبين، مع تحسين الحديقة اليابانية وإنشاء حديقة الزلزال على مساحة 35 فدانا بغرض زيادة المساحات الخضراء من أجل تحسين الجو. كلها أمور مفيدة إذا ما قضي تماما على الملوثات الصناعية الغازية والصلبة، وخاصة أتربة الأسمنت والكسارات، إضافة إلى الصرف الصحي. (6)
ترتب على هذه الأوضاع أن فاتورة العلاج في التأمين الصحي ارتفعت أربع مرات في الآونة الأخيرة، وأكثر الأمراض شيوعا الرمد والجهاز التنفسي وتحجر الرئة!
هذا بعض من كل
ما ضرنا لو بدأنا تقليص تراخيص المحاجر والمصانع، وأحلنا رغبات إنشاء مصانع ومحاجر جديدة إلى محافظات أخرى، وبخاصة في الصعيد حيث الكلام كثير عن التنمية والفعل قليل. فالمفروض وضع خطة صارمة لمواقع الصناعات بعيدا عن المدن الكبرى، وخاصة تلك الملوثة للبيئة، والتركيز على جوانب الصعيد وحواجره الصحراوية من بني سويف إلى قنا وسوهاج.
ما ضرنا لو أعدنا بعض أشكال التوازن البيئي بتفكيك بعض مصانع الإسمنت ونقلها بعيدا عن القاهرة، وتفكيك ضخامة مصنع الحديد والصلب إلى مصانع أحدث تكنولوجيا، وأصغر مساحة، وأكثر إنتاجا وتخصصا، واستخدام الغاز بديلا للفحم؟
ولا شك في أن هذه المطالب تستغرق زمنا لتنفيذها، ولكنها ستخفض عدد السكان، وتحل مشكلة العشوائية وتكلفة العلاج المتضخمة، وتحيط القاهرة من الجنوب بضواح أقل فقرا وأكثر إنسانية. (2) السكن الطفيلي أو العشوائي
هناك تضارب كبير حول معنى السكن الطفيلي أو العشوائي في الأرقام التي لدينا. فهل المقصود المهاجرون الفقراء للمدن الذين يعيشون على أطراف المدن دون سكن اعتيادي، ودون عمل منتظم يقيم أودهم كأفراد أو أسر؟ أم المقصود بالإضافة إلى هؤلاء سكان الأحياء الفقيرة داخل المدن من العاملين أو العاطلين، المتزاحمين في شقق صغيرة أو شقق الشرك مع غيرهم، بحيث يتشاركون في المطبخ والحمام وصنبور الماء الوحيد؟ خاصة وأن البناء في كثير من الأحياء الفقيرة قد يخرج عن خط التنظيم أو يعلو دون تصريح على أساس غير سليم، وغالبا هو آيل للسقوط أو قريب من ذلك.
الأرقام التي لدينا لا تفرق بين هذين النوعين من العشوائيات، وربما استخدمنا مصطلح «سكن طفيلي» للمهاجرين الجدد على أطراف المدن، و«سكن عشوائي» على النمطين معا ، وبخاصة سكن الأحياء المتدينة في داخل المدن، ويوضح الشكل
2-3
أن القاهرة الكبرى تحتوي على ثلث عشوائيات مصر، مما يجعل للموضوع أهمية بالغة الحيوية.
توزيع سكان العشوائيات بالمحافظة 1995 (نسب مئوية)
شكل 2-3:
عدد سكان العشوائيات نحو 11,8 مليون شخص.
حيث إن النيل يحد مدينة القاهرة من الغرب، فإننا نجد العشوائيات وحزام الفقر يحيط بالقاهرة من الشمال والشمال الشرقي والجنوب والغرب على نحو ما تصوره الخريطة
2-5 .
الشمال الشرقي
عشوائيات القاهرة الكبرى بالمنطقة الجغرافية
شكل 2-4:
الشمال: يشمل أحياء أقسام شبرا الخيمة وشبرا والساحل وروض الفرج والشرابية. الشمال الشرقي: مدينة السلام والمرج وعين شمس والمطرية والزيتون والزاوية والقبة والوايلي، الشرق: مصر الجديدة والنزهة ومدينة نصر ومنشأة ناصر، الجنوب: السيدة والخليفة ومصر القديمة والبساتين ودار السلام والمعادي وطرة وحلوان ومايو والتبين. الغرب: كل أقسام مدينة ومركز الجيزة وإمبابة. الوسط: كل الأقسام من الزمالك وبولاق إلى الجمالية والدرب الأحمر.
حي السلام:
ويشمل مناطق: مدينة السلام - المرج - الزهور - الأندلس - كفر الشرفا - بركة الحاج - كفر الباشا - كفر أبو صير - السد العالي - قباء - عزبة النخل - العصارة. عدد سكان عشوائيات هذا الحي نحو 296 ألفا.
حي المطرية:
ويشمل مناطق المطرية وعين شمس: عرب الطوايلة - عرب الحصن - عزبة النخل - عزبة معروف - منطقة العزب - شجرة مريم - منطقة الليمون. عدد سكان العشوائيات هنا 532 ألفا، وهو ثاني أكبر تجمع عشوائي في القاهرة الكبرى بعد شبرا الخيمة، وقد يوازيه تجمع عشوائيات إمبابة.
حي الزيتون:
ويشمل عزبة مرسي خليل وعزبة البمبي، هذا فضلا عن عزبة «أبو حشيش» أو القرود بالزيتون وسكانهما 30 ألفا، وهما مدرجتان في خطة المحافظة للإزالة. عدد السكان 230 ألفا (+30 ألفا).
مجموع سكان الشمال الشرقي مليون و58 ألفا، وبإضافة عشوائيات الزاوية الحمراء والوايلي (255 ألفا) يصبح إجمالي سكان عشوائيات الشمال الشرقي نحو مليون و363 ألفا، وهذا الرقم يمثل ثاني أكبر تجمع عشوائي في القاهرة شرق النيل.
الشمال
حي شبرا:
ويشمل عزبة جرجس ومنطقة العالي. عدد سكانهما 30 ألفا.
حي الساحل:
ويشمل عزبة وهبة، داير الناحية، حكر محمود شلبي، حكر قشقوش، حكر محمد علي دياب. هذا فضلا عن منطقة عشش وأكشاك في حي الساحل وحكر أبو دومة بروض الفرج، وسكانها نحو 5000 وهما في خطة الإزالة بمحافظة القاهرة، وكذلك حكر السكاكيني بالشرابية 21 ألفا. مجموع سكان منطقة أحياء شبرا 162 ألفا (+ نحو 25 ألفا).
شبرا الخيمة:
تضم أكبر تجمع عشوائي في القاهرة الكبرى يبلغ سكانه 650 ألفا معظمهم في بهتيم في قسم شرق، وعزبة بيجام في قسم غرب.
جملة سكان عشوائيات شمال القاهرة الكبرى 812 ألف شخص.
الشرق
حي مدينة نصر:
عزبة العرب - عزبة الهجانة - عزبة نصار. عدد السكان 210 آلاف.
حي منشأة ناصر:
منشأة ناصر - الدويقة - برقوق - قايتباي. عدد السكان 120 ألفا.
جملة سكان عشوائيات شرق القاهرة: 330 ألف شخص.
الجنوب
حي السيدة زينب:
عشش وأكشاك تلال زينهم وقلعة الكبش. عدد سكانهما: 41 ألفا.
شكل 2-5:
عشوائيات القاهرة.
حي مصر القديمة:
مساكن الأرض الوعرة شرق الفسطاط، وفي خطة الإزالة عزبة أبو قرن وعشش تل العقارب وسكانهما: 45 ألفا. عدد السكان نحو 100 ألف.
حي البساتين:
شرق البساتين - غرب البساتين - جنوب البساتين - حسن التهامي - عزبة دسوقي - بير أم سلطان - عزب عبد الخالق والعمدة والنصر. عدد السكان: 148 ألفا.
دار السلام:
دار السلام والعزب المجاورة. عدد السكان: 480 ألفا.
حي المعادي:
عزبة جبريل - عزبة فهمي عدد سكانهما: 37 ألفا.
حي طرة/المعصرة:
عدد السكان نحو 300 ألف شخص، معظمهم في المعصرة البلد والمحطة.
حي حلوان:
حلوان البلد - منشأة جمال عبد الناصر - عرب السلام وراشد وغنيم - كفر العلو - عزبة عناني - مدينة الهدى - عزب النخل والهجانة والصفيح - السلام - منشأة ناصر - عزبة الوالدة. عدد السكان نحو 400 ألف.
حي التبين:
الحكر البحري والقبلي - دوران كوبري المرازيق. عدد السكان: 48 ألفا.
مجموع سكان الجنوب نحو مليون و554 ألفا، وهو بهذا يعد أكبر التجمعات العشوائية القاهرية.
الغرب
إمبابة والمنيرة الغربية
560 ألفا
بولاق الدكرور
455 ألفا
فيصل
300 ألف
الأهرام
420 ألفا
غرب المريوطية ونزلة السمان
325 ألفا
ساقية مكي
52 ألفا
منيل شيحة
30 ألفا
المنيب
45 ألفا
إجمالي سكان عشوائيات الغرب: مليونان و182 ألفا، وهو بذلك أكبر تجمع عشوائي في القاهرة الكبرى.
إلا أن هذه الأرقام غالبا ما تأخذ في الحسبان أشكالا من السكن القروي المحيط بمدينة الجيزة، والتي لم تندمج بعد كسكن حضري رغم مؤثرات المدينة الملاصقة، وربما جاز لنا القول: إن العشوائيات هي تلك المتداخلة في نسيج المدينة في إمبابة وبولاق الدكرور وميت عقبة وقلب مركز الجيزة القديم وعشوائيات عديدة ملتصقة بالامتداد الحضري على طول محوري الهرم وفيصل. وبهذا يمكن القول: إن سكان العشوائيات غرب القاهرة قد لا يزيد سكانها عن مليون و800 ألف شخص كحد أعلى، وهو في حد ذاته رقم يجعلها أولى عشوائيات القاهرة الكبرى.
مجموع سكان عشوائيات القاهرة الكبرى شرق النيل أربعة ملايين و60 ألفا بما في ذلك مناطق خطط الإزالة التي يبلغ عدد سكانها 118000 أو ما يساوي 3٪ فقط من سكان العشوائيات.
1
أما المجموع الكلي للقاهرة الكبرى: فهو أقل قليلا من ستة ملايين عشوائي، وربما يساوي نحو 50 أو 55٪ من سكان القاهرة الكبرى.
وبتحليل شكل وخريطة
2-5 «عشوائيات القاهرة الكبرى» تتضح النقاط الآتية: (1)
أكبر تجمع سكاني للعشوائيات هو في غرب القاهرة، حيث تزحف المدينة على مناطق ريفية، وتبتلع الكثير من القرى، فضلا عن المهاجرين المستمرين من قرى محافظة الجيزة والصعيد، وتضم المنطقة نحو 30٪ من جملة عشوائيات القاهرة الكبرى. (2)
جنوب القاهرة هي ثاني أكبر تجمع للعشوائيات؛ وذلك لكونها امتداد طبيعي من وسط القاهرة إلى نوايات أصلا زراعية في البساتين ودار السلام وحلوان، والمسافة الممتدة على طول ضفاف ترعة الخشاب. ثم أضيف إليها تنمية حلوان الحمامات في أواخر القرن 19، ومخطط ضاحية المعادي في أوائل القرن 20، ثم أضيفت إلى المنطقة صناعات ضخمة للإسمنت في طرة، والحديد والصلب وصناعات أخرى؛ مما جلب معه تركيز هائل للعمال
2
وتحول العزب الزراعية القديمة إلى إيواء فقير للعمالة، ربما ضم 25٪ من سكان عشوائيات القاهرة الكبرى. (3)
التجمع العشوائي الثالث هو ذلك الذي يحتل أجزاء من الأحياء الشمالية الشرقية من القاهرة، والذي يضم نحو 22٪ من سكان العشوائيات، والتوجه الشمالي الشرقي اقترن بنمو في امتداد طبيعي على حافة جنوب الدلتا من الوايلي إلى مدينة السلام ابتلع عدة قرى ومساحات زراعية، منها: المطرية والمرج وعزبة النخل وبركة الحاج، وأراض شبه صحراوية في عين شمس والمطرية وكفر الجاموس. ولكونها المدخل الملائم لشمال القاهرة الشرقي، فقد كانت هذه الأحياء مقرا للمهاجرين من جنوب الدلتا وبخاصة الشرقية وشرق القليوبية، وترتب على نمو أنشطة كثيرة - وبخاصة الصناعات الحرفية في مناطق كثيرة، مثل: قباء والحرفيين - تركيز كبير للسكن الفقير والسكن العشوائي معا، فقد استبدل السكان الزراعيون بحقولهم أرضا للبناء في مساحات ووحدات سكنية صغيرة في عملية استمرت منذ إنشاء خط حديد الضواحي «كوبري الليمون-المرج»، ثم الطرق الإسفلتية، وأخيرا الطريق الدائري في قطاعه الشمالي. (4)
يتركز نحو 13٪ من سكان العشوائيات في مناطق شبرا الخيمة والساحل، والقطاع الشمالي هو أيضا أحد المجالات الطبيعية لنمو القاهرة؛ لأنها تستقبل الهجرة من وسط الدلتا منذ أمد طويل، وقد زاد تيار الهجرة إلى الساحل وشبرا الخيمة بنشأة المصانع الكبيرة والصناعات الحرفية بكثرة، والهجرة هنا مصدرها الكثير من سكان بقية أحياء شبرا والمناطق المكتظة في الوايلي والشرابية، إلى جانب الهجرة الريفية، وسكان القرى التي ابتلعتها المدينة. (5)
ومن أنماط السكن العشوائي: سكن المقابر، الذي تكاد تختص به محافظة القاهرة، والذي يضخمه بعض الكتاب على أنه غير إنساني، والحقيقة أن هذا النوع من السكن ليس عشوائيا بالمعنى المادي، وإن كان عشوائيا بمعنى الناس الذين يمارسونه؛ فالمقابر القاهرية مناطق مخططة داخل التنظيم، ومخصصة كمدينة للأموات في الجبانة الشرقية (شرق الدراسة وجنوب العباسية)، والقرافة الكبرى (الإمامين الشافعي والليثي)، وجبانة البساتين (جنوب الإمام وفي شرق دار السلام)، والجبانات الأحدث في مصر الجديدة ومدينة نصر ... إلخ.
شكل 2-6:
توزيع عشوائيات القاهرة الكبرى.
شكل 2-7:
عشوائيات منشأة ناصر على منحدرات الجبل الصعبة.
شكل 2-8:
كثافة مفرطة للسكن في دار السلام وإسطبل عنتر.
شكل 2-9:
عشوائيات القاهرة المطلوب إزالتها.
ولا يمكن لأحد أن يبني مقبرة بدون ترخيص، وهناك شوارع مختطة داخل مدن الأموات، والذي حدث ببساطة أن بعض اللحادين وحراس المقابر كانوا يسكنون إلى جوارها، ثم انتقل أبناؤهم داخل المنطقة أو الأحواش، ثم أصبحت تؤجر لمهاجرين من داخل وخارج القاهرة، وساعد على ذلك أن المقابر القاهرية - خاصة القديمة منها - كانت أحواشا واسعة تملكت أسر بها غرفة أو أكثر لإقامة أفراد الأسرة حين يترحمون على موتاهم في مناسبات معروفة كتقليد حضاري اندثر؛ وبذلك خلت غرف المقابر من المستخدمين الأصليين، وأصبحت جاذبة للسكن الدائم بما فيها من مؤسسات السكن: مبنى، وبوابة إلى جانب مياه وكهرباء في أحيان، وأخيرا طرق وشوارع ومواصلات عامة. وقد أضيفت أنواع أخرى من الاستخدام، وخاصة ورش سمكرة ودهان السيارات، وذلك لأن شوارع المقابر الجانبية قليلة الحركة، فضلا عن أسواق معينة لأشياء سابقة الاستخدام بديلا لسوق الكانتو الشهير في العتبة الخضراء، مثل: سوق الملابس والأغطية والأثاث والحمام والطيور والأفاعي في أول طريق الإمام الشافعي. ثم أضيف إلى ذلك سوق للأقمشة وحلقة لبيع السيارات المستعملة في الجانب الشرقي من البساتين. يحتاج أمر هذا النوع من سكن المقابر والأنشطة التي يمارسونها إلى دراسة ميدانية مسحية لتحديد عدد السكان، وهم على الأغلب ليسوا بالكثرة التي نجدها في عشوائيات أخرى،
3
ومشكلتهم آنية نتيجة لأنها مناطق مخططة أصلا، وبها من البنية التحتية الشيء الكثير، والكثير من الضبط القانوني سوف يحجم هذه العشوائيات، وغالبا سوف يفضي إلى نهاية تدريجية لها.
عشوائيات القاهرة المزمع إزالتها (1)
بلغ عدد سكان هذه المناطق العشوائية 118 ألفا (أو +150 ألفا نتيجة التضارب الرقمي) موزعين على 13 منطقة في عدة أحياء من العاصمة، وقد تم إزالة منطقتين، هما: مساكن إيواء عين شمس (2700 شخص) وعشش شرق ترعة الإسماعيلية (1220 شخصا). (2)
تتراوح مساحات هذه المناطق بين 150 ألف متر مربع في «أبو قرن» و75 ألف متر في تل العقارب، وبين أقل من ثلاثة آلاف متر في عشش المظلوم وعشش حي الساحل، ويترتب على ذلك صغر ما يخص الفرد من المساحة إلى حدود عليا (+6 أمتار مربعة) في تل العقارب في جنوب القاهرة، وحكر أبو دومة بروض الفرج، وبين حدود دنيا تبلغ ربع متر مربع في عزبة «أبو حشيش» وعزبة القرود بالزيتون، وفي عشش المظلوم شرق السكة الحديدية جنوب الزاوية الحمراء. ولا شك أن هذه المساحات الصغيرة تتفاقم مشكلاتها بكثرة الشقق التي تشترك فيها عدة أسر، ولعل هذه المساحات تتعدل قليلا إذا أخذنا في الاعتبار أن في بعض هذه المناطق المتدنية بيوتا تشمل أكثر من طابق واحد، ومن ثم ترتفع مخصصات الفرد من المساحة السكنية بعض الشيء، ويتضح ذلك الموقف من كثرة عدد الأفراد للعقار الواحد كما هو ظاهر في الشكل. (3)
لا بد من إجراء دراسة ميدانية في كل منطقة على حدة؛ لبيان حالة المباني وارتفاعاتها، وعدد الأفراد للغرفة (درجة التزاحم) وعدد الأسر في الوحدة السكنية (إيجار الشرك)، وتعيين المخصصات السكنية من المباني بالقياس إلى المباني المستخدمة في أنشطة تجارية أو حرفية أو صناعية وغيرها، مثل: مساحات جمع القمامة وتصنيفها، وزرائب الخنازير في الدويقة ومنشأة ناصر، أو زرائب الأغنام والماعز في عزب مختلفة في المطرية والسلام ومدينة نصر وجنوب وغرب القاهرة، وغير ذلك كثير مما قد تسفر عنه الدراسات الميدانية. الاقتراح: أن تتولى المحافظة تكليف بعض طلبة الدراسات الاجتماعية والإنسانية خلال الإجازات - مقابل أجر شامل مجز - القيام بدراسة قطاعات من هذه العزب والأحياء المراد إزالتها أو تطويرها، بغرض التعرف على إمكانية تحسين أشكال الحياة بداية من إيجاد أنشطة اقتصادية إلى تحسين الحالة الصحية والتعليمية بإنشاء مدارس ومراكز صحية قليلة الربح بواسطة الأهالي، ومشاركة حكومية محدودة أو تشجيعية.
ملاحظات عامة
أولا:
حيث إن الموضوع يتناول السكن العشوائي؛ فإن هناك عشوائية كبيرة في أرقام المصادر وضحت أيضا في بعض أرقام هذا الفصل، ولعل ذلك مرتبط بالمفهوم الأساسي للعشوائية. مرة أخرى نسأل: هل العشوائية هي أشكال السكن غير المرخص حول المدن، أم هي إلى جانب ذلك جميع أشكال السكن المتدني مساحة وصحة وفقرا داخل الكتل القديمة للمدن المصرية؟ فإذا كان الخيار هو المفهوم الأول فلا شك أن عدد سكان العشوائيات سيهبط كثيرا إلى نحو نصف الأرقام الواردة في المصادر المذكورة وغيرها من البحوث التي تتناول الموضوع.
وبدراسة ليست سهلة لمحاولة فهم ما جاء في تعداد 1996 تحت اسم: سكن حجرة؛ أي سكن شرك، وتحت مسمى: أشكال أخرى للسكن كالدكان والأسطح والجراجات ... إلخ. فقد وصلنا إلى النتائج الآتية:
المحافظة
ألف وحدة سكن شرك
ألف فرد سكان سكن شرك
ألف وحدة سكن جوازي
ألف فرد سكن جوازي
القاهرة
285
1140
400
1610
الجيزة
80
360
150
660
وبعبارة أخرى : فإن مجموع سكان العشوائيات يصبح في القاهرة 2750000 نسمة، أي نحو نصف ما ذهبت إليه الأرقام السابقة، وفي الجيزة 1020000 أيضا نحو النصف، وبذلك فإن الأرقام معا تساوي ثلاثة ملايين و770 ألفا، هم ربما كانوا سكان الطفيليات والعشوائيات. وإذا أضفنا نحو 300 ألف من سكان عشوائيات شبرا الخيمة يصبح العدد النهائي أربعة ملايين أو نحوها. أي أنهم يشكلون نحو ربع سكان القاهرة الكبرى وليس نصفهم، وهي أيضا نسبة كبيرة توجب معالجتها.
ثانيا:
التوسع السكني حول القاهرة الكبرى - عشوائيا أو مخططا - هو في غالبه الأعم على حساب الأراضي الزراعية التي كانت في يوم ليس ببعيد مزرعة الخضر للقاهرة والجيزة، وتقدر مساحة اجتياح المناطق المبنية للأرض الزراعية في العقدين الأخيرين بنحو 23 إلى 25 ألف فدان، منها نحو النصف في الجيزة ونحو ستة آلاف في شبرا الخيمة والخانكة وقليوب، ومثلها في محافظة القاهرة. فكم يتكلف استصلاح مثل هذا القدر من الأراضي ذات الجودة العالية؟
4
ثالثا:
صحيح أن عائد الاستثمار العقاري أعلى من الزراعي، وأن نمو السكان يتطلب بإلحاح مساكن جديدة كل سنة، ولكن لو كان التخطيط سليما في اختيار مواضع النمو السكني لكان بالإمكان توفير أجزاء من الأرض الزراعية حول القاهرة ببعثرة المدن الجديدة في الأراضي الصحراوية بعيدا عن القاهرة شريطة أن تكون لها قواعد اقتصادية ذاتية غير معتمدة على المدن الأم، وربما كانت مدينة 10 من رمضان والسادات من المدن الناجحة في هذا المضمار، فاقتراب مدينة 6 أكتوبر من الجيزة هو عامل حاسم في امتداد ألسنة العمران المدني بطول طرق الاختراق - الهرم، وفيصل، ومحور 26 يوليو، وكوبري المنيب، والدائري - تأكل الأرض الزراعية، وتبتلع ما يصادفها من قرى لتحولها إلى مسخ قروي-مدني. فهي اجتماعيا ما زالت ريفا لكنها اقتصاديا فقدت مقومات الريف، ولم تكتسب من المدينة إلا أدنى الأعمال.
رابعا:
غالبية المناطق العشوائية ملتصقة بأطراف المدن، ووظيفتها الأساسية سكنية دون حرفة أو نشاط اقتصادي، باستثناء دكاكين التجارة الصغيرة. ويعتمد العاملون على موارد عمل هشة غير منتظمة في رحلة عمل يومية إلى داخل المدينة، ومن ثم الفقر المدقع سمة سائدة ، ولكن لبعض العشوائيات مهام مميزة كجمع القمامة وتصنيفها، وبيع بعضها، وتربية الخنازير على البعض الآخر كما هو ممارس في منشأة ناصر.
5
أو أعمال نحت الحجارة والرخام والحدادة في البساتين شرق أو العمل في الورش والمسابك المنتشرة في شبرا الخيمة.
خامسا:
إن هذا التزاحم مع فقدان الخصوصية وارتفاع نسبة العطالة إلى حدود عليا هو مكون أساسي في تشكيل مسرح لأشكال الانحرافات والتطرف السياسي قلما يوجد خارج العشوائيات، ومن ثم فإن تحسين الأحوال هو جزء مهم من الواجبات الإنسانية والقومية والسياسية والأمنية معا. فالغرض النهائي تحويل هذه المناطق من مجتمعات سلبية إلى مجتمعات سوية تبنى بوضوح على أسس علاقات ولاء مكانية وعائلية بدلا من الشتات الحالي.
سادسا:
التحويل المجتمعي المرغوب ليس أمرا سهلا، ولا يمكن أن يتم بقرار إداري أو سياسي؛ بل هو في حاجة إلى مجموعة متطلبات متشاركة معا موجزها كالآتي: (1)
ضرورة تحديد مفهوم العشوائيات حتى لا يختلط الحابل بالنابل، ومن خلال هذا يمكن وضع أوليات التحسين والتنمية للمناطق المحتاجة فعلا، وأولها وركيزتها مواجهة المشكلات الاقتصادية التي تدفع الناس للتغيير المجتمعي. (2)
معالجة أسباب الهجرة الريفية ليس بمنعها من الانتقال إلى المدن بأوامر ولوائح كما يقترح البعض، ولكن بالتأكيد على ضرورة تشجيع المشروعات الاستثمارية لإقامة وسائط حياة فوق الزراعية في الريف قبل المدينة لاجتذاب البطالة داخل إطارها الريفي، ويفضل التركيز على محافظات الصعيد باعتباره شريطا متباعد الأطراف. (3)
تكامل التنمية في المدن والريف في إستراتيجية الدولة - سواء أجهزة الحكم المركزي والمحلي - بحيث لا تحتل المدن مركز الصدارة وحدها. (4)
خفض بيروقراطية المحليات في استخراج تراخيص إقامة منشآت الأعمال وأبنية السكن التي يقوم بها السكان المحليون داخل القرى. (5)
أن تنفذ الجهات المختصة بحزم كل قوانين ولوائح البناء، وبخاصة حول حرم مسارات الطرق السريعة حتى لا نهدر قيمتها كطرق للنقل والتنقل السريع. (6)
اشتراك سكان العشوائيات مع الهيئات المحلية في تحسين أحوال الحياة بنشر البنى التحتية والمدارس والمراكز الصحية بأنواعهما، ومشاغل حرفية للنساء والرجال كواحد من مثبتات أقدام الناس داخل أحيائهم. (7)
لا تتأتي فاعلية مشاركة السكان في العشوائيات بخطاب النوايا الحسنة؛ بل بدخول الباحثين الرسميين والعلميين إلى مثل هذه المناطق لبناء جسور تفاهم مشترك مع من يتوسمون فيهم القيادة الحسنة داخل مجتمعهم وأسرهم، ومن ثم إدخال أعمال نموذجية بواسطة بعض الجمعيات الأهلية في مجالات التعليم والقراءة والطفولة والصحة وبرامج التنشيط الاقتصادي تتضح نتائجها الطيبة لكي تكون أمثلة تحتذى في التنمية الهادئة غير المتعجلة.
6 (3) المدن الجديدة حول القاهرة
إنشاء المدن الجديدة في مصر ليس بظاهرة جديدة؛ بل هي موغلة في القدم، وغالبا ما كان ذلك مرتبطا بانتقال أسرة ملكية حاكمة من مدينة الحكم إلى عاصمة أخرى بدوافع غالبها سياسي وعسكري أو اقتصادي لتعمير مناطق جديدة، وفي القرن 19 أنشئت مدن وضواح جديدة كبورسعيد والإسماعيلية مصاحبة لإنشاء قناة السويس، أو إنشاء حي وسط البلد الذي كان يسمى حي الإسماعيلية بعد أن نزل إسماعيل من القلعة كمقر للحكم إلى قصر عابدين، وإنشاء مدينة حلوان الحمامات للاستشفاء والترفيه. وفي أول القرن 20 أنشئت ضواحي: مصر الجديدة والمعادي والزمالك في القاهرة، والرمل في الإسكندرية؛ استجابة للتعمير المخطط الذي كانت تقوده شركات استثمارية أجنبية آنذاك.
وفي النصف الثاني من القرن 20 بدأت مصر بإنشاء عدة مدن جديدة خارج المدن الكبرى المكتظة بالسكان. ففي الستينيات رسمت هيئة تخطيط القاهرة الكبرى مخططا لإنشاء سلسلة من المدن الحلقية حول القاهرة على نسق مماثل للتجارب الأوروبية، وذلك بغرض تخفيف الضغط السكاني في القاهرة، مع إعطاء فرصة كافية لتجديد وإعادة تخطيط أحياء القاهرة المزدحمة بالسكان آنذاك، وفي السبعينيات إلى التسعينيات خططت وزارة التعمير عدة مدن في ثلاثة أجيال، بعضها دخل حلقة القاهرة الكبرى: «10 من رمضان، 6 أكتوبر، 15 مايو»، وبعضها خارج نطاق القاهرة: «السادات» التي كان يراد بها عاصمة جديدة، «العامرية» التي أعيد تسميتها إلى برج العرب الجديدة، «دمياط الجديدة» حول مشروع الميناء الجديد، «الصالحية الجديدة» عاصمة لمشروع زراعي حديث المفهوم والإنتاج.
الواضح إذن أن القاهرة، وإن استأثرت بنصف عدد المدن الجديدة، إلا أن المخطط في كامل صورته كان متعادلا بين القاهرة والدلتا فقط، ولكن الصعيد لم يدخل حسابات هذا المخطط آنذاك.
هناك أسباب متعددة أدت إلى إنشاء هذه الأجيال الثلاثة من المدن الجديدة في أجزاء متفرقة من أراضي جمهورية مصر، وأهم هذه الأسباب ما يأتي:
أولا:
الأسباب الديموجرافية الخاصة بالنمو العددي الكبير للسكان مع عدم التناسب المكاني لهذه الزيادة السكانية بين أجزاء مصر؛ مما أدى إلى هجرة داخلية من الريف إلى الحضر بقدر لا يتم استيعابه بالدرجة التي تؤدي إلى ارتفاع البطالة، وانتشار أنماط متعددة من السكن العشوائي حول المدن. لقد زاد المصريون في نحو نصف قرن (1947-1993) بنحو 300٪ (من 19 إلى 57 مليونا). وفي الفترة 1960 إلى 1993 وضح أن معدلات الزيادة قد اختلفت بين أقاليم مصر على النحو الآتي:
جدول : جدول 2-1 معدلات النمو السنوي في أقسام مصر الرئيسية (٪). *
الأقسام
1960-1966
1986-1993
المدن الحضرية
3,4
1,8
محافظات الدلتا
2,3
2,2
محافظات الصعيد
2,1
2,7
المصدر: «التقرير الوطني المقدم لمؤتمر الأمم المتحدة الثاني للمستوطنات البشرية (قمة المدن)» وزارة الإسكان 1996.
وواضح من هذه النسب هبوط ملحوظ في المدن الحضرية الأربعة: «القاهرة، الإسكندرية، السويس، بورسعيد»، وفي محافظات الدلتا، بينما ارتفعت معدلات النمو في الصعيد. والغالب أن هناك تحفظا على نسب الفترة 86-1993؛ حيث إن غالبها دراسات عينة وتقديرات أكثر منها إحصاء معتمد، ولو صحت هذه النسب لما كانت هناك المشكلات التي نعرفها ونعانيها.
ثانيا:
الأسباب الاقتصادية المرتبطة بتغير الفكر الاقتصادي في الستينيات والسبعينيات وإلى الآن، بين الأنظمة شبه الاشتراكية إلى سياسة الانفتاح والتغيرات الاقتصادية المختلفة التي تقع تحت مسمى: «الإصلاح الاقتصادي»، والتدفقات الاستثمارية في أنشطة متعددة، على رأسها الصناعة وقطاع الخدمات وتجارة الاستيراد والسياحة. أما الزراعة: فقد نالها القليل من المدخرات المحلية، ربما لعدم ثبات السياسة الزراعية، أو لأنها تدخل مرحلة تغيير لم تستوعب تطبيقيا بالدرجة الكافية.
شكل 2-10:
المدن الجديدة حول القاهرة.
بعض أشكال الحرمان في مصر الأمية والعطالة والفقر 1994
شكل 2-11:
لاحظ ارتفاع قيم الحرمان في محافظات الصعيد. فقراء الصعيد 48,5٪ من السكان والدلتا 36,3٪ ومحافظات المدن 13,4٪ والصحاري 1,8٪.
وكل هذا أدى إلى ذبذبة كبيرة في السوق بين الإغراق والندرة في السوق المحلية وسوق التصدير؛ النتيجة النهائية هي: فقدان الحوافز للتمويل الزراعي، مما يؤدي إلى مزيد من البطالة الريفية التي وصلت فيها العمالة لحد التشبع في ظل إستاتيكية وجمود أنماط المحاصيل وأدوات الإنتاج وأنماط التسويق، وحيث إن الأنشطة الحديثة تتجه إلى الأوتوماتية في الإنتاج؛ فقد تناقص الاحتياج إلى العمالة؛ مما يزيد من حدة البطالة التي ارتفعت، على سبيل المثال، من نحو 5٪ إلى 15٪ في عقد 1976-1986.
ولا شك أن البطالة العامة لا تعبر عن الاختلافات بين المهن والأنشطة، لكن الأغلب أن الزراعة هي أكبر نشاط تتراكم فيه البطالة، ومن ثم الهجرة إلى المدن. ففي المصدر السابق ونفس الصفحة نجد أن العاملين بالزراعة تناقصوا من 32٪ من قوة العمل 1991 إلى 30٪ عام 1996. هبوط 3٪ ليس بالشيء القليل، فهي تساوي نحو نصف مليون شخص من قوة عمل عامة قدرت ب 16,5 مليون عامل، وفي الفترة المذكورة ذاتها زادت العمالة الصناعية بنسبة 1٪ فقط.
ويعطي شكل
2-11
صورة واضحة لظروف الحياة الأساسية: كيف ترتفع كل نسب الحرمان في محافظات الصعيد بالقياس إلى بقية مصر؟ وكيف ترتفع في كل الريف بصفة عامة، بينما تزيد البطالة في المدن عن ريف المحافظات؟ ومنحنى الفقر والفقر المدقع هو مؤشر جامع لكل أشكال الحرمان، ومن ثم هو سبب جوهري في تيار الهجرة الداخلية إلى المدن الرئيسية، مما يزيد من إفقارها كما يتضح من الجدول
2-2 .
الأرقام 1 إلى 21 تشير إلى أسماء المحافظات على التوالي: 1 القاهرة، 2 الجيزة، 3 القليوبية، 4 الإسكندرية، 5 بورسعيد، 6 السويس، 7 دمياط، 8 الإسماعيلية، 9 الشرقية، 10 الدقهلية، 11 المنوفية، 12 الغربية، 13 كفر الشيخ، 14 البحيرة، 15 بني سويف، 16 الفيوم، 17 المنيا، 18 أسيوط، 19 سوهاج، 20 قنا، 21 أسوان. «مصدر الأرقام التي بنيت عليها النسب التقارير السنوية لمعهد التخطيط القومي سنوات: 1994 و1995 و1996.».
جدول 2-2: صافي الهجرة الداخلية 1986 (الأرقام بالألف شخص).
الإقليم
الحركة إلى
الحركة من
صافي الهجرة
إقليم الحضر
9359
8343 +1016
إقليم الدلتا
2052
2123 −709
إقليم الصعيد ؟ ؟ −335 (المصدر السابق لوزارة الإسكان 1996، ص19. الحركة في محافظات الصعيد غير مقبولة؛ لأنها تعطي نحو 16,7 مليونا و17 مليونا على التوالي، لهذا وضعنا علامة (؟) بدلا من الأرقام المذكور. علامة (+) تساوي إضافة هجرة إلى الحضر، علامة (−) تساوي فقدان سكان بالهجرة من الإقليم)
شكل 2-12:
شكل سكان المدن الجديدة. السكان المقيمون 1996 ونسبتهم من المستهدف ج = الجديدة - أرقام 1996 عن التعداد الرسمي لسكان مصر 1996.
ثالثا :
الكوارث الطبيعية التي تؤدي إلى موقف سكاني وسكني حاد، يتطلب نمط الإيواء السريع في مدن أو أحياء تقام لذلك. لكن لحسن الحظ أن مصر لا تتعرض لكوارث واسعة الدمار والضحايا، وبرغم قلة ما تتعرض له مصر من كوارث طبيعية - زلازل وسيول - فإن آثارها ذات أبعاد أكبر من قوتها لسببين؛ أولهما: كثافة السكان العالية، وتزاحمهم في نطاقات أرضية صغيرة ومساكن غالبها متهالك مكتظ بالناس، وحين تحدث الواقعة فإن ضحايا عزبة صغيرة أو حي قديم تكون أخطر من قدر الكارثة، والسبب الثاني: أن الإيواء ليس سريعا وغير شامل لكل من حاقت بهم الكارثة - لقصور إداري على الأغلب - ومن ثم يظل شبح الكارثة لمدة طويلة قابعا في صورة سكن مؤقت قد يصبح سكنا عشوائيا لطول زمنه، وقد تدهم كارثة أخرى المكان ذاته بعد فترة وجيزة مما يضيف متضررين جددا إلى القدماء، فتصبح أبعاد الموضوع قائمة مستمرة دون حل.
أطلنا في ذكر الأسباب؛ لأنها عوامل متفاعلة تؤدي في النهاية إلى أن الضغوط السكانية في المدن، وبالذات في القاهرة، كانت وما زالت صلب أغراض بناء مدن جديدة.
جدول 2-3: أعداد السكان المستهدفة في المدن الجديدة. *
المدن حول القاهرة
عدد السكان
المدن في الدلتا
السكان
مدن الصعيد
السكان
10 رمضان
500000
السادات
500000
بني سويف (ج)
120000*
6 أكتوبر
500000
برج العرب
510000*
المنيا (ج)
120000
15 مايو
250000
دمياط (ج)
270000
أسيوط (ج)
131000*
بدر
250000
الصالحية (ج)
100000*
سوهاج (الكوثر)
60000
العبور
25000*
النوبارية
50000
أسوان
100000
الأمل
250000
تجمعات 1، 5
2200000
المجموع
4200000
1430000
530000
من مجموع المستهدف
68٪
23٪
8,6٪
ملاحظة: (ج) = الجديدة. العلامة (*) عند رقم تشير إلى تضارب القيم على النحو الآتي: العبور في أرقام مخصصة لسكن 477 ألف شخص، وفي أرقام مخصصة لسكن 52 ألفا، وفي أرقام أخرى برج العرب مخصصة لسكن 150 ألفا فقط، والصالحية الجديدة 70 ألفا، بني سويف مخصصة لسكن 90 ألفا، وأسيوط الجديدة 115 ألفا وفي أرقام أخرى هي مخصصة إلى 25 ألفا.
بدأت مدن الجيل الأول بمدينة العاشر من رمضان أوائل 1978، وكذلك ميناء ومدينة دمياط الجديدة، ومدن السادات و15 مايو و6 أكتوبر وبرج العرب 1979.
أما الجيل الثاني، فقد بدأ نحو 1986؛ أي بعد سبع سنوات من بداية الجيل الأول، وهي مدة غير كافية للتجربة والخطأ. أما مشروعات الجيل الثالث، فالأغلب أنها بدأت في أوائل التسعينيات؛ أي بفارق زمني قصير منذ البدء في الجيل الثاني، ويظهر الجدول
2-3
والشكل
2-12
نسبة السكان المقيمين إلى العدد المستهدف من السكان في المدن الجديدة.
ولا شك في أن تضارب الأرقام هو أمر يجعل الدراسة غير موضوعية، والنتائج غير مرضية إلا في صورة عامة كمؤشرات . وسوف نجد فيما بعد تضاربات أشد في موضوعات حيوية أخرى، مثل: عدد العمالة، ورأس المال المستثمر، وقيمة الإنتاج في المدن الجديدة.
أخطر ما نستنتجه من الأرقام السابقة، هو ذلك التركيز المستهدف للسكن في منطقة القاهرة، بحيث تستوعب أكثر من ثلثي السكان المراد توطينهم - كأن القاهرة فقيرة سكانيا. إن الغرض الأساسي من المدن الجديدة هو رفع العبء عن المدن التي تشكو علة الازدحام والاكتظاظ السكاني، وأولها القاهرة؛ فإذا بالمخططين والمنفذين يزيدون المشكلة بدلا من حلها بخلخلة الاكتظاظ السكاني بإبعادهم عنها. كم هو عدد سكان القاهرة الكبرى الآن؟ تتضارب الأرقام حسب مفهوم ومعنى مصطلح القاهرة الكبرى؛ ففي مفهوم هم عشرة ملايين، وفي مفهوم آخر هم 12 مليونا إذا أضفنا كل سكان محافظتي الجيزة والقليوبية، وماذا عن الحركة اليومية للسكان الذين يعملون في القاهرة ويسكنون خارجها: هل تقدر الحركة بمليون أو نصف مليون يجيئون ويخرجون يوميا، أو أكثر أو أقل؟
وتأتي تقديرات وزارة التعمير بمخطط يزيد سكان القاهرة بنحو مليونين وربع المليون! وذلك فيما عرف باسم مخطط القاهرة الجديدة التي تضم التجمعات الأول والخامس والنخيل ... إلخ.
7
فإذا أضفنا إليهم مليونين في مدن رمضان وأكتوبر ومايو ... إلخ. يصبح لدينا إضافة سكانية قدرها ستة ملايين فوق السكان الحاليين، وبذلك تصبح القاهرة الكبرى موطنا لنحو 16 إلى 18 مليونا!
وماذا عن الرقعة المكانية لمثل هذا التجمع السكاني شديد الضخامة؟ سوف تمتد القاهرة من أكتوبر إلى الكيلو 40 أو 50 من طريق السويس - مسافة تقترب من 100 كيلومتر في خط مستقيم من الشرق للغرب، وبين مدينتي رمضان في الشمال الشرقي والتبين في الجنوب مسافة أخرى تقترب من 100 كيلومتر. هذه الرقعة الشاسعة هل يمكن التحكم فيها إداريا بالنمط الذي نسير عليه؟ وماذا عن الانتقال في أرجاء هذه المدينة العملاقة؟ نصف هذه المساحة مشغول الآن بالعمران والسكان، ومع ذلك نرى صعوبات بالغة في الحركة برغم وجود قوانين مرور جيدة، لكنها غير قادرة على التنظيم نتيجة انفلات الناس من بين أمور أخرى كثيرة.
وفي مواجهة مشكلات القاهرة الكبرى يقترح البعض خطتين متناقضتين تماما؛ الأولى: تجميع الإدارة في محافظة واحدة بدلا من محافظتي القاهرة والجيزة، والثانية: تدعو إلى تفكيك هذه الكتلة السكنية المترامية إلى عدة محافظات؛ واحدة في الشمال الشرقي، وأخرى في الشمال الغربي، وثالثة في الوسط، ورابعة في الجنوب ... إلخ. ولكل من الاتجاهين فلسفة إدارة؛ فالتجميع يعني قرارات موحدة، والتفكيك يعني قرارات نابعة عن الواقع الاقتصادي الاجتماعي الذي يختلف في أجزاء المدينة بين الفقر والغنى، وبين وظائف الأعمال وتجارة الجملة والقطاعي، وبين الدكاكين الصغيرة والأسواق الحديثة، وبين الموظفين وعمال الصناعة ... إلخ.
النجاح والفشل في جذب السكان للمدن الجديدة
قد يبدو أن موضوع المدن الجديدة لا يرتبط بالقاهرة الكبرى. لكنه في الحقيقة جزء لا يتجزأ من موضوع واحد؛ لأن مخططي وزارة التعمير قد ركزوا أكثر من نصف مخططاتهم حول القاهرة، وكان حريا بهم أن يبتعدوا عنها، وينقلوا المنشآت العمرانية الجديدة في مناطق أخرى كنطاق القناة؛ حيث التنمية ممكنة مرتكزة على تعظيم فوائد الشريان البحري العالمي لإنشاء قواعد اقتصادية وعمرانية أجدى من تضخيم مشكلة القاهرة إلى حدود وخيمة. وقد تنبه المسئولون في الدولة إلى هذه المزالق، وتعالج الآن بالتركيز على مشروعات، مثل: شرق التفريعة وشمال رأس خليج السويس وترعة السلام وتوشكى. ومع ذلك تظل مشكلة القاهرة وحلقات المدن حولها مشكلة مزمنة تحتاج إلى كثير من التروي؛ لتخفيف مضار ما حدث، مع إلغاء بعض المشروعات العمرانية التي ما زالت مخططات على الورق، فالكثير من مشروعات المدن الجديدة حولها لم تبدأ، أو بدأت ولم تنته عمليات إعمارها، وهذا مما يسهل اتخاذ قرار بإيقافها لإنقاذ القاهرة، ويوضح الجدول التالي هذه الأمور الواقعة.
جدول 2-4: السكان المقيمون بصفة دائمة في المدن الرئيسية الجديدة عام 1996 ونسبتهم إلى العدد المستهدف. *
المدن حول القاهرة
عدد السكان
النسبة ٪
المدن خارج القاهرة
عدد السكان
النسبة ٪
10 رمضان
50000
10
برج العرب
10000
2
6 أكتوبر
75000
15
السادات
16000
3,2
15 مايو
100000
40
دمياط
11000
4
المجموع
225000
18
37000
2,9
وزارة الإسكان 1996 - مصدر سابق.
وظائف المدن الجديدة حول القاهرة - مخصصات الوظائف بالكيلومتر المربع منفذة أو قيد التنفيذ
شكل 2-13:
مصدر الأرقام كتاب «مبارك والعمران» عن وزارة التعمير - بدون تاريخ، وغالبا أوخر 1999.
ولنا بعض ملاحظات على الأرقام السابقة نوجزها فيما يلي: (1)
بعض مواصفات الصناعة في المدن الجديدة (نسب مئوية)
شكل 2-14:
عدد المصانع 1090 - رأس المال 11 مليار جنيه - قيمة الإنتاج 17 مليار جنيه - القوة العاملة 82000 عامل - الأجور السنوية 500 مليون جنيه.
تتضارب هذه الأرقام المستقاة من وزارة التعمير وأرقام التعداد العام للسكان 1996. فالتعداد يسجل أن المقيمين في المدن الجديدة حول القاهرة بلغوا في 10 رمضان 47 ألفا، 6 أكتوبر 35 ألفا، ومدينة 15 مايو 66 ألفا بمجموع 148 ألفا مقابل نحو 30 ألفا فقط في المدن الثلاث خارج القاهرة (برج العرب 7 آلاف، السادات 16 ألفا، ودمياط الجديدة 6,5 آلاف)، ومرة أخرى يظهر التحيز الشديد للمدن حول القاهرة. (2)
لا شك في أن نجاح مدينة 15 مايو مرتبط بوقوعها في قلب المنطقة الصناعية الجنوبية للقاهرة، ومن ثم كان استيطانها بنسبة عالية، وذلك برغم المخاطر الصحية الناجمة عن تلوث الهواء بالأتربة ودخان المصانع، وما ترتب عليه من أمراض الجهاز التنفسي. (3)
إن فشل مدينتي رمضان وأكتوبر في جذب السكان خلال عشرين سنة من الإنشاء، هو دليل على خطأ اتخاذ موقع قريب من الكتلة العمرانية للقاهرة والجيزة، ويصعب على العمالة في مصانع المدينتين الهجرة الدائمة لنقص معروف في قطاع الخدمات، ولارتباطات اجتماعية ونفسية غير موجودة بالمدن الجديدة، ولهذا فإن جانبا من السكن الدائم في المدينتين يرتبط بقطاع الأغنياء الذين يقيمون منتجعات لعطلة نهاية الأسبوع.
القواعد الاقتصادية للمدن الجديدة
الفرضية الأولى للمدن الجديدة هي أنها يجب أن تنظر إلى داخلها، وليس إلى المدينة الكبيرة إلى جوارها، وذلك في مجالات القوة البشرية والاقتصادية والخدمية. وإذا كانت تجربة إسكان المدن الجديدة لم تلق النجاح المطلوب، فإنها قد نجحت في إقامة قواعد اقتصادية جيدة ربما تساعد في ربع القرن القادم على إنشاء قواعد سكانية وخدمية مواكبة للقاعدة الصناعية، ويوضح الجدول
2-5
والشكل البياني
2-14
الوضع الحالي.
جدول 2-5: مدى النجاح الحالي والمتوقع في الصناعة في المدن الجديدة (1996). *
مقومات الصناعة
10 رمضان
6 أكتوبر
برج العرب
السادات
دمياط
مصانع منتجة: 1090 مصنعا، منها في
47٪
25٪
7,14٪
3,8٪
2,5٪
مشروع مصانع: 759 مصنعا
29٪
33٪
6,13٪
5,10٪
7,2٪
رأس المال للمصانع المنتجة: 11 مليار جنيه
63٪
23٪
7,5٪
7,3٪
3,8٪
قيمة الإنتاج: 17 مليار جنيه
57٪
32٪
8,4٪
5,4٪
0,6٪
العمالة: 82 ألف عامل
34٪
20٪
3,4٪
2٪
39٪
أجور عمال: 500 مليون جنيه
60٪
30٪
9,5٪
9,2٪
0,5٪
وزارة الإسكان 1996 - مصدر سابق .
وتتلخص التعليقات على الشكل والأرقام على النحو الآتي: (1)
التركيز واضح في مدينة 10 رمضان التي تكاد أن تحوز على نصف المصانع المنتجة في المدن المذكورة أعلاه، وتنوي أن تحوز على ثلث المصانع تحت الإنشاء. كما أن لها نصيب الأسد في بقية العناصر الصناعية: ثلثي رأس المال، ونحو الثلثين في الأجور المدفوعة للعاملين، وقيمة الإنتاج، ويبدو أن الصناعة في هذه المدينة من النوع كثيف رأس المال قليل العمالة. (2)
الأغلب أن 10 رمضان تتفوق على بقية المدن الأخرى لعامل جغرافي شديد الفاعلية. فهي تقع في مواجهة شرق الدلتا بين أقطاب عمرانية ذات شأن كمصدر تمويل وعمالة وتسويق لدرجة أنه يطلق عليها أحيانا اسم: «الميناء الجاف»؛ فهي تتوسط أوتوستراد الإسماعيلية بين القاهرة والقناة، ويتقاطع معها طريق إلى الشرقية والصالحية. العمالة تأتيها من القاهرة والشرقية والخامات والتصدير السلعي في اتجاه الخارج والداخل. المياه موردها ميسر نسبيا من ترعة الإسماعيلية، وهي بهذا يمكن أن تصبح مدينة مستقلة ذات نفوذ صناعي تجاري، وتخرج بذلك من حيز المدن التوابع. (3)
أما مدينة 6 أكتوبر، فهي بحق مدينة تابعة للقاهرة الكبرى، وخلفيتها لا تمتد إلى ظهير متنوع الأبعاد والقوة والإنتاج على عكس مدينة رمضان، فهي أقرب إلى الضاحية منها إلى مدينة ذات استقلال، ومن ثم كثر السكن فيها حتى لغير العاملين بها. (4)
السادات: عبارة عن تخليق جديد لمستوطنة بنيت لهدف لم يتحقق لتغير الظروف
8
وربما تتطور إلى مدينة ذات خلفية زراعية صناعية. العامرية أيضا تحولت من منطقة استصلاح زراعي إلى تجمع صناعي يحل أزمة المكان المحدود للصناعة السكندرية، وغالبا ما ستنمو باتخاذها مقرا للمطار الدولي للإسكندرية. دمياط الجديدة، بالتحامها القريب مع دمياط، ونمو عمل ميناء الحاويات ستشكل في المستقبل تجمعا سكنيا صناعيا نشطا.
9 (5)
وأخيرا نورد جدولا مركبا بين حقيقة الأوضاع في المدن الجديدة على ضوء ما استهدفته هذه المدن من حل لمشكلة التزاحم السكاني الكثيف في مصر الوادي والدلتا ومدنها، وما تحقق منها بأرقام التعداد السكاني لعام 1996 التي هي أصدق أرقام متاحة لأحوال السكان في مصر.
جدول 2-6: موقف حلقة المدن الجديدة حول القاهرة *
المدينة
عدد السكان ٪ سكان 1996 من المستهدف# ٪ نمو السكان 86-1996#
المستهدف*
1986**
1996**
10 رمضان
500000
8509
47839
9,6٪
525
6 أكتوبر
500000
528
35477
7,2٪
700
القاهرة الجديدة (القطامية + التجمعات)@
2200000 -
34819
1,6٪
بدر
250000 -
248
0,01٪
الشروق ؟ - -
15 مايو
250000
24106
65865
26,5٪
273
العبور
500000
1037
991
0,2٪ −5
المجموع
4200000
33255
185239
4,4٪
ملاحظات على جدول
2-6 : * أرقام وزارة التعمير عن التقرير الوطني المقدم لمؤتمر الأمم المتحدة الثاني للمستوطنات البشرية (قمة المدن)، وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية، جمهورية مصر العربية 1996. ** أرقام التعداد 1996 «النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت لسنة 1996» فصل: «عدد السكان في المدن العمرانية الجديدة مقارنا بنتائج تعداد 1986». من حساب الباحث. @ تظهر في التعداد باسم «الأمل» وتشمل القاهرة الجديدة بما فيها القطامية والتجمعات.
شكل 2-15:
مشروعات تطوير عمرانية بمنطقة القاهرة عام 2000.
وبالرغم من أن موقف المدن الجديدة حول القاهرة غير مشجع إلى الآن، فهناك مئات المباني والوحدات السكنية التي بنيت غير مسكونة لأسباب كثيرة، على رأسها: قلة الخدمات الأساسية ونقص بعض البنية الأساسية، إلا أن الإعلان مستمر عن إنشاء مشروعات تطوير ومشروعات إسكان وغير ذلك. وعلى سبيل المثال اخترنا أحدث المشروعات التي تعلن عنها محافظة القاهرة لعام 2000 لتطوير الهوامش الجنوبية من المعادي إلى القطامية، وحول الطريق الدائري كما يوضحه الشكل
2-15 .
واضح أن هناك تركيزا على الوظيفة السكنية التي تستغرق نحو نصف المشروعات، وأن معظمها مركز في القطامية. يلي ذلك 26٪ من مساحة المشروعات مخصصة للسياحة والترفيه حول الطريق الدائري، وربما كان ذلك هو ملاعب الجولف القائمة حاليا، وثار حول العمارات الشعبية المقامة حولها جدل بمعنى: هل تهدم الأبنية الشعبية القائمة حفاظا على جمال البيئة المحيطة بالملاعب؟ وذلك برغم أن المساحات الخضراء مرغوبة في هذه المنطقة الصحراوية الصخرية، إلا أن هذه المساحة الخضراء مغلقة على عضوية كبار القوم وأغنيائهم، ولا سبيل إليها للعامة من الناس!
الصناعة تحتل المركز الثالث في وظائف هذه المشروعات، وأغلبها مركز في حلوان، والقليل منها في القطامية، وتحتل وظائف التعليم والخدمات الصحية مساحة لا بأس بها في القطامية التي تفتقر إليها كمدينة ناشئة، بينما تستخدم مثل هذه الوظائف القائمة في مدينة نصر والمعادي لخدمة التنمية السكنية الجديدة التي يتضمنها المشروع في كل منهما.
ولا يسعنا إلا التساؤل عن جدوى الإعلان عن مثل هذه المشروعات التنموية برغم عدم استكمال سابقاتها من مشروعات؟ وهل العملية التخطيطية حول القاهرة وفي القاهرة عبارة عن ميادين منفصلة لكل وزارة أو إدارة على حدة؟ ألا يستحسن إيجاد تكامل في التخطيط الفيزيقي والاجتماعي والخدمي معا في إدارة واحدة بدلا من هذا الشتات؟ (4) شبرا الخيمة: مخطط للصحة والترويح في شمال القاهرة
من نافلة القول أن المناطق الصناعية هي أحد أهم بؤرات التلوث في العالم بما تطلقه من غازات ومواد عالقة وما تلقيه من مخلفات سائلة وصلبة أغلبها تحتوي على مواد ضارة بالجسم البشري، وبعضها سام بكل المعنى. وقد تمكنت الدول المتقدمة من الحد النسبي من هذه الملوثات بتكلفة وتكنولوجيا عالية مع رقابة صارمة من قبل أجهزة عديدة حكومية وجماعات غير حكومية. ولكن تحقيق ذلك ما زال بعيد المنال في الدول النامية المنشغلة بتحسين ناتجها الوطني بتنمية الصناعة بأي شكل كان.
وربما كان الوضع في مصر قد دخل مرحلة ما من الرقابة على التلويث الصناعي؛ فقد كثرت الإشارة إليه، وترددت حوله الأقوال من الجهات المسئولة والصحافة وأنصار البيئة معا، وأنشئت له وزارة للبيئة، وهيئة حكومية عليا، ومعاهد للدراسات البيئية، ووكالات للبيئة بالكليات الجامعية، وكلها علامات مبشرة بخير قريب. ومعروف أن القول يسبق الفعل، ومن ثم بدأت بعض الإجراءات تأخذ طريقها إلى حيز الوجود، لكنها بكل المقاييس غير كافية بعد؛ بل إن بعض شركات الصناعة تشكو من تكلفة إجراءات منع الملوثات، كما أن بعضها يرى أنها تؤدي إلى تقليل الإنتاج.
ولسوء حظ القاهرة أن المناطق الصناعية قد أنشئت في مناطق متنزهات طبيعية ظلت كذلك لفترة قرون وقرون، فحلوان منذ العصر العباسي مشهود لها بطيب المناخ كمنتجع لأغنياء القاهرة وولاتها. وشبرا هي رئة القاهرة الشمالية حيث تهب الرياح الشمالية محملة بنسائم نقية عند مرورها على الزروع المختلفة؛ فتنعش جو القاهرة القائظ صيفا وتميل إلى ترطيبه شتاء. ومن هنا كانت نشأة القصور التي بناها محمد علي الكبير وبعض الأمراء في شبرا، وقد تحولت كلها إلى أبنية مدرسية باستثناء قصر محمد علي في شبرا البلد الذي أصبح مقرا لكلية زراعة جامعة عين شمس منذ أمد طويل. ولكن في الثلاثينيات من القرن الحالي تراءى لبعض أصحاب الفكر الصناعي اتخاذ شبرا الخيمة مركزا للصناعات؛ لوجود عدة عناصر مشجعة، منها: القرب من القاهرة مركز السوق الرئيسي، ولوجود الأيدي العاملة الرخيصة من سكان قرى وعزب المنطقة، ومن القاهرة بصفة خاصة حتى غلب «المهاجرون» من العمال على الصيغة السكانية لشبرا الخيمة. لم يفكر هؤلاء الصناعيين بمنطق التنمية الصناعية التي بدأها بنك مصر وشركاته في إقامة الصناعة في أماكن بعيدة عن القاهرة كالمحلة الكبرى وكفر الدوار على سبيل المثال؛ ذلك أن بدايات الصناعة في شبرا الخيمة كانت صناعات محدودة رأسماليا بالقياس إلى شركات بنك مصر، وربما كان أصحابها من جاليات غير مصرية هدفها تشغيل أموالهم في صناعات فردية محدودة موفورة الربح بالقرب من القاهرة.
أيا كانت الأسباب؛ فقد وقر ذي ذهن الصناعيين فيما بعد أن شبرا الخيمة منطقة صناعية، وتتالت المنشآت الصناعية إلى أن وصلنا إلى الوضع الحالي، حيث تغطي المناطق الصناعية ثلاثة محاور رئيسية، هي: (1)
المحور الشرقي : الذي يمتد على طول واجهة ترعة الإسماعيلية من زاوية الترعة إلى شمال مسطرد بطول نحو خمسة كيلومترات. وعبرت الصناعة الترعة على كوبري مسطرد إلى شرق الترعة - خارج المنطقة الإدارية لشبرا الخيمة - لكي تلتحم مع المنطقة الصناعية النامية من غرب عزبة النخل والمطرية إلى السواح. (2)
المحور الغربي : ويمتد على طول محور الخط الحديدي والطريق الزراعي شمالا مساحة تبلغ نحو أربعة كيلومترات حتى قرب قرية ميت نما شرق الطريق الحديدي، وعند ملتقى الطريق الدائري الجديد، وحتى قليوب غرب الطريق مساحة تبلغ نحو ثمانية كيلو مترات تمتد سلسة من المخازن والمصانع والورش. (3)
المحور الأوسط : ويمتد فيما بين المحورين السابقين مسافات تتراوح بين 2 إلى 3 كيلومترات مكونا في أحيان كتلة ملتحمة كما هو الحال شرقي حي بيجام، ومتفرقا أحيانا أخرى في غرب بهتيم. ويمر المحور الأوسط بين المناطق السكنية فيقسمها قسمين: الغربي يتكون من بيجام والسعادة وشبرا الخيمة، والشرقي يتكون من بهتيم وعزب أخرى صغيرة اندمجت في كتلة عمرانية.
شكل :
شبرا الخيمة والتداخل السكني والعشوائي والصناعي.
وترتكز هذه المحاور الصناعية الثلاثة على الواجهة الشمالية لترعة الإسماعيلية في امتداد نحو ثلاثة كيلومترات يراها السائر على كورنيش الترعة أمام محطة كهرباء شمال القاهرة، وتتكون المنطقة الشمالية من حقول زراعية كانت مساحتها نحو 3500 فدان تنتج الكثير من خضراوات سوق القاهرة، لكن هذه المساحة الزراعية آخذة في التناقص، ليس فقط نتيجة نمو الصناعة، ولكن إنشاء الطريق الدائري رفع فجأة قيمة الأرض، فأصبحت تحسب بالمتر بدلا من القيراط من أجل زحف عمراني عشوائي غير منظم ولا مضبوط ليس فقط في شمال شبرا الخيمة، بل على طول الطريق الدائري حتى المرج وبركة الحاج وكفر الشرفا إلى قرب مدينة السلام.
الصناعات الرئيسية في المنطقة هي بالترتيب: النسيج والصناعات المعدنية والصناعات الكيماوية وصناعة مواد البناء، ثم الصناعات الصغيرة من مختلف الأنواع: «خراطة - لحام - نجارة ... إلخ» ويعمل بها جميعا نحو سبعين ألف عامل، وكل هذه الصناعات الكبيرة والصغيرة مسئولة عن أنواع عدة من التلوث، وبخاصة الغازات والأتربة العالقة والساقطة، فضلا عن تصريف مخلفات الصناعة في مياه الترع العديدة في المنطقة، وعلى رأسها ترعة الشابوري التي تحولت إلى رشاح هو مصدر لكل السموم بكل ما تعنيه الكلمة.
ونورد هنا نتائج بعض الدراسات التي قام بها المركز القومي للبحوث عن مقدار تلوث الجو، والتي تشير إلى مخاطر صحية وعمرانية جمة.
مثلا غاز ثاني أكسيد الكربون يتولد بنسب عالية من نواتج الصناعات المعدنية والكيماوية ومصانع الطوب الحراري والزجاج والصيني والبلاط والمواسير الإسمنتية والكابلات الكهربائية والغزل، ويختلط الدخان بثاني أكسيد الكربون مكونا أنواعا من الجو المشبع بالضباب - ضبخان = ضباب ودخان معا - يضر بالجهاز التنفسي للإنسان، ويؤدي إلى تآكل المعادن والأبنية. درجة تركيز ثاني أكسيد الكربون تتراوح في المناطق المختلفة من شبرا الخيمة إلى ما بين 0,08 في المليون إلى 0,33 جزء من المليون، بينما المتوسط الآمن في الدول المتقدمة يتراوح بين 0,01 إلى 0,03 جزء في المليون؛ أي نحو عشر ما في شبرا الخيمة. والأغلب أن ارتفاع النسبة في شبرا الخيمة راجع إلى استخدام وقود صلب، الذي يزيد في الورش الصغيرة الكثيرة. أما الأتربة العالقة فهي أعلى من المتوسطات المأمونة. فهي +500 و+700 ميكروجرام/م
3
في شبرا الخيمة وحلوان على التوالي، بينما هي في حدود 100 إلى 150 في بلاد العالم المتقدم، وتحتوي الأتربة العالقة على مواد سامة مثل الرصاص والزنك والنيكل.
وبطبيعة الحال فإن التركيز في هذه الملوثات يكون على أشده فوق مناطق المصانع التي أشرنا إليها سابقا، وفوق المناطق السكنية المتداخلة في المناطق الصناعية، فتزيد مشكلات السكن الصحية سوءا على سوء.
فالصناعة تخلق مناخات محلية خاصة. فإن التسخين الناجم عن دخان المصانع يخلق نوعا من التيارات الهوائية الساخنة الصاعدة فوق شبرا الخيمة، ثم تبرد هذه التيارات كلما ارتفعت في طبقات الجو، فترتد إلى الأرض منتشرة في صورة أتربة ساقطة على مساحات واسعة فتشمل نطاق الزراعة والسكن، ليس فقط في شبرا الخيمة؛ بل تنتشر أيضا على معظم شمال القاهرة نتيجة دفع الرياح الشمالية لها، ومن ثم فإن الكثير من الخضراوات المزروعة في المنطقة تتأثر بالملوثات، مثل الرصاص، الذي يمتص في التربة، ويدخل غذاء النمو النباتي. وبلا شك فإن الكميات القليلة من الملوثات التي تدخل الجسم نتيجة لأكل هذه الحاصلات تصبح كثيرة المضاعفات الصحية مع دوام أكلها. هذا فضلا عن تعرض السكان إلى الكثير من أمراض التنفس وأمراض العظام، ولتأكيد ذلك فالمقترح إجراء مسوح صحية في المنطقة لتبين مدى وشيوع أمراض معينة خاصة بالبيئة الصناعية بين سكان شبرا الخيمة.
والمسألة لا تقتصر على محلية شبرا الخيمة فقط. فالرياح الشمالية الدائمة تحمل معها ملوثات الصناعة المذكورة إلى بقية القاهرة، وبطبيعة الحال سيكون التأثير أكبر في شمال القاهرة يقل تدريجيا صوب الجنوب إلى أن يلتقي بملوثات منطقة الصناعة الجنوبية الممتدة من دار السلام والمدابغ إلى حلوان-التبين، وبذلك تقع القاهرة بين شقي رحى التلوث من شبرا الخيمة في الشمال إلى حلوان في الجنوب، وعلينا أن ندرك أن تأثير شبرا الخيمة على معظم القاهرة هو الأقوى بحكم أن القاهرة تقع في منصرف رياح الشمال بعد أن تتحمل بملوثات الصناعة . أما ملوثات الجنوب من دار السلام حتى التبين، فيقتصر أثرها الضار على جنوب القاهرة الكبرى فقط.
كيف نواجه هذه المخاطر؟
أولا:
إجراء مخطط شامل جديد لمنطقة شبرا الخيمة. في 1973 أجرت الهيئة العامة للتخطيط العمراني دراسة حول التخطيط الابتدائي العام لمدينة شبرا الخيمة، فهل كانت هناك متابعة لهذه الدراسة؟ وهل رسمت مخططات أخرى؟ وهل دخل أي مخطط حيز التصديق والموافقة أم حيز الأضابير؟ والأغلب أن شيئا لم يتم، بدليل نمو عدد الورش والمصانع الصغيرة في فترة الثمانينيات؛ مما أدى إلى زيادة التلوث بنسب كبيرة.
فالمطلوب إذن تنشيط وتعديل الدراسات التخطيطية السابقة، والعمل الدءوب للحصول على اعتمادها من قبل متخذي القرار، والبدء بتنفيذها في صورة مرحلية. فليس سهلا إجراء التنفيذ في منطقة كثيفة العمران والإنتاج. ففي شبرا الخيمة الآن نحو 800 ألف نسمة.
ثانيا:
نقل الصناعة تدريجيا من شبرا الخيمة بصورة غير مفاجئة، بمعنى: (1)
وقف تراخيص إنشاء ورش أو مصانع جديدة بصورة حازمة. (2)
عدم تجديد تراخيص المصانع القائمة تدريجيا، وخاصة تلك التي لا تتقيد بقوانين الحفاظ على البيئة. (3)
لا شك أنه في المناخ الاستثماري الحالي فإن الكثير من الشركات الصناعية تفضل تحديث مساحاتها وآلاتها من أجل المزيد من الإنتاج المحدث. فالكثير من المصانع الحالية تشكو ضيق المكان والمخازن وقدم العدد والآلات وكثرة العمالة، وكلها يجب عليها بالإيجاب عمليات الانتقال إلى أماكن أرحب وآلية أحدث ومشكلات عمالة أقل. (4)
لهذا فإن إعطاء حوافز من مختلف الأنواع للمصانع التي تنتقل إلى أماكن جديدة سيكون مطلبا مرغوبا؛ طالما أن المواقع الجديدة ملائمة لشروط الصناعة من حيث الطرق والبنية الأساسية والاتصالات. (5)
أن تختار مواقع الصناعة الجديدة في أماكن لا تتسبب في الإضرار بالمناخ المحلي لمدينة القاهرة. مثلا على امتداد طريق السويس ابتداء من الكيلو 50 فالمنطقة إلى جنوب هذا النطاق صحراوية بالمعنى المعهود، فأي تلوث صناعي قد لا يطول القاهرة إلا إذا صادفت رياحا شرقية، وهي ليست مستمرة ولا دائمة، وعلي أية حال فالمفروض أن المصانع الجديدة ستكون مراعية لضوابط البيئة تماما. (6)
مع هذا الانتقال يجب إنشاء مدن أو قرى سكنية حديثة التخطيط ومستوفية للشروط الصحية؛ لإقامة العمال والعاملين بهذه المصانع على نسق مدينة العاشر من رمضان.
تحويل شبرا الخيمة إلى متنزه وطني
ماذا نفعل بأرض شبرا الخيمة بعد انتقال الصناعات منها؟
أن يراعى على وجه لا تشوبه شائبة تحويل أراضي المصانع المنقولة من شبرا الخيمة إلى حدائق أو متنزه وطني كبير يمتد نحو ثلاثة كيلومترات على ضفاف ترعة الإسماعيلية، وبعرض يمتد نحو كيلومتر واحد، بحيث يكون رئة لشمال القاهرة، على غرار المدن الكبرى، مثل: غابة بولونيا في باريس أو هايدبارك في لندن أو شتاد بارك في فيينا أو سنترال بارك في نيويورك. وأن يصاحب ذلك رسم مخطط شامل يهدف في النهاية إلى إقامة مدينة حدائق من أجل مساحات من الخضرة تساعد على تحسين جو القاهرة كما كان الأمر في أوائل هذا القرن، ويمكن أن يتم ذلك تدريجيا بضبط نوعية المباني والالتزام بقوانين التنظيم الأخرى. فالكثير من أسر العاملين في الصناعة سوف تنتقل إلى المواقع الجديدة، ويحدث تفريغ جزئي للمنطقة السكنية الحالية مع الوقف الفوري لزحف العمران العشوائي حول الطريق الدائري حفاظا على المنطقة الزراعية. ولا شك أن قيمة الأراضي السكنية سوف ترتفع في هذه البيئة الجديدة؛ مما يؤدي إلى تغير الأنماط السكنية العشوائية إلى نمط عمائر وبيوت أكثر انضباطا وأرقى حالا، كما حدث في النمو العمراني حينما التف حول قرية الدقي أو العجوزة على سبيل المثال.
وباختصار سوف نرفع عن القاهرة أحد مصادر التلويث الواقعة جغرافيا في مهب رياح القاهرة؛ مما يؤدي إلى هواء نقي يسهم في تحسين جو القاهرة الذي ابتلي بكل أشكال الملوثات، ويسبب أمراضا لم تكن معهودة من قبل.
الأرقام فيها الكثير من التضارب، وربما يعود بعضها إلى أخطاء مطبعية، وبخاصة ترقيم الأصفار. مصدر الأرقام: الإدارة العامة للخطة والمتابعة - محافظة القاهرة، 1997.
إقامة صناعة ما تخلق فرص عمل خارج الصناعة لشخصين أو ثلاثة كخدمات وأنشطة مكملة. انظر: علا سليمان الحكيم «ظاهرة التحضر ونمو المدن» ندوة التوسع الحضري، معهد التخطيط القومي 1988 ص152.
في 1976 لم يتعد سكان مناطق المقابر 145 ألفا كان منهم 18 ألفا فقط هم الذين يسكنون داخل الأحواش في جبانات القاهرة التقليدية، وهناك تفريق بين سكان مناطق الجبانات الذين يعيشون في بيوت أو شقق داخل المنطقة وبين أولئك الذين يسكنون داخل الأحواش، وهؤلاء هم المعنيون باسم سكان عشوائيات، مثلهم في ذلك مثل سكان أسطح العمارات حتى في أرقى أحياء المدينة.
عزة سليمان وشنوده سمعان «التوسع الحضري ومشكلة الإسكان في مصر» - ورقة في ندوة التوسع الحضري التي نشرها معهد التخطيط القومي بالقاهرة 1988، ص328-330.
وفي 1984 كان تقدير سكان المقابر نحو 117 ألفا بدون تمييز لعدد سكان الأحواش الفعلي. ممدوح الولي «سكان العشش والعشوائيات»، نقابة المهندسين - القاهرة 1993، ص 50-51.
خسرت مصر نحو نصف مليون فدان في الفترة 1950-1984 من الأرض الزراعية الجيدة في الدلتا والصعيد نتيجة زحف المدن. انظر: محمد سمير مصطفى وعزة سليمان «مستقبل التوسع الحضري في مصر وأثره على البيئة» ندوة التوسع الحضري - معهد التخطيط القومي 1988، ص374-375.
يتواجد الزبالون بكثرة في منشأة ناصر، لكن هناك أماكن أخرى لتواجد الزبالين، مثل: عزبة النخل وحلوان وطرة والمعتمدية والبراجيل، ويزيد عددهم على 30 ألفا، وقد بدأ المهاجرون من الوادي الجديد هذه المهنة لكن لحقهم في ذلك مهاجرون من الصعيد. انظر: عزة سليمان وشنودة سمعان، مصدر سابق، ص 340-342.
ملاحظة: الكثير من موضوع السكن الطفيلي والعشوائي متضمن في بحث للمؤلف بعنوان: «السكن العشوائي في جمهورية مصر، وحالة القاهرة بشيء من التفصيل» ألقي في ندوة لجنة الجغرافيا - المجلس الأعلى للثقافة في مارس 2000 - تحت الطبع.
غيرت وزارة الإسكان خطة الإسكان في القاهرة الجديدة في صمت من منطقة لاستقبال الزيادة السكانية الشعبية في القاهرة إلى تخصيص مساحات واسعة لفيلات وقصور وعمارات الموسرين، وبالتالي لن تستوعب القاهرة الجديدة مليونين وربع المليون كما كان المستهدف، بل ربما اقتصرت على ربع هذا العدد. راجع: أبو زيد راجح، رئيس الهيئة العامة لبحوث الإسكان والبناء والتخطيط العمراني سابقا، عن العمران في القاهرة في مجلة الكتب وجهات نظر الشهرية القاهرية عدد نوفمبر 2000 ص58-61.
كان التخطيط في بناء مدينة السادات أن تصبح المقر الرسمي للحكومة المصرية كخطوة نحو نقل العاصمة السياسية من القاهرة. ولكن نقل موظفي بعض الوزارات، وبخاصة وزارة التعمير، لقي معارضة شديدة علنية وغير علنية (سياسة المقاومة السلبية)؛ مما أدى - إضافة إلى متغيرات سياسية أخرى بعد رحيل السادات - إلى التغاضي عن مشروع نقل العاصمة، ثم ضمت مؤخرا إلى محافظة المنوفية التي استفادت من المباني الكثيرة الفارغة في تحويل بعض كليات جامعة المنوفية إليها.
الأرقام مجمعة عن «قمة المدن» لوزارة الإسكان 1996 سابق الذكر - صفحات متعددة، وهناك في الحقيقة تضارب كبير في قيمة الأرقام داخل المصدر نفسه. على سبيل المثال عدد المصانع المنتجة هي 1090 في صفحة و1506 في مكان آخر من نفس المصدر، ورأس المال المدفوع في المصانع المنتجة 4 مليارات في مكان و11 مليارا في مكان آخر، وقيمة الإنتاج 4,8 مليارات و17 مليارا، وقس على هذا بقية الأرقام. فأيها نصدق؟
الفصل الثالث
القاهرة والزمان
دينامية القاهرة في أزمان مختلفة (1) التاريخ السكني والسياسي لإقليم القاهرة
توضح الخريطة (
1-2 ) أن منطقة القاهرة الكبرى كانت ملائمة للسكن البشري منذ عصور ما قبل التاريخ، ولكن هذه المستوطنات كانت تعتلي سطوح الهضاب، ولا يغشى الناس الوادي أسفلها إلا للصيد والسماكة، فلم تكن الزراعة معروفة بعد،
1
وحين مارس السكان الزراعة في أشكالها الأولى في العصر النيوليتي (الحجري الحديث) فإن ذلك لم يحدث نقلة اقتصادية عمرانية مفاجئة، بل تدرج الناس في ممارستها جنبا إلى الصيد الذي ألفوه لزمن طويل. وحين تعلم المصريون تقنية الزراعة بالتفاعل مع معطيات البيئة النهرية والممطرة معا، كان الجفاف يزحف تدريجيا على مصر، مما اضطر الناس إلى التقدم بمستوطناتهم قريبا من ماء النهر، تاركين سطوح الهضاب للجفاف والإجداب. وبدأ المصريون يتفاعلون بالتجربة مع هيدرولوجية النيل بين الفيضان والنقصان، وابتكروا نظام ري الحياض الذي استمر على الأقل ستة آلاف سنة إلى أن قضي عليه تدريجيا في قرن من نظام الري الدائم بداية من القناطر الخيرية إلى السد العالي. ومع ري الحياض ثبتت أماكن القرى والمحلات السكنية المصرية آلاف السنين؛ وذلك لأن القرى يجب أن تقوم فوق منسوب الفيضان، واستمرار سكنها على مر الزمن جعلها تعلو كجزر صغيرة وسط أحواض الزراعة لتكوم البناء فوق أكوام البيوت الهالكة جيلا بعد جيل، خاصة وأن مادة البناء كانت من اللبن وجالوص الطين مع التبن وهي مادة من البيئة وإليها ترجع، ومن ثم فإن غالبية أواسط القرى مرتفعة بصورة محسوسة عن أطرافها الأحدث، ولم ترتفع القرى كثيرا عن محيطها من الأراضي التي كانت بدورها ترتفع بما يرسبه الفيضان من طمي؛ لهذا فإن القرى المصرية مجال ممتاز للبحث الأثري.
على أية حال فإن استمرار تقدم الزراعة والسكان المستقرين والغنى والثروة بأقدار مختلفة في نواحي الوادي والدلتا - أدى إلى نشأة نظام سياسي محلي، سرعان ما أصبح إقليميا بجهود أفراد ذوي قدرة تنظيمية أعلى إلى أن وصلنا إلى مصر المتحدة سياسيا من خلال مجهودات الملك نارمر أو مينا أول فرعون معروف لأول أسرة حاكمة لكل مصر، وكان ذلك نحو 3200ق.م. وقدر كارل بوتزر
2
أن سكان مصر في ذلك الوقت كانوا بين مائة ومائتي ألف، وقد يبدو هذا رقما شديد التواضع، لكنه في الحقيقة رقم كبير وضخم باعتبار شكل الظروف الحياتية الصعبة في هذا الزمن السحيق، والذي يهمنا من كل هذا أن عاصمة مصر الموحدة كانت في مدينة «منف» أو ممفيس كما عرفها الإغريق القدماء، ومن ثم فإن إقليم القاهرة الكبرى كان يضم أول عاصمة لمصر استمرت نحو ألف عام من الزمان.
3
4
ثم تجولت العاصمة شمالا وجنوبا في أنحاء مصر حسب مقتضيات الظروف السياسية والعسكرية والدينية لمدة نحو 2800 سنة، ثم عادت مرة أخرى ببناء الفسطاط في مصر الإسلامية منذ نحو 14 قرنا من الزمان.
ولم تكن «منف» هي المدينة الوحيدة الضاربة في التاريخ في منطقة القاهرة؛ بل كان إلى الشمال منها مدينة «أون» الجامعة الدينية العلمية لمصر عدة آلاف من السنين،
5
والتي عرفها الإغريق باسم «هليوبوليس» أي مدينة الشمس؛ حيث ظل الإله رع-أتوم مسيطرا على الفكر الديني باعتباره إله الشمس طوال الدولتين القديمة والوسطى، وكان كاهن أون الأكبر يسمى: «رئيس أسرار الشمس»؛ نظرا لقوة العلوم الفلكية في هذه الجامعة التي استمرت في العطاء الديني والفكري والعلمي منذ ما قبل توحيد مصر السياسي إلى العصر البطلمي. وقد زارها المؤرخ الإغريقي الكبير هيرودوت في القرن الرابع قبل الميلاد، وأشاد بحكمة وعلوم هذه المدرسة،
6
وبذلك عاشت كمدينة علم ودين أكثر من ثلاثة آلاف سنة، وقد ذكرها المقريزي وقص عنها ما يفيد أن كهنتها امتحنوا فيثاغورس الإغريقي امتحانا دقيقا قبل السماح له بالاطلاع على علومهم.
7
وأخيرا كانت هناك في إقليم القاهرة مدينة ثالثة: «حر أون» التي حرفت إلى حلوان في النصوص العربية؛ للتشابه مع حلوان الواقعة في العراق العباسي، وتعني «حر أون» في المصرية القديمة: «أون العليا»، وكانت عاصمة لإحدى الوحدات السياسية المصرية قبل توحيد مصر وإنشاء «منف» عاصمة لكل مصر، فطغت على أون العليا؛ لقربها الشديد منها عبر النيل.
8
والخلاصة أن منطقة القاهرة الكبرى الحالية ظلت باستمرار مكانا متميزا لنشأة مدن ذات شأن في حياة مصر منذ أقدم العصور، وهو أمر يؤكد مدى أهمية مجال العلاقات المكانية لإقليم القاهرة في التاريخ الطويل المجيد لمصر. (2) العواصم التوابع: الفسطاط والعسكر
وضع عمرو بن العاص نواة العاصمة المصرية على مقربة شديدة من حصن بابليون الذي كان مقرا للحكم الإداري الروماني داخل مصر، وخاضعا للإسكندرية العاصمة السياسية الرومانية والعاصمة الثقافية للعالم المعروف آنذاك. (2-1) الفكر الإستراتيجي لعمر بن الخطاب، وموقع الفسطاط
الواقع أن عمرا كانت تراوده أفكار اتخاذ مدينة الإسكندرية - فخمة البناء - عاصمة للقوة الإسلامية في مصر. لكن كل الكتابات تشير إلى أن الخليفة عمر رفض - كخطة إستراتيجية - أن يفصل بين عواصم الولايات الإسلامية ومركز الخلافة أي عائق مائي؛ لهذا لم تتخذ مدائن كسرى أو الإسكندرية حواضر للعراق أو مصر، برغم أن العوائق المائية المشار إليها هي مجرد نهري الفرات والنيل، ولا شك في أن الخليفة عمر كان يخشى على العرب من البحر باعتبارهم أهل بر،
9
وأن هذه الخشية أدت إلى تأخر إنشاء البحرية العربية في مواجهة الرومان إلى فترة الخلافة الأموية، إلا أن عمر - بفكر تكتيكي ثاقب - كان يرى أن الإسكندرية مهددة بحرا بالأسطول الروماني، وهو ما لم يكن للعرب أمامه حيلة في ذلك الوقت، وقد حدث ما توقعه مرات، ومن ذات المنطلق خاف عمر تجدد القوة الفارسية، ومن ثم كانت الكوفة والبصرة والفسطاط عواصم تقع على أطراف الصحراء الممتدة إلى الجزيرة العربية. على أي الحالات كان ما كان، واتخذ عمرو الفسطاط قاعدة إسلامية لمصر. (2-2) مدلولات الفسطاط وبابليون
وقد ثار جدل مردوده قليل حول معنى كلمة «الفسطاط»؛ هل هي خيمة كاسم مطلق للخيم أم هي اسم خاص بخيمة القائد؟ وهل هي فارسية أو لاتينية؛ لأنها لم تكن واردة كاسم بديل للخيمة أو بيت الشعر المعروف لدى العرب؟ ويربط بعض المستشرقين بين الفسطاط وبين المصطلح اللاتيني
Fossatum
بمعنى مكان محصن أو قلعة أو معسكر حربي محصن، وربما كان ذلك أقرب إلى الصحة، فخيمة عمرو كانت وسط معسكر العرب أثناء حصار قلعة بابلون.
وكذلك يثير اسم «بابلون» أو بابليون موضوعا للمناقشة، ولكن أغلب الكتاب يعيدون أصوله إلى فترة الحكم الفارسي القصيرة لمصر أثناء العصر الروماني، كاسم مستعار لبابل التاريخية فيما بين النهرين.
10
ولذلك فقد ورد الاسم على أنه بابل المصرية، أو اختصارا: بابلون.
وقد أسماه العرب «قصر الشمع» وهي تسمية ليست من فراغ. فكلمة قصر يطلقها العرب على البناء الكبير العالي أو مجموعة الأبنية المحصنة.
11
أما كلمة الشمع فهي تحريف للكلمة القبطية المصرية القديمة «شمي» أو «كمي»
12
بمعنى الأرض السوداء؛ أي مصر ذات التربة السوداء تميزا لها عن مصر الصحاري ذات التربة الحمراء والصفراء. فقصر الشمع إذن هو: «قصر مصر» أو «قلعة مصر».
لكن المقريزي يثير قضية أخرى بناء على ما ورد عند القضاعي من أن حصن «باب اليونه» أقامه الفرس على مرتفع الرصد - جبل الشرف عند المقريزي - وهو إلى الجنوب من قصر الشمع خارج الفسطاط، وأن الرومان حينما استعادوا مصر من الفرس أكملوا بناء الحصن، وصار معروفا باسم: بابليون،
13
وهو الذي فتحه عمرو بن العاص، ولا تزال بعض آثار هذا الحصن باقية على الرصد في منطقة كوم غراب الحالية أو منطقة إسطبل عنتر إلى الجنوب من كوم غراب (انظر خريطة
3-1 ). أما قصر الشمع: فهو مجموعة الكنائس القبطية داخل الفسطاط الحالية، مسورة ومحصنة بأبراج بقاياها قائمة للآن، بنيت عليها كنائس، مثل: الكنيسة المعلقة ومار جرجس، وتؤيد الخريطة هذا الرأي، وهو ما نميل إليه؛ لأن الحصون غالبا ما تقام على مرتفع من الأرض لتصبح أكثر منعة وأكثر إشرافا على ما جاورها من الأرض، وعلى أية حال فهو موضوع جدير بالمزيد من الدرس.
كان النيل يحف بجدران حصن بابلون الغربية قبل أن يتراجع غربا مسافة قدرها محمد رمزي بنصف
شكل 3-1:
منطقة الفسطاط - إسطبل عنتر في العشرينيات من القرن 20.
كيلومتر،
14
وذلك كجزء من تراجع نهر النيل غربا خلال العصور الوسطى كما توضحه الخريطة (
3-3 )، وكذلك كان جامع عمرو على ضفة النيل شمال قصر الشمع. وقد بنى عمرو بيته إلى الشرق من الجامع، وتحلقت حوله بيوت وخطط القبائل والمجموعات غير العربية التي قدمت مع الجيش العربي بقيادة عمرو، أو التعزيزات الكبيرة التي أرسلها الخليفة عمر لمساندة جيش عمرو، وظلت المدينة تنمو وتزدهر قرنا من الزمان (643-745م). قبل أن ينتقل الحكم إلى مدينة العسكر إلى الشمال قليلا منها، ولكن ذلك لم يمنع استمرار نمو الفسطاط كعاصمة سكانية وقصبة تجارية لمصر حتى القرن الثاني عشر. (2-3) كم كانت مساحة مدينة الفسطاط؟
قياسا على اجتهادات الباحث الأثري علي بهجت لمدينة الفسطاط (1914) فإن المدينة كانت تمتد 960 مترا في محور غربي شرقي يبدأ من السور الغربي لجامع عمرو على ضفة النهر إلى سور صلاح الدين. بينما كان امتدادها نحو 1300 متر على محور شمالي شرقي-جنوبي غربي (خريطة
3-2 )، وحيث إنها كانت تتخذ شكلا بيضاويا فإنه من الصعب تحديد المساحة، فإنه قد لا نتجاوز الحقيقة إذا قلنا : إنها كانت في حدود كيلومتر مربع واحد، وهي مساحة ذات قدر بالقياس إلى ذلك الزمان. والسؤال هو: هل هذه أبعاد المدينة إبان ازدهارها؟ أم هي أبعاد لما تبقى من آثار المدينة بعد النكبات التي مرت بها الفسطاط، وكان آخرها تعمد إحراقها بأمر «شاور»، وزير آخر الخلفاء الفاطميين؛ تجنبا لسقوطها في أيدي الصليبين؟ والأرجح أنها لبقايا المدينة؛ فنحن نعرف أن المدينة - بما فيها قصر الشمع - أصبحت بعيدة عن النهر بعد أن غير النيل مجراه، وأن الأرض التي خلفها طرح النهر غربي جامع عمرو وقصر الشمع أصبحت مأهولة بالدور السكنية والأسواق في فترة سابقة على حريق الفسطاط.
15
شكل 3-2:
المخطط الأثري للفسطاط (محاولة الأثري علي بهجت لتحديد الفسطاط).
جامع عمرو كان غالبا هو نقطة البدء في إنشاء مدينة الفسطاط، ثم صار مركز المدينة الديني والثقافي والسياسي مقابل المركز التجاري وميناء المدينة. في البداية كانت مساحة الجامع لا تتجاوز 29 × 17 مترا، وأرضه يغطيها الحصى، وكان سقفه منخفضا مصنوعا من الجريد، ومحمولا على دعامات من جذوع النخيل، ولم يكن له صحن أو مئذنة أو محراب، وبعد 400 سنة زاره الرحالة الفارسي ناصري خسرو، ووصفه بأنه قائم على 400 عمود من الرخام، وكان جدار القبلة مكسوا بالرخام كتبت عليه آيات من القرآن، وفي ليالي المناسبات الدينية كان يغطى بطبقات من الحصر، ويقاد 700 قنديل - الليالي العادية 100 قنديل - وكان مركز اجتماع أهل المدينة، ويتلقى فيه العلم مئات من الطلبة وكثير من الكتاب الذين يحررون الرسائل والصكوك.
16
شتان بين البداية والتطور، وقد هدم الجامع وأعيد بناؤه عدة مرات، وزادت مساحته كل مرة حتى بلغت أبعاده 112 × 120 مترا في عهد الخليفة المأمون، وما تطور إليه هذا المسجد الجامع إنما هو مؤشر لحالة المدينة بين بدايات صغيرة إلى عاصمة حقيقية للحياة في مصر قرابة نيف وأربعة قرون. (2-4) إعمار الفسطاط وخطتها
بدأ الإعمار بسيطا ببيت عمرو شرقي الجامع، وبيت مجاور لابن عمرو، وقربهما بيت الزبير بن العوام، ثم خطة أو حي لأهل الراية - يبدو بمعنى القواد - جنوب الجامع، وحي لأبناء ساحل المهرة من جنوب الجزيرة العربية جنوب شرقي أهل الراية، وبالتالي كان إلى الشمال والشرق من قصر الشمع، ثم أبناء قبيلة - أو: تجمع - تجيب شرقي قصر الشمع، وأخيرا مجموعة «وعلان» جنوب القصر ومجموعة لخم شمال شرق الجامع في اتجاه ما نعرفه الآن بدير النحاس وفم الخليج، وإلى الشمال منهم مجموعات لقبت بالحمراء، وهي غير عربية وبعضها من الفرس والبعض من سكان إقليم برقة في شرق ليبيا الحالية، والذين كان يغلب اللون المحمر على ملابسهم، ومنها غلب اسم الحمراء. وقد استقرت هذه المجموعات في الحمراء الوسطى والقصوى في خط متفرق بطول الخليج المصري فيما يعرف الآن بمنطقة السد وفم الخليج. كما سكنت مجموعات من هؤلاء أيضا على البر الغربي للنيل في منطقة الجيزة.
وفي وقت ازدهار المدينة كان البناء مستمرا دون خطة واضحة، بل إنها ربما كانت في صورة خطتين؛ الأولى: شبه مستطيلة متبعة في ذلك ضفة النهر وأسوار قصر الشمع وجامع عمرو، ومخطط شوارعها أقرب إلى الاستقامة طولا وعرضا. والثانية: شبه مستديرة في القسم الشرقي مخطط دروبها شديد الالتواءات والانحناءات. وكان للدروب والحارات أسماء، نذكر منها على سبيل المثال: حارة التجيب ودرب السلسة وزقاق المهرة وزقاق بني العوام، وبعضها بأسماء طوائف أو السلع المميزة للسوق؛ كسويقة اليهود وسويقة العراقيين وزقاق البواقيل - ربما البقول - ودرب الزعفرانة. وحينما كثر السكان والثروة التجارية كانت هناك أسواق غالبها قريب من الميناء كالقطانين والسراجين والدقاقين والقفطانية والفطايريين وسوق الغنم وزقاق الرفائيين والمراوحيين والرزازين والوراقين. وذكر البكري قيساريات (= أسواق) أخرى، منها: قيساريات العسل والحبال والكباش وقيسارية عبد العزيز - ابن مروان - وهشام - ابن عبد الملك - ويباع فيهما البر (= الحبوب).
17
وكلها تشير إلى تنوع وازدهار كبيرين أديا إلى وصف كثير من الرحالة الفسطاط بأنها مدينة كبيرة موسرة. فالبيوت أصبحت مبنية بالطوب الأحمر، وأرضياتها من بلاطات الحجر الجيري وأنابيب فخارية لجري الماء داخل البيوت من خزانات تملأ بواسطة السقايين،
18
وكانت مجاري مياه الصرف مبلطة أو منقورة في الصخر، ولكثرة السكان تطور المعمار من بيت الدور الواحد إلى بيوت متعددة الطوابق يسكنها عدد كبير من الناس ربما من ذوي القربى أو ممن يستأجرون المساكن في العمائر. ولعل هذا يقربنا من نمط شاع في القاهرة بعد ذلك باسم «الربع» - بفتح الراء وجمعها: أرباع - حيث يستأجر الناس قدر حاجتهم من غرف أو شقق في بناء كبير المساحة متعدد الطوابق، وربما نقلنا وصفا للفسطاط من بعض المصادر العربية لمزيد من الإيضاح لأهمية المدينة.
كتب ابن حوقل في صورة الأرض (القرن العاشر): «... [مصر] مدينتها العظمى تسمى : الفسطاط، وهي على شمال النيل، وهي مدينة حسنة ينقسم لديها النيل قسمين، فيعدي من الفسطاط إلى عدوة أولى ... تعرف بالجزيرة، ويعبر إليها بجسر فيه نحو ثلاثين سفينة، ويعبر من هذه الجزيرة على جسر آخر إلى القسم الثاني ... تعرف بالجيزة. والفسطاط مدينة كبيرة نحو ثلث بغداد، ومقدارها نحو فرسخ على غاية العمارة والخصب والطيبة واللذة، ذات رحاب في محالها وأسواق عظام ومتاجر فخام، وممالك جسام إلى ظاهر أنيق وهواء رقيق وبساتين نضرة ومتنزهات على مر الأيام خضرة ... والدار تكون بها طبقات سبعا وستا وخمس طبقات، وربما سكن في الدار المائتان من الناس.»
19
ووصف ناصري خسرو القاهرة والفسطاط - بعد ثلاثة أرباع قرن من إنشاء القاهرة الفاطمية - فقال: «الفسطاط تظهر من بعد كالجبل، وفيها منازل من سبع طبقات فأكثر، وسبعة جوامع كبار، ولو وصفت ما فيها من آثار السعادة والثروة لكذبني الفرس ... وأخبرت أن في القاهرة كما في مصر - يقصد: الفسطاط - عشرين ألف منزل ملك السلطان، وجميعها مؤجرة، والأجرة تقبض شهريا، والتأجير والإخلاء من غير جبر ولا إكراه.»
20
والخلاصة أن ما ذهب إليه ناصري خسرو من أعداد كبيرة لبعض مظاهر خدمات المدينة في كل من الفسطاط والقاهرة، كوجود 52 ألف جمل عاملة في نقل قرب الماء للأهالي، وخمسين ألف حمار للإيجار لمن يريد الانتقال من مكان إلى آخر،
21
إنما يدل على حجم سكاني ونشاط اقتصادي كبيرين، وذلك علما - مرة أخرى للتأكيد - أن ناصري مكث في القاهرة سنتين (1047-1048م) أي إنه عايش المدينة معايشة تامة، ولم يكن رحالا تستحثه سرعة الحركة والانتقال. كما يجب ذكر أن فترة وجوده عاصرت المراحل الأولى من نمو مدينة القاهرة الفاطمية؛ إذ كان عمرها ثلاثة أرباع قرن، بينما كان عمر الفسطاط قد أربى على ثلاثة قرون، والغرض من هذه المداخلة أن الفسطاط كانت في زمن ناصري خسرو مدينة مكتملة النمو والسكان والنشاط الاقتصادي مقابل القاهرة حديثة النشأة تسودها الوظيفة السياسية، ذات مبان وقصور وبساتين واسعة، يسكنها مجموعة محددة من السكان غالبهم يعملون في الإدارة والجيش، وكل هذا يشير إلى أن الأرقام التي أوردها ناصري خسرو كانت تنصب على الفسطاط بنسبة أكبر من تلك الخاصة بالقاهرة.
شكل 3-3:
خريطة الفسطاط من القرن الثامن إلى الحادي عشر (بتعديل عن كليرجيه، شكل
2-13 ). (2-5) خط القرافة
برغم أن القرافة هي مدينة الأموات، وبذلك فهي عكس الإعمار، إلا أن قرافة الفسطاط، كانت إعمارا لبطن من قبيلة المعافير تسمى: «قرافة»، لكنها فيما بعد أصبحت مقبرة لأهل الفسطاط تميزت بأنها نوع من التعمير له حيز كبير، وفي ذلك كتب ابن بطوطة: «... وهم يبنون بالقرافة القباب الحسنة، ويجعلون عليها الحيطان فتكون كالدور، ويبنون بها البيوت ... ومنهم من يبني الزاوية والمدرسة إلى جانب التربة، ويخرجون كل ليلة جمعة إلى المبيت بأولادهم ونسائهم.»
22
والحقيقة أن جبانات القاهرة مليئة بالجوامع والأبنية الدينية الكبيرة، مثل جوامع: السيدة نفيسة والإمام الشافعي والإمام الليثي وعمر بن الفارض وحوش الباشا - مدافن الأسرة العلوية - في جبانة القاهرة الجنوبية المعروفة الآن باسم الإمام، وجوامع وخانقاوات وأسبلة ومدارس سلاطين المماليك في الجبانة الشرقية، مثل: إينال وبرقوق وقايتباي ومدفن الخديو توفيق. فالقرافة إذن هي نوع من التعمير تمارس فيه عادات وطقوس تكاد أن تختص به القاهرة، وأصبح له مخططات تنظيم ومرافق وبنى أساسية؛ لأن اتساع الجبانة الجنوبية - الإمام - قد ضمت قرى وعزب كالبساتين ومحمد فهمي وجبريل أبو صوان وأبو نافع، أو أصبحت محاصرة بالعمران الحديث بين الأزهر ومدينة نصر ومنشأة ناصر، كما هو حال الجبانة الشرقية. (2-6) النيل والخليج والفسطاط
ولا شك في أن ما يزيد المفاضلة أن الفسطاط كانت الميناء الذي يجمع تجارات بلاد البحر المتوسط والدلتا والصعيد والسودان بواسطة النيل، ويجمع تجارة البحر الأحمر والبحر العربي بواسطة الخليج.
23
وفي ذلك ذكر ابن بطوطة (1325م): «... أن بنيلها من المراكب ستة وثلاثين ألفا للسلطان والرعية تمر صاعدة إلى الصعيد ومنحدرة إلى الإسكندرية ودمياط بأنواع الخير.»
24
مثل هذا النشاط التجاري عبر عنه ناصري خسرو أيضا بازدحام ميناء الفسطاط، وامتداد طويلا مع صف من الدكاكين والوكالات التجارية العاملة في تجارة الجملة، وكان هناك مكتب للجمارك؛ فالمستورد من السلع لا يدفع عنه إلا القليل؛ لأنه سبق معاملتها جمركيا في المواني، بينما تفرض المكوس على السلع الواردة من ريف مصر وصعيدها وبخاصة الحبوب.
ولا شك في أن ميناء المقس كان منافسا حقيقيا لميناء الفسطاط حينما زار ابن بطوطة القاهرة في عز ازدهار سلطنة المماليك.
وربما ترتب على حفر الخليج الناصري
25
زيادة جريان الماء في الخليج بصفة عامة قريبا من العمران في القاهرة وضواحيها الشمالية والغربية؛ فإن عدد السقائين قد أصبح أقل عما كان عليه فترة زيارة ناصري خسرو للقاهرة الفاطمية، ولكننا لا نفهم سبب انكماش عدد حمير الركائب الأجرة إلا إذا كان القاهريون من الثراء بحيث أصبح للأسر الموسرة ركائب خاصة، وبالمناسبة فإن الخيول قد شاعت كوسيلة انتقال للفرسان المماليك، وربما ترتب على ذلك انتشار نمط عربة الكارو التي تجرها الخيول غير مميزة النسب أو الخيول كبيرة العمر كوسيلة لنقل البضائع بديلا للجمال ونقل النساء بديلا للحمير، ومن هنا كان الثراء الكبير الذي أثار دهشة الرحالة الذين زاروا القاهرة عربا كانوا أو عجما أو أوروبيين.
صحيح أن الخليج كان يتأرجح بين العناية والإهمال المقصود، غير أنه منذ البداية العربية كان ضرورة حتمية لنقل الغذاء والمؤن من مصر إلى المدينة المنورة قاعدة الحكم العربي الأولى، وفي ذلك كتب الأثري علي بهجت:
26
أمر عمر - رضي الله عنه - عمرو بن العاص بحفره، فساقه من النيل إلى بحر القلزم فلم يأت عليه الحول حتى سارت عليه السفن، وحمل فيه ما أراد من الطعام إلى مكة والمدينة ... فسمي خليج أمير المؤمنين ... وجاء في «المقريزي» أن السبب في حفر خليج القاهرة أن أهالي المدينة أصابهم جهد شديد في خلافة عمر، فكتب إلى عمرو: أما بعد؛ فلعمري يا عمرو ما تبالي إذا شبعت أنت ومن معك، أن أهلك أنا ومن معي. فكتب إليه عمرو: أما بعد؛ فيا لبيك ثم يا لبيك، قد بعثت إليك بعيرا أولها بالمدينة وآخرها بمصر عليه الطعام. بعد ذلك كتب إليه عمر أن احفر خليجا من نيل مصر حتى يسيل في البحر؛ فهو أسهل لما نريد من حمل الطعام إلى المدينة ومكة، فإن حمله على الظهر يبعد ولا نبلغ به ما نريد ... تباطأ عمرو ... [فتوعده عمر] فعرف عمرو أنه الجد من عمر - رضي الله عنه - ففعل.
الملاحظ من هذا النص عدة أمور تشهد بالحنكة السياسية للخليفة عمر بن الخطاب؛ أولها: المفاضلة بين النقل بالإبل والبحر، فالسفينة، على صغرها آنذاك، أكثر حمولة من عدد كبير من الإبل، كما أنها أسرع إذا صادفتها الرياح المساعدة. والأمر الثاني: رغبة الخليفة في إنشاء نظام اقتصادي داخل الدولة الجديدة يتم بمقتضاه انتقال الغذاء والأموال من الولايات المنتجة إلى مركز الحكم في المدينة المنورة والولايات المجدبة، ويرتبط بذلك تكرر حدوث المجاعة أو ما يشبهها في الحجاز، وأقرب العون هو من مصر، وقد ظلت مصر كذلك قرونا طوالا بالنسبة للحجاز. (2-7) الفسطاط والبيئة
لم يكن كل من كتبوا عن الفسطاط من المادحين؛ بل كانت هناك بعض الملاحظات القادحة المليئة بالكثير من التحامل كما ذكر المقريزي. لكننا نرى أن جانبا من إظهار مساوئ مدينة هو عمل موضوعي إذا لم يكن وراءه مقاصد شخصية، أو تحدوه رغبة انتقام لتصادف معاملة أو حادث سيئ.
ومن أحسن الكتابات الناقدة ما كتبه الطبيب ابن رضوان
27
عن مساوئ موقع الفسطاط. ويحتاج الأمر إلى ذكر شبه كامل للنص نقلا عن «خطط» علي مبارك.
قال ابن رضوان: «... [الفسطاط الجبل] المقطم في شرقيها وبينها وبينه المقابر، ... [و] الجبل في شرقيه يعوق ريح الصبا عنه، وأعظم أجزاء الفسطاط في غور، فإنه يعلوه من الشرق المقطم وكذا من الجنوب الشرقي، ومن الشمال المكان المعروف بالموقف والعسكر وجامع ابن طولون ... المواضع المتسفلة أسخن من المواضع المرتفعة وأردأ هواء لاحتقان البخار فيها ... وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة وأبنيتها عالية ... ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما مات في دورهم من السنانير والكلاب ونحوها من الحيوانات التي تخالطهم في شوارعهم وأزقتهم، فتتعفن ويخالط عفونتها الهواء، ومن شأنهم أيضا أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول الحيوانات وجيفها، وتصب فيه خرارات كنفهم، وربما انقطع جري الماء فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء. وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط، وهي أيضا كثيرة البخار؛ لسخونة أرضها حتى إنك تجد بها الهواء في أيام الصيف كدرا ... يعلوها في العشيات بخار كدر أسود لا سيما عند سكون الرياح.»
ولا شك في وجود جانب كبير من الصحة في كلام ابن رضوان. لكننا نرى أنه بالغ في تأثير كتلة جبل المقطم شرقي الفسطاط وجنوبها، ففي الجنوب كتلة تلية منخفضة نسبيا تسمى الرصد قد لا تعلو إلى أكثر من 40-45 مترا، وقد ذكرها المقريزي على أنها: «... شرف - بمعنى: جرف مشرف - يطل من غربيه على راشدة، ومن قبليه على بركة الحبش، فيحسبه من رآه من جهة راشدة جبلا وهو من شرقيه سهل يتوصل إليه من القرافة بغير ارتقاء ولا صعود ... وكان يقال له قديما: الجرف، ثم عرف بالرصد؛ [لأن ابن بدر الجمالي] أقام فوقه كرة لرصد الكواكب.»
28
ولعل وجود المدافن - القرافة - إلى الشرق من الفسطاط سبب في صدور بعض الروائح غير المحببة، والواضح أن ارتفاع مباني المدينة خمسة إلى سبعة طوابق مع وجود طرق وأزقة ضيقة ملتوية المسارات؛ سبب حقيقي في ركود الهواء أو قلة الريح، وهو سبب من صنع الإنسان في هذا المجال الضيق للمدينة، وبخاصة لكثرة المستوقدات التي ترسل دخانا أسود بسبب نوع الوقود المستخدم، وغالبه حطب ونباتات. وبالإضافة إلى ذلك فإن تغير منسوب النيل بين الفيضان والنقصان يؤدي إلى تكوين مياه آسنة في فترة التحاريق تجعلها موطنا لأسراب كبيرة من الناموس والهاموش وغيرهما من الحشرات الطيارة والصراصير والجرذان ... إلخ. ولهذا فإن الفسطاط كانت معرضة للأمراض المتوطنة، وللأوبئة التي يتكرر حدوثها، وتكثر ضحاياها، وتكثر معها هجرة الناس منها كما حدث حين تركها الوالي عبد العزيز بن مروان (689م)، وسكن حلوان هربا من الطاعون. وبذلك تتكون بيئة غير صحية تتضاعف بممارسات السكان في إلقاء المخلفات وماء الصرف في النهر الراكد. ولكن - للعلم - فإن النيل شأنه شأن أنهار كثيرة، ينظف نفسه سنويا بما يأتيه من مياه الفيضان سواء كان عاليا أو عاديا، وبعبارة موجزة: فإن بيئة الفسطاط كانت سيئة باشتراك بعض عوامل طبيعية والكثير من العوامل البشرية. وعلى هذا فإن ملاحظات ابن رضوان في جملتها تجعله من أوائل أنصار البيئة بمفهومنا الحالي، وتجعلنا ننظر إليه من هذا المنظور المتميز. وقد أبدى عبد اللطيف البغدادي ملاحظات مماثلة عن سوء موقع الفسطاط، وذلك أثناء عهد صلاح الدين الأيوبي؛ أي بعد فترة من كتابات ابن رضوان التي ربما كان البغدادي قد تأثر بها، فقد كانت الفسطاط في ذلك العهد بسبيلها إلى الفناء.
وبرغم هذه المضار البيئية، فإن ذلك لم يمنع من مظاهر الثراء والعز والنشاط الاقتصادي الواسع الذي كانت تنعم به مصر الفسطاط. (2-8) العسكر
الأغلب أن كثافة السكن كانت سببا في زحف عمران المدينة إلى المناطق الأعلى بعيدا عن النهر، كما حدث في اختيار الولاة العباسيين الحمراء القصوى - ربما منطقة البغالة الحالية على حافة تلال زينهم - مكانا لبناء عاصمة سياسية لهم باسم «العسكر» نحو سنة 750 ميلادية، ولأن «العسكر» أزيلت بعد ذلك بالإهمال أو التعمد خلال أواخر العصر الفاطمي، فإنه لا يمكننا أن نتعرف على خطة هذه المدينة على وجه اليقين، وإن كان الأغلب أنها بنيت على مخطط شبكي على نحو ما نراه الآن في مخطط حي البغالة إلى الجنوب من مسجد السيدة زينب. (3) العواصم المستقلة: القطائع والقاهرة (3-1) القطائع
حينما استقل أحمد بن طولون بولاية مصر عن العباسيين اتجه إلى قلعة الكبش شمال شرقي العسكر وتحت السفوح في مكان القلعة الحالية؛ ليبني فيها مقرا لمدينته الجديدة، وكان ذلك بعد نحو قرن من تاريخ بناء العسكر.
وعلى أية حال فإن انتقال مدن الحكم لم يؤثر على الفسطاط؛ بل إن عمرانها امتد ليلتحم تدريجيا مع العسكر والقطائع، وربما كان هناك سور يلف بهم وأبراج دفاعية خاصة في موقع القاهرة الفاطمية حيث كان المكان يسمى: القلعة أو الطابية للدفاع عن المدينة الكبيرة من جهة الشمال.
ولأن القطائع كانت أول عاصمة مصرية مستقلة عن الخلافة العباسية، وغالب الضرائب
29
كانت تصرف فيها لتحسين أحوال الدولة الطولونية، فقد اتسمت القطائع بالثراء الفاحش المتمثل في قصر أحمد بن طولون، وبالذات قصر ابنه خمارويه، وضخامة جامعه الكبير الذي وصل إلينا تقريبا على معماره القديم، وحفر قناطر - قناة - ابن طولون تجلب الماء من بركة الحبش إلى القطائع؛ حيث إن المدينة كانت تقع على مبعدة واضحة من النيل ومسار الخليج، ولأن القطائع كانت أيضا على مناسيب أرضية مرتفعة - الكبش ويشكر - فلا بد أن نتصور أن مياه بركة الحبش كانت ترفع بوسائل ذلك العصر - غالبا سواق - إلى تلك القناة.
ولا بد أن الثراء لم يقتصر على القطائع، بل امتد ليشمل بدرجات مختلفة سكان الفسطاط والعسكر، وزادت بذلك فنون العمارة، وفنون هيدروليكية المياه في صنع النوافير وري البساتين وصناعات الأخشاب، وفنون الحفر على الخشب والخزف والمنسوجات، وصناعة السلاح للجيش الطولوني الكبير، والمشغولات المعدنية، وصك العملات المعدنية، وصياغة الذهب والأحجار الكريمة التي هي دائما من متطلبات حياة الترف والثروة والازدهار. ومعظم هذه الصناعات كانت في الفسطاط والعسكر، وفي هذه الفترة أنشئ أول «مارستان» - مستشفى - بمصر الإسلامية على نحو ما كان في بغداد. وبطبيعة الحال تطور الطب والتمريض تطورا حسنا، واختصارا كان الرخاء يعم مصر خلال الحم الطولوني القصير (868-905م).
وقد استمر الرخاء طوال عصر الإخشيد وكافور الذي زادت فيه البساتين، وبخاصة بستان الإخشيد الذي عرف فيما بعد باسم: كافور، الوصي على أبناء الإخشيد والحاكم الفعلي، وهو الذي كان يقع شرقي الخليج جنوب ما نعرفه الآن باسم باب الشعرية الحالية،
30
والذي ضم بعد ذلك إلى مجموعة القصور كبستان للقصر الغربي الصغير للخلفاء الفاطميين. (3-2) القاهرة الفاطمية والمملوكية
ما سبق أن ذكرناه عن الفسطاط والعسكر والقطائع قد اندثر، ولم يبق من شواهد عليه سوى جملة آثار على رأسها الخليج وجامع عمرو وجامع ابن طولون، وحتى هذه الآثار نالت منها يد الزمن بين الدمار وإعادة البناء في عصور لاحقة. أما ما تزهو به القاهرة الآن كعاصمة مصرية إسلامية فإنما يعود أساسا إلى بناة القاهرة من فاطميين وأيوبيين ومماليك.
والكتابات عن القاهرة خلال عصور الفاطميين والأيوبيين والمماليك كثيرة، ولا يسعنا إلا أن نحيل القارئ الراغب في الاستزادة إلى عشرات من هذه الكتابات ألفها عرب وفرس وترك، وعدد آخر من الأوروبيين في شتى فنون الكتابة في تاريخ حياة المدينة: تجارة واقتصاد وثراء بالغ، ومسح الأراضي الزراعية، وتحديد أنواع الضرائب والتعسف في جمعها واقتران الضرائب بوفاء فيضان النيل، وتاريخ ثورات الفلاحين على أشكال من الضرائب وطريقة جمعها، والفتن الطائفية، والتاريخ العسكري المصري في صد الصليبيين والمغول، أو تقلب ولاء العسكر من زنج وترك وأكراد ومغاربة وعرب وشركس بين سلطان وآخر يسعى للسلطنة، ومعارك المماليك فيما بينهم لأسباب اجتماعية وأحقاد شخصية ... إلخ. (3-3) بناة القاهرة
جوهر الصقلي
قائد الجيش الفاطمي الذي فتح مصر قادما من الغرب، وربما كان هذا هو الحدث الوحيد في تاريخ مصر أن يأتيها الغزو من الغرب. فكل الغزوات السابقة كانت عبر سيناء من الشرق، والقليل منها عبر البحر المتوسط وبخاصة الرومان.
31
لم يكن اختيار جوهر لمكان العاصمة الجديدة لمصر الفاطمية من فراغ، وربما وجدنا أسبابا عديدة عند تحليل أفضليات الاختيارات لمكان المدينة الجديدة. وبعض الاختيارات هي على النحو الآتي، عارفين من البداية أن أيا منها لم يكن وحده سببا مباشرا بل مجموعة من الأسباب مجتمعة شكلت دوافع اختيار أنسب المواقع بالنسبة إلى ظروف ذلك العصر في الحركة والاتصال والإستراتيجية والتحكم الإقليمي. (1)
الرغبة في ابتعاد العاصمة الجديدة عن زحمة الفسطاط. (2)
أن يبعد العاصمة بمذهبها الشيعي عن غالبية أتباع المذهب السني في الفسطاط. (3)
الوادي جنوب الفسطاط ضيق تكتنفه تلال من جبال طرة إلى الجيوشي والمقطم؛ مما يصعب الاتصال بالطريق المنفتح على الشمال، لكن لها ميزة الإشراف على النيل وضمان مصدر مياه مباشر. كما أنه إلى جنوب الفسطاط مباشرة كانت توجد بركة الحبش التي تمتلئ بالمياه على مسطح كبير إذا كان الفيضان عاليا، وهو في حد ذاته مانع للحركة البرية من مثل هذا الموقع الجنوبي إلى الشمال فترة من السنة. (4)
المنطقة شمالي القطائع كانت سهلا رمليا بين مسار الخليج المصري وتلال نهايات المقطم والجبل الأحمر؛ مما يسهل بناء المدينة دون عناء. (5)
وقد كانت هذه المنطقة معمورة بعض الشيء؛ ففيها دير العظام القديم - محله جامع الأقمر الفاطمي - وقلعة صغيرة أو حصن يحمي الطريق المؤدي من بلبيس والحوف الشرقي إلى القطائع والفسطاط، فضلا عن وجود عدة بساتين عامرة أشهرها بستان كافور الذي سبق ذكره. ولا شك في أن وجود الخليج هنا كان عاملا حاسما في أفضلية المكان باعتباره مصدرا دائما للمياه. (6)
وأخيرا، لأن سابق انتقال العواصم من الفسطاط شمالا إلى العسكر والقطائع كانت كأنها خطة مرسومة، أصبحت تقليدا متبعا في إنشاء عواصم جديدة في اتجاه الشمال، فاتبعها جوهر.
ولا ندري هل دارت كل هذه الأسباب في ذهن جوهر، أم أن بعض هذه الدوافع تحليل محض من تحليلات العلم الحديث لم تطف بمخيلة جوهر، إلا أن المؤكد أن الأسباب 1 و2 و5 و6 كانت دوافع عند جوهر القائد عن أهمية مواقع المدن.
حين شرع جوهر في بناء المدينة (969م)، بدأ بسور من اللبن أبعاده نحو 1200 متر من الشمال للجنوب، ونحو 1000-1100 متر من الشرق للغرب. وربما ما دعاه لذلك أن العواصم السابقة لم تكن مسورة، وبالتالي يصعب الدفاع عنها، وهذه هي عقلية القائد العسكري في العصور الوسطى. وسبب آخر: هو أن جوهر أراد أن تكون العاصمة قاصرة على الخلفاء الفاطميين وأتباعهم من المعاونين والجنود في عزلة عن السكان؛ أي أن تكون مقرا ملكيا للحكم، وقد يكون دليل ذلك أن القصر الشرقي الذي اختطه جوهر كان يشغل مساحة تساوي عشر مساحة المدينة، وحينما بني القصر الغربي، وأضيف إليه بستان كافور كانت المساحة الكلية للمنطقة الملكية نحو ثلث المدينة، وكان باقي المدينة يشغله الجامع الأزهر وساحة العيد شمال شرقي القصر بينه وبين مبنى الوزارة - الذي بني بعد عصر جوهر - وساحة قصر الشوك إلى الجنوب الشرقي بينه وبين الجامع الأزهر.
واختط جوهر أحياء وحارات لسكن أبناء قبائل كتامة والبرقية وزويلة، وكلها تشير إلى مجموعات من شمال أفريقيا قدمت في جيش جوهر، ثم مع المعز لتصبح سندا للدولة الجديدة.
شكل :
بنية القاهرة الفاطمية (عن كليرجيه شكل
2-14 ).
وأقيم خطان للجنود شمال سور القاهرة عرفا باسم الوزيرية والريحانية - بين السيارج الآن - ويبدو أن الفراغ من إنشاء المدينة كان بعد ثلاث سنوات من البدء فيها.
32
خطة القاهرة ارتكزت على القصر كمركز، عكس الخطط السابقة التي كانت ترتكز على الجامع؛ ولهذا فإن الجامع الأزهر لم يكن يحتل الصدارة، بل كان في مكان أقرب إلى الجنوب الشرقي من المدينة. وقد أنشأ جوهر أبوابا في كل أسوار المدينة، لكن أهمها كان بابي النصر والفتوح في السور الشمالي وبابي القوس وزويلة
33
على السور الجنوبي؛ لأنهما كانا يمثلان طرفي محور الحركة الرئيسي للمدينة: الشمالي إلى بلبيس والشام، والجنوبي إلى القطائع والفسطاط. وكان هذا الطريق المحوري - الشارع الأعظم، وهو الآن شارع المعز - يحف بالواجهة الغربية للقصر الشرقي حيث ساحة الجند. وأصبحت الساحة تعرف باسم: «بين القصرين» بعد أن أنشأ العزيز، الخليفة الفاطمي الثاني، القصر الغربي الصغير، وعلى هذا يمكن أن نتصور أن الخطة الأولى للقاهرة كانت شبكية معدلة بواسطة كتلة القصرين.
ولكي تكتمل المدينة الملكية أنشأ جوهر مقبرة الزعفران إلى الجنوب الغربي من القصر الشرقي، وفيها دفن الخلفاء الفاطميون قبل أن يزيلها الأمير جهاركس الخليلي، ويبني محلها وكالته والخان ومجموعة أبنية تجارية باقية للآن باسم خان الخليلي، ونقل رفات الخلفاء إلى مقابر مجهولة في تلال البرقية - الدراسة الشمالية.
لم يعمر المعز طويلا في القاهرة؛ إذ توفي بعد وصوله بأربع سنوات. وفي فترة حكم خلفائه؛ العزيز (976-995)، والحاكم (995-1019) بلغت القاهرة أوج عزها وثرائها. ومع هذا الثراء بدأ الوهن يدب في الدولة؛ نتيجة المجاعات والصراع بين القيادات المختلفة الأصول من مغاربية وتركية وسودانية وعربية، وبداية الوهن تعود إلى فترة حكم الخليفة الظاهر، واستشرت أيام الخليفة المستنصر (1036-1102).
وفي أواخر الفترة الزاهرة زار القاهرة الرحالة الفارسي ناصري خسرو الذي أقام بها أكثر من عامين (1047-1048) وتشيع للفاطميين، ومن ثم يجب أن تقرأ كتاباته على هذا الضوء. وقبل ناصري خسرو كانت رحلات وكتابات عدد من مشاهير الجغرافيين العرب، مثل: ابن حوقل الذي قيل عنه: إنه كان ميالا للمذهب الفاطمي،
34
والمقدسي الذي زار القاهرة زمن العزيز بالله، وابن سليم الأسواني
35
الذي كان ضمن بعثة سياسية أرسلها جوهر إلى ملك النوبة (975)؛ ومن ثم غلب عليه اسم الأسواني ، وابن زولاق (توفي 997) وله كتاب في الخطط، والمهلبي الذي ألف «المسالك والممالك» ولكن غلب عليه اسم «العزيزية»؛ ربما لأنه أهداه إلى الخليفة العزيز، وكتب القضاعي (توفي 1062) كتابا باسم «المختار في ذكر الخطط والآثار»، والبكري (توفي 1094) «المسالك والممالك» الذي فرغ منه عام 1064م.
الحاكم بأمر الله
كثر الكلام عن تدين الحاكم بأمر الله للدرجة التي خلع عليه بعض متشيعيه فيما بعد كثيرا من الصفات الميتافيزيقية، وغير ذلك من أمور لسنا على قدر من العلم بشأنها. كذلك كثر الكلام عن إصداره أوامر غريبة كعدم أكل الملوخية، وتحديد حركة النساء، وكثرة خروجه ليلا إلى أماكن مجهولة؛ مما دعا البعض إلى اتهامه بخلل عقلي، ولو صح ذلك ما قام بتجديد «دار العلم» تجاه جامع الأقمر، وإباحتها للناس، وتزويدها بالكتب والورق والحبر؛ لتسهيل النسخ لمن يريد. وأغلب الظن أن دعوى الجنون جاءت بتحريض للخلاص منه.
على أي الحالات، فالذي يهمنا هنا أن الحاكم كان من بناة القاهرة؛ ففي عهده توسعت المساكن شمال باب الفتوح إلى خط الحسينية بعد أن أكمل جامع الخطبة الكبير الذي بدأه العزيز، وسمي باسم الحاكم، وقيل في ذلك: إنه أراد محاكاة الجامع الأزهر، أو التفوق عليه؛ لضخامته الممتدة بين بابي النصر والفتوح، وأقام مخازن كثيرة للوقود والحطب شمال السور، فظن الناس أنه إنما يستعد لحرق القاهرة. ولم يقتصر على اتجاهه شمالا، بل اتجه إلى المقس غربا، وأقام مسجدا كبيرا به - أولاد عنان الذي اعتنى به الرئيس السادات، وأعاد بناءه، وأصبحت مئذنته من أطول مآذن القاهرة - وجدد باب البحر في هذه المنطقة، واعتنى بدار صناعة السفن التي بدأها أبوه فصارت منافسة لسابقتها في الروضة. وكذلك فتح بابا في سور القاهرة الجنوبي؛ مما أدى بدوره إلى إنشاء خط اليانسية والهلالية، وكان كل ذلك إيذانا بالعمران شمال وشمال غرب القاهرة وجنوبها، وهي الاتجاهات التي تواصل عليها امتداد القاهرة في العصور اللاحقة منذ الأيوبي إلى العثماني. وفي الفسطاط بنى جامع راشدة وفي الروضة جامعا آخر.
وإلى جانب ذلك ربما كان من أهم منجزات الحاكم: إقامة سد وأكوام من الأتربة والرمال ومخلفات البناء شرق سور القاهرة عند خط البرقية؛ وذلك لحماية المدينة من السيول التي كانت تنحدر إليها من تلال الدراسة والجبل الأحمر في بعض السنوات فتغرق أجزاء من المدينة، وهي التلال التي كانت فوقها طواحين الهواء كما جاء في خريطة الحملة الفرنسية، ومحلها الآن بعض مباني الشرطة ومدينة البعوث الأزهرية ودار الإفتاء ومبني مشيخة الأزهر، بحذاء الجانب الغربي من طريق صلاح سالم. ولا شك في أن هذا السد الذي أقامه الحاكم قد أزاح عن القاهرة غوائل السيول، ولولاه لكان كثير من مباني القاهرة الأثرية قد زالت.
بدر الجمالي
عندما اضطربت الأمور وزادت الفتن بين طوائف الجند في عهد الخليفة المستنصر - وكانت مقدماتها قد بدأت في عهد الخليفة الظاهر في صورة الترف واللهو والتحاسد والأطماع - اضطر إلى الاستنجاد بأحد قواده لتهدئة الموقف وإعادة الأمن، وكان ذلك هو بدر الجمالي نائب الخليفة في عكا. نجح بدر الجمالي في مهمته بالقضاء على سلطة الترك والسودان والعربان.
وبدأ في فترة وزارة بدر الجمالي (1074) ووزارة خلفه وابنه الأفضل شاهنشاه (1094) عصر من تنمية القاهرة، ونظرا لأن سور جوهر قد فقد معناه بعد نمو المدينة خارجه، فقد بنى بدر الجمالي سورا حجريا للقاهرة يضم الأحياء المستجدة، وسميت الأجزاء الجديدة: «بين السورين»
36
وبطبيعة الحال أعاد بناء أبواب القاهرة على الشكل الذي نعرفه الآن. كما بنى مسجد الجيوشي بالمقطم، ونتيجة لجهوده أطلق اسمه على حي الجمالية الحالي، وكانت الفسطاط قد تعرضت لمجاعة وأوبئة سميت بالشدة العظمى، واستمرت نحو سبع سنوات ، فهجرها معظم السكان في اتجاه القاهرة. حاول بدر الجمالي إعادة توطين الناس فشجعهم على إعادة البناء مستخدمين في ذلك أحجار البناء في مدينتي العسكر والقطائع سواء كان ذلك بالبناء في الفسطاط أو القاهرة. وقد ترك الناس أماكن الفسطاط الداخلية، وبنوا قريبا من النيل في شرائح صغيرة مستفيدين من الأرض التي يهجرها النهر، بينما استفادوا من الأماكن الشاغرة داخل مدينة القاهرة وقربها في إعادة العمران بعد أن كادت القاهرة أن تفقد صفتها الملكية.
وبرغم من فوائد التعمير في القاهرة والفسطاط إلا أن ذلك كان نهاية مؤلمة للعسكر والقطائع، وظلت بقاياهما في صورة أكوام وتلال من بقايا المساكن، وبذلك صارت هناك مساحة كبيرة من الأرض الفضاء بين القاهرة والفسطاط، كأنها شقة حرام بين المدينتين، ولم تنصلح أحوال أرض المدينتين إلا عندما نما فيهما العمران في العصر المملوكي. وإلى الآن لا تزال شوارع هذه المنطقة ذات انحدارات مختلفة كشوارع مراسينا وقدري والصليبة، وكلها تتجه من المنشية وقلعة الكبش إلى السيدة زينب. (3-4) نهاية الفسطاط، وانهيار الدولة الفاطمية
فترة التهدئة في أواخر حكم المستنصر ووزارة بدر الجمالي والأفضل لم تكن سوى فترة إنعاش مؤقت لدولة مريضة من الداخل. ففي خلال السبعين سنة الأخيرة (1102-1171) توالى على الحكم خلفاء ضعاف، بعضهم صغير العمر والبعض الآخر يقودهم الحسد والطمع والترف، وكلهم كانت أمورهم بأيدي وزراء متناحرين تحدوهم المصالح الشخصية قبل مصالح الدولة. ومن أكبر الأمثلة تحالف الوزير شاور مع الصليبيين ضد غريمه ضرغام، والمراوغات المستمرة من جانبه في تحالف، ونقض التحالف مرات مع الصليبيين ومع أسد الدين شيركوه وابن أخيه صلاح الدين أدت في النهاية إلى غزو الصليبيين لشرق الدلتا وحصار القاهرة، وإحراق شاور للفسطاط حتى لا يستولي عليها الصليبيون؛ ضحى بها شاور لأنها كانت مدينة غير مسورة أو محصنة يصعب الدفاع عنها، مقابل أسوار القاهرة الحصينة، وفي النهاية تمكن صلاح الدين من تولي الحكم وإنهاء الخلافة الفاطمية في 1172م.
والذي يهمنا هنا هو مصير الفسطاط، فقد تجاذبتها في أواخر العصر الفاطمي من الأضرار ما جعلها تفقد مكانتها كمدينة أولى؛ سكانا ونشاطا اقتصاديا ورعاية من قبل الدولة، لأن الناس أخذوا يفضلون إقامة أعمالهم التجارية والحرفية داخل القاهرة التي كانت تفقد تدريجيا صفتها كعاصمة ملكية، وتتحول إلى مدينة مصر الأولى. ومع تكرار المجاعات والأوبئة وفقدان الأمان نتيجة الصراعات الداخلية كان المزيد من الناجين يتجه إلى القاهرة؛ فيزيد ذلك من فقر الفسطاط. وحين أراد بدر الجمالي إصلاح أحوال الفسطاط بدعوة الناس إلى إعادة التعمير فيها لم يجد استجابة كبيرة. ومع حريق الفسطاط الذي استمر أكثر من خمسين يوما انتهت في الواقع هذه المدينة التي كانت في يوم ما ذات قدر حاكم في الحياة السياسية والاقتصادية والثقافية لمصر، فكأن احتضار المدينة قد استوعب نحو قرن من الزمان بين تفريغ للسكان، ثم عودة عمران، ثم أخيرا اندثار شبه كامل.
ولقد عاد الاهتمام بالفسطاط مرة أخرى على مهل شديدي، وتحت اسم: مصر عتيقة أو ما نعرفها الآن بمصر القديمة. ولكن ذلك التعمير المتمهل اتخذ شريطا طوليا بحذاء النهر وسيالة الروضة كمناطق خلفية للتعمير السريع الذي حدث في الدولة الأيوبية والمملوكة لجزيرة الروضة، وكامتداد بطيء للعمران في منطقة السيدة زينب والناصرية، وبساتين الخشاب وقاسم وغيرهما، كزحف عمراني بعد تراجع مسار النيل إلى الغرب، كما سبق ذكره في الفصل
الأول . (3-5) القاهرة منذ صلاح الدين إلى محمد علي
فقدت القاهرة ازدواجيتها، وأصبحت مدينة واحدة بفضل بناء القلعة وبناء سور جديد للقاهرة شمل كل الأحياء من المقس إلى مصر عتيقة، ومن النيل آنذاك إلى القلعة وسور القاهرة الفاطمية الشرقي، وأوكلت هذه المهمة لقائد صارم هو قره قوش، وأصبح اسمه قرينا بالأوامر التعسفية.
37
وفي داخل هذا الإطار المحصن، ومن خلال الأمان أصبح نمو عمران القاهرة مرتبطا بالمبادآت الفردية للأغنياء والفقراء بعد أن كانت مدنا تنشأ بالأمر، سواء في ذلك فسطاط عمرو بن العاص أو قطائع أحمد بن طولون أو قاهرة المعز لدين الله. وبعبارة أخرى: تكاملت شروط نمو المدن حسب حاجة الناس وازدياد أعدادهم وقدراتهم المادية وتجارتهم ووكالاتهم وورشهم وحرفهم الأخرى.
ولسنا نشك في أن بعض الحكام قد وجهوا العمران جهة ما؛ فالناس عادة ما يبنون وراء حكامهم في الأحياء الجديدة. فبناء قلعة صلاح الدين قد ساهم في نمو العمران من جنوب القاهرة في اتجاه القلعة، واهتمام الملك الصالح بالروضة جذب السكان إلى هذه الجزيرة وإلى ضفة النهر المقابلة في فم الخليج ودير النحاس، وإنشاء جامع بيبرس في الظاهر ساهم في امتداد العمران من الحسينية إلى باب البحر فيما عرف باسم أرض الطبالة، وتعمير الناصر محمد بن قلاوون لحي الناصرية جاء نتيجة لاهتمامه بإقامة ملاعب الفروسية غرب الناصرية بحذاء النيل فيما نعرفه الآن بالمبتديان والمنيرة، واهتمام السلطان قلاوون بإنشاء جامع ومدرسة وبيمارستان قلاوون على الشارع الأعظم جعله سنة أو قاعدة؛ أن يبني السلاطين مدارس وجوامع متراصة في الشارع الأعظم من باب الفتوح إلى ما بعد باب زويلة، مثل جوامع: الناصر محمد وبرقوق والغوري والمؤيد شيخ.
وقد بنيت كثير من البيوت الواسعة شرقية الطراز داخل القاهرة الفاطمية في أزمان مختلفة، ولكن بعض أمراء المماليك وكبار التجار بنوا لأنفسهم قصورا حول برك القاهرة، وبخاصة بركة الأزبكية وبركة الفيل نتيجة ازدحام المباني داخل المدينة الأصلية. وحكر بعضهم أراضي تركها النيل فقسمت للبيع كأرض بناء، مثل: باب اللوق والمهراني. وفقدت القاهرة ميناء المقس بتراجع النيل، وحل محله ميناء بولاق بعد أن التحمت جزيرة بولاق بضفة القاهرة، وأصبح حي بولاق مكانا متميزا للنشاط التجاري والحرفي والنقل النهري، لكنه لم يلتحم ببنية عمران القاهرة إلا بعد فترة طويلة.
وقد حدثت في الفترة الأيوبية المملوكية أحداث سياسية ودينية حاسمة في تاريخ وسياسة مصر والشرق الأوسط، هي: (1)
إنهاء ممالك الصليبيين في فلسطين والشام بقيادة صلاح الدين والكامل والصالح وبيبرس. (2)
إيقاف المد المغولي وتحجيمه ثلاث مرات كبيرة بقيادة السلاطين: قطز وبيبرس وقلاوون؛ مما ترتب عليه ركود المغول في الشرق العربي وتحولهم التدريجي للإسلام. ومرة رابعة عند غزو تيمورلنك للشام وتصدى له السلطان برقوق وابنه فرج دون معركة حاسمة لكنها أوقفته دون مصر. (3)
تحويل مصر والشام من المذهب الفاطمي الشيعي إلى المذهب السني دون معارضة حقيقية من جانب المصريين. وفي هذا يقول البعض: إن المذهب الفاطمي لم يتمكن من المصريين إلا رسميا، وظل أكثرهم على مذهب مالك والشافعي دون أن يعارضوا الفاطمية صراحة؛ وترتب على ذلك انحسار الفاطمية من شمال أفريقيا بعد سقوط مركز خلافتها في القاهرة الذي استمر أكثر قليلا من قرنين من الزمان، ولكن الكثير من الاحتفاليات الفاطمية ما زال يمارس حتى الآن في المناسبات الدينية. (4)
تحول القاهرة إلى مركز الخلافة الإسلامية بعد سقوط بغداد بأيدي المغول. وظلت القاهرة قاعدة الخلافة الإسلامية قرابة ثلاثة قرون (1258-1517) منذ السلطان بيبرس إلى أن انتزعها سليم الأول وحولها إلى إسطنبول.
هذه الأحداث الرئيسية مهدت للقاهرة زعامة سياسية وعسكرية وثقافية ودينية في العالم الإسلامي؛ مما جعلها مركزا تجاريا واقتصاديا كبيرا على مستوى العالم ذي الأهمية من الهند إلى أوروبا، فأصبحت قبلة الباحثين والعلماء والرحالة زهاء أربعة قرون.
وفي الفترة الأيوبية المملوكية حظيت القاهرة بكتابات عدد من الجغرافيين البارزين من مصريين ومشارقة ومغاربة. وكان عبد اللطيف البغدادي (1162-1219) عاصر القاهرة فترة صلاح الدين وخلفائه: العزيز والمنصور والعادل، وكانت القاهرة تمر في فترة تحول عمراني بعد استتباب الأمن، وعايش البغدادي مجاعة كبرى ووباء فتاك (1200-1202)، ودون ملاحظاته في كتاب مهم باسم: «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر». وبرغم كل تلك الأحداث نجده يقول: «... وأما أبنيتهم ففيها هندسة بارعة وترتيب في الغاية حتى إنهم قلما يتركون مكانا غفلا خاليا من المصلحة. ودورهم أفيح، وغالب سكناهم في الأعالي، ويجعلون منافذ منازلهم تلقاء الشمال والرياح الطيبة، وقلما تجد منزلا إلا وتجد فيه باذاهنج [شخشيخة على السطوح لها عدة منافذ تفتح وتغلق حسب اتجاه الريح؛ لتمرير الهواء داخل البيت] وأسواقهم وشوارعهم واسعة، وأبنيتهم شاهقة ... ويبنون الحجر النحيت والطوب الأحمر وهو الآجر، وشكل طوبهم على نصف طوب العراق، ويحكمون قنوات المراحيض حتى إنه تخرب الدار والقناة قائمة، ويحفرون الكنف إلى المعين فيغبر عليه برهة من الدهر طويلة ولا يفتقر إلى كسح.»
38
بوصفه عالما مدققا نجد البغدادي ينتقد بشدة عملية نهب الآثار المصرية، واستلاب أحجارها وأعمدتها؛ لأغراض البناء ، وهي ملاحظة تبين عمق الفهم للقيمة الحضارية لآثار الماضي وشواهده. وأخيرا يعجب البغدادي بصناعة تفريخ الدجاج باسم الترقيد في مصر، ويسمي الحضانة «المعمل»، ويذكر بناءها وطريقة التدفئة وما إلى ذلك من سر الصنعة بتفصيل كثير إلى اليوم الثاني والعشرين حين يفقس البيض.
وفي أواخر العصر الأيوبي وأوائل المملوكي نجد كتابات ابن مماتي (توفي 1209) الذي ساعدت وظيفته كرئيس ديوان الجيش والمالية على كتابة «قوانين الدواوين» الذي يبحث فيه نظام الأراضي المصرية ومساحتها وعوائدها الضريبية. ومثل هذا المنحى في الكتابة أمر متكرر عند الكتاب المصريين الذين تسيطر عليهم شئون البلاد أكثر من الرحلة واستجلاء خصائص الأقاليم الأخرى وعادات ناسها، مثل: القلقشندي (توفي 1418)، وأبو الفدا وهو من نسب الأيوبيين وأمير لمدينة حماة واسمه: إسماعيل بن علي الأيوبي، وعرف أيضا باسم الملك المؤيد (1273-1357) وعاصر السلطان الناصر محمد، وشارك في عدة حملات عسكرية في آسيا الصغرى، وساهم في فتح طرابلس. وكذلك زار القاهرة في زمن السلطان الناصر أمير الرحلة الإسلامية ابن بطوطة، وابن دقماق الذي عاصر السلطان برقوق (1382-1399)، وشيخ الجغرافيين المصريين: هو تقي الدين أحمد بن علي المقريزي (ولد بالقاهرة 1364 وتوفي بها 1442) صاحب «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار»، وهو موسوعة قاهرية على نمط كتابات الخطط السابقة، لكنها أشمل وأطول تاريخا وأدق وصفا للحياة في العصر المملوكي، وتعتبر خطط علي مبارك استكمالا جيدا لوصف القاهرة بيد مصرية أخرى على الرغم من أربعة قرون فارق زمني بينهما. ولا ننسى أن ابن خلدون (توفي 1401) كان في القاهرة زمن المقريزي.
39
وآخر الجغرافيين الإسلاميين العظام الذين ارتحلوا في مصر والقاهرة، هو الحسن ابن الوزان المعروف باسم ليون الإفريقي بعد ست سنوات من سقوط مصر في أيدي الدولة العثمانية. كتب الوزان الكثير من المعلومات نجتزئ منها الإشارات الآتية:
40
سكان القاهرة أناس لطفاء ومرحون، وهم لا يبخلون بالكلمات الطيبة، لكنهم لا يصنعون الكثير من الأشياء ... ويزاولون التجارة والصناعة غير أنهم لا يخرجون من بلادهم. ص591.
وتقع وسط النيل وتجاه المدينة القديمة جزيرة تدعى: المقياس ... وهذه الجزيرة غاصة بالسكان وتحوي قرابة 1500 أسرة . ص588.
وفي جنوب الضاحية [مصر القديمة] على النيل، يقوم المكس بالنسبة للبضائع القادمة من الصعيد. ص587.
وهنا [منطقة القرافة] قبر السيدة نفيسة ... بلغت شهرته درجة جعلت كل مسلم يأتي القاهرة ... عن طريق البر أو البحر، يقصد هذا الضريح للتشرف به، ويقدم له النذور والهدايا ... حتى إن الصدقات تصعد سنويا إلى مائة ألف أشرفي،
41
وتوزع بين الفقراء من نسل الرسول ... وعلى إثر دخول الترك ... قام الإنكشارية بنهب المزار، ووجدوا فيه خمسمائة ألف أشرفي عدا المصابيح والسلاسل الفضية والسجاد، وقد أعاد [السلطان] سليم القسم الأعظم من هذا الكنز للضريح. ص587.
ويتكلم عن أسعار الأقوات بالارتباط بفيضان النيل فيما إذا كان عاليا (15 ذراعا) أو منخفضا (أقل من 12 ذراعا) في خلال فترة ارتفاع المياه تكون المحاصيل شحيحة، ويحق للبائع تحديد سعر الخبز في حدود مرعية وإلا وقع تحت طائلة العقاب: «وبعد مضي ثمانين يوما من بداية الفيضان [أي عندما يثبت حجم الفيضان] يحدد المحتسب سعر الأقوات ولا سيما سعر الخبز. ويقع هذا التسعير مرة واحدة في العام.» (ص590). وإذا بلغ مقياس النيل 18 ذراعا فإن الأماكن المسكونة ستتعرض للغرق، ويقوم أشخاص بتحذير الناس: «أيها الناس اتقوا الله! من جبل إلى جبل.» أي الفيضان يعم كل الوادي من الهضبة الشرقية إلى الهضبة الغربية. «... [القاهرة] مجهزة بما يلزم من الصناع والباعة الذين يقيمون على وجه الخصوص في شارع يذهب من باب النصر حتى باب زويلة، وهنا يقيم أكبر جزء من نبلاء القاهرة، ويوجد في هذا الشارع بضع مدارس مدهشة بأبعادها وبجمال بنائها ورونقها، كما توجد بضع جوامع فسيحة وجميلة.» ص579.
ويذكر الوزان، وغيره من قبل، أن سكان القاهرة من هواة الأكل المطبوخ من المطاعم، مثل نظام المطاعم الحالية ونظام «تيك أواي». ففي شارع بين القصرين 60 دكانا للحم المطبوخ، ومحال عديدة لماء الزهور والحلوى بالسكر أو العسل معروضة بشكل أنيق، ومحال للفواكه المستوردة والزلابية والبيض المقلي والجبن المقلي، وعند جامع الغوري فنادق - وكالات - الأقمشة، وكل فندق يضم عددا كبيرا من المحلات للأقمشة المستوردة؛ بعضها لتلك من بعلبك والموصل ، وبعضها لأقمشة إيطاليا كالساتان الموشى والمخامل والتفتا والبروكار لم ير هو مثلها في إيطاليا ذاتها، ثم وكالات الأصواف الأوروبية، مثل: جوخ البندقية ومايورقه ووسط إيطاليا.
وفندق خان الخليلي، حيث يقيم التجار العجم [يقصد الأجانب] يشبه قصر أمير كبير مرتفع متين البنيان، وفي الطابق الأرضي توجد الغرف التي يستقبل فيها التجار زبائنهم لممارسة تجارة السلع ذات القيمة العالية، مثل: التوابل والأحجار الكريمة والأقمشة الهندية. وعلى الناحية الأخرى من الشارع الأعظم أحياء باعة العطور، مثل: المسك والجاوي والورق الصقيل والحجارة الكريمة. وهناك حي تباع فيه منقولات مستعملة لكنها قطع رائعة مثل أقمشة وملابس من أشغال الإبرة واللآلي والبسط والسجاد ... إلخ. وكلها تباع بأسعار تبلغ آلاف الدينارات. والصاغة معظمهم يهود أرباحهم عالية، وأكثر أنواع اللحوم رواجا الجاموس مع الخضر، والجيزة هي سوق ماشية برقة.
وحول السكان كتب الوزان أن بالقاهرة 30500 أسرة نحو 65٪ منهم يسكنون المنطقة الشرقية من القلعة إلى الدرب الأحمر والجمالية. فإذا كان متوسط عدد الأسرة 6 أفراد وأكثر فمعنى ذلك أن سكان القاهرة كانوا ما بين 180 إلى 200 ألف أو أكثر، علما أن ذلك كان بعد كارثة سقوط المماليك، وترحيل عدد كبير من الصناع والحرفيين المهرة إلى إسطنبول.
وقد أطلنا قليلا في وصف حال القاهرة نقلا عن الوزان، فما بالنا بالقاهرة عندما كانت العاصمة المزدهرة لدولة المماليك حينما كانت أحسن حالا وثراء قبل ذلك التاريخ؟
جدول : عدد الأسر في القاهرة حسب الحسن بن الوزان. *
القاهرة المسورة
8000 أسرة
باب زويلة حتى جامع السلطان حسن
12000 أسرة
حي طولون «عدد كبير من الصناع والتجار من البربر»؟
باب اللوق إلى الأزبكية «مواخير وملاعب ... إلخ»
3000 أسرة
بولاق «صناع مطاحن تجار: حبوب وزيوت وسكر + ألف سفينة في الميناء»
4000 أسرة
خط القرافة
2000 أسرة
مصر عتيقة «جنوبها ميناء أثر النبي ويسكنها صناع مختلفين»؟
جزيرة المقياس
1500 أسرة
المجموع
30500 أسرة
ما تبقى من أسر في أحياء لم يذكر عددها.
شكل 3-5:
التوزيع المكاني لوظائف القاهرة الرئيسية في القرن 18.
ومما لا شك فيه أن الفترة العثمانية الطويلة من 1517 إلى 1797 قد جمدت النمو في القاهرة، وأبقت القاهرة على ما كانت عليه من امتداد بعد أن أصبحت ولاية عثمانية، وصحيح أن السلطان سليم انتقص من القاهرة مركز الخلافة ومهرة الصناع، إلا أنه لا يجب أن نبالغ في أثر ذلك على أنه مسبب الركود المصري؛ فالتبعية السياسية لا تعني بالضرورة انتقال النشاط الاقتصادي دفعة واحدة بل تدريجيا، وحتى هذا لم يحدث سوى في بداية الحكم العثماني لمصر، وظلت مصر مركزا تجاريا مهما بحكم علاقتها المكانية التي بنيت على مئات السنين. هذا فضلا عن أن الدولة العثمانية ظلت لفترة طويلة دولة حرب؛ فلم تنشئ علاقات ترث مصر بالنسبة لأوروبا، ومن ثم كان احتياجها المستمر لضريبة مصر السنوية إليها، الأمر الذي لا يفيد معه إرباك الاقتصاد المصري؛ لهذا نجد أن الدولة العثمانية كانت تحكم مصر بطريق غير مباشر بواسطة بكوات المماليك المصرية.
لكن أكبر عامل في الركود المصري كان استيلاء البرتغاليين والأوروبيين على تجارة الهند بعد أن كانت شبه حكر على التجارة المصرية، وحيث إن الصراع البحري المصري البرتغالي كان قد بدأ في حكم السلطان الغوري بمعارك غير حاسمة، فإن ذلك كان إيذانا ببداية عهد جديد تسيطر فيه أوروبا على المحيط الهندي. فلا الأسطول المصري أو المصري العثماني فيما بعد، كان بقادر وحده على الوقوف أمام المد التجاري العسكري الأوروبي، ومع ذلك لا يجب تصور أن تجارة الشرق قد توقفت في مصر تماما، بل ظل لها جانب من هذه التجارة، وبخاصة البن والبخور والتوابل، تحتكرها لأسواق الشرق العثماني وأوروبا المطلة على البحر المتوسط كاستمرار للتجارة مع البندقية وجنوا ومرسيليا فترة من الزمن. هذا فضلا عن تصدير المنسوجات المصرية المتميزة، مثل: الدميطي في المحلة ودمياط ورشيد ومنفلوط وأسيوط، والقمح والأرز.
ومن هنا كان الركود في مصر والقاهرة على درجات: (1)
تناقص تجارة المحيط الهندي. (2)
الاحتلال العثماني وفقدان المبادآت المصرية. (3)
تنازع المماليك على السلطة الداخلية فيما بينهم، فقد كان النظام المملوكي يتجه إلى نهايته.
والخلاصة أنه في مجال بناء القاهرة كانت جهود الأيوبيين منصرفة إلى إنشاء القلاع والحصون والأسوار؛ فقد كانت دولة حرب ضد الصليبيين، ومع ذلك فقد انشغل الأيوبيون أيضا بتثبيت المذهب السني، ومن ثم كان الاتجاه إلى إنشاء الجوامع والمدارس لتدريس مذاهب السنة الأربعة، وبرغم أن المماليك كانوا دولة حرب في جانب كبير من عصرهم ضد المغول وبقايا الصليبيين، فإننا نجدهم يتنافسون في شتى أنواع العمارة الدينية في صورة المساجد الرائعة، من جامع الظاهر بيبرس إلى قمة الفن المعماري وضخامته؛ متمثلا في جامع ومدرسة السلطان حسن بن الناصر قلاوون، وإلى جامع قايتباي الذي يقول عنه الثقاة: إنه أقصى ما وصل إليه المعمار الإسلامي التجريدي من فنون.
42
شكل 3-6:
القاهرة كما ظهرت في الخريطة المشهورة للحملة الفرنسية (1800).
وقد أرسى المماليك دعائم القوة الاقتصادية المصرية التي استمرت حتى بعد التبعية العثمانية، ودلائل ذلك تتمثل في الأسواق والخانات والوكالات التجارية التي كانت تغص بها القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني. وقد بلغت الصناعات الدقيقة مبلغا كبيرا في العصر المملوكي بالذات من صناعات الخزف والزجاج والمشغولات النحاسية والجلود ومنسوجات الحرير الفائقة الجودة. هذا فضلا عن الصناعات التي تستهلك منتجاتها في المدينة الكبيرة من صناعات الأغذية والمعادن والمنسوجات القطنية والكتانية ... إلخ.
وتميزت الأسواق بتحديد سلعي وتوزيع مكاني؛ فسوق باب الفتوح مختص باللحوم وأنواع الخضراوات، والمرجوشي - أمير الجيوش - يختص بالترزية ورفا الملابس، وبرجوان بالأطعمة الجاهزة والأفران، وسوق الشمع عند جامع الأقمر، ويليه سوق الدجاج، وسوق السلاح قرب القلعة، ومجموعة أسواق تدل عليها أسماؤها، مثل: السروجية والمهاميز والجوخيين والحلاويين والشوائيين والمغربلين ... إلخ.
وقد ظلت شوارع القاهرة على خطة شوارع المدن القديمة؛ أي دروب وحارات ذات منعطفات والتواءات وأزقة وعطفات مسدودة مغلقة عند رأسها بالبوابات للحماية والأمان (راجع خريطة
1-12
في الفصل
الأول )، وكانت أولى محاولات إيجاد طرق مستقيمة في عهد محمد علي حينما أنشأ السكة الجديدة والموسكي كطريق مباشر بين العتبة الزرقاء - الخضراء فيما بعد - وبين الجامع الأزهر والمشهد الحسيني، ثم طريق مباشر من الأزبكية إلى بولاق، وثالث إلى قصر محمد علي في شبرا. ويخترق طريقا بولاق وشبرا مناطق فضاء وحقول زراعية؛ مما كان يسهل عملية شق الطرق دون عناء كبير . وكانت هناك محاولة أخرى لفتح طريق مباشر بين العتبة والقلعة، ولكنه اكتمل في عصر إسماعيل؛ والسبب في هذا التأخير راجع إلى عدة أسباب، على رأسها: قيمة التعويضات التي تدفع لأصحاب البيوت التي تزال، فضلا عن أن وسائل الحركة ظلت على ما هي عليه من الإنسان والدواب مما لم يقتض إنشاء الشوارع المباشرة الواسعة. والخلاصة أن القاهرة نمت تلقائيا في أحيان كثيرة، وظلت المنطقة الشرقية من الحسينية إلى القلعة أكثرها ازدحاما، ثم تقل كثافة المباني غرب مسار الخليج من المقس إلى السيدة زينب . (3-6) مجتمع القاهرة
انقسم مجتمع القاهرة إلى عدة مجموعات بعضها من أصول إثنية مختلفة، وغالبها من أصول مصرية قاهرية وريفية. ولم يكن الترتيب الطبقي بين سكان القاهرة جامدا أو منغلقا على نفسه، بل هو مفتوح للاختلاط والتغير على نحو ما يسمى الآن: «الحراك الاجتماعي»؛ أي التحرك من أدنى إلى أعلى أو العكس، أو التحرك الأفقي من فئة لأخرى.
والمجموعات والفئات القاهرية كانت هي: المماليك - العلماء - التجار - الحرفيين - العاملين.
المماليك والجيش
على الرغم من أن معظم المماليك ينتمون إلى شعوب تركية أو شركسية وما إلى ذلك من المجموعات خارج مصر، فإن ذلك لم يمنع وجود مماليك من السمر؛ نتيجة التزاوج بالرقيق الزنجي، أو مماليك من أصل مصري ترقوا في الفنون العسكرية. كما أن تكوين المماليك كقوة عسكرية للسلاطين والأمراء لم يكن قاصرا عليهم، وإنما كان بمقدرة الأغنياء من التجار أن يكونوا لأنفسهم مماليك كقوة تحميهم من المخاطر. ويثار جدل حول أصول المماليك بوصفهم أرقاء وبعضهم من أصل مسيحي أرمني وسلافي وبلقاني. لكنهم بفضل تربيتهم الدينية والعسكرية كثيرا ما كانوا يعتقون، ويظهرون مهارات مدهشة في تكوين الدولة وتنظيمها، وحماية العالم الإسلامي من غزوات الصليبيين والمغول، وإرساء قواعد الازدهار التجاري ببناء الأساطيل العسكرية والتجارية التي تجوب البحر المتوسط والأحمر والمحيط الهندي.
ومن حيث المفهوم العام لمعنى مملوك، سواء في هذا مملوك لسلاطين وأمراء أو تجار أغنياء، تجد منهم من يصبحون من العلماء، مثل: ياقوت الحموي والحسن بن الوزان، وبعضهم قواد عظام، مثل : جوهر وبيبرس وقلاوون والغوري، أو منظمين متميزين، مثل: بدر الجمالي وقره قوش. ولكن تنشئتهم العسكرية جعلت غالبيتهم أداة حرب مقومها الفلسفي هو القوة لتحقيق الهدف؛ لهذا كانوا كثيري التنافس والحرب فيما بينهم من أجل الوصول إلى منصب أو وظيفة ذات قدر مالي اجتماعي، أو الوصول إلى السلطنة ذاتها. وفي فترة الحكم العثماني كان التناحر بينهم كبيرا على منصب شيخ البلد، أو بما يعني: كبير المماليك الذي كانت سطوته أعلى من سطوة «الباشا» ممثل السلطان العثماني في مصر، وسلطاته تكاد ألا تتجاوز أسوار القلعة إلا قليلا. وقد كانت تلك أواخر زمن قوة المماليك السياسية والعسكرية التي قضى عليها محمد علي بالكثير من الدهاء والسياسة والقسوة. ونحن نرى الآن في «مذبحة القلعة» شيئا منافيا للأعراف، لكن هكذا درج المماليك على مثل هذا الشيء من القسوة في تصفية بعضهم البعض، ومن ثم فقد كانت المذبحة جزءا من خلقيات المماليك لفترة طويلة، فقد عاشوا بالسيف وماتوا به أيضا، وحكمنا الحالي على المذبحة ينطلق من منظور فلسفي غير منظورهم وفلسفتهم.
وقد كان المماليك أساسا قوة الفرسان، التي تمثل في الحروب البرية الحالية المدرعات التي تشق الطريق إلى بقية أفراد الجيش؛ ولهذا فقد كانت الجيوش في العصور الوسطى من الفاطميين إلى المماليك والعثمانيين تتكون من المشاة والطوبجية (المدفعية)، وغالبا ما كان الجيش يتكون من عدة مجموعات إثنية من البربر والسودانيين وغيرهم من الأكراد والترك والبدو ... إلخ. وقد حدثت منافسات شديدة في وقت السلم بين هذه المجموعات أدت إلى اقتتالهم فيما بينهم، وخاصة في العصر الفاطمي وأوائل فترة حكم صلاح الدين، وآخر هذه التشكيلة من الجنود كانت في أوائل حكم محمد علي بين الأرناءوط والترك والمماليك، انتهت بإقصائهم والقضاء عليهم جميعا، وتكوين جيش ثابت قوامه الأساسي من المصريين.
وهذا الجيش المكون من أبناء مصر هو الذي صنع أمجاد مصر في الصحراء العربية والمورة والشام والأناضول، ولخطورته كانت واحدة من أهم نصوص اتفاق محمد علي والدولة العثمانية - بتأييد بريطانيا للعثمانيين بصفة خاصة - على تخفيض عدد الجيش المصري إلى حد كبير.
العلماء
ظل للعلماء شأن كبير في حياة مصر منذ قدوم الإمام الشافعي وعدد من آل البيت النبوي الشريف، وحيث إن العلم في ذلك الأوان كان مرتبطا بالدعوة الإسلامية، وتعليم أصول الدين والمعاملات والقضاء، فقد كان العلماء مرتبطين دائما بالجوامع الكبرى: عمرو والأزهر.
وقد لعب العلماء أدوارا مهمة في حياة القاهرة السياسية، سواء في ذلك علماء الشيعة في العصر الفاطمي، أو علماء مذاهب السنة الأربعة بعد ذلك. فمما لا شك فيه أن مراسيم إعلان السلاطين كانت تصدر عن مجمع علماء الأزهر ، وكانت لهم يد طولى في تأييد أو إنزال الولاة العثمانيين، وآخرها كان موقفهم من هؤلاء الباشوات فترة الصراع بين محمد علي وبين الوالي، وانتهت بنزول السلطان العثماني على إرادة العلماء بتعيين محمد علي واليا على مصر.
ولكن أهم ما نعرفه كان موقف العلماء من الحملة الفرنسية التي لم تجد بدا من الاعتراف بهم كقوة سياسية دينية؛ فأدخلت بعضهم في المجلس الأعلى للحكم في مصر.
ومن الأسماء التي ترددت كثيرا في أواخر ق18 وأوائل عصر محمد علي في هذا المضمار الشيوخ: المهدي، والشرقاوي، والعطار، والسادات، و«نقيب الأشراف» السيد عمر مكرم الذي وقف مناهضا لسلطات محمد علي فنفاه إلى دمياط.
وليس العلماء هم رجال الدين فقط، بل كان هناك من العلماء آخرون متفقهين في علوم الدين والدنيا، مثل: ابن خلدون الذي عين قاضي القضاة فترة وجوده في مصر إلى أن توفي بها، والجبرتي صاحب الرأي السياسي ابن الشيخ حسن أحد علماء الأزهر.
ولعل قوة العلماء لا ترجع فقط إلى قدرهم العلمي في الأزهر الشريف، بل أيضا إلى حصولهم على ما كان يعرف باسم: «مسموح المشايخ»؛ أي إعفاء أراضيهم وممتلكاتهم من الضرائب، وهو ما كان يعطيهم قوة مالية استفاد بعضهم منها في الحصول على المزيد من العقارات أو الاشتراك في أعمال تجارية. وبرغم أن هذا «المسموح» للعلماء والمماليك وبعض فئات أخرى كان جزءا من نظام عام معمول به، فإنه زاد من حمل الضرائب على الفلاحين، وزاد من تفتيت الولاءات في المجتمع المصري بصفة عامة.
التجار
ربما كان كبار تجار القاهرة من أغنى أغنياء المدينة. وهناك بعض أرقام اجتهدت في تحصيلها الأستاذة عفاف لطفي السيد - مارسو
43
عن ثروات بعضهم. فعند وفاة قاسم الشرايبي عام 1735 ترك ثروة قدرت بنحو 12,6 مليون باره وأسطولا من السفن التجارية وعددا كبيرا من المحلات والدكاكين والبيوت، وترك محمود محرم بعد نصف قرن ثروة قدرت بنحو 15,7 مليون باره. هذه الثروات الضخمة ناتج احتكار تجارة البن أو التوابل بالإضافة إلى نصيبهم من عملهم كملتزمين لأراض زراعية واسعة، وقد ترك محمود الشرايبي التزاما يدر سنويا مليون باره.
44
والأمر الواقع أن بعض المماليك والعلماء كان لهم نشاط تجاري احتكاري لبعض السلع، وخاصة السلع المنتجة في مصر كالأرز أو منتجات الصعيد كالقمح وغيره.
وحسب ما جاء في كتاب «وصف مصر» كانت بالقاهرة في آخر القرن 18 مؤسسات تجارية تصنف إلى عشر خانات - جمع خان - وهي كما جاء سابقا: أبنية متسعة مليئة بمحلات تجارية غالبها متخصص في سلع معينة، وكلها مركزة في القاهرة الفاطمية، وكان هناك 217 وكالة تجارية، 60٪ منها في القاهرة الفاطمية و13٪ في بولاق، وبعض هذه الوكالات متخصصة في سلع محددة كالصابون والزيت والمنسوجات والجلود والسلاح، والغالب أنه كان لبعض هذه الوكالات معامل وورش خاصة بها. وكذلك كان هناك 71 سوقا موزعة بتعادلية على أنحاء معمور القاهرة آنذاك. وهذه الأرقام تعطينا صورة عن النشاط التجاري داخل المدينة، وكم كان عدد التجار صغيرهم وكبيرهم، ولكنه لا يعطينا صورة عن كبار التجار الذين يتعاملون في التجارة الخارجية أو تجارة الترانزيت، وبعض هؤلاء كانوا يمتلكون أساطيل تجارية بحرية ونهرية؛ أي إنه كان هناك نوع من التكاملية بين التجارة والنقل والتوزيع معا، مما ترتب عليه الثراء المدهش لهؤلاء الكبار.
لكن الصورة اختلفت منذ عصر محمد علي، وأصبحت الدولة هي المنظم الأساسي للتجارة الخارجية. لكن بقي للتجار وأصحاب الدكاكين أهميتهم في السوق الداخلي، وبخاصة في أسواق القاهرة الغذائية، واحتياجاتها من الصناعات الحرفية، وربما عدنا إلى تفصيل ذلك في الفصول التالية.
الاقتصاد والسياسة
وربما كان هنا موضع مناقشة اتجاهات التجارة المصرية سواء المعاد تصديرها كتجارة ترانزيت أو المنتجة محليا. فقد كان الاتجاه غالبا إلى أوروبا خلال حكم المماليك، ثم حدث بعض التغير في اتجاه بعض التجارة إلى أقطار الدولة العثمانية، ومع ذلك ظل الاتجاه الأكبر هو إلى أوروبا نتيجة استيراد المماليك للأسلحة الحديثة والسلع الصناعية الأوروبية. وفي البداية كان الميزان التجاري لصالح مصر، ولكنه أخذ في التغير لصالح أوروبا بعد حدوث عدة نكسات على رأسها دخول شركات فرنسية اتفاقيات استيراد البن مباشرة مع اليمن بدلا من الوسيط المصري. ويضاف إلى ذلك نجاح زراعة البن في بعض مستعمرات فرنسا في البحر الكاريبي. والنكسة الأخرى هي عزوف أوروبي جزئي عن استيراد المنسوجات المصرية بحجة رداءة السلعة، ولكن يجب أن نضيف لذلك انتشار صناعة النسيج الآلية الحديثة في أوروبا، ورخص أسعار المنتج منها بالقياس إلى الصناعة المصرية.
وقد أدت هذه النكسات إلى تقليل أرباح ترانزيت البن، وتدهور عام في الدخل مع زيادة الميزان التجاري لصالح أوروبا، إلى ضائقة مالية حاول المماليك والتجار تعديلها بالاشتطاط والمغالاة في فرض الضرائب التي ثقلت على الفلاحين والحرفيين؛ مما أدى إلى مردود معكوس أدى إلى مزيد من قلة الإنتاج الزراعي والصناعي والحرفي. وهكذا دخلت مصر دائرة مغلقة من التراجع حتى جاءت الحملة الفرنسية التي أدت بدورها إلى تدهور كبير نتيجة ثورات القاهرة ضد الفرنسيين، والدمار الذي أحدثه الفرنسيون لقمع تلك الثورات.
لكن أحد أهم نتائج الحملة الفرنسية أنها أظهرت مدى تخلف النظام المملوكي السياسي، وعدم قدرته على استيعاب التحديث؛ وبذلك وضعت اللبنة الأخيرة في نهاية هذا النظام.
ولا شك أن محمد علي جاء بنظام جديد يتقبل الحداثة والتحديث في الحكم والإدراة والشئون المالية والاقتصاد الزراعي والصناعي والعلاقات الدولية، وإن أبقى على حكم الفرد. ونحن لا نعتقد أن محمد علي جاء بكل هذه التنظيمات من مصادر خارجية وطبقها مرة واحدة، بل كان هناك تطويع لمبادئ الإدارة وتطبيقات تدريجية لها على قدر الظروف الانتقالية في المجتمع المصري مع النظر إلى أشكال التنظيم الأوروبي، والكثير من الاستشارات والتجريب. وقد وقع محمد علي أسير التاريخ، فحاول بسرعة إعادة تطبيق إستراتيجية التاريخ السياسي المصري في الهيمنة على الشرق الأوسط من الشام إلى الحجاز بإضافة عمق في السودان لم يكن موجودا من قبل في تاريخ مصر الإسلامي؛ لهذا فقد كان محرك تنظيماته الجديدة في كافة الشئون الداخلية متمحورا حول الجيش القوي الذي أنشأه، ومحاولته الاستفادة من تناقضات المنافسة الفرنسية الإنجليزية على الشرق باستقطاب فرنسا. لكن عصر بناء الإمبراطوريات الشرقية كان قد ولى؛ لهذا توقف مشروع محمد علي السياسي عند مواجهة القوي الأوروبية عامة والإنجليزية خاصة، ولما هبط محرك التطور العسكري المصري هبط معه الكثير من النشاط الصناعي، وبقيت الزراعة ذات التركيب المحصولي المحدث - مشروعات الري الدائم، والمحاصيل الصيفية وعلى رأسها القطن - عماد التركيب الاقتصادي لنحو قرن من الزمان (1840-1930).
وقد حاول إسماعيل تقليد جده ولكن في الاتجاه الجنوبي؛ بناء إمبراطورية أفريقية في الوقت الذي اشتد فيه تسارع الدول الأوروبية على تقسيم أفريقيا، وكان محركه في ذلك تحسن مصادر الثروة المصرية بصادرات القطن ورسوم عبور قناة السويس، فدخل في مشروعات توسع في القرن الأفريقي (مصوع، زيلع، هرر، بربره) وفي منابع النيل الاستوائية (أوغندا الحالية) لكنها كانت عبئا ماليا، وقصيرة العمر، ونتائجها محسومة لصالح أوروبا.
وآخر المحاولات المصرية أسيرة التاريخ كانت في عهد عبد الناصر الذي حاول استعادة روح القومية العربية في مواجهة إسرائيل والغرب؛ معتمدا على أيديولوجية ثورية نجحت في المساعدة على تصفية النفوذ البريطاني، لكنها أحدثت صدعا عربيا بين الملكيين والجمهوريين فلم تصادف سوى نجاح عربي محدود.
الحرفيون والنقابات الحرفية
في أواخر القرن 18 كان في القاهرة 76 ورشة حرفية وصناعية، نحو 36٪ منها في المنطقة الممتدة غرب الخليج من باب الخلق إلى باب اللوق، ونحو 30٪ منها فيما بين الغورية والسلطان حسن، وبعبارة أخرى: إن الورش كانت خارج القاهرة الفاطمية بصورة عامة في اتجاه الجنوب والغرب.
وكان أصحاب الورش وعمالهم يكونون «نقابات» خاصة بصناعة سلعة معينة كالمزينين والحمامية والإسكافية، والنقيب هو المسئول أمام الجهات الرسمية. وترتيب الصنعة متدرج من نظام الصبي إلى المعلم أو الأسطى، بحيث كان في هذا ضمان للمهارة واستمرار جودة المنتج،
45
وبقاياه ما زال حتى الآن ممارس في بعض الحرف وبخاصة الورش الفردية لإصلاح السلع المعدنية والسيارات، وإن كان مقدرا أن خريجي المدارس الفنية سوف يحلون محل هذا النظام التقليدي تدريجيا.
والذي يهمنا في موضوع البنية الاجتماعية أن الكثير من أصحاب الورش والتجار كانوا يسكنون مع عمالهم في حارة أو حي واحد، بحيث إن الروابط المكانية كانت تجمعهم بغض النظر عن الوضع المالي. صحيح أن بيوت أصحاب العمل كانت أكبر وأفخم لكن الشعور بالتساند كان سمة غالبة في حياة القاهرة. وما زال بعض المعلمين يسكنون جوار ورشهم، لكن العمال يأتون من أحياء مختلفة، ولكن غالب الأسطاوات والمعلمين الكبار أصبحوا الآن «رجال أعمال» يقيمون في الأحياء المترفة وصلتهم بالعمال محدودة وغير مباشرة - مجلس الإدارة، وصور شتى من الإعلام - فلم يعد هناك تفاعل جماعي كما كان في الماضي القريب.
الصحة والتعليم
لعلنا نختتم هذه الفترة من حياة مدينة القاهرة بالتأكيد على اهتمام الولاة والحكام ببناء المارستانات والكتاتيب والأسبلة والحمامات، وغير ذلك من احتياجات المدن الكبرى.
المارستانات: من السرد التاريخي نجد أن هذه المستشفيات قد بنيت غالبا في عصور مصر المستقلة. فلم نعرف للآن أن ولاة مصر في عهد الخلفاء الراشدين والأمويين والعباسيين قد بنوا مثل هذه المؤسسات الصحية العامة.
وأول من بنى مارستانا في مصر كان أحمد بن طولون نحو سنة 874م؛ أي بعد ست سنوات من توليه حكم مصر، وكان موقعه في مدينة القطائع، ويقول المقريزي: إنه صرف على بنائه 60 ألف دينار، وعمل له حمامين للرجال والنساء، والغالب أن ابن طولون في ذلك قد حاكى مارستان بغداد، وتلاه كافور الإخشيد بمارستان في الفسطاط نحو سنة 957م. ولم ينقض وقت طويل حتى أنشأ الفاطميون في مدة حكم العزيز بالله «الربع الأخير من القرن العاشر» مارستان القاهرة جنوب القصر الصغير.
وبنى صلاح الدين مارستانا في القاهرة للمرضى والضعفاء، ويقول المقريزي: إنه استخدم له أطباء وطبائعيين وجراحين ومشرفين وعمالا وخدما، وخصص له 200 دينار شهريا، كما أمر بفتح المارستان القديم ، وخصص له طبيبا وعاملا ومشرفا وعشرين دينارا شهريا؛ بمعنى أنه أصبح بالقاهرة مستشفيان لأول مرة!
وأشهر مارستانات القاهرة: المارستان المنصوري المعروف حتى الآن باسم مستشفى قلاوون، نسبة إلى السلطان المنصور قلاوون (1279-1290) وكان جزءا من القصر الصغير، فأقام فيه مدرسته وجامعه ومارستانه. رتب المنصور العقاقير والأطباء وسائر ما يحتاجه المرضى، وجعل فيه فراشين من الرجال والنساء، وكانت به قاعات متخصصة؛ واحدة للرمد وأخرى للجراحة وثالثة لأمراض الجهاز الهضمي، وقسم خاص لإقامة النساء، ومطبخ الأطعمة، ومخزن الأدوية والأشربة العلاجية - أجزاخانة - ومكتبة طبية، ومعمل كيميائي، وجوقة موسيقى ومنشدين، ومن يقصون السير التاريخية البطولية وغير ذلك كجزء من العلاج والترفيه، فياللتقدم في المفاهيم العلاجية في ذلك الوقت المبكر!
46
وتلاه مارستان أنشأه المؤيد شيخ (1413-1421) قريب من القلعة، وأنشأ عبد الرحمن كتخدا إسبتاليا للنساء في جهة تحت الربع بباب الخلق في القرن 18م.
وكذلك أقام المماليك دورا لرعاية المكفوفين وأخرى للأيتام. وكل هذه المؤسسات تحتاج إلى ميزانية كبيرة كانت تدبر بإنشاء وقفيات أميرية وأهلية للإنفاق عليها. ويذكر العالم «جومار»
47
من علماء الحملة الفرنسية أن إعانات المستشفيات ودور المكفوفين والأيتام وطلبة الأزهر قد بلغت 154 ألف أردب شعير - ربما يقصد حبوب طحين الخبز - وكمية أخرى من الأرز والعسل من الميري عام 1798، فضلا عن مرتبات للدراويش والمعوقين والأرامل يذكرها بالفرنك آنذاك، ولضخامة المبالغ فقد كان هناك عشرة «أفندية» يقومون بحساب المعاشات والنفقات المذكورة باعتبارها مصروفات عامة.
وفي عهد محمد علي دخل ميدان الصحة تدريس الطب؛ بإنشاء مدرسة للطب تنقلت في أماكن مختلفة قبل أن تستقر في قصر العيني، وتلاه بطبيعة الحال منشآت صحية أخرى ظلت تنمو وتتخصص في العهود التالية. ويكتب علي مبارك أن بالقاهرة في 1882 خمس مستشفيات على رأسها قصر العيني المجهز ب 1150 سريرا، ومستشفى الأمراض العقلية في العباسية، ومستشفى أوروبي في العباسية، وآخر في حي الإسماعيلية، والخامس مستشفى اليهود في حارة اليهود.
وكانت الأجزاخانات - الصيدليات - مرتبطة بالمارستان أو المستشفى، وما زال ببعض المستشفيات أجزاخانة خاصة يسميها علي مبارك: الأجزاخانة الميري، مثل: قصر العيني، ولكن منذ فترة محمد علي انتشر نمط الأجزاخانة الخاصة، وأصبح عددها في 1883 أربعة وأربعون أجزاخانة، 19 منها في وسط البلد - كلوت بك والعتبة والموسكي - والباقي موزعة على الأحياء الأخرى من المدينة.
الحمامات العامة
الحمامات جزء مهم من الصحة العامة، وضرورة في البلاد الحارة، ويذكر المقريزي أن بالقاهرة 45 حماما؛ منها 12 في العصر الفاطمي، وستة حمامات في العصر الأيوبي، و22 في عصر المماليك. وقد أحصى جومار مائة حمام عام بالقاهرة وإن كان قد عد 91 منهم فقط، موزعة على أحياء القاهرة المختلفة، نقصت إلى 55 حماما في أواخر ق19؛ وذلك نظرا لوصول مياه المواسير لبعض الأحياء، وبالتالي وجود الحمامات الخاصة داخل البيوت كنمط جديد سهل التداول. وهذا لا ينفي وجود الحمامات الخاصة داخل البيوت الكبيرة في كل العصور.
وهناك حمامات متخصصة للرجال أو النساء، لكن هناك أيضا حمامات يتبادل فيها الجنسين أيام أو ساعات العمل، وغالب الحمامات تستخدم البخار، وبها مغطس مياه ساخنة. وتضم بعض الحمامات الفاخرة متخصصين في التدليك وتليين المفاصل، وهو ما يستدعي فترة طويلة يرتاح فيها الزبائن بعد أنواع «المساج» المتعددة في غرف مؤثثة مع تقديم القهوة كشراب منشط، ومثل هذا قريب الشبه بالمؤسسات الصحية الدارجة حاليا باسم: «نوادي الصحة». وبطبيعة الحال فإن مثل هذه الحمامات يؤمها الأغنياء فقط، وتستغرق طقوسها بضع ساعات تماما كما هو الحال الآن، ولكن غالبية الحمامات الأخرى لا تقدم إلا المغطس، وتدليك سريع يقوم به «المكيساتي» بقفاز - كيس - خشن لإزالة العرق وتفتيح المسام.
الأسبلة والكتاتيب
في القاهرة ذات متوسط الحرارة العالي معظم السنة يحتاج الأمر إلى إقامة أسبلة - جمع سبيل - لتقديم الماء مجانا للسابلة العطشى، والغالب أنها «سبيل ماء لله»، ومن ثم انتشرت إقامتها بين القادرين من الناس والأمراء. وواجهة السبيل غالبا يتفنن فيها صانع المشغولات المعدنية، وتعلم البناء، ووراءها في داخل البناء حوض كبير يختزن فيه الماء، وفي آخر القرن 18 كان بالقاهرة نحو 245 سبيلا، 64 منها ذات بناء فاخر، ونقص العدد إلى 200 سبيل في كتابات علي مبارك؛ أيضا نتيجة تمديدات المياه الجديدة في الأنابيب.
وفي أغلب الأحيان يوجد كتاب فوق السبيل ؛ لتحفيظ القرآن، وتعليم القراءة والكتابة، ومبادئ الحساب، ويعجب كتاب «وصف مصر» الفرنسيون بطريقة التعليم الجماعي في الكتاتيب واستخدام اللوح والطباشير مقابل منهج التعليم الفردي المتبع في فرنسا وكثرة استخدام الورق. كما أن أجر معلم الكتاب كان على قدر الأسر وليس ثابتا، مما كان يسمح بديمقراطية التعليم بدون تمييز لأبناء أسر غنية أو فقيرة. وكان في القاهرة آنذاك 34 كتابا فضلا عن مدارس أولية للمسيحيين لا تبتعد كثيرا عن منهج التدريس السائد. ولكننا الآن قد بعدنا عن التعليم الجماعي، وربما كان هذا سببا في الضعف اللغوي الملحوظ، وليس هذا بدعوة إلى نظام الكتاتيب، لكنه آن الأوان أن نقف برهة لتكييف نظام التعليم مع المستحدثات الجديدة، وبخاصة الكمبيوتر، مع المحافظة على سلامة اللغة؛ لأنها الوسيلة الوحيدة للتعلم والتفاهم والتقاضي والأدب، وكل شيء يقع في الحياة بماضيها وحاضرها. (3-7) القاهرة منذ إسماعيل
اختلفت القاهرة أيام الخديو إسماعيل كثيرا عما سبق من أنماط. صحيح أن مقدمات الاختلاف ترجع إلى عصر محمد علي وإبراهيم ببناء قصور: شبرا والقبة والقصر العالي (قصر الدوبارة)، وأيام عباس حلمي الأول: العباسية، وسعيد: شبرا، ولكن الدفعة الكبرى كانت في عصر إسماعيل، وكانت هناك أسباب كثيرة نذكر من أهمها ما يلي:
48 (1)
انتقال إسماعيل من القلعة إلى قصر عابدين، وهو تغير مرتبط بأفكار إسماعيل التحديثية للانتقال من نمط الدولة الشرقية إلى نمط الدولة الغربية، أي خروج الحكم من الحصن المغلق إلى الملأ المفتوح المتفاعل مع المدينة. (2)
مع انتقال الحكم إلى عابدين حدثت طفرة عمرانية في القسم الغربي من المدينة بدلا من التزاحم الكثيف في القسم الشرقي، كما أسلفنا في الفصل
الأول
من هذا الكتاب. (3)
زاد إسماعيل النمو الغربي للقاهرة بتخطيط وبناء حي جديد متكامل سمي: الإسماعيلية، وهو وسط البلد الآن، وتلاه توفيق بحي التوفيقية إلى الشمال من الإسماعيلية. وحيث إن الإسماعيلية قد بنيت على الطراز الغربي، فقد أصبح لدينا في القاهرة طرازان من العمران والمعمار: الشرقي القديم والغربي الحديث، واستمرت هذه الازدواجية فترة طويلة، لكن المعمار الحديث كانت له الغلبة في نهاية المطاف، وذلك لمقتضيات الحياة العصرية. (4)
مما لا شك فيه أن تحسن الأحوال المالية المصرية، وبخاصة سوق القطن المصري في العالم الخارجي بعد اندلاع الحرب الأهلية الأمريكية وتدهور صادراتها القطنية فترة لا بأس بها، قد أعطى إحساسا ملموسا بالرخاء العام في مصر، ويضاف إلى ذلك تدرج عائدات مصر من مرور السفن في قناة السويس.
وهذه كلها أسباب أدت إلى طفرة كبيرة في تعمير غرب القاهرة من الإسماعيلية والتوفيقية شمالا إلى حي الدواوين حول لاظ أوغلي وقصور المنيرة جنوبا في نظام شبكي واضح المعالم، ونمط حياتي أخذ في الاختلاف عن النمط التقليدي كما نراه من الشكل التالي:
محلات ودكاكين القاهرة 1883 بالقسم
شكل 3-7
يتضح من الشكل (
3-7 ) أن محلات القاهرة ودكاكينها قد اتخذت طابعا مكانيا مزدوجا ما زال مستمرا حتى اليوم. ففي القاهرة الفاطمية تتركز محلات الأقمشة والمنسوجات في الجمالية والدرب الأحمر والقليل في بولاق؛ ميناء القاهرة القديم، وتزداد أعداد محلات العطارة في الدرب الأحمر وباب الشعرية والجمالية، وبالرغم من انتشار نمط المقاهي في كل الأقسام كضرورة ترويحية لالتقاء الرجال في الأمسيات، مع إجراء بعض أعمال وعقود عمل، فإننا نلاحظ زيادة أعداد المقاهي في الأحياء الغربية من القاهرة، وبخاصة في الأزبكية كنمط غربي لشرب القهوة وإجراء الأعمال، بينما المقهى في الأحياء الأخرى هو مشرب لكل المشروبات من القهوة إلى التمر هندي والكركديه، وما أشبه ذلك مع وجود الشيشة لتدخين التنباك بأنواعه العجمي والحمي ... إلخ. وتزيد الفروق بين شرق وغرب القاهرة بالتركيز الشديد للحانات - الخمارات - في الأزبكية، وندرتها في الأحياء القاهرية الأصيلة، والمزيد من قراءة الشكل سوف يعطي الكثير.
ومنذ ذلك التاريخ والقاهرة تزداد سكانا؛ لتركيز مغالى فيه للمنشآت الخدمية والصناعية والتجارية فيها من ناحية، ونتيجة تحولها مرة أخرى إلى مركز ثقافي وسياسي عربي، وبخاصة منذ تحول مصر إلى النظام الجمهوري الرئاسي، وهو ما سبق تفصيله في الفصلين
الأول
و
الثاني . (3-8) بنية القاهرة الحالية
وتوضح الخريطة
3-8
بنية القاهرة عام 1966 حيث نمو القاهرة قد انطلق من معطيات ما بعد عصر إسماعيل؛ ليشكل جوهر القاهرة الحالية.
49
والقراءة المتأنية للخريطة تشير إلى واقع ملموس بعد نحو 30 سنة من رسمها، يمكن تلخيصها كالآتي: (1)
اتجاهات نمو القاهرة ثابتة في كل الاتجاهات التي أشار إليها «بونسيه»، بل زاد تسارعها بإنشاء مجموعة الطرق والأوتوسترادات حول القاهرة؛ الدائري، والطرق المحورية؛ الإسماعيلية والسويس والعين السخنة وحلوان و6 أكتوبر، وكلها مجالات تغري بتحول الأرض من البيئة الصحراوية والزراعية إلى تعمير عقاري سكني. وزاد الأمر أن وزارة التعمير منذ الثمانينيات اعتمدت بناء مدن جديدة قريبة من القاهرة؛ مما جعلها في الحقيقة امتدادا للقاهرة على طول محاور الطرق. وفضلا عن ذلك تراخي الإدارة عن مقاومة ضغوط العمران العشوائي والطفيلي إلى أن استفحلت مشكلاتها بطريقة أفقدت الطرق المحورية والدائرية وظيفتها التي بنيت من أجلها كخطوط حركة لا تعوقها أشكال العمران القاهري الكثيف. (2)
مناطق السكن المتدهور التي أشارت إليها الخريطة، هي بعينها نوايات مناطق العشوائيات الحالية في: شبرا الخيمة والساحل والمطرية وعين شمس والشرابية وشرق القاهرة ومصر القديمة.
شكل 3-8:
بنية القاهرة 1966.
ودار السلام وإمبابة وبولاق الدكرور، وكلها نمت إلى العشوائيات الحالية حول القاهرة كما أسلفنا في الفصل
الثاني . (3)
ما زال السكن الكثيف في شمال القاهرة المركزية من بولاق وشبرا إلى العباسية وحدائق القبة في مرحلة التخلخل؛ بل إن منطقة بولاق وروض الفرج قد تخلخلت بصورة جذرية، وحلت العمائر والمنشآت التجارية والمالية والفندقية محلها على طول واجهتها النيلية، وعلى محور شارع الجلاء. (4)
وأخيرا فإن عمران القاهرة المركزية في قسمها الشرقي من السيدة زينب والخليفة في الجنوب، إلى الجمالية والفجالة وشبرا في الشمال قد بدأت فيه أعمال إعادة البناء محل البيوت القديمة والآيلة للسقوط، وهي التي يشير إليها «بونسيه» برمز: «تطوير البناء في عقارات موروثة قديمة». (3-9) أعداء القاهرة
خلاصة هذا الفصل أن نمو القاهرة لم يكن يسير مطردا في كل العصور، بل كانت هناك فترات تراجع أو توقف عن النمو لأسباب كثيرة، بعضها الآتي: (1)
الأوضاع السياسية بين كونها عاصمة لدولة مستقلة أو إقليم تابع، وأكثر النماذج وضوحا في النمو والازدهار كان في عصور الدولة الفاطمية ودولة المماليك ومحمد علي وإسماعيل. الدولة الأيوبية كانت فترة مجيدة لكنها كانت دولة حرب امتصت الكثير من عوامل النمو المالية، بينما استقرت دولة الفاطميين والمماليك في الحكم قرونا طويلة مكنت من مواجهة الأزمات بتحسينات وإصلاحات. أما زمن إسماعيل فقد كان القفزة العمرانية لازدهار سابق في عهد جده محمد علي، تم من خلالها إنشاء القاهرة الجديدة مقابل التقليدية، ونمو القاهرة بعد إسماعيل وحتى الآن هو استمرارية بقوة القصور الذاتي، واندفاع الهجرة الريفية إليها دون مواجهة حقيقية لأسبابها الديموجرافية والاقتصادية والإدارية. (2)
فقدان الأمن الداخلي كان سببا في إعاقة نمو القاهرة، ونموذج ذلك الاضطرابات المميتة بين طوائف العسكر من ترك وسودان التي أدت إلى اضمحلال دولة الفاطميين، أو تناحر المماليك في أواخر العصر العثماني، وأخيرا صراع العسكر المصريين والترك في ثورة عرابي، والتغيير الطبقي الذي أحدثته «ثورة 1952» العسكرية. (3)
وفي الجوانب الاقتصادية والصحية: كثرة المجاعات وتوطن الأوبئة كانت من بين أسباب مهمة في كبح النمو السكني والسكاني للقاهرة خلال عصور طويلة، وقد تمت سيطرة شبه كاملة على أسباب المجاعة والأمراض، ولكن الجوانب الاقتصادية تتأثر كثيرا بإنفاقات الدولة على مشروعات عسكرية واقتصادية أكبر من الطاقات المصرية منذ عصر محمد علي؛ مما يؤدي إلى مزيد من الهجرة الداخلية إلى القاهرة فيزيد نموها الكمي سكانا ومساحة، ويزيد من تكتل السكان المحرومين في أحياء طفيلية عشوائية.
جدول : ثبت تاريخي.
السنة الهجرية
السنة الميلادية
ملاحظات
1
622
هجرة الرسول إلى المدينة
21
641
فتح مصر - جامع عمرو 23ه
25
645
الفسطاط 23ه
30
650
35
655
ولاية عمرو الثانية 38-43ه
65
685
عبد العزيز بن مروان 685-705
95
714
مقياس النيل الأول 98-717
125
744
742 - إنشاء العسكر 123ه
245
859
861 - مقياس النيل الثاني 247ه
254
868
نهاية عصر الولاة
254
868
أحمد بن طولون
260
873
القطائع والقصور 256ه/870
265
878
ن 262-265 / 876
270
883
خمارويه بن طولون
275
888
280
893
285
898
جيش بن خماوريه 895
290
902
هارون 896
292
904
شيبان ونهاية الطولونيين
295
907
ولاة عباسيون
300
912
ثلاثة عشر واليا 295-323ه
310
922
320
932
323
934
محمد الإخشيد
335
946
أنوجور بن الإخشيد
349
960
علي بن الإخشيد
ن246ه
356
966
أبو المسك كافور
بستان كافور
358
968
أحمد بن علي
نهاية الإخشيد
358
969
جوهر وبداية الفاطميين
360
970
المعز لدين الله
القاهرة 969
365
975
العزيز بالله
الأزهر 970
370
980
375
985
380
990
386
996
الحاكم بأمر الله
ج. الحاكم 402
390
999
ج. راشدة 393
400
1009
410
1019
411
1020
الظاهر
420
1029
427
1036
المستنصر
430
1038
440
1048
450
1058
460
1067
سور بدر الجمالي 478 + ج. الجيوشي
480
1087
باب زويلة 480
487
1094
المستعلي
495
1101
الآمر
ج. الأقمر 519
555
1160
الحافظ إلى العاضد ونهاية الفاطميين
565
1169
صلاح الدين
الأيوبيون
575
1179
ن 573ه / 1177
585
1189
589
1193
العزيز بالله
595
1198
المنصور
596
1199
العادل
615
1218
الكامل
625
1227
أحياء ج. الإمام الشافعي 617ه
635
1237
العادل 2
637
1239
الصالح
قلعة الروضة
646
1248
توران شاه - معركة المنصورة
648
1250
نهاية الأيوبيين
648
1250
أيبك - شجرة الدر بداية المماليك
657
1258
معركة عين جالوت - قطز
658
1259
بيبرس الأول
666
1267
676
1277
سلاميش - بركة خان
679
1280
المنصور قلاوون
إنشاء بيمارستان قلاوون 684
689
1290
الأشرف بن قلاوون
693
1293
الناصر محمد بن قلاوون
سلطنة قلاوون (1)
696
1296
لاجين
أحياء جامع ابن طولون 696
698
1298
الناصر محمد بن قلاوون
قلاوون (2)
ترميم الأزهر
708
1308
بيبرس الجاشنكير
709
1309
السلطنة الثالثة - الناصر محمد بن قلاوون
وحفر الخليج الناصري 713
741
1341
أبو بكر - كجك - أحمد - إسماعيل ... إلخ
748
1347
الناصر حسن (1)
752
1351
صالح بن ناصر
755
1354
الناصر حسن (2)
جامع السلطان حسن 757ه / 1256
672
1361
أحفاد الناصر محمد
787
1382
برقوق - بداية المماليك الشراكسة
795
1392
802
1399
فرج بن برقوق (1)
وبناء خانقاه برقوق 802
808
1405
عبد العزيز بن برقوق
809
1405
2 - فرج بن برقوق
815
1412
المؤيد شيخ
بيمارستان 818
825
1422
الأشرف برسباي
835
1431
842
1438
الظاهر جقمق
857
1453
عثمان جقمق - إينال
865
1461
أحمد إينال - خوشقدم ... إلخ
873
1468
الأشرف قايتباي
جامع وخانقاه قايتباي 879
902
1496
محمد - قانصوه - جانبو لاد ... إلخ
907
1501
قانصوه الغوري - جامع ومدرسة ووكالة الغوري
917
1511
923
1517
طومانباي - نهاية المماليك وبداية الحكم العثماني
980
1572
سنان باشا
1191
1776
وفاة عبد الرحمن كتخدا
1182
1769
علي بك يستقل حتى 1773
1213
1798
الفرنسيون حتى 1801
1220
1805
محمد علي حتى 1848
1279
1863
إسماعيل حتى 1879
1371
1952
نهاية الملكية وبدء الجمهورية
تعود مستوطنات العصر الحجري القديم إلى أكثر من 20 ألف سنة، أما مستوطنات النيوليتي عند مصبات الأودية كحضارات مرمدة بني سلامة والعمري والمعادي فهي بدايات الزراعة، وتعود إلى نحو 5000 سنة و4100 سنة و3500 سنة قبل الميلاد على التوالي، والأغلب أن السكان مارسوا الزراعة وتربية الحيوان، وعرفوا صناعة صهر النحاس في المعادي.
K.Butzer, “Environment and Archaeology” 1966 (2nd ed. Chicago 1971) in B.Watterson, “The Egyptians”, Blackwell, Oxford 1997, p.42 .
استمرت منف عاصمة مصر منذ 3200 إلى 2180ق.م، وهي فترة الدولة القديمة التي تميزت ببناء الأهرامات من سقارة إلى الجيزة وما بينهما، وبعدهما شمالا إلى أبو رواش وجنوبا إلى اللاهون.
برغم مرور أكثر من 3000 سنة بين نهاية منف كعاصمة وكتابات المقريزي، فإن ذكرى وجودها وبقائها ظلت تتواصل إلى أن كتب عنها المقريزي (جزء 1 من «الخطط» طبعة مكتبة إحياء علوم الدين - لبنان، ص236-237): «... يروى أن مدينة منف كانت قناطر وجسورا بتدبير وتقدير؛ حتى إن الماء ليجري تحت منازلها وأفنيتها فيحبسونه كيف شاءوا ويرسلونه كيف شاءوا ... وأن بعض بني يافث بن نوح عمل آلة تحمل الماء حتى تلقيه إلى أعلى سور مدينة منف، وذلك أنه جعلها درجا مجوفة كلما وصل الماء إلى درجة امتلأت الأخرى حتى يصعد الماء إلى أعلى السور، ثم ينحط فيدخل جميع بيوت المدينة، ثم يخرج من موضع لخارجها.»
الأغلب أن أون نشأت قبل منف كمركز عبادة إله الشمس رع والنظريات الدينية في الخلق، وإلى هذه المدرسة العلمية يرجع استخدام المصريين للسنة الشمسية بديلا للسنة القمرية، وتقسيمها إلى 12 شهرا و5 أيام نسيء.
زار هيرودوت أيضا مدرسة معبد الإله بتاح، إله منف، حيث كانت هنا أيضا مدرسة للعلوم والفنون ، بحيث كان الكاهن الأكبر في منف يسمى: رئيس الفنون. الاسم المصري القديم لمنف هو «السور الأبيض
Inb Hd
نسبة إلى سور المدينة الذي رأى هيرودوت أنه بني فترة الملك زوسر؛ لحماية المدينة من فيضان النيل العالي، لأن النيل كان يسير إلى جوار منف في تلك الفترة. أما الاسم المصري القديم لهليوبوليس فهو
Iunu
غالبا مرتبطة بالعين، ومن ثم تسميتها الحالية «عين شمس» والتي تيمنت باسمها جامعة عين شمس كأنها تواصل لعطاء الجامعة التاريخية. «خطط المقريزي» جزء 1 طبعة مكتبة إحياء علوم الدين، الشياح لبنان ص400-402. «ملامح ثروة مصر الأثرية والسياحية» نشر المجالس القومية المتخصصة - القاهرة 1993، ص319-320.
من المعروف أن جيش عمرو بن العاص كان يتكون في مجمله من عرب اليمن وحضرموت، وهي مجموعات تجيد فنون الملاحة البحرية، إلا أن الذي كان يشغل بال الخليفة عمر هو استمرارية الفتوح الإسلامية غرب وجنوب مصر وليس التوقف، وبقاء أسطول لمنازلة الأسطول الروماني المدرب على ارتياد البحر المتوسط والملاحة فيه، وهو الشيء الذي يجهله عرب الجنوب في ذلك الوقت.
هل كانت بابل قاعدة الحكم الفارسية في مصر؟ سؤال يحتاج إلى مراجعة تاريخية.
ما زال سكان الواحات المصرية يطلقون اسم «القصر» على القرية الواحية القديمة المحصنة بالسور وأبواب الحارات، ونظرا لاستمرارية سكن نفس المكان قرونا متعاقبة أصبحت هذه القرى مرتفعة عن الأرض حولها ؛ لكثرة البناء فوق أنقاض البناء السابق، والاسم الذي يطلقه سكان سيوه على القرية القديمة هو «شاليا» أو شالياه بلغة سيوه البربرية الأصل.
يرى بعض الباحثين الألمان أن «كمي» هي الأصل الذي اشتق منه اسم الكيمياء، بمعنى الفن الأسود في العصور الوسطى. راجع: إرمان ورانكه «مصر والحياة المصرية في العصور القديمة» ترجمة عبد المنعم أبو بكر ومحرم كمال نشر الإدارة الثقافية لوزارة المعارف المصرية - مكتبة النهضة المصرية - بدون تاريخ (ربما في أوائل الخمسينيات) ص3.
علي بهجت «قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح»، شركة طبع الكتب العربية، القاهرة 1906 ص32.
محمد رمزي «الجغرافية التاريخية لمدينة القاهرة» مجلة العلوم السنة التاسعة مجلد 5 ص648 - نقلا عن كتاب شحاتة عيسى إبراهيم «القاهرة» سلسلة الألف كتاب رقم 184 طبعة دار الهلال بدون تاريخ (غالبا في آخر الخمسينيات).
انظر الخريطة (
3-2 ) المنقولة عن
S. Denoix, “Decrire Le Caire Fustat-Misr” Institut Francais.
وهي نقلا عن علي بهجت التي رسمها بالاستعانة بما ورد عن الفسطاط في
D’Archeologie Orientale du Caire, 1992.
كتابات ابن دقماق عن مصر.
راجع: عبد العال الشامي «مدن مصر وقراها عند ياقوت الحموي» الكويت 1981 ص52، وكذلك شحاته عيسى إبراهيم، مرجع سابق، ص22-23، عن ناصري خسرو «سفرنامه».
أبو عبيد البكري «جغرافية مصر من كتاب الممالك والمسالك» تحقيق عبد الله يوسف الغنيم، مكتبة دار العروبة للنشر، الكويت ص56-57، والقيسارية مصطلح شائع على الأسواق في الصعيد حتى اليوم، وربما كان اشتقاقا عن القيصر أو الحاكم الروماني.
في وصف ناصري خسرو، وهو من أحسن من كتب بدقة عن مصر الفسطاط ومصر القاهرة يشوبها بعض المغالاة، أنه كان هناك في المدينتين 52 ألف جمل تعمل في نقل قرب الماء للسكان. [فكم كان عدد السقايين؟]
ابن حوقل (أبو القاسم بن حوقل النصيبي) «صورة الأرض»، دار مكتبة الحياة، بيروت 1979 ص137.
علي مبارك «الخطط التوفيقية» جزء 1 ص40، الهيئة المصرية العامة للكتاب القاهرة 1980.
يذكر ابن بطوطة بعد نحو ثلاثة قرون من ناصري خسرو أن بالقاهرة 12 ألف سقاء على الجمال و30 ألف مكاري (يؤجرون حميرهم)، «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» المكتبة التجارية، القاهرة، 1958 جزء أول ص19.
ابن بطوطة ، مرجع سابق، ص21.
لا شك أن الحركة الملاحية في الخليج بين الفسطاط والقلزم - السويس - كانت تتأثر بموسم الفيضان الذي يمتلئ فيه الخليج، وتقل المياه كثيرا وقت انخفاض النيل. كما أنه كان أيضا يتأثر بالإطماء وسفي الرمال، مما كان يحتاج معه إلى رعاية مستمرة لم تكن متوافرة في كل العهود؛ فهي رعاية كاملة زمن الاستقرار والازدهار، وإهمال تام وقت الاضطرابات الداخلية والركود الاقتصادي.
ابن بطوطة - مرجع سابق، ص19.
حفر الناصر محمد بن قلاوون خليجا من منطقة ما قرب باب اللوق أو التحرير الحالية يتصل بمسار الخليج المصري ربما عند العتبة أو الظاهر، ولأن مأخذ هذا الخليج هو من النيل في مساره العريض؛ فقد كان أفضل من مأخذ الخليج المصري في سيالة الروضة، فضلا عن أنه ربما كان أدنى بقرابة المتر، ولأنه مسار أقصر فقد كان جريان الماء فيه مباشرا، وأكثر استمرارا من المأخذ الأول.
علي بهجت «قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح» القاهرة 1906 ص105-106.
لم نستطع التعرف على من هو الطبيب ابن رضوان سوى أنه كان في مصر على الأقل في فترة ما بعد الطولونيين؛ لأنه يذكر جامع ابن طولون، والنص هو عن علي مبارك الجزء الأول ص34. كما ورد ذكر ابن رضوان في كتابات هوفماير في العشرينيات من القرن 20، ونقلها عنه كليرجيه في كتابه الكبير عن القاهرة طبعة القاهرة 1934.
المقريزي: «الخطط» الجزء الأول ص221-222 طبعة الشياح - لبنان المذكورة سابقا. كذلك انظر: خريطة
3-2 .
كانت الضرائب - الخراج - في عهد الدولة الطولونية قد بلغ أكثر من أربعة ملايين دينار سنويا، وبلغ ما أرسله ابن طولون للخليفة العباسي نحو مليوني دينار في أربع سنوات؛ أي بواقع نصف مليون دينار سنويا. الأرقام عن «النجوم الزاهرة» لابن تغري بردي نقلا عن شحاته عيسى إبراهيم، مرجع سبق ذكره، ص46.
تمثل أفراح زواج «قطر الندى» بنت خمارويه للخليفة العباسي شاهدا على الغنى والبذخ المفرط الذي بلغته مصر فترة الطولونيين. كما يمثل التجاء المتنبي، شاعر العربية الكبير، إلى كافور؛ طمعا في عطايا ضخمة، دليلا على غنى مصر ووفرتها خلال فترة الإخشيديين.
الهكسوس والآشوريون والبابليون والفرس والإسكندر وعمرو بن العاص والعثمانيون كلهم جاءوا من الشرق عبر سيناء، بينما جاء الرومان والفاطميون وبعض الصليبيين ونابليون والإنجليز من الغرب، والملاحظة الأساسية أن بعض الغزوات القادمة من الشرق كانت هي الأطول حكما، وتركت بصمات أكثر - إيجابية وسلبية معا - على حضارة ومكونات الشعب المصري، ومعتقداته وديانته من تلك الغزوات التي وفدت من الغرب، ونستثني من ذلك الفاطميين الذين أثروا حضارة القاهرة بعناصر ما زالت قائمة، كما أن الحملة الفرنسية فتحت مصر أمام الحضارة الغربية.
جاء المعز إلى الإسكندرية، وركب النيل إلى الجيزة، وعبره على جسر عائم أقامه جوهر عام 972م يؤدي إلى شمال جزيرة الروضة؛ وبذلك تجنب المرور في الفسطاط التي كان أهلها قد استعدوا للترحيب به، وقد دخل المعز القاهرة من باب القوس.
عند إعادة بناء سور القاهرة بواسطة الوزير بدر الجمالي في أواخر العصر الفاطمي توسعت القاهرة عما كانت عليه، وبني باب واحد في الجنوب أطلق عليه باب زويلة، وهو مشهور عند العامة باسم: بوابة المتولي.
بدأ ابن حوقل رحلته من بغداد 942 وعاد إليها نحو 975 بعد أن طوف بالعالم الإسلامي من الهند إلى الأندلس، ولا بد أنه قد زار في تونس مملكة الفاطميين الأولى. ويرى بعض المستشرقين أنه كان داعية سياسية؛ إما للفاطميين أو العباسيين، وربما كان ابن حوقل قد انفعل بزياراته للعالم الإسلامي، وهاله ألا يكون موحدا سياسيا.
ربما كانت كتابات ابن سليم الوحيدة التي وصفت جغرافية وشعوب السودان والنوبة ولكنها لم تصل إلينا كاملة، بل أجزاء منها في كتابات مؤلفين لاحقين، والذي يهمنا هنا هو أن جوهر كان يهتم بجمع بيانات عن إقليم السودان لأهميته التجارية لمصر، وبخاصة الدور الذي كان يقوم به النوبيون في تجارة الرقيق الجنوبي. فهل فكر جوهر في بسط النفوذ الفاطمي على الجنوب؟ أم شغله هجوم القرامطة على الشام، واستنفد جهده في الإبقاء على الشام كإقليم له أهميته الإستراتيجية والسياسية بالنسبة لمصر والمذهب الفاطمي، بينما كان الجنوب لا يشكل مثل هذه المخاطر على الدولة الفاطمية؟
ما زال هذا الاسم مستخدما بتحريف إلى «بين الصورين» في المنطقة الممتدة من باب الشعرية إلى تقاطع شارعي السكة الجديدة وبورسعيد، وهي منطقة تجارة جملة لبعض الأغذية منذ فترة طويلة، لكنها تحولت الآن إلى أسواق لسلع كثيرة منها آلات كهربية وحبال وخراطيم ... إلخ.
لشدة حزم بهاء الدين قره قوش وأخذه الظالم والمظلوم، تعرض لنقد ساخر كتبه المؤلف المصري ابن مماتي (توفي 1209م) تحت عنوان: «الفاشوش في أحكام قره قوش».
نقولا زيادة «الجغرافية والرحلات عند العرب» دار الكتاب اللبناني، بيروت (1962؟) ص183.
زار مصر عدد كبير من الجغرافيين ضمن رحلاتهم الواسعة، وبذلك لم تحظ القاهرة بالكثير من ملاحظاتهم المدونة في كتبهم، ويستثنى من ذلك المسعودي في القرن العاشر وياقوت الحموى في القرن الثاني عشر.
ليون الأفريقي، «وصف أفريقيا» ترجمه للعربية عن الفرنسية عبد الرحمن حميدة، منشورات جامعة الإمام محمد، الرياض، 1979 صفحات متعددة مشار إليها عند كل مقتطف.
الأشرفي هو الدينار، ويساوي 3,475 جرامات ذهب.
Rice, D. T., “Islamic Art”, Thames & Iludson, Reprint 1989,p. Also Williams, C., “Islamic Monuments in Cairo” American University in Cairo press, 4th. Edition Cairo 1993, p. 246 .
Afaf al-Sayyid-Marsot, “Egypt in the Reign of Mohammad Ali”. Cambridge University Press, Cambridge, 1984, reprint 1990.p.10. The figures are derived from A.Raymond “Artisans et commercants au Caire au XVIII siecle” Damascus 1973-74 .
الباره = قرش، هي عملة فضية صغيرة تراوح سعر صرفها إلى الدولار الأمريكي 12,6 باره عام 1820، وارتفعت قيمة الدولار عام 1830 إلى ما بين 16-17 باره، وفي 1840 إلى 20 باره. (ص
X
من المصدر السابق).
كل من أراد المعلمة أو الأسطاوية عليه الحصول على شهادة معلمية على جودة صنعته، ثم يختبره شيخ الطائفة، ويعلنه معلما في صنعته في احتفال يحضره شيوخ طوائف أخرى. وعند المزينين والعاملين في الحمامات العامة والإسكافية تقليد، يسمى: شد الحزام، يعقده ثلاث مرات على الأقل، ويقوم بفك العقد المعلم وشيخ الطائفة وأسطوات أخر، وقد زاد القانون في أواخر ق19 شرط موافقة مجلس الصحة على فتح دكان مزين جديد بعد اختباره بواسطة المجلس وشيخ الطائفة؛ ذلك أن المزين في ذلك الوقت كان يقوم ببعض أعمال صحية وعلاجية محدودة وعملية ختان الصبيان. «عن علي مبارك».
يرى جومار - أحد أبرز علماء الحملة الفرنسية في كتاب «وصف مصر» الجزء العاشر، الترجمة العربية لزهير ومنى الشايب، دار الشايب القاهرة 1992 - أن العناية الطبية في مصر سابقة على تلك في أوروبا بمراحل، ويعتقد جومار أن الملك لويس التاسع قد شهد طرفا من الطب المصري أثناء أسره في المنصورة، مما أوحى له بعد عودته لفرنسا بضرورة إنشاء مثل هذه المؤسسات الصحية.
جومار المصدر السابق ص205.
انظر في الفصل
الأول [والثاني]
خرائط
1-4
و
1-9
و
2-8
و
1-12
لتوضيح شكل ومخططات القاهرة منذ عصر إسماعيل.
الخريطة نقلا بتصرف عن مقال
E. Poncet, “Notes sur I’Evolution Recent de I’Agglomeration du Caire”, Annales de Geographie. Armand Colin, Paris, LXXIX .
الفصل الرابع
القاهرة والناس
سكان أي مدينة هم الذين يطبعون المدينة بميزات وخصائص معينة، مثل أن تكون عاصمة إقليمية أو قومية أو تكون مدينة ذات طابع حربي أو ميناء عسكري، ولكنها في كل الحالات تجمع الوظيفة التجارية جنبا إلى جنب مع وظيفتها الأولى، وفي الفصول السابقة عالجنا مجموعة هياكل القاهرة في المكان والزمان، وآن لنا أن نكسي الهيكل بالنسيج الحي؛ وهو الإنسان ساكن المدينة.
وموضوع الإنسان متشعب نتناوله أعدادا ومجتمعا واقتصادا وسياسة. وسوف نتناول الموضوع السكاني بشكل أساسي، مع إشارات لصفة أو أخرى حسب السياق والمقتضى.
ويشمل موضوع السكان عدة نواح على رأسها العدد الكلي والتوزيع المكاني لأعداد السكان داخل المدينة، وحركتهم من حي لآخر لإنشاء سكن جديد، ويشمل أيضا خصائص السكان الديموجرافية كتقسيم الجنس والفئات العمرية، ودرجة النمو، ودرجة التزاحم وكثافتهم، وغير ذلك كثير، وعلى رأسه نسب الأمية. (1) عدد السكان وتطوره
من السهل الحصول على عدد سكان القاهرة في قرن من الزمان أو أكثر سواء كان العدد تقديري أو إحصائي، والنوع الأول نحصل عليه من كتابات الكتاب والرحالة القدامى، بينما أرقام النوع الثاني مصادرها: التقارير الرسمية السنوية، والتعدادات العشر سنوية التي تصدرها أجهزة حكومية مسئولة. وأول تعداد رسمي في مصر كان عام 1882 وتوالت التعدادات بعد ذلك في 1897، ثم كل عشر سنوات باستثناء ظروف محلية أدت إلى تعداد 1960 وبعد ذلك عاد التعداد إلى 1966، وكل عقد بعده إلى آخر تعداد في 1996.
أما التقديرات السابقة على التعدادات فمصادرها كثيرة، نذكر من أهمها: تقدير «الحسن ابن الوزان» - ليون الإفريقي - في عام 1522، وتقدير «جومار» أحد علماء الحملة الفرنسية في آخر القرن 18. وقام «كليرجيه» بمجهود مشكور في جمع وتحقيق التقديرات السكانية للقاهرة من 1400 إلى 1800 بشيء كثير من الدقة واعتمادا على كتابات تاريخية سابقة،
1
وهو ما سنأخذ به لتلك الفترة، بالإضافة إلى نتائج التعدادات المختلفة.
جدول 4-1: تقديرات وتعدادات سكان القاهرة من 1400 إلى 1996 (بالألف).
السنة
تقدير السكان
السنة
تقدير السكان
السنة
تقدير السكان
1400
625
1882
402
1960
3349
1550
435
1907
679
1966
4220
1800
245
1927
1065
1976
5084
1947
2090
1986
6068
1996
6789
واضح من تقديرات السكان في القرون 15-18 أن هناك تدهورا في عدد سكان القاهرة، وربما كان ذلك ناجما عن تضخم تقدير سنة 1400، ولكن لا شك أن عدد السكان قد هبط بعد الاحتلال العثماني وسقوط دولة المماليك وانهيار كبير في تجارة الترانزيت من المحيط الهندي بعد أن استولى الأوروبيون عليها باكتشاف طريق الدوران حول أفريقيا. وقد أورد «الوزان» تقدير عدد الأسر في معظم أحياء القاهرة عام 1522 فكان نحو 30500 أسرة، وإذا كان عدد أفراد الأسرة في ذلك الحين نحو تسعة أفراد - بإضافة الخدم والرقيق - فمعنى ذلك أن سكان معظم أحياء القاهرة كان تقديرا نحو 275 ألفا، يجب أن نضيف إليهم عددا آخر، هم سكان جنوب القاهرة: «طولون والسيدة ومصر عتيقة»، بما يوازي نحو عشر الرقم السابق، فيصبح لدينا 300 ألف أو نحوه هم سكان القاهرة في الفترة التي تلت دخول العثمانيين مباشرة، وهو رقم مقبول يصح البدء به كتقدير لسكان القاهرة في القرن السادس عشر بدلا من 450 ألفا الواردة في الجدول
4-1 ، وفي القرنين التاليين حدث تدهور لعدد سكان القاهرة نتيجة الظروف الاقتصادية والأمنية المتدهورة كما أسلفنا في
الفصل الثالث .
ونتيجة للنظام الجديد والنمو الاقتصادي منذ عصر علي إلى الآن؛ نرى سكان العاصمة في ازدياد مستمر، من نحو نصف مليون إلى نحو سبعة ملايين في الوقت الحاضر؛ أي تضاعف العدد نحو 14 مرة في نحو قرن من الزمان (7162000 نسمة في يناير 2000).
قرن من تطور سكان مصر 1897-1996، والنسبة المئوية لسكان القاهرة إلى مجموع سكان مصر
شكل 4-1
ولا شك أن النمو كان بطيئا في أواسط فترة حكم محمد علي، ولكنها تحسنت تدريجيا مع نمو الاقتصاد الزراعي بصفة خاصة، واستتباب الأمن. واستمر التحسن في عهد إسماعيل برغم الاضطراب المالي، وكان هذا تمهيدا ثابتا لاطراد النمو السكاني المصري والقاهري، بحيث إنه ارتفع إلى 2,8٪ سنويا للقاهرة لمدة ربع قرن من 1882 إلى 1907. ويوضح منحنى الانحدار اللوغرتمي في الشكل
4-2
أن هذا الارتفاع في أعداد السكان بنسبة عالية أخذت تهبط تدريجيا فيما بعد. ثم تضاعف مرتين في الفترة 1927-1947، وبلغ أقصاه في الفترة 1947-1966؛ حيث بلغ نحو 5٪ سنويا، وأخذت نسبة النمو في الهبوط السريع إلى 2٪ في 1976، وأخيرا هبطت إلى 1,2٪ سنويا في عقد التسعينيات.
نمو سكان القاهرة في قرن
شكل 4-2:
يمثل المنحنى نقاط عدد السكان منحنى انحدار لوغارتمي
Log regression .
وهذا الشكل من النمو هو أمر منطقي في مدينة تجدد نفسها؛ تبدأ بنمو بطيء ثم تبلغ ذروتها في منتصف الفترة التي تقع تحت الدراسة، وأخيرا تنتهي بانخفاض كبير بعد أن تشبعت المدينة سكانا حتى ضاقت بهم، وقد وقعت ذروة النمو في أواخر الخمسينيات وكل الستينيات بالتوافق مع إقامة مشروعات تنموية متعددة على رأسها تحويل منطقة حلوان إلى نطاق صناعي كثيف، ومضاعفة إنتاج الكهرباء من محطات حرارية متعددة وكهرباء السد العالي؛ مما ساعد على إنشاء صناعات كهربية عديدة في مناطق متفرقة حول القاهرة وداخلها من شبرا الخيمة إلى ألماظة ودار السلام، وترتب على ذلك التحول الصناعي
2
هجرة متزايدة إلى القاهرة ونمو سكان الأطراف بالقياس إلى قلب المدينة كما سنوضح فيما بعد.
الشكل
4-1
و
4-2
يعطينا صورة متفائلة عن إشكالية القاهرة والسكان. فالنمو قد تباطأ كثيرا الآن بالقياس إلى جيل سابق، ولكن إذا كانت محافظة القاهرة قد حدث فيها ذلك التباطؤ، فإنه إنما حدث لثلاثة أسباب متفاعلة معا: (1)
تطور توزيع الكتل السكانية في نصف قرن - نسب مئوية
شكل 4-3: + القاهرة الكبرى = القاهرة + الجيزة + القليوبية.
السواحل الشمالية = الاسكندرية = دمياط + محافظات القناة.
الدلتا = كل الدلتا عدا دمياط والإسماعيلية. الصعيد ابتدءا من بني سويف.
شكل 4-4 تطور مكونات القاهرة الكبرى 1947-1986-1996 محافظة القاهرة ومدينة الجيزة وشبرا الخيمة
شكل 4-4:
سكان القاهرة الكبرى.
محافظة القاهرة قد تشبعت سكنا وسكانا بما لا مزيد عليه بشكلها الحالي، بحيث لا يوجد متسعات لسكان وعمران جديد، ولكنها يمكن أن تستوعب وتتحسن أحوالها السكنية والسكانية بإعادة تخطيط وتجديد الأحياء القديمة أو ما يسمى اصطلاحيا ب «التجديد العمراني للمدينة
Urban renewal » على سبيل المثال هجرة الوزارات من منطقة لاظ أوغلي التقليدية سوف تترك مساحات كبيرة، فهل تباع أرضها للمضاربين على الأرض أم يعاد رسم خطوط التنظيم فيها، وتصبح جزئيا حدائق وملاعب يحتاجها بشدة سكان عابدين والسيدة زينب؟ وبالمثل ففي أعماق السيدة والحلمية والخليفة والدرب الأحمر وباب الشعرية وروض الفرج والشرابية شوارع تحتاج للتحديث يسهلها وجود بيوت تهالكت، ويؤدي انهيارها من حين لآخر إلى ضحايا كثيرة؛ لأن البيوت مسكونة بكثافة، وأبنيتها متلاصقة بحيث إن انهيار إحداها كثيرا ما يؤدي إلى انهيار البيت المجاور أو يهدده بالانهيار.
ومثل هذا التجديد العمراني الملتزم بخطوط تنظيم جديدة سوف يرفع قيمة الأراضي الداخلية في القاهرة ويساعد على بناء حديث أكثر التزاما بالشروط الصحية، وأكثر انتفاعا بخدمات البنية الأساسية مما هو عليه الوضع الحالي المتصف بالفقر والتكدس الآدمي. (2)
محافظة القاهرة ليست جزيرة منعزلة؛ بل هي جزء لا يتجزأ منذ الستينيات بما تسميه الجهات المسئولة باسم: «القاهرة الكبرى»، التي تمتد عبر النيل إلى بر الجيزة وإمبابة وما بينهما وإلى شبرا الخيمة التي بدأت تظهر كضاحية صناعية عمرانية صغيرة للقاهرة منذ أواسط الثلاثينيات. فالنمو السكاني في القاهرة كان يجد له منافذ جديدة في الغرب والشمال بحيث أصبحت هذه المناطق أسرع نموا من محافظة القاهرة منذ عقد الستينيات، ويوضح شكلي
4-3
و
4-4
كيف أن للقاهرة الكبرى مفهومين؛ أولهما: أنها تتركب من مجمل محافظات ثلاث، هي: القاهرة والجيزة والقليوبية، والثاني: أنها تتشكل من محافظة القاهرة ومدينة الجيزة بضواحيها وقسمي شبرا الخيمة أول وثان، وفي الحالتين نجد اطرادا في الزيادة السكانية بتأثير النمو الداخلي والهجرة. فحسب المفهوم الأول زادت نسبة سكان القاهرة الكبرى في نصف قرن إلى نحو ربع سكان الجمهورية، وتناقصت نسبة سكان الريف في الدلتا والصعيد من 72٪ إلى 64٪ مقابل زيادة محسوسة بمقدار نحو 3٪ في سكان السواحل. فالهجرة إلى المدن، وبخاصة القاهرة الكبرى شيء واضح نتيجة لظروف كثيرة معروفة، وسبقت الإشارة إليها.
ويؤكد شكل
4-4
تراجع نسبة سكان القاهرة إلى مجموع مكونات القاهرة الكبرى، من 82٪ عام 1927 إلى نحو 69٪ فقط في الوقت الحاضر، بينما تضاعفت نسبة سكان مدينة الجيزة وشبرا الخيمة من نحو 18٪ إلى 31٪، وهذا مؤشر على أن الجيزة وشبرا تستقبلان عددا وفيرا من سكان الريف المجاور والريف البعيد، ودليل ذلك تقسيم مركز شبرا الخيمة إلى قسمين، وزيادة أقسام مدينة الجيزة من أربعة أقسام عام 1966: الجيزة والهرم والدقي وإمبابة، إلى سبعة أقسام إدارية - بزيادة العجوزة وبولاق الدكرور والعمرانية - لكي تتعامل الإدارة مع العدد المتنامي بسرعة من السكان.
ومجموع سكان القاهرة الكبرى حسب المفهوم الأول - المحافظات الثلاث - يبلغ نحو 14,8 مليون شخص، بينما هو قريب من عشرة ملايين حسب المفهوم الثاني، وتأخذ كثير من الجهات الحكومية والتخطيطية والإعلامية بالرقم الأكبر دلالة على ضخامة القاهرة الكبرى، بينما هو في الواقع مبالغة كبيرة؛ لأنه يضم كل ريف وحضر محافظتي الجيزة والقليوبية. صحيح أنهم يقعون في الظل المباشر لكتلة القاهرة الكبرى العمرانية، ولكنهم ليسوا جزءا منها. أما رقم الملايين العشرة: فهو أقرب إلى الحقيقة وإن كان يزيد بنحو ما يتراوح بين نصف مليون وثلاثة أرباع المليون الذين يتحركون إلى القاهرة نهارا ويعودون مساء في صورة الحركة اليومية المعهودة في غالب مدن العالم والمدن المصرية. (3)
المدن التوابع للقاهرة سوف تصبح في حالة اكتمالها منافذ أخرى لسكان القاهرة في الشرق والغرب، والنموذج الجيد هو نمو مدينة السلام التي تضاعف سكانها في عقد التسعينيات من 140 ألفا سنة 1986 إلى 366 ألفا عام 1996، وبالمثل نما سكان 15 مايو من 25 ألفا إلى 65 ألفا في نفس الفترة، ومدينة السلام هي المتنفس المكاني في شمال شرق القاهرة، بينما 15 مايو هي استجابة للنمو الكبير لسكان المنطقة الصناعية حلوان-التبين. فهل يؤدي الضغط السكاني في القاهرة إلى تكرار نموذج السلام أو مايو في عقد تال بالنسبة للمدن العديدة كالشروق والقاهرة الجديدة و6 أكتوبر؟ (2) القاهرة الكبرى
سكان القاهرة الكبرى أعوام 1927 و1947 و1986 و1996
شكل 4-5
إذا كان سكان محافظة القاهرة قد بلغ قرابة سبعة ملايين في قرن، فإن سكان مدينة الجيزة وضواحيها الشمالية إلى إمبابة والغربية إلى الهرم قد زادت بسرعة تفوق القاهرة بكثير. فقد ارتفع عدد السكان من 600 ألف عام 1966 إلى قرابة مليونين وربع المليون عام 1996؛ أي زادوا بمقدر 375٪ في ثلاثين سنة، وفي الفترة الإحصائية 1986-1996 كانت الزيادة السكانية في محافظة القاهرة بمقدار 11,9٪ بينما كانت في محافظة الجيزة ككل 28,2٪، أما النمو في مركز الجيزة فقد ارتفع إلى 39,7٪ لنفس الفترة، أو ما يعادل قرابة ثلاثة أضعاف ونصف قدر القاهرة، وكذلك نما سكان شبرا الخيمة بنسبة 22٪ في نفس الفترة.
يضم الشمال أقسام: شبرا الخيمة والساحل والزاوية الحمراء والشرابية وشبرا وروض الفرج. الشمال الشرقي يضم أقسام: حدائق القبة والزيتون والمطرية وعين شمس والمرج. الشرق يشمل أقسام: مدينة السلام والنزهة ومصر الجديدة ومدينة نصر ومنشأة ناصر. الوسط يشمل أقسام: الوايلي والظاهر وباب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر والخليفة والسيدة زينب وعابدين والموسكي والأزبكية وبولاق وقصر النيل والزمالك. الجنوب يضم أقسام: مصر القديمة والبساتين-دار السلام والمعادي وطرة وحلوان و15 مايو والتبين. الغرب يشمل: إمبابة والعجوزة والدقي والجيزة وبولاق الدكرور والعمرانية والهرم.
وهناك مجموعة من الحقائق التي تظهر في شكل
4-5
موجزها في الآتي: (1)
انقلاب حاسم في سكان القاهرة المركزية المرموز لها في الشكل بالوسط، من سيطرة على مجمل السكان حتى 1947 إلى قلة واضحة بالنسبة للأطراف. فقد انخفضت مساهمتها في سكان القاهرة من 76٪ عام 1927 إلى 66٪ لعام 47 إلى 21٪ عام 86 وإلى 15٪ فقط عام 1996، وليس معنى هذا انخفاض العدد الفعلي لسكان وسط القاهرة، بل هم زادوا بنحو مرة ونصف المرة في الفترات التعدادية المذكورة، لكنها زيادة لا تقارن بالأطراف. (2)
نما سكان شمال القاهرة من نسبة 15٪ عام 27 إلى 31٪ عام 86 ثم انخفضت النسبة إلى 26٪، ويبدو أن الانخفاض نتيجة عاملين؛ أولهما: تشبع المنطقة الشمالية بما لا مزيد عليه لدرجة هجرة بعض سكانه إلى مناطق أخرى من القاهرة الكبرى، والعامل الثاني: النمو المتلاحق لسكان منطقتي الشمال الشرقي والجنوب حيث متسعات مكانية وأنشطة اقتصادية أوفر من النطاق الشمالي. (3)
تزايد سكان منطقة الغرب - لأسباب سبق ذكرها - حتى أصبحت هي المنطقة الأولى عددا ونسبة من بين سكان القاهرة الكبرى. فقد كانت وحدها تشكل نحو ربع السكان عام 1996. (3) تغير الأقسام الإدارية
إن أحد أهم المصاعب في دراسة التغيرات السكانية عددا ونوعا وكثافة في مدينة ما هو تغير أقسامها الإدارية مرة أو مرات متعددة، وهذا هو ما حدث في القاهرة، سواء في ذلك أقسام محافظة القاهرة أو أقسام مدينة الجيزة وشبرا الخيمة.
في تعداد 1882 كان بالقاهرة 12 قسما، وقبل ذلك كانت القاهرة مقسمة إلى أثمان، وهي جمع ثمن ( ) بما يعني أن القاهرة كانت تضم ثمانية أقسام على الأقل منذ عصر محمد علي، وفي 1996 أصبح هناك 37 قسما في محافظة القاهرة بالإضافة إلى قسمين في شبرا الخيمة وسبعة أقسام في مدينة الجيزة، وبعبارة أخرى: تنقسم القاهرة الكبرى إلى 46 قسما ربما تزيد فيما بعد، وبخاصة في الشرق، تلبية للتنمية الجارية تحت مسمى القاهرة الجديدة.
لقد ظلت الأقسام الوسطى القديمة في القاهرة دون تغيير باستثناء تقسيم عابدين إلى قسمين؛ هما: عابدين وقصر النيل الذي انقسم بدوره إلى قصر النيل والزمالك، وكذلك تكون قسم الظاهر من أجزاء من باب الشعرية والأزبكية والوايلي. أما أقسام الأطراف فهي التي أخذت الإدارة في تقسيمها، وإعادة تخطيطها في الفترات الزمنية المختلفة؛ نتيجة لنمو أعداد السكان والهجرة الداخلية من القلب إلى الأطراف، ولقد بدأ تكوين أقسام جديدة من تعداد 1966 انسلاخا من أقسام أطراف القاهرة. مثلا: تكون قسم المعادي من مصر القديمة، وتكون قسم الساحل من روض الفرج، وقسم المطرية من الزيتون، وتكون الدقي والأهرام من إمبابة والجيزة.
وفي تعداد 1986 تشكلت معظم أقسام القاهرة الكبرى الحالية بالتقسيم أو الإضافة، بينما كان التغيير طفيفا في 1996 بتكوين قسم طرة وتقسيم مدينة نصر وشبرا الخيمة إلى أول وثان، وتتبع القائمة الآتية تاريخ تكوين الأقسام الإدارية في القاهرة، كما توضح الخريطة
4-6
أقسام القاهرة الكبرى بين 1966 و1996.
شكل 4-6:
تغير حدود وعدد أقسام القاهرة الكبرى بين 1966و1996.
جدول : تطور الأقسام الإدارية للقاهرة الكبرى في قرن.
1882
1927
1947
1966
1986
1996
الجمالية
الجمالية
الجمالية
الجمالية
الجمالية
الجمالية
الدرب الأحمر
الدرب الأحمر
الدرب الأحمر
الدرب الأحمر
الدرب الأحمر
الدرب الأحمر
الخليفة
الخليفة
الخليفة
الخليفة
الخليفة
الخليفة
البساتين
البساتين
السيدة زينب
السيدة زينب
السيدة زينب
السيدة زينب
السيدة زينب
السيدة زينب
عابدين
عابدين
عابدين
عابدين
عابدين
عابدين
قصر النيل
قصر النيل
قصر النيل
الزمالك
الزمالك
الموسكي
الموسكي
الموسكي
الموسكي
الموسكي
الموسكي
باب الشعرية
باب الشعرية
باب الشعرية
باب الشعرية
باب الشعرية
باب الشعرية
الظاهر
الظاهر
الظاهر
الأزبكية
الأزبكية
الأزبكية
الأزبكية
الأزبكية
الأزبكية
بولاق
بولاق
بولاق
بولاق
بولاق
بولاق
شبرا
شبرا
شبرا
شبرا
شبرا
شبرا
روض الفرج
روض الفرج
روض الفرج
روض الفرج
الساحل
الساحل
الساحل
الشرابية
الشرابية
ترعة البولاقية
زاوية الحمراء
زاوية الحمراء
شبرا الخيمة
شبرا الخيمة
شبرا الخيمة (2)
الوايلي
الوايلي
الوايلي
الوايلي
الوايلي
مصر الجديدة
مصر الجديدة
مصر الجديدة
مصر الجديدة
الزيتون
الزيتون
الزيتون
المطرية
المطرية
المطرية
النزهة
النزهة
عين شمس
عين شمس
المرج
المرج
السلام
السلام
حدائق القبة
حدائق القبة
مدينة نصر
م. نصر أول
م. نصر ثان
منشأة ناصر
منشأة ناصر
مصر القديمة
مصر القديمة
مصر القديمة
مصر القديمة
مصر القديمة
مصر القديمة
المعادي
المعادي
المعادي
طرة
حلوان
حلوان
حلوان
15 مايو
15 مايو
التبين
التبين
إمبابة
إمبابة
إمبابة
إمبابة
إمبابة
إمبابة
الدقي
الدقي
الدقي
العجوزة
العجوزة
الجيزة
الجيزة
الجيزة
الجيزة
الجيزة
الجيزة
بولاق الدكرور
بولاق الدكرور
الأهرام
الأهرام
الأهرام
العمرانية
العمرانية (4) حركة السكان بين الأقسام
تطور سكان بعض أقسام القاهرة في نصف قرن 1947-1996
شكل 4-7
وبرغم هذه المصاعب فإنه يمكن تبين المتغيرات العددية التي حدثت في أقسام القاهرة خلال شرائح زمنية: في أقسام القاهرة المركزية تظهر المتغيرات العددية على طول فترات التعدادات، بينما يقتصر ظهور الأقسام الخارجية على تعدادات أقل كلما اتجهنا إلى الأطراف.
ويوضح الشكل
4-7
كيف أن معظم الأقسام الداخلية في القاهرة المركزية، والتي لم يحدث فيها تغيير إداري إلا في أضيق الحدود، قد تناقص سكانها بنسب مختلفة خلال نصف قرن؛ نتيجة لزحف نشاطات الأعمال، وارتفاع أسعار الوحدات السكنية، فضلا عن ضيق مساحة هذه الأقسام؛ مما أدى إلى هجرة السكان خارج هذه الأقسام الوسطى من القاهرة. فعلى سبيل المثال تناقص سكان الجمالية في نصف القرن 47-96 إلى 55٪ فقط من سكان 47. وعلى ذات المنوال تناقص سكان الدرب الأحمر إلى 64٪ من سكانه عام 47، وسكان الأزبكية إلى 40٪ والموسكي إلى 80٪ وباب الشعرية إلى 45٪.
وكان أكبر تناقص هو في بولاق؛ حيث هبط سكان 96 إلى نحو 32٪ من عدد سكانه عام 1947، ولا شك في أن هبوط سكان بولاق راجع إلى أنه يحتل واجهة طويلة على ضفة النيل؛ مما جعلها مطمحا لإقامة الأبنية الإدارية والحكومية والفندقية والأسواق الكبرى.
ولكن ذلك لم يكن كل مسببات تناقص سكان بولاق. فقد بدأ تفكك الجانب الشرقي من بولاق على طول واجهة شارع الجلاء من ميدان عبد المنعم رياض إلى ميدان رمسيس بكل الأبنية الحديثة، وبخاصة مباني جريدتي الأهرام والأخبار، فضلا عن الأبنية النقابية والمستشفيات الكبيرة والفنادق؛ وترتب على ذلك غزو بولاق من الشرق والغرب والجنوب، وبدأت عشش الشيخ علي والترجمان وأسواق القاهرة التقليدية خلف واجهة النيل تتهاوى أمام الزحف الجديد، وبخاصة وكالة البلح التي أخذت في التراجع النسبي، وكان لنقل سوق الجملة في روض الفرج إلى العبور وغيره من الأسواق والأماكن التقليدية صدى كبير في بولاق. إنه قد آن الأوان لتخلي بولاق نشاطها التجاري التقليدي أمام أنشطة أخرى حديثة، وآخر هذا الغزو مشروع تحويل الترجمان إلى محطة مركزية للنقل البري، ولنا على ذلك اعتراضات سوف نوردها في فصل قادم.
نمو سكان أقسام القاهرة الخارجية في تعدادي 1986 و1996
شكل 4-8
وعلى هذا النحو يمكن تفسير تراجع أعداد السكان في أقسام القاهرة المركزية كهبوط سكان السيدة زينب إلى 80٪؛ نتيجة لعوامل كثيرة نفرد منها: تهالك وقدم الأبنية وهجرة بعض الوزارات من لاظ أوغلي والدواوين إلى العباسية ومدينة نصر وإمبابة، وكذلك هبوط سكان باب الشعرية والجمالية راجع - من بين أسباب أخرى - إلى تحول أبنية سكنية إلى مشاغل ومعامل حرفية.
أما الأقسام التي زاد عدد سكانها في الشكل
4-7
فترجع في الأساس إلى أنها كانت تشغل مساحات كبيرة في الواجهات التي تنمو فيها القاهرة؛ مما دعا إلى تقسيمها إلى أقسام عديدة، فمثلا كانت مصر الجديدة عام 47 تضم كل المساحة التي تشغلها الآن أقسام مصر الجديدة والنزهة والزيتون والمطرية وعين شمس. والوايلي 47 انقسمت إلى الوايلي وحدائق القبة. وشبرا إلى شبرا والشرابية والزاوية الحمراء وجزء من الساحل الذي كان ضمن قسم روض الفرج. ومصر القديمة انقسمت إلى البساتين-دار السلام والمعادي وطرة. وحتى عابدين ذي المساحة الصغيرة وسط البلد انقسم إلى عابدين وقصر النيل والزمالك (راجع خريطة
4-6 ).
ولهذا فإن أعداد السكان في هذه الأقسام قد زادت على نحو ما يعبر عنه المنحنى اللوغرتمي في الشكل إذا ضمنا كل الأقسام التي تفرعت عن القسم الأم. أما القسم الأم في هذه المجموعة فقد هبط عدد سكانه كما يتضح من منحنى سكان 1996؛ نتيجة تفرق السكان والهجرة الداخلية من وسط القاهرة، والهجرة من خارج القاهرة التي تجد في أقسام الأطراف متسعا لإقامة مساكن رخيصة للسكن الفقير والطفيلي معا، وتزداد هذه الحقائق تأكيدا بتأمل شكلي
4-8
و
4-9
بما لا يحتاج إلى مزيد. (5) تكاثف السكان
من الأرقام والأشكال السابقة لا بد وأن صورة تكاثف وتركز سكان القاهرة قد اعترتها تغييرات مستمرة على طول تاريخ القاهرة الطويل. ففي منتصف القرن 16 كان تركيز سكان القاهرة في المنطقة الشرقية من القاهرة المركزية - أي في المناطق التي يحتلها الآن أقسام الجمالية والدرب الأحمر وباب الشعرية، وأجزاء من أقسام الخليفة والموسكي والظاهر وعابدين - واستمر هذا الوضع إلى نحو منتصف القرن 19 بعد التوسع العمراني غربا إلى ما نعرفه باسم قاهرة إسماعيل، فانتشر السكان بأعداد متقاربة بين القاهرتين القديمة والجديدة، ولتأكيد ذلك كان سكان القاهرة القديمة أكثر من 90٪ من مجموع العام في تقديرات 1550 و1800. وعند أول تعداد في عام 1982 أصبح سكان القاهرة القديمة يشكلون نحو 37٪ وقاهرة إسماعيل نحو 55٪ والباقي موزع بين بدايات العباسية وشبرا. وفي 1927 هبطت مساهمة المنطقة القديمة الشرقية والمنطقة الغربية إلى 31٪ و48٪ على التوالي، في حين ارتفع عدد سكان الأطراف إلى نحو 15٪ من المجموع الكلي لسكان القاهرة.
النسبة المئوية لزيادة ونقص السكان في أقسام القاهرة الكبرى 86-1996
شكل 4-9:
تكاثف السكان
ويمكن أن نعتبر 1947 بداية النمط السكاني المعاصر للقاهرة. فقد هبطت المنطقة الشرقية إلى 22٪ والغربية إلى 37٪ بينما توزع 41٪ من السكان على بقية الأطراف، وحظي شمال القاهرة بنحو 19٪ والشمال شرقي نحو 10٪ والشرق 7٪ والجنوب 5٪، واستمر هذا النمط في تعداد 1986 حيث هبط وسط القاهرة شرقه وغربه إلى 17٪ وارتفع سكان الشمال إلى 22٪ والشمال الشرقي إلى 31٪ والشرق إلى 9٪ والجنوب إلى 21٪، وعلى هذا نجد نمو سكان أحياء الشمال الشرقي فاقت كل أحياء القاهرة في نمو شديد السرعة، بينما كان نمو أحياء الشمال قد تباطأ مقابل نمو متسارع في أحياء الجنوب.
وفي 1996 تضاعفت هذه الصورة من حيث استمرار هبوط نسبة وعدد سكان الوسط إلى 12٪ فقط، وهبوط محسوس في سكان الشمال على 17٪ مما يدل على أن أقسام الوسط والشمال أصبحت طاردة للسكان نتيجة التشبع الشديد. أما الشمال الشرقي فقد واصل ارتفاعه إلى نسبة نحو 33٪ وأصبح بذلك أكبر مناطق محافظة القاهرة سكانا واقترب كثيرا من مجموع سكان كل أقسام غرب القاهرة من إمبابة إلى الجيزة والهرم. وواصلت أقسام الشرق والجنوب نموها السكاني فبلغت النسبة نحو 13٪ و24٪ على التوالي.
ويؤكد الشكل
4-10
هذه الدينامية في حركة السكان داخل محافظة القاهرة في قرون أربعة، بحيث يوضح بجلاء كيف انتقل الثقل السكاني القاهري من الوسط إلى الشمال، وأخيرا التوزيع شبه العادل بين الشمال الشرقي والشمال والجنوب وإسهامات متنامية في الشرق.
حركة السكان داخل القاهرة في أربعة قرون
شكل 4-10
تحسب كثافة السكان على معيارين؛ أولهما: عدد الأفراد في الكيلومتر المربع من المساحة، والثاني: درجة التزاحم التي تقيس عدد الأفراد للغرفة الواحدة، والمعيار الأول يعطي انطباعات بآلاف السكان؛ ولهذا فهو غير محبوب بالنسبة لقياس كثافة المدن، ومع ذلك فهو مفيد في تبين مناطق التركز والتخلخل في الخريطة السكانية لأي مدينة، وبالتالي فهو يستخدم في جميع أغراض التنمية والتحسين الخدمي في المدينة.
أما معيار التزاحم، فهو مفيد في التعرف على مدى التفاوت الاجتماعي والمالي لقدرات السكان؛ فإن كان التزاحم فردا أو أقل للغرفة دل ذلك فورا على منسوب حياتي عال، وإن كانت الدرجة فردين أو أكثر للغرفة فهو دال على أننا أمام حي متوسط أو فقير يتزاحم فيه أفراد أسرة غالبا كبيرة العدد في وحدة سكنية صغيرة. ويعيب هذا المعيار أن غرف الوحدة السكنية لا يتضح فيها غرف النوم من غرف المعيشة والمنافع الأخرى، ونحن نقف في تعدادات القاهرة أمام مشكلة أخرى: هل كل الوحدات السكنية في منازل مبنية أم يدخل فيها أشكال أخرى من مساكن الإيواء، أو مأوى من مواد هالكة كالعشش وأشكال من السواتر الخشبية والأقمشة من أجل إيجاد خصوصية في حدها الأدنى كما هو الحال في الكثير من أماكن السكن الطفيلي؟ فكيف نحسب التزاحم في مثل هذه الحالات؟
وليس لدينا من تفصيل لمثل هذه الموضوعات، وعلينا أن نكتفي بأرقام تعداد 1996 كما يتضح من الشكل
4-11
على أنه مجرد مؤشر لمعيار التزاحم في أحياء القاهرة، وبخاصة المناطق العشوائية، مثل: عزبة الهجانة على طريق السويس شمال مدينة نصر أو أحياء الشمال الشرقي.
أولا:
ما نلاحظه من الشكل انخفاض درجة التزاحم عن فرد/غرفة في الأزبكية والمعادي وقصر النيل والزمالك والدقي والعجوزة والنزهة، وهذا أمر طبيعي؛ حيث إن سكان هذه الأقسام من الموسرين، أو إنها أقسام يتركز فيها مكاتب أعمال وأطباء ومحلات تجارية وأبنية حكومية كما هو حال قصر النيل والأزبكية.
ثانيا :
تتراوح باقي الأقسام بين فرد إلى فردين للغرفة برغم التباين الشديد في التكوين المالي الاجتماعي بين أقسام كمصر الجديدة والمطرية على سبيل المثال، وهو ما يجعلنا نأخذ بحذر شديد هذه الأرقام.
ثالثا:
أعلى درجات التزاحم هي حلوان، وإلى جوارها التبين التي لا تختلف عنها كثيرا في مضامين الحياة، بل إن في حلوان مدينة سكنية معقولة، بينما تطغى عزب وطفيليات على الشكل العمراني في التبين. فكيف تكون درجة التزاحم في حلوان 9,4 فرد/غرفة، وفي التبين 1,2 فرد/غرفة؟
رابعا:
إذا قارنا نسبة الأمية مع التزاحم سوف نجد في غالب الأحوال أمية عالية مقترنة بكثافة عادية عالية كعين شمس والمطرية والزاوية الحمراء ومنشأة ناصر، أو الأقسام شبه الريفية في الجيزة. فكيف لا ترتفع درجة التزاحم في مثل هذه الأحياء؟ (6) الكثافة السكانية للكيلومتر المربع
ربما كانت الكثافة السكانية إلى الكيلومتر المربع أكثر إيحاء بالأوضاع السكانية في القاهرة الكبرى كما يظهر من شكل
4-12
ومن خريطتي الكثافة
4-13
و
4-14
لسنتي 1986 و1996.
بعض الظواهر السكانية للقاهرة الكبرى 1996 نسبة الأمية والتزاحم فرد/غرفة
شكل 4-11
في 1966 كانت أعلى الكثافات في باب الشعرية؛ حيث بلغت نحو 130 ألف شخص/كيلومتر مربع، ولعل هذا هو ما دعا إلى أبحاث ميدانية قام بها أساتذة الاجتماع حول هذه الظاهرة، وتلتها كثافة +100 ألف في روض الفرج، ولكن بعد جيل نرى أن هذه الكثافات شديدة العلو قد انخفضت بدرجات ملحوظة. ففي 1996 انخفضت الكثافة في باب الشعرية إلى أقل من نصف قيمتها قبل 30 سنة بحيث بلغت 60 ألف شخص/كم
2 .
بعض الظواهر السكانية للقاهرة الكبرى 1996
شكل 4-12
وبالمثل هبطت كثافة روض الفرج إلى 71 ألف/كم
2 ، وإن ظلت واحدة من ثلاثة أقسام شديدة التكاثف في القاهرة عام 1996، وهي المطرية 76 ألفا/كم
2
والشرابية 73 ألفا، إضافة إلى روض الفرج، والمعنى أنه قد حصلت هجرة للكثافات العالية من وسط القاهرة إلى الشمال والشمال الشرقي بوجه خاص كما نتبينه من خريطة 1996: «الشرابية، الزاوية الحمراء وشبرا الخيمة في اتجاه الشمال، وحدائق القبة والزيتون والمطرية وعين شمس في اتجاه الشمال الشرقي». وانخفضت أقسام وسط القاهرة من فئة 75-100 ألف شخص/كم
2
إلى فئة 25-50 ألفا، أعلاها السيدة زينب 42 ألفا والموسكي 36 ألفا، وأدناها الأزبكية 20 ألفا والجمالية 24 ألفا. أما كثافة سكان قسمي قصر النيل والزمالك فقد ظلت في الفئة الدنيا من كثافات القاهرة بقيم 10 و6 آلاف شخص/كم
2
على التوالي.
وفي 1966 كانت الأطراف الشمالية التي كانت تمثلها أقسام مصر الجديدة والمطرية وشبرا الخيمة تقع في فئة كثافة أقل من 10 آلاف شخص/كم
2 ، ولم يبق في هذه الفئة سوى مصر الجديدة وما انبثق عنها من أقسام، بينما ارتفعت قيم الكثافة في شبرا الخيمة إلى 34 ألفا، والمرج والسلام إلى ما بين 10 و20 ألفا. وبقاء الكثافة منخفضة في مصر الجديدة والنزهة ومدينة نصر راجع إلى ضخامة مساحات هذه الأقسام. فالنزهة هي أكبر أقسام القاهرة مساحة وتبلغ قرابة 67كم
2
ومدينة نصر أول وثان 46كم
2 ، ونضيف إلى ذلك أنهما يضمان أراضي صحراوية شاسعة، والمطارين: الدولي وألماظة، ومساحات كبيرة لأبنية حكومية وعامة وأندية متعددة للقوات المسلحة والأندية الخاصة، وعدد من الصناعات خاصة في مدينة نصر.
وفي ذات الوقت تحولت مصر القديمة والخليفة من فئة كثافة 50-75 ألفا إلى 21 و17 ألفا على التوالي، مقابل نمو مذهل للمنطقة بينهما وبين المعادي - والتي تحولت الآن إلى قسم البساتين/دار السلام - إلى تكاثف سكاني بلغ 47 ألف شخص/كم
2 . أما حلوان فقد هبطت برغم زيادة عدد سكانها بسرعة فائقة؛ نتيجة لتوسع مساحة قسم حلوان ومايو والتبين، فانخفضت الكثافة إجمالا. لكن الدراسة التحليلية سوف تبين كثافات سكانية شديدة الارتفاع في العزب والقرى داخل قسمي حلوان والتبين، فغالب مساحة القسمين مصانع ضخمة وأرض رملية وصخرية خالية.
وإذا كانت محافظة القاهرة قد نمت في كل الاتجاهات الممكنة شمالا وجنوبا وشرقا، فإن الجيزة قد تأخرت كثيرا عن القاهرة، وإن تسارع نموها بشكل مذهل منذ سبعينيات القرن العشرين، وسبق أن ذكرنا في الفصل الأول أن النمو العمراني غرب النيل بدأ بإنشاء الكباري وشق الطرق منذ نهايات عصر إسماعيل، وما زال إنشاء الكباري مستمرا حتى الآن تلبية لعمران البر الغربي، وآخرها المنيب والوراق على الطريق الدائري، وبدأ العمران يمتد على الأرض الزراعية على استحياء بطول طريق الهرم وطريق التحرير إلى الدقي وبولاق الدكرور. ثم نمت مدينة الأوقاف إلى عدة أحياء أشهرها المهندسين والعجوزة، ومن ثم توالت الطرق القاطعة للوادي الزراعي موازية لشارع الهرم شماله وجنوبه، كان آخرها محور 26 يوليو واستكمال الدائري من المنيب إلى الهرم، ولا نشك في أن هذه العملية سوف تستمر من إمبابة وبولاق الدكرور إلى الواجهة الصحراوية شمال الأهرام في اتجاه مدينة 6 أكتوبر والمدن الأخرى إلى جوارها.
والملاحظ بصفة عامة أن النمو العمراني غرب النيل هو غالبه الأعم سكني بدرجات مختلفة، ولا تتداخل فيها أنشطة أخرى - باستثناء التجارة بأحجامها - كالقاهرة إلا في أقل القليل، وأقرب ما يتشابه مع القاهرة ذلك التداخل الملحوظ في إمبابة بين السكن والأنشطة الحرفية.
شكل 4-13:
كثافة السكان لعام 1966 في محافظة القاهرة.
شكل 4-14:
كثافة السكان لعام 1996 في محافظة القاهرة.
ونتيجة النمو السريع فإن أقسام الجيزة كلها ذات كثافات عالية القيمة، مع استثناء قسم الدقي الذي تسيطر على أجزاء كثيرة منه أشكال من السكن المترف، وتحول الكثير من الفيلات إلى الأنشطة الطبية والعلاجية، ولا شك في أن التزاحم عال في الأحياء الفقيرة في إمبابة والجيزة الجنوبية والدكرور والقرى الكثيرة في الهرم والعمرانية.
وإذا بعدنا عن متاهات الأرقام في أقسام القاهرة الكبرى فإنه يمكن تلخيص الموقف السكاني إجمالا على نحو ما يظهر من الجدول الآتي والخريطة
4-15 .
ست مناطق تجميعية لإقليم القاهرة الكبرى.
من القاهرة الكبرى
الوسط
الشمال
شمال شرق
الشرق
الجنوب
الغرب
المساحة ٪
4,1
10,4
9
36,8
26,4
13,2
السكان ٪
6,3
20,5
19,6
12,5
18,6
22,5
الكثافة بالألف
30
38,4
42,2
6,6
13,7
33,2
ويمكن تلخيص نتائج الجدول فيما يلي: (1)
منطقتا الشمال والجنوب هما مناطق الصناعة الرئيسية في القاهرة الكبرى، وخاصة في شبرا الخيمة وحلوان والتبين؛ مما يؤدي إلى كثافات سكانية عالية متداخلة وسط المصانع، مما يترتب عليه أحزمة فقر شديد مع بعض العشوائيات.
ويكونان معا 37٪ من مساحة القاهرة الكبرى و39٪ من سكانها.
روض الفرج والساحل في الشمال كانت تناظر منطقة أثر النبي في مصر القديمة من حيث الوظيفة التجارية كمواني نهرية للقاهرة، ونفس الظاهرة النهرية هي التي جعلت منهما شرائط تنمية عمرانية حديثة لأبراج إدارية وحكومية وسكنية ومستشفيات شاسعة وفنادق كبيرة على طول الواجهة النيلية من أغا خان إلى بولاق في الشمال، ومن أثر النبي إلى المعادي في الجنوب.
ولكن خلفهما مباشرة ما زالت أشكال العمران الفقير الكثيف تسيطر على روض الفرج والساحل؛ لتلتحم مع السكن الكثيف والطفيلي في الزاوية الحمراء والشرابية في النطاق التجميعي الشمالي. وعلى الصورة ذاتها نجد في النطاق التجميعي الجنوبي أحزمة من السكان والسكن الفقير خلف الكورنيش من فم الخليج إلى دير النحاس، والإسكان الشعبي من «أبو السعود» إلى المناطق المحيطة بالكنائس والأديرة وجامع عمرو حول شارع حسن الأنور والمدابغ القديمة ودار السلام وإسطبل عنتر والعزب القديمة شمالي المعادي. وتمتد هذه الظاهرة أيضا جنوب طرة إلى التبين، ومعظمها سكن فقير إلى شديد الفقر، وخاصة في عشوائيات جنوب المعصرة، وعلى طول ترعة الخشاب وفي التبين والمرازيق، والنقاط المضيئة في الجنوب هي السكن متوسط الحال في مدينة حلوان وجامعة حلوان إلى الشمال منها، والسكن المخطط في مدينة 15 مايو. (2)
شكل 4-15:
ست مناطق تجميعية لإقليم القاهرة الكبرى.
المنطقة التجميعية في الشمال الشرقي هي ثاني أصغر قطاعات القاهرة الكبرى بمساحة نحو 9٪، لكنها تستأثر بحوالي خمس السكان؛ مما يجعلها أعلى مناطق القاهرة في كثافة السكان. كانت المنطقة تتشكل من سكن الموثرين عند نشأتها في أحياء القبة والزيتون والمطرية، ولكن فيلات وقصور المنطقة تقسمت إلى مساكن صغيرة المساحة في الصورة التي سبق ذكرها في الفصل
الأول
من حيث وجود الظاهرة المعكوسة: ابتلاع السكن الفقير القروي الأصل للسكن الموسر؛ وبذلك أصبحت المنطقة هي الأولى في القاهرة لنطاق الفقر مع نمو هذا النمط على حساب الأرض الزراعية في المطرية وعين شمس والمرج غربا في اتجاه ترعة الإسماعيلية عند مسطرد، وشمالا مع خط حديد الضواحي الذي أصبح مسارا لخط مترو الأنفاق الأول، ومما يزيد كثافة السكن والسكان نشأة منطقة صناعية حرفية في قباء والحرفيين، وعلى طول طريق جسر السويس من عين شمس إلى السلام. (3)
منطقتا الشرق والغرب، هما بصورة أساسية مناطق سكنية لكنهما يختلفان. ففي الشرق نمط سكن متوسط إلى موسر في مصر الجديدة والنزهة ومدينة نصر، بينما الغرب يسيطر على غالب سكانه النمط الفقير عدا شرائح كورنيش النيل وسكان قسمي العجوزة والدقي. ويضم الشرق تركزا واضحا في السكن الطفيلي الصحراوي والجبلي في عزبة الهجانة وعزب منشأة ناصر ووادي الدويقة، بينما السكن الطفيلي في الغرب هو بالأساس سكن ريفي متدهور حيث فقد السكان مهنة الزراعة، وتحولوا إلى أجراء وعمال غير ماهرة. وتتمثل في المنطقتين تجمعات واسعة للنشاط التجاري الحديث الذي يمثله أسواق «المول» المجمعة في مصر الجديدة وعباس العقاد وشارع الهرم وبعض شوارع المهندسين. وهذا التحول ناجم عن ضيق الأسواق الأصلية في وسط القاهرة، ووجود رأسمال استثماري في أشكال التجارة الحديثة. (4)
وسط القاهرة التي تشكل أقل مناطق القاهرة مساحة وسكانا لا تزال تنقسم إلى وسط شرق ووسط غرب، ولكل منهما صفات خاصة بين التكوين القديم والحديث، لكنهما معا يكونان أكبر مناطق الأعمال الحكومية والعامة والخاصة، والتجارة بقسميها: الجملة والقطاعي، ونشاط حرفي في غالبه تقليدي، والملاحظ تناقص السكان عددا في هجرة إلى مناطق القاهرة الأخرى بالصورة التي أسلفنا الكلام عنها.
مقارنات ديموجرافية واجتماعية لبعض أقسام القاهرة حسب نتائج تعداد 1996
شكل 4-16
ويظهر الشكل
4-16
مقارنات ديموجرافية واجتماعية لنماذج من مناطق القاهرة الكبرى، وهو لا يحتاج إلى شرح كثير. باب الشعرية والجمالية يمثلان القاهرة القديمة حيث ترتفع نسبة العاملين إلى +75٪ مع ارتفاع قيمة الأمية إلى نحو ثلث السكان، وانخفاض عدد أفراد الأسرة نتيجة هجرة الأسر الجديدة، وبقاء الأسر القديمة في أحيائها التقليدية. كذلك تتميز الأبنية بارتفاع نسبي لأبنية العمل وأبنية مختلطة للعمل والسكن معا، وباختصار فالجمالية وباب الشعرية يمثلان بقايا النمط السكني/الحرفي التقليدي، ويمكن أن نضم روض الفرج إلى هذا النموذج مع اختلاف الارتفاع الكبير في نسبة أبنية السكن في روض الفرج، فالأعمال قليلة خاصة بعد انتقال سوق الجملة إلى العبور.
وتشبه حالة قصر النيل الجمالية في كثرة أبنية العمل، وارتفاع نسبة فئة قوة العمل، ولكنها تختلف في ارتفاع كبير لفئة الجامعيين وانخفاض الأمية، وذلك ناجم عن كون قصر النيل هي مركز الأعمال والتجارة الحديثة. ويتشابه الدقي ومدينة نصر في الكثير من المعطيات باعتبار أنهما أحياء سكنية متوسطة إلى موسرة.
أما حالات حلوان والبساتين والمطرية فتشترك في ارتفاع نسبة الأطفال إلى 30٪ أو أكثر.
وانخفاض قوة العاملين، وسيادة أبنية السكن، وقلة واضحة في أبنية الأعمال، وارتفاع نسب الأمية؛ فنحن هنا أمام أحياء كثيفة السكان، وبخاصة الطفيليين. (7) بعض مظاهر ديموجرافية
المظاهر الديموجرافية التي تظهر خصائص سكان مدينة أو إقليم ما متعددة، ربما كان من أهمها: نسبة الذكور والإناث في المجتمع، ودرجة الخصوبة التي توضح إمكانيات النمو السكاني إلى النمو الفعلي السنوي، وتركيب المجتمع من الفئات العمرية والهرم السكاني الناجم عن هذا التركيب ودلالاته في النمو والثبات السكاني وتكوين قوة العمل، والخصائص الصحية للمجتمع الناجمة عن دراسة نسب الوفيات العامة، ووفيات الأطفال والرضع بصفة خاصة، ونسبة كبار السن إلى مجموع السكان، وغير ذلك من الأمور التي توضح في مجموعها أداء المجتمع ككائن حي: هل ينمو أم ينكمش؟ هل هو مجتمع صحي أم تشوبه أمراض مزمنة أو متوطنة تقلل أو تقزم طاقته الإنتاجية؟ وفيما يأتي سوف نتناول - قدر المعلومات الرقمية المتاحة - بعضا من هذه الموضوعات للتعرف بصورة عامة على الشكل الداخلي لمجتمع القاهرة. (7-1) تركيب الجنس
مصر من الدول التي تزيد فيها نسبة الذكورة بدرجة محسوسة، وينعكس ذلك على سكان القاهرة التي تبلغ نسبة الذكور فيها 51,2٪.
المنطقة والإقليم
مصر
حضر
ريف
محافظات حضرية
محافظات الدلتا
محافظات الصعيد
محافظات الحدود ٪ ذكور
51,17
51,27
51,09
51,23
51,08
51,25
53,4
وتختلف أقسام القاهرة اختلافا محسوسا فيما بينها في ارتفاع نسبة الذكور عن الإناث كما يتضح من الشكل
4-17 . أعلى نسبة ذكور في الوايلي والأزبكية، وأدناها في مصر الجديدة والنزهة. وفوق متوسط القاهرة عدد من الأقسام، هي: التبين وحلوان والموسكي والظاهر والشرابية ومدينة نصر والبساتين والمرج والدقي والأهرام، وأغلبها تتسم بوجود أعمال شتى. وأقل من المتوسط سكان الأقسام التي تمثل أحياء سكنية بالأساس عدا قصر النيل وعابدين؛ حيث تقتضي الأعمال زيادة الإناث العاملات عكس الموسكي، أو ربما عوامل ديموجرافية اجتماعية أخرى تحتاج تفسيرات مطولة يتصدى لها الديموجرافيون.
سكان أقسام القاهرة 1996 الذكور والإناث
شكل 4-17 (7-2) التركيب العمري لسكان القاهرة
يتميز الهرم السكاني لمصر والقاهرة بسيادة قاعدة كبيرة من صغار العمر، وقمة صغيرة من كبار السن، ويعبر الجدول الآتي عن تركيب فئات العمر المصرية عامي 1980 و1996 مقارنا بالقاهرة 1996، والواضح أن هناك تغيرا محسوسا في هذا التركيب نوجزه في النقاط الآتية:
جدول : فئات العمر الرئيسية لمصر والقاهرة (نسب مئوية).
فئة العمر
أقل من 15 سنة
15-60 سنة
أكثر من 60 سنة
مصر 1980
39,8
53,6
6,5٪
مصر 1996
35
59,9
5,1٪
القاهرة 1996
28,1
66
5,9٪ (1)
قاعدة الهرم المتكونة من صغار السن آخذة في الانكماش بين 1980 و1996، وهذه علامة جيدة حيث إن نسبة الإنجاب قد بدأت تقل إلى معدلات معقولة. فقد انخفضت الخصوبة لدى النساء - معدل رقمي - من خمسة أطفال عام 1982 إلى نحو 3,9 طفل عام 92، وإلى 3,4 طفل متوسط أواسط التسعينيات، ومعنى ذلك: أن الوعي بتنظيم الأسرة قد أخذ مسارا فعليا بوجه خاص في سكان الحضر الذين يشكلون نحو 45٪ من سكان مصر، وذلك لأن سكان المدن يواجهون بأعباء حياتية تدعو إلى خفض عدد المواليد. (2)
الظاهرة الثانية انخفاض غير مرغوب في نسبة كبار السن، ولعل ذلك مرده إلى سكان المدن أيضا؛ حيث توترات الحياة والسكن غير الصحي، وتلوث جو المدينة، وسهولة الإصابة بأمراض العصر تساعد على إنقاص هذه الفئة من كبار السن. (3)
نسب القاهرة تؤكد فاعلية المدينة الكبيرة في ارتفاع الفئة الوسطى التي هي قوة العمل بمقدار 6٪ عن متوسط مصر، وانخفاض نسبة صغار السن بمقدار 7٪، تمشيا مع ما سبق ذكره من فاعلية تنظيم الأسرة في المدن. ففي مدينة الجيزة، وهي جزء من القاهرة الكبرى، ترتفع نسبة صغار السن عن تلك بالقاهرة بمقدار 3,2٪؛ وذلك لأن مدينة الجيزة تضم مجموعة كبيرة من السكان شبه الريفيين في بولاق الدكرور والعمرانية على سبيل المثال، فهم ريفيون سكنا وثقافة، ومدنيون بحكم أعمالهم التي لم تعد الزراعة واحدة منها، ويؤكد ذلك انخفاض نسبة متوسطي السن بمقدار 2,1٪ عن مثيلهم في محافظة القاهرة. (4)
ارتفاع نسبة كبار السن في القاهرة عن معدل مصر راجع إلى كثافة المؤسسات الصحية والعلاجية بصورة لا تصل إليها الإسكندرية، وهي المدينة الثانية في مصر، وللسبب ذاته المذكور في النقطة الثالثة تنخفض نسبة كبار السن في الجيزة إلى 4,8٪.
وفي داخل القاهرة نجد تفاوتا واضحا بين سكان الأقسام المختلفة يعبر عنها الشكل
4-18
بما لا يدعو إلى مزيد.
فئات العمر والجنس في بعض أقسام القاهرة الكبرى 1996
شكل 4-18:
الشريط العرضي 50,5 يمثل المتوسط العام للذكور في القاهرة.
فمجموعة الأقسام إلى يسار الشكل ترتفع فيها نسبة صغار السن عن بقية الأقسام؛ فالسكان هنا إما طفيليون يسكنون عشوائيات منشأة ناصر والبساتين/دار السلام وإمبابة، وإما هم من الفقراء والعمال الذين ترتفع فيهم نسب الأمية كالمطرية وحلوان وروض الفرج. وانخفاض نسبة صغار السن في مجموعة الأقسام الوسطى في الشكل غالبا ترجع إلى هجرة الشباب والأسر الجديدة إلى خارج الأحياء القديمة في السيدة زينب وباب الشعرية والجمالية، ويؤكد ذلك انخفاض نسبة الذكور بالقياس إلى البساتين ومنشأة ناصر وحلوان.
أما مصر الجديدة والدقي فتمثلان أحياء متسعة للسكن الجديد، فضلا عن أن السكان ينتمون إلى طبقات متوسطة أو ثرية، وأخيرا فإن سكان قسم قصر النيل يمثلون مناطق الأعمال والتجارة الرئيسية؛ مما يؤدي إلى نحافة عددية للسكان، وقلة في المواليد، فضلا عن الطبقة الموسرة في عمارات المنطقة وجاردن سيتي على وجه خاص. ومن الدلائل على ذلك: انخفاض نسبة الذكور في قصر النيل ومصر الجديدة عن المعدل القاهري العام، والأغلب أن ارتفاع نسبة الذكور في الدقي يعود جزئيا إلى سكن نسبة من الأجانب الذين يعملون في السلك الدبلوماسي أو بيوت الخبرة.
وأخيرا هناك ملاحظة قد تكون ذات دلالة للمتخصصين في الديموجرافيا وأصول علوم السكان، فتحليل أرقام 1996 لفئات السن الصغيرة قد أوضحت أن غالبية أقسام القاهرة تنتمي إلى واحد من النموذجين الذي يعبر عنها الشكل
4-19 .
نموذجا تركيب السكان دون 15 سنة، نسب مئوية من مجموع سكان بعض الأقسام
شكل 4-19
النموذج الأول:
يعبر عنه تركيب هذه الفئة هرمي الشكل كما هو في الجمالية والبساتين والزمالك، بحيث يتناقص حجم الفئة تدريجيا مع ارتفاع العمر، وعلى سبيل المثال ينتمي إلى هذا النموذج الهرمي حلوان وباب الشعرية والمرج، والسلام تنتمي إلى هذا النموذج بصورة تقريبية.
النموذج الثاني:
يتصف بأن فئة العمر 6-10 سنوات أصغر مما قبلها وبعدها، ويمثل هذا النموذج سكان السيدة زينب ومنشأة ناصر، وينتمي سكان مصر الجديدة وقصر النيل إلى هذا النموذج، وإن كانوا يختلفون في أن فئة 10-15 سنة أكبر من الفئة دون 6 سنوات، وكذلك ينتمي للنموذج الثاني سكان أقسام أخرى، نذكر منها على سبيل المثال: روض الفرج وإمبابة والدقي. كما أن جملة سكان القاهرة ومدينة الجيزة تظهر فيهما صفات النموذج الثاني.
ملاحظات: الأرقام الواردة تحت تواريخ ثابتة مثل 1996 مصدرها منشورات التعدادات العامة الصادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء بالقاهرة. بعض أرقام الخصوبة والهرم السكاني لسنة 1980 وما قبلها مصدرها محمد السيد غلاب «السكان» في كتاب «جغرافية مصر» إصدار المجلس الأعلى للثقافة - القاهرة 1994. خريطة الأقسام الإدارية للقاهرة الكبرى، ومساحات الأقسام عن رسالة ماجستير غير منشورة لسامح إبراهيم عبد الوهاب - آداب جامعة القاهرة.
إحصاءات سكانية للقاهرة 1996 (جدول1). *
الأقسام
جملة السكان (آلاف)
ذكور (آلاف)
إناث (آلاف)
الأمية ٪
التبين
59
31
28
28
حلوان
518
267
251
34
15 مايو
65
33
32
8
طرة
58
30
28
29
المعادي
70
36
34
10
م. القديمة
225
115
110
31
السيدة
155
78
76
23
الخليفة
186
95
91
31
البساتين
658
342
316
28
عابدين
48
24
24
16
الموسكي
29
15
14
27
قصر النيل
13
6
6
9
الزمالك
15
7
7
5
بولاق
74
38
36
34
الأزبكية
30
16
14
18
د. الأحمر
78
40
38
26
الجمالية
59
30
29
30
ب. الشعرية
59
30
29
27
الظاهر
65
34
31
12
منشأة ناصر
169
88
80
51
الشرابية
266
127
118
31
شبرا
83
42
41
24
ر. الفرج
178
90
88
25
الساحل
333
170
163
20
ش. الخيمة
870
الزاوية الحمراء
307
157
150
27
الوايلي
89
49
40
18
ح. القبة
308
157
151
23
الزيتون
322
164
158
16
المطرية
498
255
242
23
عين شمس
472
240
231
18
المرج
242
125
117
28
السلام
300
187
179
28
النزهة
153
76
77
6
م. الجديدة
151
75
76
6
م. نصر
397
205
191
6
إمبابة
523
267
256
29
العجوزة
175
89
85
15
الدقي
88
46
43
9
الجيزة
238
122
116
28
بولاق الدكرور
454
233
221
24
الأهرام
200
103
97
30
العمرانية
542
277
265
17
تتابع الأقسام حسب ترتيب كتابي التعداد لسكان القاهرة والجيزة سنة 1996.
إحصاءات سكانية للقاهرة 1996 (جدول 2). *
الأقسام
المساحة
الكثافة
عدد الأسر بالألف
التزاحم فرد/غرفة
التبين
25
3
12
1,2
حلوان
55,1
9,5
123
9,4
15 مايو
6,9
8
15
1,8
المعادي - طرة
11,3
11
20-20
0,6-1,8
بساتين
14
47
157
1,7
م. القديمة
10,6
21
57
1,8
الخليفة
10,6
17
51
1,7
السيدة
3,7
42
42
1,3
عابدين
1,7
29
15
1,4
الموسكي
0,8
36
8
1,6
قصر النيل
1,3
10
4
0,7
الزمالك
2,6
6
8
0,9
بولاق
2,4
31
22
2
الأزبكية
1,5
20
8
0,1
الظاهر
2
32
18
1,4
الجمالية
2,5
24
15
1,9
الدرب الأحمر
1,4
55
21
1,6
ب. الشعرية
0,98
60
16
1,4
ر. الفرج
2,5
71
46
1,6
الساحل
14
24
84
1,6
شبرا
2,4
34
22
1,6
الشرابية
3,3
73
58
2,1
الزاوية الحمراء
4,7
65
69
ش. الخيمة
25,3
34
192
الوايلي
5,7
15
22
1,6
ح. القبة
4,4
69
76
1,8
الزيتون
7,7
41
79
1,6
المطرية
6,5
76
115
1,8
عين شمس
8,8
53
118
1,6
المرج
12,3
20
55
1,7
السلام
36,1
10
86
1,8
النزهة
66,8
2
42
0,9
م. الجديدة
29,2
5
44
1,5
م. نصر
46,2
8,5
96
م. ناصر
7,9
21
39
إمبابة
13,5
39
120
1,4
العجوزة
5
35
46
1
الدقي
5,4
16
25
0,9
الجيزة
7,5
31
57
1,3
بولاق الدكرور
15,8
28
107
1,3
الهرم
19,6
38
47
1,4
العمرانية
132
1,2
ترتيب الأقسام حسب تتابع المكان الجغرافي.
يذكر كليرجيه من مصادره أسماء عديدة بعض منها:
Breidenbach, Leon I’Africcain, Castela, Davity, Savary, Volney, Niebuhr, Blumenau, Sonnini, Thevenot, ete ... ص239 من الجزء الأول من كتابه عن القاهرة
M. Cler-get, 'LE CAIRE’ 1934 .
التركيز الصناعي في القاهرة كانت له مساوئ كتب عنها الكثيرون استنادا إلى أن القاهرة لم تكن أحسن المواقع لصناعات ثقيلة كالحديد والصلب، وصناعات معدنية أخرى كالصناعات العسكرية. هذا فضلا عن تلويث جو القاهرة، وتكوين مناطق سكن عشوائي طفيلي شديد الفقر كثير المشكلات الاجتماعية والسياسية تعاني منها القاهرة الآن. كما كتب البعض نقدا حادا عن كينونة الصناعة وعائدها الحدي، وتجرى الآن مراجعة لبعض هذه الصناعات وبخاصة مصنع حديد حلوان الضخم؛ حيث إن مشكلات تحديثه وزيادة إنتاجه تواجهها مشكلات اجتماعية في العدد الضخم الذي يعمل به. ولا شك أن مثل هذه الصناعات كانت جيدة بالقياس إلى ظروف التكنولوجيا القائمة، وظروف مصر المحاصرة سياسيا آنذاك، ومن ثم لا يكون القياس عادلا بالمقارنة بجميع الظروف التكنولوجية السياسية المصرية والعالمية الآن.
الفصل الخامس
القاهرة والأنشطة الاقتصادية
تعرفنا في الفصل الرابع على أعداد السكان وتوزيعهم المكاني على أقاليم وأقسام القاهرة، وبعض مواصفاتهم الديموجرافية، والآن سنحاول إعطاء بعض المظاهر في العمل والحركة من مكان لآخر داخل هذه المدينة الكبيرة. (1) قوة العمل في القاهرة
تحسب قوة العمل نظريا للسكان في فئة العمر 15-60 سنة شاملة الجنسين معا، وحيث إن الإناث في معظم مناطق العالم أقل مساهمة في قوة العمل من الذكور؛ فإن قوة العمل هي في الغالبية الساحقة أقل من 100٪، ويضاف إلى ذلك نسبة البطالة التي تتأرجح كثيرا؛ نتيجة لعوامل اقتصادية تكنولوجية، ونقص في التدريب، وتعلم المهن المختلفة، فإن قوة العمل تنخفض أيضا بنسبة المتعطلين.
عدد السكان الذين هم في قوة العمل في محافظة القاهرة
1
أربعة ملايين و525 ألفا بنسبة 66,7٪ من مجموع سكان المحافظة، وعدد المشتغلين هو مليون و822 ألفا بنسبة تبلغ نحو 27٪ من مجموع سكان المحافظة، ونسبة 40٪ من قوة العمل النظرية، منهم نحو 3٪ عاطلين،
2
وفي مدينة الجيزة يبلغ عدد السكان في فئة قوة العمل 1,42 مليونا، بينما عدد المشتغلين هو 652 ألفا بنسبة 45٪ من قوة العمل و29٪ من سكان الجيزة.
جدول 5-1: توزيع العمالة والمنشآت في محافظة القاهرة على قطاعات العمل المختلفة. *
قطاع العمالة
عدد المنشآت العاملة
عدد المشتغلين ٪ من إجمالي المشتغلين ٪ إناث عاملات
قطاع خاص واستثماري
302198
947751
52,2
16,6
قطاعات أخرى «تعاوني ومشترك ... إلخ»
4652
27390
1,5
28,3
قطاع الأعمال العام
3075
244479
13,5
15,5
جميع القطاعات عدا الحكومية
309925
1219620
67,2
16,6
القطاع الحكومي
7480
595300
32,8
35,0
الأرقام عن المصادر السابقة للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
جملة المشتغلين في محافظة القاهرة تعادل 11,5٪ من إجمالي العمالة الفعلية في جمهورية مصر البالغة 15 مليونا و830 ألفا، والعاملون في القطاع الحكومي في الجمهورية يبلغون أربعة ملايين و428 ألفا يخص محافظة القاهرة 13٪ فقط، وترتفع هذه النسبة إذا كان الكلام عن القاهرة الكبرى. (2) موضوعات عامة في العمل (2-1) عمالة المرأة
ويمكن أن نلاحظ من خانة العاملات من الإناث (جدول
5-1 ) أن المساهمة في مجموعها أقل من 20٪ من قوة العمل، وهي نسبة لا بأس بها لكنها تختلف في القطاعات المختلفة. فأعلى مستخدم للإناث هو القطاع الحكومي الذي تزيد فيه مساهمتهن عن ثلث قوة العمل الحكومية، ويلي ذلك أعمال في القطاعات الأخرى كالتعاوني، لكنه في مجموعه قطاع صغير العدد عمالة ومنشآت.
في مجالي التعليم والصحة/والعمل الاجتماعي تتفوق معدلات مساهمة المرأة في العمل على الذكور بنسبة 54٪ و52٪ من مجموع العمالة في المهنة على التوالي. يليهما في ذلك 28٪ في الأعمال المالية والائتمانية. أما في بقية الأنشطة: فتتراوح مساهمة الإناث بين 10٪ و16٪ من مجموع العمالة، على سبيل المثال: 11٪ في نشاط الفنادق والمطاعم، و12,5٪ في الصناعات التحويلية، 16,4٪ في تجارة الجملة ونشاط التشييد والبناء، و18٪ في نشاط العقارات والإعلان والتأجير وبحوث التطوير، وفي أوجه تنخفض مساهمة النساء عن 10٪ كالتعدين والمحاجر والصناعات الكيميائية ... إلخ.
وفي مجال البطالة نجد أنها أقل بين الإناث بالمقارنة بالذكور في المجموع العام (37٪ من مجموع العاطلين - جدول
5-2 ) وفي كل فئات السن الأخرى، وربما رجع السبب جزئيا إلى أن نسبة العاملات تتركز في أصحاب المؤهلات التعليمية المتوسطة وفوق المتوسطة والجامعية، بينما يكاد ينعدم تشغيل من هن دون هذه المؤهلات. أما البطالة بين الذكور، فتمتد لتشمل الأميين، ومن هم دون الشهادة المتوسطة وكل المؤهلات الأخرى. (2-2) البطالة
جدول 5-2: نسب العاطلين حسب فئات السن (1997). *
النطاق/فئة السن
15-19
20-24
25-29
30-39
40-49
50-60
جملة العاطلين
القاهرة ٪ من الجملة
16٪
35٪
38٪
7,5٪
1,5٪
1,5٪
139 ألفا
إناث ٪ من كل فئة
40٪
36٪
38,6٪
32,7٪
50٪
37٪
حضر مصر
17,6٪
37,3٪
34٪
10٪
0,6٪
0,4٪
687 ألفا
إناث ٪ من كل فئة
49,4٪
48,5٪
48٪
53٪
26٪
48,5٪
ريف مصر
23٪
36,6٪
31٪
8,6٪
0,3٪
0,1٪
759 ألفا
إناث ٪ من كل فئة
53,5٪
51٪
57٪
69٪
28٪
54٪
إناث ٪ من كل فئة
52٪
50٪
52,5٪
56,7٪
28,8٪
51,5٪
المصدر: جدول 15 «النشرة السنوية لبحث العمالة بالعينة 1997» الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء.
الملاحظ من الجدول أن البطالة ترتفع بصفة عامة في الفئات من 20 إلى 30 سنة، وهي المنطقة الحرجة من العمر قبل أن يستقر الشباب في وظائف ومهن محددة. أما ارتفاع البطالة بين الشباب من 15 إلى 20 سنة فأمر منطقي؛ لأن هذه هي فترة استكمال التعليم فوق المتوسط، والذين لا يدرسون هم من صغار السن بحيث لا يسمح تأهيلهم بالتشغيل الكامل، وبطبيعة الحال تزداد الفروق بين القاهرة والحضر والريف؛ ففي القاهرة مجالات عمل أكبر من بقية مدن مصر وريفها لأسباب معروفة لا حاجة لتكرارها.
وطبقا للجدول نفسه فإن العاطلين في محافظة القاهرة يبلغ 9,6٪ من مجموع العاطلين في مصر، لكنهم يبلغون 20٪ من مجموع العاطلين في حضر مصر، وهنا تكمن مشكلة البطالة في القاهرة حيث تزداد حدة في مجال جغرافي ضيق؛ بل وتتفاقم نتيجة تسرب العاطلين من ريف وحضر مصر إلى القاهرة بحجة إمكان الحصول على أي عمل، ولو كان ذلك عملا هامشيا متقطع المدى. (2-3) مناهج التعليم والبطالة
واستمرارا للمعرفة نرى أن 30٪ من العاطلين في القاهرة هم من حملة البكالوريوس والليسانس، وترتفع نسبة العطالة بين الحاصلين على التعليم المتوسط فتبلغ 43٪، فكأن نظام التعليم المتوسط والجامعي يلقي بأعداد كبيرة إلى ميدان البطالة؛ غالبا نتيجة عدم التأهيل الجيد، وللزيادة المفرطة في أعداد الخريجين، وأخيرا لضيق مجالات العمل؛ لقلة الاستثمارات في مجالات العمل التي تستوعب عمالة بشرية لقدمها، والاتجاه إلى الاستثمار في منشآت أحدث لا تتطلب عمالة كثيرة، ومن هنا نجد تكدس الهيئات الحكومية وشبه الحكومية بعمالة زائدة لحل مشكلات الخريجين، وتسعى الحكومات إلى تأجيل زيادة عدد العاطلين بفتح طرق كثيرة للالتحاق بالدراسات الجامعية وفوق المتوسطة، وهذه حلول مؤقتة لمشكلات متشابكة بداية من زيادة السكان فوق المقدرات التقليدية لأسس الاقتصاد المصري، وانتهاء بمعترك العولمة غير واضح المعالم إلا بصورة جزئية في مجال التجارة الدولية الحرة، وتأثيره على الأشكال الإنتاجية الوطنية في مصر. ومرة أخرى: يرجى من المفكرين، وليس التربويين وحدهم، الجلوس معا لوضع إستراتيجية للتعليم لما بعد الإعدادية بحيث تكون مرنة التطبيق داخل خطوط أساسية ملزمة ، وبحيث لا تصبح نمطا موحدا في أقاليم مصر المختلفة.
على سبيل المثال يمكن للأقاليم البحرية توجيه التعليم ناحية أنشطة البحر من أعمال المواني المتعددة: نقل بحري، وهندسة مواني، وميكانيكا بحرية، وحجر صحي، وصناعات التخزين الحديثة، وأحواش الحاويات، وشحن وتفريغ آلي، وحسابات ومحاسبة سلعية وجمركية، وإدارة مواني وسجلات كمبيوترية، وأمن بحري على الأرصفة وفي البحر الإقليمي وأمن المنطقة الجمركية ومكافحة الحوادث والحرائق وأعطال إمدادات الكهرباء والمياه، وغير ذلك من أعمال وأنشطة المواني؛ لتخريج عمالة بدرجات متعددة أكثرها مؤهلات مهنية متوسطة وأقلها مؤهلات عليا في هذه المجالات.
وعلى النسق نفسه يمكن أن تركز المناهج التعليمية في أنحاء من الدلتا والصعيد على إشكاليات انتقاء البذور البيئية، وتقليل استخدام الأسمدة الكيماوية والإنتاج والنقل والتشوين وأنظمة التسويق الزراعية الاحتكارية للمحاصيل المهمة الموجهة إلى التجارة الخارجية أو تلك المتجهة إلى الصناعات الزراعية. فعلى سبيل المثال: إن العودة في العالم المتقدم إلى ملبوسات القطن والكتان تحتاج إلى مزيد من الاهتمام بكل نباتات الألياف لصناعات النسيج، وبالمناسبة كان الكتان المصري منذ عصور الفراعنة وإلى وقت ليس ببعيد مصدرا أساسيا للملبوسات. المطلوب تقنيات أحدث في المعالجة؛ ليصبح الكتان والقطن علامات مصرية مميزة.
3
نتكلم كثيرا عن مشروعات زراعية «عملاقة» في شمال سيناء وتوشكى. ونتكلم أكثر عن غزو الصحراء، وإقامة مستوطنات زراعية هي ناجحة بدرجات في غرب الدلتا كالتحرير والنوبارية، والصالحية في شرق الدلتا التي بدأت بداية حسنة، ثم ركدت أو تراجعت. هل لدينا خطة واضحة عما يمكن زراعته في الأراضي الجديدة، وبخاصة في منطقة الحرارة العظمى والتبخر العالي في توشكى وشرق العوينات.
والسؤال الحاكم هو ماهية التوازنات بين محصول واحتياجاته المائية في ظل ظروف جغرافية مناخية معينة، وبين القيمة المضافة للعائد دون دعم حكومي؟ وما هي وسائل الري المزمع استخدامها، وما هي طرق تأهيل المزارعين عليها، وعلى أصناف المحاصيل الجديدة؟ وإذا كانت وزارة الزراعة تضع أسعارا عالية للفدان في الأراضي الرملية التي يهددها سفي الرمال المستمر، فما هي إذن الحوافز للاستيطان الجديد؟
لهذا يجب استنباط مناهج تعليمية لتأهيل جيل جديد من مستوطني الأراضي الجديدة؛ لكي يدخل معركة استصلاح في ظل ظروف غير مألوفة للميراث الزراعي المصري التقليدي، ومن ثم يجب أن تكون مناهج التعليم موجهة أساسا لتنشيط وتخليق قدرات الزراعة في الواحات وجنوب الوادي في توشكى وشرق العوينات وشرق حوض كوم أمبو من أجل مشروعات استزراع في ظل ظروف جديدة كل الجدة. وبنفس القدر يوجه التعليم في شرق وغرب الدلتا على زراعة حديثة في مركز الحسينية وشمال سيناء أو غرب النوبارية وجنوب بحيرة مريوط بطول ترعة بهيج وأرض البنجر.
على أن ذلك يجب أن يصحبه تأهيل مساند في التصنيع الزراعي؛ إذ لا شك أن المساحات المستجدة من الأراضي الزراعية لها طاقة استيعابية من المزارعين لا يجب أن يتعدوها، وإلا وقعوا في الحلقة المفرغة من الفقر والبؤس والبطالة السافرة والمقنعة، وعلى ذلك يجب إضافة اقتصاد صناعي زراعي يفسح المجال أمام مزيد من السكان المهاجرين في الأرض الجديدة، ويتسنى من خلاله إنشاء مدن صغيرة إلى متوسطة تقوم على اقتصاديات الصناعة والخدمات، وكل ذلك يعطي المناطق الجديدة تكاملية في النشاط الاقتصادي تجعلها مستقلة إلى حد كبير عن مدن الوادي المتخمة بالناس والفقر إلى حد الجوع. (2-4) العاملون والعاملون بأجر
ذكرنا أن عدد المشتغلين في القاهرة يبلغ مليونا و882200 فرد، غالبيتهم الساحقة مشتغلون بأجر كما يتضح من الجدول
5-3 .
جدول 5-3: تقدير أعداد المشتغلين وأنواعهم بالقاهرة ومصر 1996 فئة العمر 15-64 سنة (الأرقام بالألف). *
الإقليم
قطاع حكومي
قطاع عام
قطاع خاص
استثماري وغيره
الجملة ٪
الجملة ٪
القاهرة عاملون
595
307
888
31
1882
100
القاهرة (ع) †
بأجر
595
307
553
31
1487
82
حضر مصر (ع)
2383
896
3414
82
6776
100
حضر (ع) بأجر
2383
896
1679
82
5040
75
ريف مصر (ع)
2045
397
6568
43
9054
100
ريف (ع) بأجر
2045
397
1966
43
4451
49
مصر عاملون
4427
1293
9989
125
15830
100
مصر (ع) بأجر
4427
1293
3646
125
9492
60
المصدر: جدولي 11 و14 من «النشرة السنوية لبحث العمالة بالعينة في جمهورية مصر العربية عام 1997». مرجع 71-12525 الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء - القاهرة أغسطس 1999. (ع) = عاملون.
والملاحظ أن نسبة العاملين بأجر تبلغ أعلاها في القاهرة، ثم تتدرج في الانخفاض في أقاليم مصر المذكورة بالجدول، وتصل أدناها في ريف مصر، ولا شك أن ذلك يعود إلى أسباب عديدة نفرد منها: (1)
ارتفاع نسبة الريفيين العاملين في أراضيهم أو محالهم التجارية والخدمية إلى 51٪ من مجموع العمالة الريفية، بغض النظر عن حجم الملكية أو الحيازة الزراعية أو نوع العمل التجاري وحجمه. (2)
المشتغلون في القطاعات الحكومية والعامة والاستثمارية هم عاملون بأجر، ومن ثم يتركز العاملون بدون أجر في القطاع الخاص؛ أي في حيازتهم من المنشآت والأراضي. وربما كانت هناك نسبة من العاملين في القطاع الاستثماري بدون أجر، ولكن الأرقام التي لدينا لم توردها، وعلى العموم فإن القطاع الاستثماري والتعاوني والمشترك لا يعمل به عدد كبير من العاملين.
وفيما يختص بنسبة العاملات بدون أجر - أي صاحبات أعمال - تدل أرقام دراسة العمالة بالعينة سالفة الذكر على أن أقل نسبة من العاملات بدون أجر هي في القاهرة حيث تبلغ 3٪ فقط، وترتفع إلى 8٪ بين العاملات في كل حضر مصر، ثم ترتفع بشدة لتصل إلى 70٪ في ريف مصر، وليس معنى هذا أن مليونا و244 ألفا من ساكنات الريف هن صاحبات أعمال؛ بل الأغلب أنهن عاملات مجانا مع أسرهن في الأنشطة الممارسة، وخاصة الزراعة، إضافة إلى النشاط الإنتاجي التجاري التقليدي الصغير في الريف الذي تمارسه بعض الريفيات كبيع فائض البيض أو الدجاج أو الزبد والجبن ... إلخ في سويقة القرية أو القرية المجاورة.
وبرغم أن هذا النمط من عمالة النساء بدون أجر فيه إهدار جزئي لقوة العمل من ناحية، وللقيمة المضافة للعمل من ناحية ثانية، فإنه نمط موروث من ناحية، ونظام اقتصادي ريفي متكامل منذ بضعة آلاف من السنين من ناحية أخرى، وحتى العاملات بأجر من النساء في أقاليم الريف يكاد عملهن أن يكون موسميا كطبيعة العمل الزراعي، مع أجور قد لا تتناسب مع الجهد المبذول بالقياس إلى أجور الرجال.
متى تصبح عمالة المرأة إضافة إلى الناتج المحلي العام؟ الأغلب أننا لا نتوقع حدوث ذلك إلا بعد استيفاء تدريجي لشروط منها:
تعليم المرأة مهنيا، وليس فقط الخروج من دائرة الأمية.
تغير هيكلي في الزراعة المصرية، ليس فقط ميكنة الزراعة، بل أيضا تحديث نظام التسويق الحالي ومنح الفلاحين حوافز إنتاجية.
إضافات لأوجه نشاط حديثة مكملة للزراعة كإعداد المنتج وتعليبه ونقله بمرونة كافية للتسويق المحدث، ونشر بعض الصناعات الريفية والصناعات الزراعية إلى قرى كثيرة من أجل خلق مجالات عمل عديدة للمرأة والرجل كحوافز للبقاء في الريف بدلا من الهجرة للمدن، وبديلا لنظام العمل الريفي التقليدي الذي تتداخل فيه أشكال من العمل دون أجر؛ مما لا يضيف للناتج المحلي العام الشيء الكثير. (3) ماذا يعمل سكان القاهرة؟
يذكر علي باشا مبارك في موسوعته القيمة «الخطط التوفيقية» أن مجموع العاملين في الحرف والصنائع بمدينة القاهرة بلغ 63480 عاملا بنسبة 18٪ من سكان المدينة موزعين على أنشطة يوضحها الشكل
5-1
بما لا يزيد معه تفصيل كثير. بعض هذه الأنشطة قد استبدل بمهن أخرى، على سبيل المثال سائقي التاكسي ووسائل النقل الحديثة بدلا من الحمارة وأصحاب الحمير، كما أن الكثير من الحرف اليدوية كصناعة الأقفاص والخيامية وحرف الحدادة قد دخلت نطاق صناعات آلية حديثة.
العاملون في الحرف والصنائع في القاهرة 1882
شكل 5-1:
مجموع العاملين 63480 عاملا = 17٪ من سكان القاهرة البالغ عددهم 374832 نسمة الأرقام مجمعة عن خطط علي مبارك، الجزء الأول صفحات 247-249.
أنواع المنشآت وأعداد المشتغلين في مصر والقاهرة 1996
شكل 5-2
وهناك بعض الصنائع غير مفهومة لنا في الوقت الحاضر مثل «الجرايرية» وعدددهم 1155 فردا، و«أمشاطية» و«قمراتية» وعددهما قليل (78 و64 شخصا على التوالي)، وقد أدخلنا مهن الحلاقين والجواهرجية والصدفجية وتلاحمة السبح والساعاتية ضمن قائمة الزينة والتزين، وبرغم أنه يصعب إدخال أنشطة كثيرة ضمن التصنيف الحديث، إلا أن الصورة التي أوردها علي مبارك تلقي الكثير من الضوء المهم على نشاطات أهل القاهرة حينما كانت طوائف الصناع والحرفيين في مرحلة الانتقال من النمط القديم إلى النمط الحديث الذي يكثر فيه استخدام الآلات، وينتظم فيه العاملون في نقابات مهنية جديدة القواعد والشروط.
والملاحظة المهمة أن نسبة العاملين إلى سكان القاهرة ارتفعت بعد 120 سنة من 17٪ إلى 27٪، ولكن الأعداد الفعلية توضح زيادة كبيرة من 63 ألفا من العاملين إلى مليون و822 ألفا، وبما أن عدد العاملين عند علي مبارك لا يشمل موظفي الحكومة والعاملين بمنشآتها، فالأرجح المقارنة بالمشتغلين الحاليين في قطاع الأعمال الخاصة والاستثمارية، وهم يبلغون نحو 920 ألفا حسب أرقام 1996.
ويوضح شكل
5-2
مجموعة من الحقائق، منها: التشابه في نمط توزيع المنشآت على القطاعات المختلفة في كل من القاهرة وإجمالي مصر، وأن منشآت القاهرة تعادل نحو 17٪ من إجمالي المنشآت العام، وفيما يختص بعدد العاملين تختلف الصورة بين القاهرة وجملة مصر: فأعداد المشتغلين في القطاع الخاص ترتفع في جملة مصر بالقياس إلى مثيله بالقاهرة، ويرجع هذا إلى دخول القطاع الريفي في إجمالي مصر، بينما هو لا وجود له عمليا في القاهرة باعتبار أن القاهرة مركز الحكم وقاعدة الاقتصاد الأولى في الأنشطة الاقتصادية والحكومية عدا الزراعية، فإن نسبة المشتغلين في القطاعين الحكومي والعام والأشكال الأخرى من الأعمال ترتفع إلى 51٪ في القاهرة مقابل 37٪ لمثيلاتها في إجمالي الجمهورية، وذلك على الرغم من أن المنشآت الحكومية والقطاع العام في القاهرة أقل من 5٪ بينما هي في عموم مصر تبلغ +10٪ أي أكثر قليلا من الضعفين، وهذا هو واحد من بين أسباب كثيرة لتكدس الناس في القاهرة، ولعل الشكل
5-3
يزيد هذا الموضوع إيضاحا.
المشتغلون في القاهرة بأجر والعاملون في كل القطاعات عدا الحكومي
شكل 5-3:
العاملون بأجر مليون و487 ألفا والعاملون في كل القطاعات عدا الحكومية مليون و219 ألفا 1997 مرجع 17-12525 وجدول 12. والتعداد العام للمنشآت. للقاهرة 1996 جدول 15.
ففي قطاعات التجارة والفندقة (والمطاعم) تزيد أعداد العاملين في القطاعات غير الحكومية بشدة، وذلك باعتبارهما من أنواع أنشطة القطاع الخاص التي لا تنافسها عمالة حكومية أو عمالة قطاع عام إلا بقدر، وفي الصناعة والخدمات (العامة والخاصة)، والأنشطة المالية (والبنوك والصرافة)، وأنشطة العقارات و(التأجير والإعلان) والزراعة تكاد أعداد المشتغلين تتناصف بين عمالة القطاع الخاص وعمالة الأجر التي يتشكل معظمها من الأعمال الحكومية والقطاع العام. وأخيرا فإن عمالة القطاعين الحكومي والعام تسيطر بوضوح على أنشطة الصحة و(الخدمات المجتمعية) والتعليم والنقل بأنواعه وصناعة التشييد والبناء والكهرباء والمياه.
أما عن تركز العمالة في القاهرة بنسب عالية فتتضح من الشكل
5-4
التالي، حيث نجد القاهرة تحوز على 18٪ من المنشآت العاملة في كل القطاعات عدا الحكومية في مصر، وكذلك يتركز فيها نحو ربع عدد العاملين في الجمهورية، وأعلى نسب العمالة؛ أي تلك فوق متوسط القاهرة، هي في قطاعات: التعليم، والإنشاء والتشييد، والنشاطات المالية والبنكية والوساطة المالية كالصرافة والائتمان، وصناعة النقل بأنواعه المختلفة، ونشاطات العقارات والتأجير والصحة العامة، وأخيرا الأعمال الدولية كالسفارات والهيئات الدولية والتمثيل الدبلوماسي الأجنبي، وفي كل هذه القطاعات تحوز القاهرة من 30 إلى +40٪ ومثل هذا في جانب نسبة المنشآت في القاهرة، ولو أن بعض المنشآت قليلة العدد لكنها تضم عمالة كبيرة وبخاصة في قطاعي التعليم والأعمال المالية. بينما تضم صناعة التشييد والبناء أعدادا كبيرة في المنشآت والعمالة معا، ومثل هذا في الهيئات الدولية.
نصيب القاهرة من المنشآت والعمالة غير الحكومية من جملة مصر1996
شكل 5-4:
النطاق الداكن يوضح متوسطات الأرقام: العمالة متوسطها للقاهرة 27٪ والمنشآت 21٪.
هناك بعض مسميات حسب التصنيف المتبع للمهن وقطاعات العمل هي من الغموض بحيث تحتاج إلى بعض التوضيح، وأكثر التصنيفات غموضا هو «العقارات» فهو يضم أنشطة العقارات المملوكة والمستأجرة، كما تضم تأجير وسائل نقل ومعدات وسلع منزلية، وخبرة استشارية في مجال الكمبيوتر وقواعد البيانات، وإصلاح آلات المحاسبية والبحوث والتطوير في مجالات العلوم الطبيعية والاجتماعية، ومسك الدفاتر والمحاسبة وأنشطة قانونية والإعلان وخدمات الأعمال. هذا الكم غير المتجانس من الأنشطة يحتاج إلى تفصيل وعنونة إضافية حتى لا تختلط الأمور. «الصحة» تشمل إلى جانب الطب البشري والمستشفيات والعيادات على الطب البيطري وأنشطة للعمل الاجتماعي! «خدمات» المجتمع تشمل تنوعا كبيرا من جمع القمامة والخدمة الشخصية إلى نقابات العمال والأندية والرياضة والسينما والتلفاز والإذاعة ووكالات الأنباء والمكتبات والمتاحف والثقافة. «الفنادق» تضم أيضا المطاعم والمقاهي أيا كان حجمها المادي والعمالي. «النقل» يضم كل أشكال النقل الحديدي والبري والنهري والساحلي والجوي والبريد والاتصالات والتخزين.
وفي قطاعين كبيرين، هما: التجارة والصناعة، نجد عدد المنشآت والعاملين أقل من متوسط القاهرة بحكم انتشارهما في أرجاء مصر، وبخاصة التجارة إجمالا ومنشآت تجارة التجزئة بصفة خاصة. أما الصناعة فهي أكثر وضوحا في القاهرة، وبخاصة الصناعات كبيرة الاستثمارات والعمالة.
والخلاصة أن الصورة واضحة للتركيز الشديد للأعمال في القاهرة، مما يساعد على مزيد من الاستقطاب لتيار الهجرة، وبالتالي تضخم مشكلاتها السكانية بإضافة أيد عاملة غير ماهرة تزيد أحياء السكن الطفيلي العشوائي باستمرارية لا تستطيع أن تلاحقه قوانين ولوائح الضبط والربط، وبديهي أن جانبا من الحلول يرتبط بالتفكيك التدرجي للكثير من الوظائف الصناعية والخدمية ونشرها في مراكز عمرانية قديمة أو مستحدثة بعيدا عن القاهرة. (4) توزيع المنشآت والعمالة في القاهرة
تتوزع منشآت النشاط الاقتصادي بإطلاق بقليل من العدالة على أقسام القاهرة. فالفروق كبيرة بين 447 منشأة في 15 مايو و27100 منشأة في قسم البساتين. المتوسط هو حول ثمانية آلاف كما هو واضح من الخط ⋆-⋆
في الشكل
5-5 ، ولكن عدد المنشآت المطلق ليس الحكم في أحجام منشآت العمل؛ لهذا فإن تحديد الفروق بين المؤسسات الكبيرة والصغيرة أمر مهم في تحديد قوة النشاط وفعاليته بين قسم وآخر.
وكمثال على تلك الفروق نأخذ قسم البساتين بالمقارنة في عدة نواح من النشاط على النحو التالي: في البساتين 1324 منشأة تصنف فنادق ومطاعما، وتشتمل على فندق واحد و1323 مطعما. متوسط العمالة للمنشأة 2,8 فرد، وفي قسم قصر النيل في المصنف ذاته 190 منشأة تضم 41 فندقا و149 مطعما بمتوسط عمالة 14 فردا للمنشأة. وبطبيعة الحال الفروق واضحة بين الحالتين؛ فشتان بين مطاعم وفنادق قصر النيل التي يمكن أن تدخل نطاق المنشآت الكبيرة، وبين تلك في البساتين التي تستخدم عمالة صغيرة كدليل على صغر المنشآت في البساتين. وعلى المنوال نفسه نجد مجموع منشآت الصناعات التحويلية في البساتين 5973 منشأة مقابل 129 منشأة في التبين، ولكن متوسط العمالة في الحالتين شديد الاختلاف، فهو 4 عمال/منشأة في البساتين مقابل 475 عاملا/منشأة في التبين.
لمثل هذه الفروق نجد أن منحنى المنشآت الكبيرة في الشكل
5-5
ضرورة لتبين الفروق الحقيقية في القيمة الفعلية للمنشأة في توظيف عمالة أعلى من النشاطات الاقتصادية البسيطة، سواء كان ذلك في أنشطة الصناعة أو التجارة أو الخدمات. ونظرة واحدة إلى الشكل توضح كيف ترتفع نسبة المنشآت الكبيرة إلى أكثر من 30٪ في قصر النيل والزمالك وعابدين والأزبكية والنزهة ومصر الجديدة ومدينة نصر، وكلها إما أحياء جديدة أو منطقة وسط البلد التقليدية، وفي ذات الوقت تنخفض نسبة المؤسسات الكبيرة في أقسام الأطراف ذات الأحياء الفقيرة، كخط القبة - الزيتون - المطرية - عين شمس - المرج - السلام، أو منطقة القاهرة الفاطمية؛ الدرب الأحمر والجمالية وباب الشعرية، وكلها تنتشر فيها أنشطة حرفية وأنشطة صغيرة يدوية غالبها تقليدي وتجاري في القاهرة الفاطمية، بينما هي ورش إصلاح وإنتاج صغير حسب الطلب على قدر رأس المال الصغير المستثمر في هذه المناطق الفقيرة. أما باقي الأحياء فهي مناطق سكنية لعاملين في أحياء وأقسام النشاط الكبير.
توزيع المنشآت العاملة في محافظة القاهرة 1996 حسب حجم المكان الذي تشغله
شكل 5-5
تحليل بعض أنشطة غير حكومية حسب فئة عدد العمال بالقاهرة 1996
شكل 5-6
ويزيدنا شكل
5-6
تتبعا للموضوع على نحو شديد الوضوح. فالكثير من الأنشطة والمهن القاهرية تتصف بعدد كبير من المنشآت التي تشغل أقل من عشرة عاملين. فصناعة الأثاث وصناعة الأحذية تتكون من أكثر من 95٪ من ورش صغيرة، وأكثر من 80٪ من عمال المهنة، وحتى في الصناعات الأساسية كالحديد والصلب نجد 84٪ منشآت صغيرة 4,5٪ منشآت من فئة العمالة التي تزيد على مائة عامل، وبالرغم من ذلك فإن نسبة العاملين في المصانع الكبرى هي قريبة من 86٪ من مجموع العمالة في صناعة الحديد والصلب كما يتضح ذلك بجلاء في الشكل
5-6 ، وفي حرف متخصصة كالوساطة المالية تسيطر المؤسسات من فئة العمالة الوسطى «10-100 عامل» على هيكل النشاط، ولكن لأنها وظيفة شديدة التخصص؛ فإننا نجد أيضا سيطرة عددية للعمالة في المؤسسات العليا كالبنوك، حيث نجد 59٪ من العاملين مركزين في نحو 5٪ من كل مؤسسات النشاط المالي. وفي مجالي التعليم والصحة: تتفاوت طبيعة المؤسسات من ابتدائي إلى ثانوي وجامعي، أو من مستشفى إلى مركز صحي إلى عيادة طبيب، ومن نجد نحو نصف العاملين في حقل التعليم يعملون في مدارس ومعاهد يتراوح عدد العاملين والمعلمين فيها بين عشرة ومائة شخص. أما في مجال الصحة والأنشطة المجتمعية: فإن العاملين في مؤسسات الفئة 10-100 لا تتجاوز ربع نسبة العالمين في هذه الأنواع من النشاط. (4-1) التوزيع المكاني للعاملين والنشطة حسب أقسام القاهرة
توزيع العاملين
شكل
5-7
يعطينا صورة عن توزيع العمالة على أحياء القاهرة على النحو الآتي:
متوسط العاملين في أرقام العمالة يتراوح بين حد أدنى 16٪ وحد أعلى 46٪ نظريا من سكان كل قسم من أقسام محافظة القاهرة.
السكان وعدد المشتغلين في غير المنشآت الحكومية 1996. ونسبة العاملين إلى مجموع سكان كل قسم - محافظ القاهرة
شكل 5-7
تظهر نسبة العمالة ببن الحدود الدنيا والعليا من المتوسط في غالبية أقسام جنوب القاهرة وشرقها، إضافة إلى بعض أقسام وسط القاهرة، خاصة الأحياء القديمة: بولاق والدرب الأحمر وباب الشعرية والظاهر.
تنخفض نسبة العمالة دون المتوسط في أقسام الشمال والشمال الشرقي والأقسام الثلاثة الجنوبية من وسط القاهرة: الخليفة ومصر القديمة والسيدة زينب.
وكذلك في 15 مايو والبساتين من منطقة الجنوب، وقسمي منشأة ناصر والسلام من منطقة الشرق.
ترتفع نسبة العمالة عن المتوسط في غالبية أقسام منطقة وسط القاهرة بدرجات تبلغ أعلاها في ستة أقسام، تزيد فيها نسبة العمالة عن عدد سكان كل قسم؛ أي +100٪، وهذه هي أقسام: قصر النيل 407٪ عمالة بالنسبة لسكان القسم ، والأزبكية 170٪ والزمالك 144٪ وعابدين 122٪ والموسكي 117٪، وأخيرا قسم التبين في أقصى جنوب القاهرة بنسبة 118٪.
وبطبيعة الحال فإن أقسام العمالة المرتفعة تجذب العاملين من الأقسام التي تنخفض فيها نسبة العاملين. على سبيل المثال: فإن سكان حلوان و15 مايو والبساتين ومصر القديمة هم رصيد العاملين في التبين، وعلى النحو نفسه فإن سكان أقسام الشمال والشمال الشرقي وأقسام السيدة والخليفة وغيرهم هم رصيد العمالة المرتفعة في وسط القاهرة، ويتضح ذلك جليا من قراءة أعداد السكان وأعداد العاملين في الجدول أسفل الشكل (
5-7 )، وفي الجدول والشكل متسع لمزيد من التحليل للمختصين في دراسة العمالة والسكان، وذلك بارتباطات كثيرة مع أوضاع ديموجرافية واجتماعية كالزيادة السكانية والأمية والبطالة ومنسوب دخل الفرد والأسرة والقيمة الإيجارية للمساكن وحالة المباني أو أية أشكال أخرى من المأوى وغير ذلك كثير.
وربما كانت أوضاع العمالة هذه مؤشرا جيدا؛ لتتبع حركة العاملين اليومية، ومشكلات المرور، كما سيأتي في فصل قادم.
توزيع الأنشطة الرئيسية على أقسام القاهرة
تنقسم الأنشطة الاقتصادية إلى ثلاث مجموعات كبيرة، هي: (1)
الإنتاج الأولي : ويشمل التعدين والمحاجر والزراعة وتربية الحيوان وصيد السمك والغابات وقطع الأشجار، ومهن أخرى مرتبطة بالحياة الطبيعية كصيد أو تربية حيوان الفراء وجمع الزهور والأعشاب البرية ... إلخ. وبطبيعة الحال لا تظهر أشكال الإنتاج الأولي في المدن، وبخاصة العواصم الكبرى إلا في أطرافها حيث يبدأ الانتقال إلى الزراعة أو تربية الحيوان، وهذا واضح تماما في علاقة أقسام بولاق الدكرور والعمرانية والهرم وجنوب مركز الجيزة وشمال وغرب مركز إمبابة وقسمي شبرا الخيمة والمرج؛ حيث يبدأ الاختلاط بين المدينة والزراعة في محافظتي الجيزة والقليوبية. (2)
عدد العمال ونسب المهن الرئيسية بالقسم - القاهرة 1996
شكل 5-8:
العاملين بالألف: تبين 70، حلوان 82، مايو 1,3، طرة 13,5، معادي 17,6، بساتين 76، م. قديمة 31، خليفة 17، سيدة 24، عابدين 60، موسكي 33,6، قصر النيل 53، بولاق 27، زمالك 23، ازبكية 15، الدرب الأحمر 27، جمالية 45، باب الشعرية 17، الظاهر 14، الشرابية 23، شبرا 11، روض الفرج 18، الساحل 40، الزاوية الحمراء 26، الوايلي 15، القبة 31، الزيتون 50، المطرية 37، عين شمس 43، المرج 19، مدينة السلام 42، مصر الجديدة 55، النزهة 41، مدينة نصر (1) 52، مدينة نصر (2) 14، منشأة ناصر 18.
شكل 5-9:
توزيع العمالة في مواقع العمل في القاهرة الكبرى 1986. نقل عن “Observatoire urbian du caire contemporain”, Lettre d’information, Numero 43 Janvier 1996, p.6 .
الإنتاج الثنائي : ويعني بصفة عامة الصناعة الحرفية والحديثة، وهي ثنائية لأنها تنطوي على تحويل المنتج الطبيعي كالأحجار والمعادن، أو المنتج الحيوي الزراعي والغابي والحيواني إلى شكل جديد، هو: الطوب أو سبائك المعادن أو أنواع أخشاب البناء والأثاث أو ألياف النبات إلى نسيج أو جلود الحيوان إلى مصنوعات جلدية أو فراء أو إعداد الغذاء ... إلخ. وبطبيعة الحال لكل حرفة أو صناعة منشآت خاصة تستوعب عمالة كثيفة أو قليلة حسب تكنولوجية وسائل الإنتاج، وتتركز هذه الحرف والأنشطة داخل المدن أو في أطرافها، وهي منذ نشأة حياة المدن العماد الاقتصادي للمدينة قديما وحديثا. (3)
الإنتاج الثلاثي : وهو ما نعرفه باسم الأنشطة الوسيطة والخدمات، وهو بذلك يضم قائمة كبيرة من الأعمال على رأسها تجارة الجملة والتجزئة، ثم الخدمات المالية والبنكية والبورصة، ثم التعليم بمراحله والصحة العامة والمستشفيات والعيادات ومراكز الصحة وخدمات المجتمع، كالإعلام المرئي والمكتوب والمحاسبة وصناعة البناء والتشييد والنقل ووكالات السفر والسياحة ... إلخ. ويدخل ضمن هذا القطاع من الأعمال كل وظائف الدولة متمثلة في وزاراتها وهيئاتها في كل الميادين بما فيها القضاء والأمن الداخلي والخارجي والمؤسسات الإقليمية والدولية ... إلخ، ومعظم هذه الوظائف متمركزة في المدن، وبخاصة العواصم السياسية.
وعلى هذا فإن خريطة الأنشطة الاقتصادية للقاهرة سوف تشمل بالأساس القطاعين: الثنائي والثلاثي؛ أي الصناعة والخدمات التي تنقسم إلى التجارة وكافة أشكال الخدمات الأخرى، كما يتضح من شكل
5-8 .
ويجمل هذا الشكل ثلاث حقائق أساسية، هي:
أولا:
تركز الصناعة في منطقتين: هما التبين وحلوان والبساتين في الجنوب، وباب الشعرية والجمالية والدرب الأحمر في شرق وسط القاهرة.
ثانيا:
تركز قطاعات الخدمات المختلفة في وسط القاهرة في أقسام: قصر النيل والزمالك والأزبكية وعابدين، وفي شرق القاهرة في أقسام: النزهة ومصر الجديدة ومدينة نصر بقسميها، وأخيرا في المعادي من أقسام جنوب القاهرة.
ثالثا:
يظهر النشاط التجاري توزعا على كافة نواحي القاهرة دون التركيز في منطقة أو قسم محدد، علما بأن التجارة تشمل الجملة والتجزئة، وتشمل أيضا تجارات كبيرة القيمة السلعية، وأخرى محلات صغيرة لبيع سلع الحاجة اليومية من الأغذية والأطعمة .
واستنباطا من الشكل
5-8
ومن سلاسل أرقام الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء تظهر حقائق مجمعة لقيمة كتل أقاليم القاهرة في أنواع الأنشطة في الجدول الآتي:
جدول : توزيع العمالة بالأنشطة الرئيسية على أقاليم القاهرة - عدد العمال بالآلاف أرقام مدورة.
نوع النشاط
كتلة الجنوب
كتلة وسط القاهرة
كتلة الشمال
كتلة شمال الشرق
كتلة الشرق
القديمة
الحديثة
جملة
عمالة الصناعة
160
50
36
86
35
52
44
عمالة التجارة
70
56
96
152
47
75
82
عمالة الخدمات
211
61
382
443
151
144
258
الجملة
441
167
504
671
233
271
584
كتل القاهرة: الجنوب يشمل أقسام: التبين وحلوان و15 مايو وطرة والمعادي والبساتين-دار السلام ومصر القديمة والخليفة. الوسط القديم يشمل أقسام: الدرب الأحمر والجمالية والموسكي وباب الشعرية. الوسط الحديث يشمل: عابدين والسيدة وقصر النيل والزمالك وبولاق والأزبكية والظاهر والوايلي. الشمال يضم أقسام: الشرابية وشبرا وروض الفرج والساحل والزاوية الحمراء. الشمال الشرقي يشمل أقسام: حدائق القبة والزيتون والمطرية وعين شمس والمرج. الشرق يضم أقسام: مدينة السلام والنزهة ومصر الجديدة ومدينة نصر أول ونصر ثان ومنشأة ناصر.
نستخلص من الجدول والخريطة
5-9
عدد من الظاهرات أهمها:
4
أولا:
الصناعة في جنوب القاهرة تساوي 42,5٪ من مجمل الصناعة في محافظة القاهرة، تليها كل من شرق القاهرة والوسط القديم بنحو 15٪ لكل منهما. أقل الكتل هي الشمال بنسبة نحو 9٪ فقط.
ثانيا :
تحوز منطقة وسط القاهرة بشقيها 35٪ من العمالة في النشاط التجاري، وهي حقيقة يدركها كل الناس سواء في ذلك منطقة وسط البلد أو الأزهر. يليها في ذلك المناطق الحديثة في شرق القاهرة بنسبة قرابة 20٪، وهذه أيضا حقيقة معروفة، فمصر الجديدة ومدينة نصر مراكز نامية للتجارة تخدم كل شرق القاهرة والشمال الشرقي، وبذلك فهي القلب التجاري الثاني والمتنامي في محافظة القاهرة.
ثالثا:
في قطاع الخدمات بأنواعها العديدة من التعليم إلى الصحة والإنشاء والتشييد والإعلام والفندقة والسياحة والنشاط المالي ... إلخ، تتمركز في ذات الكتلتين اللتين ذكرناهما في مجال التجارة؛ أي وسط القاهرة بنسبة 37٪ وشرق القاهرة بنسبة 21,5٪.
فهل يعني هذا هجرة تدريجية من احتكارية وسط البلد إلى شرق القاهرة في مصر الجديدة، ومدينة نصر، والنزهة؟
رابعا:
تسجل منطقة الشمال أقل النسب فيما يختص بالصناعة والتجارة ونسبة مشابهة للشمال الشرقي في قطاع الخدمات. فهل الاستخدام السكني بصفة أساسية وانتقال سوق القاهرة للخضراوات والفواكه من روض الفرج، وتداعي أسواق الغلال في الساحل - كانت لها آثار سلبية على النشاط، وحولت الكثير من السكان إلى العمل في وسط البلد؟
خامسا:
فيما يختص بجملة الأنشطة ومقارنتها بعدد السكان تظهر مناطق وكتل القاهرة على الصورة التي يوضحها الجدول الآتي:
جدول : جملة الأنشطة.
جنوب القاهرة
وسط القاهرة
شمال القاهرة
شمال القاهرة
شرق القاهرة ٪ من العاملين في الأنشطة
22
33,5
11,6
13,5
19,2 ٪ من عدد سكان القاهرة
18,7
14,7
26,2
24
16
يتميز وسط القاهرة وشرقها بتناسب معكوس؛ إذ هما أقل المناطق سكانا، بينما هما أعلاها نشاطا. أما شمال القاهرة وشمالها الشرقي فعكس ذلك تماما؛ السكان أعلى بكثير من نسبة العاملين في جملة الأنشطة، وتمثل منطقة الجنوب حالة شبه متعادلة، وإن رجعت زيادة العاملين في الأنشطة إلى وجود المؤسسات الصناعية الكبرى التي يتبع معظمها قطاع الأعمال العام في التبين وحلوان وطرة.
ولهذه الخاصية مردود في مشكلة المرور في القاهرة؛ حيث تنصب حركة العمل اليومية على منطقة وسط المدينة وشرقها من أنحاء القاهرة الأخرى ومن القاهرة الكبرى غرب النيل، وسوف نعالج مشكلات المرور في الفصل
السابع .
التوزيع المكاني للأنشطة
أولا:
أنشطة تظهر في أطراف القاهرة الزراعة: مجموع العمالة 9155 عاملا، الزراعة هنا اسم تصنيف يشمل الزراعة الفعلية وتربية الحيوان والصيد ونشاط قطع الأشجار، نحو 40٪ من العمالة في هذا التصنيف تتركز في قسم التبين، ولكن غالبيتهم الساحقة تمارس نشاط قطع الأشجار، ويتوزع الباقون على أقسام مصر القديمة (12٪) والسلام (10٪) ومنشأة ناصر (9,5) والبساتين (6٪) وحلوان (5٪)، وهؤلاء يقومون إما بتربية الحيوان أو أنشطة مرتبطة بتربية الحيوان، ويبلغ عددهم 3329 فردا 75٪ منهم يتركزون في أقسام منشأة ناصر (26٪) والسلام 20٪ وحلوان 13٪ والزاوية الحمراء 11٪ وأخيرا المرج 4٪.
توزع هذه الأنشطة في الأطراف ناجم عن وقوعها في أراض وعرة أو رملية يصعب استخدامها لغير ذلك، وإلى جوارها أرض زراعية مبعثرة يمكن أن تمد الحيوان ببعض الغذاء كما هو الحال في السلام والمرج والزاوية الحمراء. أما منشأة ناصر: فغالب تربية الحيوان يدور حول الخنازير التي تكون القمامة جانبا لا بأس به من غذائها.
ثانيا :
نشاط مركز في قسم إلى ثلاثة أقسام معا:
جدول
نوع النشاط
عدد العاملين
أقسام تركز النشاط ونسبتهم
نفط وغاز طبيعي
5750
البساتين 77٪
تعدين ومحاجر
6515
البساتين 69٪ المعادي 11٪ طرة 3٪
مواد ومنتجات كيماوية
20725
الزيتون 40٪ الساحل 16٪ السلام 6,5٪
منتجات المطاط واللدائن
9667
حلوان 75٪
منتجات من خامات تعدينية غير معدنية
52117
التبين 60٪ طرة 11٪ حلوان 8٪
صناعة المعادن الأساسية
36704
التبين 72,5٪ حلوان والأزبكية لكل 5,5٪
آلات متعددة الأغراض وأجهزة منزلية
22918
حلوان 68٪ الساحل 9٪ مصر الجديدة 8٪
آلات كهربائية غير مصنفة (مصابيح محولات)
5487
البساتين 31,5٪ الزيتون 22,5٪
سيارات ولواري وموتوسيكلات
6796
حلوان 66٪ الأزبكية 15٪ الزيتون 9٪
معدات نقل أخرى (قاطرات عربات سكك حديدية)
7825
حلوان 97,5٪
منتجات غير مصنفة سابقا
5074
الجمالية 71٪
الوساطة المالية والائتمان
39855
قصر النيل 52,5٪ عابدين 13٪ بولاق 6٪
صناعة المشروبات
2946
مدينة نصر قسم أول 80٪
طحن الحبوب والنشا
4743
طرة 38٪ الشرابية 15٪ الساحل 11٪
ثالثا:
أنشطة منتشرة مع تميز قسم (+10٪) عدد المنشآت العاملة: (1)
المنسوجات؛ غزل ونسيج وتجهيز: العاملون 18739.
الجمالية 14٪ - القبة 11٪ - حلوان 11٪. (2)
الأحذية والجلود: العاملون 26036.
الموسكي 18٪ - باب الشعرية 15٪ - الدرب الأحمر 14,5٪ - الجمالية 10,5. (3)
النشر والطباعة: العاملون 12307 عابدين 10٪. (4)
منتجات معدنية عدا الميكانيكية: العاملون 41817 الجمالية 10,5٪. (5)
صناعة الأثاث: العاملون 133975 البساتين 17,5٪. (6)
الإنشاء والتشييد: العاملون 47196.
الأزبكية 12,2٪ - مصر الجديدة 12٪. (7)
إنتاج وتجهيز وحفظ اللحوم والأسماك: العاملون 2122.
الوايلي 21٪ - عابدين 10٪.
رابعا:
باقي الأنشطة تتوزع بقية الأنشطة على الأقسام دون احتكار قسم معين ، وذلك راجع إلى طبيعة النشاط الذي يقتضي انتشاره كخدمة كتجارة التجزئة، أو بنية أساسية في تركيب المجتمع كالمدارس والمستشفيات، والأمثلة على ذلك كثيرة نذكر منها بعضها، كالآتي:
في مجال صناعة الأغذية والمشروبات 37953 عاملا موزعين على م. نصر أول 8,6٪ والبساتين والزيتون وعين شمس لكل 6٪ وطرة والسيدة لكل 5٪ والمطرية والسلام لكل 4,5٪، ثم تأتي بنسب أقل أقسام: المرج والزاوية الحمراء والشرابية والساحل والقبة ومصر القديمة وحلوان.
وفي مجال تجارة الجملة في كل السلع فيما عدا السيارات والمركبات يعمل 65432 عاملا موزعين على مصر الجديدة بنسبة 8,7٪ «و» م. نصر قسم أول والأزبكية لكل 7,6٪ والموسكي 7٪ وعابدين 6,6٪ والسلام 6٪ وقصر النيل 5,9٪ وبولاق 5,8٪ والنزهة 5,6٪ والجمالية 4,9٪ والدرب الأحمر 4,6٪ ... إلخ.
وفي مجال تجارة الجملة والتجزئة معا تتوزع العمالة على كل أقسام القاهرة بنسب أقل من 5٪ فيما عدا البساتين 6,5٪ ومصر الجديدة 5,2٪، ومثل هذا في مجال الصحة التي يبلغ عدد العاملين بها 36514
5
موزعين على أقسام القاهرة بنسب أقل من 5٪ باستثناء مصر الجديدة 11٪ والبساتين 8,6٪، وكذلك الأنشطة العقارية وخدمات الأعمال فيما عدا عابدين 11٪ ومصر الجديدة ومدينة نصر لكل 9,5٪.
وفي أنشطة التعليم الخاص يعمل نحو 30 ألفا يتركز 52٪ منهم في أقسام النزهة 10,5٪ وعين شمس 8,9 وم. نصر 8,2٪ البساتين 7٪ ومصر الجديدة 6,6٪ والزيتون 6٪ والمعادي 4,5٪.
ويعمل 63188 مشتغلا في مجال الفنادق والمطاعم موزعين على معظم أقسام القاهرة مع تميز الزمالك 7,9٪ والبساتين 5,8٪ والأزبكية 5,6٪ ومصر الجديدة 4,9٪ والنزهة وقصر النيل ومصر القديمة لكل 4,2٪ والجمالية ومدينة نصر نحو 4٪، ولكن إذا أخذنا الفنادق وحدها - 12372 عاملا - فسوف تتضح احتكارية منطقتين؛ أولاهما: وسط البلد 68٪ من عمالة الفنادق: الزمالك 33,3٪ قصر النيل 12٪ والأزبكية 11٪ الجمالية 3,6٪، والثانية: شرق القاهرة 14,5: مصر الجديدة 5,6٪ النزهة 4,8 ومدينة نصر 4,1٪. أما في مجال المطاعم؛ فإن التوزيع شبه متعادل على أقسام القاهرة بنسب أقل من 5٪ عدا البساتين حيث ترتفع إلى 7,3٪. (5) نماذج للأنشطة في بعض أقسام القاهرة
فيما يلي محاولة لتجميع الأنشطة في بعض أقسام القاهرة؛ لنتبين نماذج المناطق التي تتسم بسيادة أشكال من الإنتاج أو تجارة الجملة والتجزئة، أو أن تكون الأنشطة متوازنة بين الإنتاج والتجارة وأشكال من الخدمات المجتمعية. (5-1) نماذج إنتاجية
حلوان
النشاط ٪ من عدد العاملين
النشاط ٪ من عدد العاملين
منتجات أولية وأغذية
1,8٪
إنشاء وتشييد
1,2٪
نسيج وملابس جاهزة
5,2٪
تجارة سيارات
2,9٪
مطاط ولدائن
8,8٪
تجارة تجزئة
18,6٪
معادن أساسية ومنتجات معدنية
5,3٪
تجارة جملة وتجزئة
23٪
صناعة الآلات
18,9٪
فندقة ومطاعم
2,4٪
سيارات ووسائل نقل
14,6٪
صحة وخدمة مجتمع
2,9٪
صناعة الأثاث
2,4٪
جملة الصناعة التحويلية
63٪
جملة العاملين في حلوان
81906
يبلغ عدد المشتغلين في حلوان نحو 23٪ من السكان في فئة العمر 15-60 سنة، وهم القوة العاملة نظريا، ومعنى ذلك أن هناك فائض أيدي عاملة، لكن الكثير من هذا الفائض يعمل في التبين التي تنقص فيها قوة العمل كما سنرى فيما بعد.
ويتضح من الأرقام أن 63٪ من قوة العمل تعمل في إنتاج الآلات والمنتجات المعدنية ووسائل النقل: سيارات ولواري وعربات السكك الحديدية والترام ... إلخ. وهو ما يدل على أن حلوان منطقة إنتاج متنوع من الآلات إلى السيارات والمطاط واللدائن، وليس متمركزا حول شكل إنتاجي كما سنرى في التبين .
وحيث إن حلوان هي الكتلة العمرانية الكبيرة في الجزء الجنوبي من القاهرة، فإن نحو ربع المشتغلين يعملون في ميدان تجارة التجزئة والجملة معا؛ لإشباع احتياجات العدد الكبير من السكان في كل أشكال العمران بين التبين والمعصرة.
التبين
النشاط ٪ من العاملين
النشاط ٪ من العاملين
إنتاج أولي وتعدين
5,2٪
تجارة جملة وتجزئة
2,3٪
صناعة وإعداد غذاء
0,7٪
فندقة ومطاعم
0,4٪
منتجات معدنية
48,5٪
نقل وتخزين
1,8٪
صناعة الحديد والصلب
38,0٪
صحة وخدمات مجتمع
0,6٪
جملة الصناعات التحويلية
88,0٪
أعمال أخرى
2,5٪
جملة العاملين 69454 عاملا
واضح من هذه الأرقام أن التبين ذات نشاط إنتاجي صناعي طاغ، فكل الأنشطة الأخرى من أنواع التجارة إلى الإنتاج الأولي وأشكال الخدمات تشكل 12٪ فقط من العاملين مقابل 88٪ عمالة في صناعات المعادن، وعلى رأسها الحديد والصلب.
في سنة 1996 كان إنتاج التبين من الحديد والصلب يشكل 88٪ من الإنتاج في القاهرة و55٪ من جملة إنتاج الحديد والصلب في مصر. كما تشكل المنتجات المعدنية في التبين 75٪ من مثيلها في القاهرة و25٪ من إنتاج الجمهورية، وعلى الرغم من هذا القدر المميز للتبين إلا أن مشكلات المصنع الضخم كثيرة، على رأسها قدم تكنولوجية الإنتاج، واعتماده على الفحم كطاقة أساسية في تشغيل معظم عملياته؛ ويترتب على قدم التكنولوجيا كبر حجم العمالة وهي مشكلة في حد ذاتها لها أبعادها الاجتماعية والسياسية والإنتاجية، وربما كان الأوفق تقسيمه إلى عدة مصانع تستخدم تكنولوجيا أعلى، وطاقة الغاز بديلا عن الفحم شديد التلويث للبيئة وصحة الإنسان، هذا فضلا عن تكلفة استيراده ونقله من الخارج، وقد يكون في هذا الحل مصاعب مالية يمكن تجاوزها بالتخصيص مع اشتراك الدولة حتى نتجنب مشكلة الاستغناء عن عمال حاليين، تثير مشكلات اجتماعية وسياسية.
عدد العاملين في التبين يزيد على مجموع سكان قسم التبين بنحو عشرة آلاف فرد، ويزيد عن سكان التبين الذين هم في سن العمل بمقدار 2,2 مرة. لو افترضنا أن كل من هم في سن العمل في التبين، نساء ورجالا، يعملون في الصناعات والأنشطة الأخرى، يتبقى نحو 38 ألف عامل يحصلون عليه غالبا من سكان قسم حلوان في الوظائف العادية فضلا عن نخبة من الفنيين والإداريين يأتون من باقي أقسام القاهرة. (5-2) نماذج موزعة النشاط
البساتين - دار السلام
نوع النشاط
النسبة ٪
نوع النشاط
النسبة ٪
قطع الخشب
7,0
الإنشاء والتشييد
1,4
غاز ونفط
5,7
تجارة السيارات والمركبات
4,7
تعدين ومحاجر
5,7
تجارة الجملة
2,7
إنتاج أولي
12,1
تجارة التجزئة
29,3
صناعة مواد غذائية
2,9
جملة التجارة
36,7
صناعة الملابس
2,6
فنادق ومطاعم
4,8
صناعة الأخشاب والفلين
1,6
نقل
2,6
مواد كيماوية
1,4
عقار وإيجار
3,7
منتجات من خامات تعدينية
3,7
تعليم
2,7
منتجات معدنية
3,5
صحة
4,0
آلات وأجهزة كهربائية
2,2
خدمات مجتمع
1,2
صناعة الأثاث
7,7
جملة نشاط الخدمات
19,0
مجموع الصناعة التحويلية
3,5
مجموع المشتغلين 77522 عاملا
تمثل البساتين أنشطة موزعة بشيء من العدالة، فالصناعة والتجارة +30٪ لكل منهما، تليها أنشطة الخدمات، ثم أشكال الإنتاج الأولي، وفي داخل مناشط الصناعة لا نجد تركيزا على واحدة منها باستثناء صناعة الأثاث المميزة بتركيز خفيف. بينما في مجال التجارة نجد التركيز شديدا على تجارة التجزئة التي تتكون على الأغلب من محلات ودكاكين صغيرة متفقة في ذلك مع الكثافة السكانية العالية والفقر الشديد. ويتأكد هذا من مقارنة أرقام الفنادق والمطاعم حيث النسبة 99,9٪ للعمالة في المطاعم، ولا يوجد سوى فندق واحد يعمل به خمسة أشخاص. وبعبارة أخرى: فإن المطاعم والمقاهي هي من الحجم المتفق مع المستوى الفقير لسكان البساتين. القوة العاملة في البساتين تساوي 20٪ من القوة العاملة النظرية: 15-60 سنة، ولا شك أن بعض السكان يجدون أعمالا في المناطق المختلفة من القاهرة، وبخاصة منطقة حلوان-التبين الصناعية. ويمكن أن يدل تنوع النشاط على افتقار المنطقة إلى مؤسسات كبيرة، فكثرة عدد المنشآت - 27326 منشأة - تدل على صغر أحجامها. فأي صاحب عمل يقيم غالبا منشآت محدودة رأس المال كثيفة العمالة لتوافرها وبالتالي رخصها، وربما كان ذلك نتيجة أو سببا أو هما معا متفاعلين؛ لكثرة عدد سكان قسم البساتين الذي يصل إلى 660 ألفا، وهو أكبر أقسام مصر سكانا، ومن ثم يطلق البعض على هذا الحشد الهائل اسم: «الصين الشعبية»؛ كناية عن التزاحم والكثافة العالية، وخاصة في منطقة دار السلام؛ أي الشياخات الغربية، بينما الشياخات الشرقية أقل تزاحما لوجود منطقة شاسعة من الأرض الحجرية التي استغل بعضها في جبانة البساتين الواسعة.
الجمالية
نوع النشاط
النسبة ٪
نوع النشاط
النسبة ٪
النسيج والتجهيز
6,2
تجارة الجملة
7,6
ملابس جاهزة
3,7
تجارة التجزئة
40,0
صناعات جلدية
6,5
جملة التجارة والوساطة
48,9
أعمال خشبية
1,4
الفنادق والمطاعم والمقاهي
6,0
منتجات معدنية
10,5
منتجات أخرى
8,5
جملة الصناعات التحويلية والحرفية
45,0
مجموع العاملين
42066 عاملا
سكان قسم الجمالية نحو 59 ألفا، وقوة العمل «الفئة 15-60 سنة» تبلغ 44 ألفا، وحيث إنه ليس مفترضا أن تعمل كل إناث هذه الفئة، فالواقع إذن أن النشاطات الاقتصادية المختلفة في الجمالية تعتمد على نحو ثلث من العمالة القادمة من أحياء أخرى كالدرب الأحمر والظاهر والخليفة وغيرها.
الجمالية هي أحد المكونات الأساسية للقاهرة الفاطمية، وسبق أن ذكرنا في الفصل الثالث أهميتها الإنتاجية والتجارية منذ نحو ألف عام، ولأن الكثير من المباني التي تعود إلى ثلاثة قرون أو نحوها مشيدة بالحجر النحيت؛ مما يجعلها متينة مقاومة للبلى بالتقادم، فإن الكثير منها تشغله الآن ورش ومشاعل الذهب والفضة، وتركيب أحجار المجوهرات، وصناعة الملابس وتجهيز الأقمشة المميزة للأنوال اليدوية، وورش طرق النحاس والمعادن وتشغيلها، وورش الصناعات الجلدية والخشبية من طرز خاصة، واتخاذ بعضها مخازن للبضائع والأقمشة، وورش صناعة الموازين والدقاقة للعطارة وغير ذلك كثير.
وعلى هذا فإن الجمالية منطقة مهمة في تجارة الجملة وصناعة المجوهرات وصناعة السياحة ، ولهذا تكثر الفنادق التي يعتاد ارتيادها تجار الجملة من خارج القاهرة وبخاصة من الصعيد، وتكثر المطاعم المتخصصة في أنواع اللحوم والحلوى استمرارا لنشاط زمن قديم، وتكثر المقاهي الشرقية لخدمة العاملين والسياح، وتكثر محلات تجارة التجزئة بأحجامها المتناهية الصغر بالقياس إلى معروضاتها ذات القيمة العالية من الصياغة والملابس التقليدية والسبح والعصي والأقمشة ذات الطابع التقليدي، ومكتبات كتب التراث؛ لإشباع احتياج الحركة التجارية المحلية والأجنبية، واحتياجات طلبة الأزهر الشريف.
ولهذا فإن القيمة الإيجارية شديدة الارتفاع بالنسبة للواجهات الصغيرة في دروب وسكك الجمالية؛ مما يجعلها من أغلى مناطق القاهرة عقاريا وإيجاريا، ويشابهها في ذلك الموسكي الذي قد يتفوق على الجمالية في هذا الشأن.
وبذلك فإن الجمالية تمثل تكاملا قل أن يوجد في القاهرة بين الإنتاج والتجارة والاستهلاك، يدلل على ذلك تشابه نسب الإنتاج (45٪) والتجارة (49٪) وترتفع فيه خدمات كثيرة مرتبطة بالتجارة والسياحة معا.
ومن ثم فإن مشكلة المرور والحركة شديدة الكثافة في شارع الأزهر والسكة الجديدة والشوارع الأساسية المتعامدة عليهما، وبخاصة شارع المعز الذي يكون عصب الحركة في كل الجمالية والدرب الأحمر، واستحق في الماضي اسم الشارع الأعظم، ولهذا كان اهتمام محافظة القاهرة كبير بتسيير وسيولة الحركة في شارع الأزهر؛ أولا بإنشاء كوبري علوي، ثم التغاضي عنه بإنشاء نفقي الأزهر-الأوبرا. لكن هذا، برغم أنه جهد مشكور، إلا انه يعالج جزءا من كل، فلابد من أخذ كل الحركة في الجمالية والدرب الأحمر، وإيجاد طرق بديلة في صورة شبكة متكاملة، وليس مجرد تحسين محور واحد، وسوف نعالج هذا الموضوع في فصل قادم. (5-3) نماذج سيادة الخدمات
قصر النيل
نوع النشاط
نسب العمالة ٪
نوع النشاط
نسب العمالة ٪
أغذية وأشربة
0,7
تجارة التجزئة
12,7
منسوجات
0,8
جملة التجارة
25
ملابس جاهزة
0,7
فنادق ومطاعم
5
أحذية
0,1
وكالات السفر
6
نشر وطباعة
0,7
النقل والتخزين
9,5
مواد كيميائية
0,5
أعمال مالية وبنكية
12,5
منتجات معدنية
0,3
التأمين والمعاشات
26,5
آلات غير مصنفة
0,5
جملة الوساطة المالية
39,3
جملة الصناعة
5,2
نشاط العقار والتأجير
4,4
تشييد وإنشاء
5,7
تعليم وصحة عامة
2,2
تجارة جملة سيارات
4,7
خدمات مجتمعية
2,3
تجارة جملة عامة
7,2
جملة العاملين
52911
قسم قصر النيل هو بعينه ما نعنيه بمصطلح «وسط البلد»، بإضافة القليل من قسمي الأزبكية وعابدين، وعمر هذه المنطقة في مجملها وبمخططها الراهن تعود إلى قرابة قرن ونصف حينما أنشأ الخديو إسماعيل حي الإسماعيلية بعد نقل مقر الحكم من القلعة إلى قصر عابدين. ثم أضيفت «التوفيقية» في عصر توفيق، وتتابع النمو بعد ذلك في لاظ أوغلي وقصر العيني بإنشاء حي «الدواوين» مقرا للوزارات. هكذا نمت منطقة قصر النيل كمدينة أوروبية سكانا ومتاجر، وبقيت الأحياء الشعبية حولها ترفدها بالعمالة من بولاق والأزبكية وشبرا والسيدة زينب.
وعلى وجه عام تآكلت الوظيفة السكنية، وأصبحت التجارة وغالبية الأعمال البنكية والائتمانية وبورصة الأوراق المالية هي مؤسسات النشاط الأساسية، تحوز على نحو ثلثي العاملين في جميع الأنشطة، وأضيف إلى ذلك نشاط متمم تمثله الفنادق الكبيرة والمتوسطة والمطاعم ووكالات السفر بنحو عشر العمالة. أما الربع الباقي: فهو موزع بنسب صغيرة تتراوح بين 3-6٪ على الصناعة التحويلية والإنشاء والتشييد والعقارات ... إلخ.
وبذلك فإن قصر النيل يمثل نموذجا لقمة أحياء الأعمال، ويجذب بذلك الكثير من الأيدي العاملة من بقية القاهرة الكبرى، خاصة إذا أضفنا الوظائف كبيرة العدد في الوزارات والمؤسسات الحكومية وشبه الحكومية في المنطقة والعيادات الطبية والمكاتب الاستشارية الهندسية والمحاسبية والقانونية.
عابدين
نوع النشاط ٪ من العاملين
نوع النشاط ٪ من العاملين
صناعة ملابس جاهزة
6
تجارة جملة أخرى
8,5
صناعات جلدية
2,5
تجارة تجزئة
30,2
النشر والطباعة
2,4
جملة التجارة
42,8
صناعة الأثاث
2,7
النقل والتخزين
6,5
صناعات منوعة
7,5
الأنشطة المالية
10,1
جملة صناعات تحويلية
21,1
إعلان
0,7
الإنشاء والتشييد
8,1
نشاط العقار والتأجير
10,5
تجارة السيارات
4
مجموع أنشطة خدمية
28
مجموع العاملين 50932 عاملا
تقع عابدين على أطراف وسط القاهرة القديم في الدرب الأحمر والجمالية والموسكي وبين وسط القاهرة الحديث في قصر النيل والأزبكية، وهي بذلك همزة وصل للأنشطة التجارية والمالية في وسط المدينة، ومن ثم فالعاملون في التجارة والأعمال المالية والبنكية يشكلون أكثر قليلا من النصف، وهم بذلك يمثلون النشاط الحاكم استمرارا لمثيله في قصر النيل والجمالية.
وتمثل الأنشطة المالية في عابدين 13٪ من مجموع هذه الأنشطة في القاهرة، واستكمالا ترتفع مساهمة أنشطة العقارات والتأجير بما تشمله من الأعمال الاستشارية المحاسبية والقانونية والبحوث وتطوير المشروعات والإعلان. هذا فضلا عن نشاط النشر والطباعة الذي تحتكر عابدين 10٪ منه في القاهرة، ولا يقترب من مكانة عابدين في النشر والطباعة سوى الأزبكية (5,6٪) وعين شمس (6,3٪) وبولاق (5,7).
الصناعات التحويلية تستغرق خمس العاملين، وتتكون من صناعات خفيفة على رأسها الملابس والمنتجات الجلدية والأثاث، وأغلبها صناعات حرفية، وورش صغيرة تقليدية.
وتتشابه الأزبكية مع عابدين في سيطرة التجارة (49٪) والتشييد والبناء (13٪) والصناعة التحويلية (24٪). لكنها تختلف عن عابدين في زيادة نشاط الفنادق والمطاعم (8٪)، ووجود نشاط في تصنيع المركبات والمقطورات والهياكل بنسبة 15٪ من مثل هذه الصناعة في القاهرة بحيث تلي حلوان في ذلك. (5-4) نماذج النشاط في الأحياء السكنية
نوع النشاط ٪ السيدة ٪ شبرا ٪ الزيتون ٪ الساحل
صناعة أغذية ومشروبات
8
5,3
4,6
4,2
منسوجات وملابس
3,6
4,3
3,4
0,8
نشر وطباعة
2,5
1,9
1
0,7
منتجات كيميائية
0,5
16,5
8,2
منتجات معدنية
3,3
6,7
1,5
2,8
آلات وأجهزة كهربائية
2,4
0,7
صناعة الأثاث
5,8
2,5
1,8
1,9
جملة الصناعة التحويلية
26,7
27,5
37,9
29
إنشاء وتشييد
1,6
0,6
1,2
5,3
تجارة الجملة
9,8
13,1
6,5
12,4
تجارة التجزئة
31,8
31
26,8
26,5
جملة التجارة
41,7
44
33,4
39
فندقة ومطاعم ومقاه
7,7
7,3
2,8
4,2
نقل وتخزين
4,4
1,8
8,4
4,1
عقارات وتأجير
4,7
4,7
3,1
3,4
تعليم
2,7
5,1
2,8
4,4
صحة وأعمال اجتماعية
4,8
5,6
3,5
5,2
خدمات مجتمع
4,8
6,2
4,8
5,3
مجموع العاملين
24296
11088
49877
39581
بالرغم من اشتراك هذه الأقسام في كونها سكنية بالأساس فإنها تختلف في عمر نشأتها وعوامل نموها، فالسيدة زينب وشبرا هما الأقدم، وكانتا امتدادا للقاهرة المركزية منذ منتصف القرن 19م. السيدة امتداد جنوبي عبر قناطر الخليج المصري نمت كثيرا بعد إنشاء حي الدواوين في لاظ أوغلي، وأصبحت سكنا لكثير من الموظفين. وشبرا نمت بإنشاء قصور الأمراء للاستمتاع بجو أكثر نقاء شمال كتلة القاهرة وشرق ميناء القاهرة بين بولاق وروض الفرج، ولهذا فأنصبة كثير من الأنشطة غير الحكومية في كل منهما تتركز في مجال الخدمات التجارية والاحتياجات المجتمعية أكثر من أنشطة الصناعة. على سبيل المثال: تساهم عمالة تجارة الأغذية ب 12٪ و13٪ من مجموع العاملين في السيدة وشبرا على التوالي، وتساهم عمالة المقاهي والمطاعم بنحو 7٪ من العمالة لكل منهما، وأنشطة الصحة وخدمات المجتمع معا تبلغ نحو 10٪ في السيدة و12٪ في شبرا. أما النقل والتخزين ووكالات السفر والأعمال المالية فهي نحو 5٪ في السيدة و2٪ في شبرا، وجملة هذه الخدمات مع بقية أنواع التجارة تبلغ نحو 70٪ من العمالة في السيدة و75٪ في شبرا؛ مما يدل على أن الأنشطة موجهة أساسا لخدمة كتلة سكنية تعمل في مناشط أخرى؛ عمالة حكومية وعمالة في قطاعات العمل العام والخاص في وسط البلد من عابدين وقصر النيل إلى الأزبكية والجمالية. فسكان السيدة الذين هم في فئة قوة العمل يبلغون 108 آلاف فرد وقوة العمل في الجدول السابق هم نحو ربع هؤلاء - أو على أسوأ الفروض هم نحو نصف قوة العمل من الذكور فقط - ومثل هذا في شبرا حيث تساوي قوة العمل في الجدول ثلث قوة العمل من الذكور فقط، ولا شك أن باقي قوة العمل - باستثناء البطالة - تذهب للعمل في أحياء الأعمال كما سبق رصده في قصر النيل وعابدين والجمالية كنماذج.
أما الزيتون والساحل فهما أحدث سكنا، الأولى: ارتبطت ببدايات حي راق للطبقة الوسطى وفوق المتوسطة التي خرجت من قلب القاهرة مع خط حديد الضواحي. ثم هجر الورثة بيوتهم إلى أحياء أحدث وحل محلهم سكن أفقر وأكثف، والساحل نشأ كامتداد لساحل روض الفرج، وزاد سكانه بقوة الدفع من شبرا وروض الفرج، وفي كل من القسمين كانت هناك مساحات فضاء استغلت لبناء ورش وأعمال صناعية منوعة تعتمد على كثافة الأيدي العاملة ورخصها؛ لهذا ترتفع نسبة العاملين في الصناعات التحويلية إلى 38٪ و29٪ في القسمين على التوالي. وأكثر الصناعات التي تميزهما هي المنتجات الكيميائية التي تصل إلى 16,5٪ في الزيتون و8٪ في الساحل، ويكون مجموع الخدمات من التجارة إلى خدمة المجتمع 62٪ في الزيتون و71٪ في الساحل مقابل 70٪ و75٪ في السيدة وشبرا، وبالرغم من هذه الفروق فإنه لا يجب أن ننسى العدد السكاني الضخم في الزيتون (322 ألفا) والساحل (333 ألفا) واحتياجاتهم إلى كافة أنواع الخدمات في التجارة بأنواعها والنقل والمطاعم والمقاهي ... إلخ. (5-5) نماذج من الأحياء الجديدة
نوع النشاط ٪ مدينة نصر أول وثاني ٪ مدينة السلام
صناعة المشروبات
4,5
الأغذية والمشروبات
5,1
4,2
ملابس جاهزة
2,0
5,0
منتجات كيميائية ومعدنية
2,3
5,2
صناعة الأثاث
1,1
4,8
جملة الصناعة التحويلية
16,4
39,4
إنشاء وتشييد
10,1
1,6
تجارة المركبات
4,7
9,0
تجارة جملة عدا المركبات
8,3
9,4
تجارة تجزئة بمتاجر متخصصة
12,5
0,1
جملة التجارة
37,4
40,0
فنادق ومطاعم ومقاه
4,6
3,8
النقل والتخزين
5,7
5,0
أنشطة العقارات والتأجير
8,5
1,8
التعليم والصحة ونشاط مجتمعي
11,7
4,1
خدمات اجتماعية
4,5
2,8
مجموع العاملين (عدا الحكومية)
66391
41848
على الرغم من أن المدينتين خططتا للإسكان، وما زالتا كذلك، إلا أننا نجد فروقا بين توجههما، وأهم هذه الفروق هو التوجه الصناعي الخفيف في السلام بنسبة 40٪ من العمالة، وتوجه مدينة نصر نحو أنواع النشاط الخدمي بنسبة 84٪، أكبر الصناعات في مدينة نصر هي صناعة المشروبات، بينما تتجه الصناعة في السلام إلى الملابس الجاهزة والمنتجات المعدنية والكيميائية والأثاث.
وفي مجال التجارة تتشابه النسبة في المدينتين، لكن التجارة في المركبات والجملة تميز السلام، بينما ترتفع التجارة المتخصصة في مدينة نصر بشكل كبير مقابل انعدامها في السلام، والأغلب أن ذلك راجع إلى منسوب الحياة الأعلى في مدينة نصر التي تتجه بمحلاتها التجارية المتخصصة الواسعة إلى تكوين نواة تجارية في شرق القاهرة نظيرها قليل في بقية القاهرة، وفي المجالات الخدمية الأخرى تتفوق مدينة نصر كثيرا على السلام.
كل هذا يعطينا فروقا واضحة بين مدينتين جديدتين تتجه كل منهما اتجاها مختلفا، ينعكس ذلك في نوع الأبنية بين أبراج مدينة نصر الفاخرة والمساكن والعمارات محدودة الارتفاع والقيمة الإيجارية في السلام.
والدراسة التحليلية لمدينة نصر تكشف فروقا بين قسمي أول وثان، والغالب أن وعورة التضاريس في نصر ثان سبب في صغر حجم السكان والامتداد العمراني، وفي المخطط كانت منطقة نصر ثان مخصصة للمنشآت الصناعية التي تحتل مساحات كبيرة، مثال ذلك: ورش المقاولات - 17,7٪ من مجموع العاملين - ومصانع «إيديال»، بالإضافة إلى صناعات المعادن والمنسوجات والمنتجات الكيماوية والأثاث، كلها تظهر بصورة أوضح في قسم ثان، وكذلك الحال في تجارة المركبات ومنشآت النقل والصحة، ويتمثل ذلك في المستشفيات الكبيرة وإدارات وجراجات إدارة النقل العام الداخلي للقاهرة وشركة مصر للسياحة وغيرهما، ووجود المطاعم والمقاهي دون الفنادق، ولا شك أن مطاعم ومقاهي نصر أول أميل إلى الحداثة، وبخاصة انتشار نمط مطاعم الوجبات سابقة التجهيز، ونظام أخذ الأطعمة
Take Away
أو توصيلها للمنازل، وهو نمط آخذ في الانتشار في بقية أحياء القاهرة.
وفي مقابل ذلك تتميز نصر أول بكثرة المدارس والمعاهد الخاصة بصورة تكاد تبلغ ضعفي مثيلها في نصر ثان، وعلى العموم فأنواع التجارة في نصر أول تستغرق نحو 40٪ من عدد عامليها مقابل 30٪ في قسم ثان. •••
وهكذا نخلص إلى أن النشاط الاقتصادي في القاهرة تظهر فيه ثنائية نمطية واضحة بين الصناعة والمهن التقليدية والحرفية وأشكال التجارة الصغيرة، وين الصناعات والأنشطة الحديثة المتركزة أساسا في منطقة جنوب القاهرة. والنمط الأول كثيف العمالة، نموه محدود، قيمته المضافة صغيرة، تكاد تبقي على حياة ممارسيها وعائلاتهم. أما الأنشطة الحديثة: فهي كثيفة رأس المال، وإن كانت أجور العاملين لا تزال ضعيفة بالقياس إلى مثيلاتها خارج مصر. وبوجه عام أمام المخططين الاقتصاديين والاجتماعيين مشكلات كبيرة لرفع القيمة المضافة للأنشطة الاقتصادية بوجه عام، ورفع الأجور، وجودة المنتج، وتنظيم التسويق، وتحسين الإدارة العامة للمشروعات العامة والخاصة. ومثل ذلك تماما، بل أسوأ حالا، الفلاحون والزراعة المصرية الراكدة في مسار تقليدي يؤدي إلى خروج كثير من الفلاحين من دائرة الإنتاج المجزي.
الأرقام عن: «النتائج الأولية للتعداد العام للسكان 1996» من كتابي محافظة القاهرة، ومحافظة الجيزة، وكتاب: «التعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت 1996 - محافظة القاهرة» مرجع 1100 / 1997 أ.م.ت، وكذلك دراسات عينة متعددة منها: «إحصاء العاملين المدنيين بالحكومة وقطاع الأعمال العام عن الحالة في 1 / 1 / 1996، مرجع 71-12523 يوليو 1997» و«النشرة السنوية لبحث العمالة بالعينة في جمهورية مصر العربية عام 1997» مرجع 71-12525 أغسطس 1999، وكلها صادرة عن الجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء - القاهرة.
3٪ بطالة رقم متدني، فحسب الأرقام الإحصائية تصل البطالة في مصر إلى 10٪ من مجموع المشتغلين بالجمهورية، وحسب جدول
5-2
تصل البطالة في القاهرة إلى 7,7٪ من جملة المشتغلين، وهو قيمة متحفظة، وأقل من الواقع الحالي حيث تشغل البطالة بال الناس والحكومة.
حسب أرقام الكتاب الإحصائي السنوي للجهاز المركزي للتعبئة والإحصاء - يونيو 1999 جدول 11-9، هناك تراجع في قيمة صادرات أساسية عام 1998 قياسا على أرقام 1994 يتراوح بين 32 و55٪ للقطن الخام وغزل القطن والأقمشة القطنية مع ارتفاع الأرز 70٪ والبطاطس 50٪.
برغم أن الخريطة توضح حالة العاملين لعام 1986 فإنها مؤشر جيد للواقع الحالي، باستثناء بعض الأنشطة التي ظهرت في أطراف القاهرة الكبرى، كالتجارة في مدينة نصر على سبيل المثال.
في مجالي الصحة العامة والتعليم تمثل أعداد العاملين فيهما نحو 15٪ من مجموع العاملين في هذين القطاعين، أما الباقي: 80-85٪، فهي عمالة حكومية، وذلك على عكس التجارة التي تعكس تفوقا للعمالة الخاصة على عمالة الحكومة والقطاع العام.
الفصل السادس
فصل في حياة القاهرة المعاصرة (1) المشكلات العامة للمدينة
1
لقد نمت مدينة القاهرة خلال السنوات الخمسين الماضية بسرعة كبيرة؛ مما أدى إلى أن تصبح مشكلات المدينة أكبر من الحلول المقدمة من هنا وهناك، وأعتقد أن هناك إجماعا على أن أي حل جذري لمشكلة مدينة القاهرة لن يتم إلا إذا اتخذت خطوات لتنفيذ خطة شاملة ذات جرأة غير معهودة.
إن القاهرة - كغيرها من مدن العالم الكبرى - تعاني من مشكلات مختلفة معقدة ومركبة، وبرغم أهمية الإفادة من الحلول والتجارب التي تتخذ في مدينة أو أخرى فإنه لا يفيد إطلاقا حل مشكلة معينة في مدينة ما تطبيقه بكامله على مدينة أخرى تعاني المشكلة ذاتها؛ لاختلاف الأبعاد الحضارية في كلتا المدينتين مهما كانتا في دائرة قومية واحدة، ومن ثم فإنه يلزم لكل مدينة دراسة خاصة وعميقة للتعرف على جميع خصائصها المادية والمعنوية على المستويين الأفقي (المكان)، والرأسي (الزمان). كما أنه يفيد أيضا أن نتعرف على مكان المدينة المعنية بين المجموعات التي تنقسم إليها مدن العالم؛ لأن تصنيفها يعطي الباحث ملخصا سريعا لخلفية المدينة الحضارية والاقتصادية، ومن ثم تتضح مؤشرات النمو والركود للمدينة.
القاهرة بين مدن العالم
تنقسم مدن العالم المعاصرة بصفة عامة من حيث المشكلات المترتبة على المكان، والتاريخ، والوظيفة الاقتصادية والسياسية، والمقومات الحضارية العامة إلى مجموعتين رئيسيتين: (1)
مدن العالم المتقدم:
عبارة عن الحزام الشمالي للمدن الذي يمتد من شواطئ الأطلنطي الشمالية في أوروبا وأمريكا، وعبر الاتحاد السوفيتي إلى اليابان، ومنها إلى مدن الشاطئ الغربي لأمريكا الشمالية. وهذه في مجموعها تتميز بالحداثة النسبية عدا أوروبا الجنوبية والغربية، وبقوام العصر الصناعي حضاريا واقتصاديا. (2)
مدن العالم النامي:
ما زالت فيها كل صراعات الريف والمدينة حضاريا واقتصاديا، وتنقسم إلى حزامين: (أ)
الحزام الأوسط الممتد من البحر المتوسط في شمال أفريقيا وأطراف أوروبا الجنوبية إلى الشرق الأوسط والهند ووسط آسيا والصين وإندونيسيا. (ب)
الحزام الجنوبي ويمتد في بقية أفريقيا وأمريكا اللاتينية وأستراليا.
والاختلاف الجوهري بين الحزامين الأوسط والجنوبي راجع إلى أسباب كثيرة على رأسها العمق الزمني لمدن الحزام الأوسط مقارنا بالحداثة في مدن الحزام الجنوبي.
وفوق هذا فإن الحزام الأوسط بمكانه الجغرافي كان مركزا لكافة الحضارات القديمة من مصر إلى الصين، ومنه انتقلت موجات حضارية إلى النطاقين الشمالي والجنوبي طوال تاريخ الإنسانية، وإليه انتقلت الموجة الحضارية الصناعية الحديثة من الحزام الشمالي، فأثارت فيه تلك الاضطرابات العنيفة الاقتصادية والمدنية الحالية.
وإذا صح هذا عامة على الحزام الأوسط، فإنه شديد الانطباق على الشرق الأوسط، الذي هو منتصف العقد في الحزام الأوسط، ومصدر الحضارات والديانات، وملتقى تيارات العالم القديمة والحديثة على السواء. وأهم ما يتميز به الشرق الأوسط هو النمط الواحي في الاستقرار، سواء كان ذلك في صورة الواحة المعروفة من وسط آسيا إلى الجزيرة العربية والصحراء الكبرى، أو في صورة عقود متصلة من الواحات على ضفاف الأنهار القصيرة والطويلة، وعلى رأسها النيل ودجلة والفرات وسرداريا وأموداريا - سيحون وجيحون - في صحاري آسيا الوسطى، ولندرة الأرض المنتجة في مثل هذه الظروف الواحية؛ فإن مواقع المدن كادت أن تثبت في أماكنها دون تغيير إلا في حالات شاذة. وقد ساعد ثبات الموقع على تعقد تاريخ المدينة في الشرق الأوسط؛ لطول أعمارها، ولتداخل أنماط المعمار والخطط العمرانية تداخلا يماثل التعايش والتكيف الذي حدث في حضارة هذا الإقليم حينما استوعبت وهضمت جوانب حضارية وافدة، وأبقت على كثير من جوانب الحضارة السالفة في مركب شديد التمازج.
ثنائية القاهرة
وتمثل القاهرة كل هذه الخلفية التاريخية والمكانية للمدن في الشرق الأوسط خير تمثيل، وهي إلى جانب تاريخها الطويل تعكس التطورات التي أدت إليها استقبالات عصر النهضة المصرية خلال القرن التاسع عشر، ومضمون الحضارة الصناعية خلال القرن العشرين. وقد أدت التغيرات السياسية والاقتصادية في مصر خلال الفترة من أواسط القرن ال 19 إلى اليوم إلى نمو سريع ومستمر لقاهرة الحضارة الصناعية في إطار لم يتجاوز التجاور المكاني للقاهرة القديمة خلال الأعوام المائة الماضية؛ لهذا كانت ثنائية القاهرة واضحة، يرمز إليها وجود السوق القديمة: بازارات خان الخليلي، ومحلات التربيعة، والموسكي ... إلخ، والسوق الحديثة: وسط البلد بمفهوم القاهري.
القاهرة القديمة
وبرغم التجاور المكاني فإن كل شيء في القاهرة القديمة والحديثة مختلف تماما؛ فخطة شوارع المدينة القديمة لا تخضع لتصنيف؛ الطرق والحارات المتعرجة الضيقة المسقوفة في أحيان كثيرة تعبر عن تكيف أمثل لنهار قائظ معظم أيام السنة، معمار سكني قديم خطته الأساسية الانفتاح على الحوش الداخلي والانغلاق عن العالم الخارجي بأسوار وبوابات تعبيرا عن نمط العائلة القديم الذي يسيطر فيه الرجال على عالم المرأة، أو «الأرباع» الضخمة التي تأوي عددا كبيرا من الأسر كادت أن تصبح عشائر مستقلة يربط أعضاءها التصاهر والتزاوج، وتنغلق بأسرارها عن العالم الخارجي. تقسيم مهني لأحياء المدينة يجعل منها عوالم ميكروكوزمولوجية منفصلة عن بعضها نفسيا وسلوكيا وفنيا مستندة في ذلك إلى أسس نشاط اقتصادي، وممارسات حرفية مختلفة بين الحي والآخر. مركز استقطاب كبير لهذه المدينة كلها يمثله الجامع الأزهر كرمز للدين الذي يجمع الناس بصلاحياته الاجتماعية الواسعة في مواجهة القلعة كمركز للحكم.
القاهرة الحديثة
أما القاهرة الحديثة، فقد تميزت بشوارع مستقيمة، وعمائر عالية، وأسواق مفتوحة، وشقق تأوي إليها أسر نووية لم يعد فيها محل للعائلة الممتدة التقليدية، ولم تعد الأحواش متنفسات المدينة الداخلية، بل ظهرت الحدائق كضرورة بديلة للحوش، وبذلك انهارت الانغلاقية والحمية العصبية للحارات والأحياء، وظهرت محلها روابط اجتماعية أخرى مبنية على الاختيار الحر للأفراد بدلا من الروابط التي كانت مفروضة بحكم علاقات الدم والنسب والمهنة والجوار.
ولم تعد هناك أحياء ذات نشاطات اقتصادية موحدة يسكن داخلها غنيها وفقيرها جنبا إلى جنب، بل أحياء جديدة للقاهرة الجديدة صنفت الناس تصنيفا آليا على أساس قدراتهم المالية. فأصبحت هناك أحياء الفقراء والطبقة الوسطى والأغنياء، ولكل منها سمات أشد اختلافا في كل مظاهر الحياة المادية واللامادية مما كان في أحياء المدينة القديمة، وأصبح الاستدلال على مهنة الشخص من محل سكنه أمرا صعبا عكس ما كان في القاهرة القديمة، بينما أصبح الاستدلال على مستوى الشخص المادي من عنوان سكنه أمرا سهلا في القاهرة الحديثة .
2
وحلت تنظيمات أخرى محل ما كان سائدا من طوائف المهن؛ نقابات للعمال والفئات العاملة، ونواد لطوائف العمل وطبقات الناس، وبعدت طبقات الناس عن بعضها البعض باختلاف مصالحها، وبعد الناس مكانيا وواقعيا من تأثيرات الاستقطاب الكبرى للأزهر بحلول الكثير من التنظيمات الاجتماعية الاقتصادية المنبعثة من حضارة العصر الصناعي، وبعد الحكم عن القلعة والقصور إلى التنظيمات السياسية والاقتصادية الحديثة المعبرة أيضا عن ضرورات وملزمات العصر الصناعي.
غزو القاهرة القديمة
وقد ظلت ثنائية القاهرة واضحة إلى حوالي نصف قرن مضى، وما تزال الثنائية ظاهرة في عدد من الأشكال. لكن الكثير من التغير قد طرأ على القاهرة القديمة نتيجة الغزو الحضاري الاجتماعي الاقتصادي من جانب القاهرة الحديثة. وفي الحقيقة لم تعد القاهرة القديمة تحتفظ من قدمها إلا بالشكل المادي : الطرق المتعرجة، والبيوت المتهالكة، وبعض الحرفية القديمة، إلى جانب آثارها الإسلامية الرائعة. هجرها أغنياؤها، ولم تدخلها الخدمات الحديثة إلا بأقل القليل، وبعبارة قصيرة: لم تصمد القاهرة القديمة للغزو، برغم محاولات الإحياء لمساجد أثرية وبيوت تاريخية، وسقطت إلى مجرد حي فقير من أحياء القاهرة الحديثة؛ نتيجة عدم التعادل في القوى الاقتصادية الاجتماعية بين القديم الحرفي العائلي السمة والحديث الآلي الأسري السمة. بل إن القاهرة الحديثة قد نجحت في تغيير وظيفة المدينة القيمة؛ فحولت جزءا من المدينة القديمة لتجارة الجملة كخلفية تخدم أسواق القاهرة الجديدة.
طرق غزو القاهرة القديمة
وقد كانت أهم وسائل غزو القاهرة القديمة رأس الحربة التي شقت القاهرة القديمة شطرين؛ إنشاء شارع الأزهر بعد سنة 1920 بعرض 20 مترا - بدايات لم تتم في عصر محمد علي - وقد أثار إنشاء هذا الشارع وشارع الجيش الحالي اعتراضات كثيرة آنذاك؛ لكثرة التعويضات التي بلغت 300 ألف جنيه! وبدخول المواصلات الحديثة إلى شارع الأزهر أصبح هو المحور الأول بعد أن كان شارع الموسكي وامتداده في شارع السكة الجديدة - التي أنشأهما محمد علي بعد سنة 1815 بعرض أربعة أمتار - هو المحور الأساسي لنحو قرن من الزمان للدخول من العتبة إلى منطقة الأزهر-الجمالية. وأصبح شارع الأزهر مركزا لتجارة الجملة، وتنافست المحال الكبيرة للحصول على واجهة تطل على هذا العالم الجديد، ولكن الحاجة المكانية الملحة أبقت على الموسكي والسكة الجديدة كشارع أعمال من الدرجة الثانية لفترة، والآن هو من أغلى شوارع القاهرة قيمة عقارية أو إجارية؛ لأنه سوق لا يشق له غبار للسلع المتوسطة القيمة التي لا غنى عنها لغالبية سكان القاهرة من الفقراء ومتوسطي الحال.
كذلك كان لإنشاء شارع الجيش الحالي - سابقا الأمير فاروق من العتبة إلى الحسينية - أثر كبير في تقطيع أوصال القاهرة القديمة في قسمها الشمالي؛ فصل باب البحر والفجالة والظاهر والرويعي عن الموسكي ودرب البرابرة وباب الشعرية والبيومي والحسينية. كما أدى إلى تدهور شارع الخليج - ردم سنة 1899 - الذي كان يلتوي داخل المدينة القديمة، ولم تعد له أهميته في شبكة شرايين القاهرة الحديثة إلا بعد أن استقام هو الآخر - قدر المستطاع - والتحم بعدد من الشوارع الضيقة الموازية: درب الجماميز، شوارع الحبانية، وجامع البنات، وبين الصورين، وباب الشعرية، وشارع الشعراوي البراني ... إلخ، تحت مسمى شارع الخليج الذي أعيد تسميته شارع بورسعيد، وأصبح محورا مهما يربط غمرة والسيدة زينب.
وكان شق شارع القلعة؛ «محمد علي» قد سبق ذلك بكثير - بدايات الطريق منذ عهد محمد علي، وتم في عهد إسماعيل - وقد أدى إلى تقطيع المدينة القديمة في الجنوب، فاصلا بين السيدة وطولون والحلمية وعابدين وأرض شريف في جانب، وباب الوزير وسوق السلاح والخيامية وتحت الربع وسكة المناصرة في جانب آخر. لكن شارع محمد علي لم يؤد إلى النتيجة التي انتهى إليها شارع الجيش؛ ذلك أن شارع القلعة - بعد أن نزل الحكم من القلعة إلى قصور القاهرة الجديدة في عابدين والقبة - أصبح شارعا لا يقود إلى مكان ذي أهمية في الحياة السياسية اليومية، وفضلا عن ذلك فهو يقود إلى طريق مسدود بواسطة بروز جبل المقطم في هذا الهامش الجنوبي من القاهرة، وإلى المقابر الشاسعة في الإمام الشافعي، وإلى محاجر وتلال عين الصيرة ومصر القديمة. أما طريق الجيش؛ فقد كان يقود القاهرة إلى جبهة توسع عمراني هائلة شمالا بشرق العباسية وحدائق القبة ومصر الجديدة، وهذا هو اتجاه التوسع العمراني الذي تحابيه مجموعة الظروف الطبيعية والبشرية في إقليم القاهرة.
القاهرة اليوم
هكذا ارتبط مصير القاهرة القديمة بالتغير الاقتصادي الاجتماعي الذي دخلته مصر منذ الربع الثاني من هذا القرن، وفي خلال السنوات الخمسين الماضية انطلقت القاهرة الجديدة انطلاقة هائلة عبر كل العوائق الطبيعية والبشرية كما يظهر من النقاط التالية: (1)
كانت وسيلة هذا الانطلاق الطرق المستقيمة الطويلة والكباري، وأقدم هذه الطرق المستقيمة شارع شبرا - شق سنة 1815 ليصل إلى قصر محمد علي. وكونت شوارع القلعة والأزهر والجيش والتحرير وقصر العيني وبولاق - 26 يوليو - الشبكة الهيكلية لنمو القاهرة صوب حقول الشمال إلى شبرا الخيمة ومسطرد والمطرية، وصوب رمال الشرق إلى العباسية ومصر الجديدة ومدينة نصر، وصوب الجنوب عبر الشريط الزراعي الضيق إلى المعادي وحلوان والتبين، وصوب الغرب عبر النيل إلى الجيزة والهرم وبولاق الدكرور وإمبابة. (2)
عدم وجود مخططات رئيسية
Master Plan
نافذة المفعول؛ لتجديد الأحياء القديمة مع تجديد وتوسيع شبكة الطرق والبنية الأساسية في هذه الأحياء؛ مما يؤدي إلى بقاء الخدمات القديمة على حالها مع بعض التحسين، أي دون وجود حقيقي لما يقابل النمو العمراني الجديد ذا الوحدات والطوابق السكنية الأكثر، والمحملة على بنية تحتية كانت مخصصة في الأصل لعدد من السكان ربما هو ربع العدد الحالي،
3
ومن هنا النقص الواضح في تغذية هذه الأحياء بالمياه والصرف الصحي بصفة خاصة، وهي أشياء كالمتفجرات الموقوتة داخل القاهرة. وأخطر الأشياء هو النقص الشديد في أعداد المدارس ومساحاتها وتجهيزاتها؛ لأنها هي الأخرى بنيت كما وقدرة استيعابية بالتناسب مع عدد سكان فات زمانه بنصف قرن دون مبالغة. وبإيجاز، تناست سلطات البلدية المسئولة والمخططون مبدأ تجديد أحياء داخل القاهرة
Urban Renewal
لما فيه من صعوبات فيزيقية وكثافة سكانية، واستسهل الجميع إنشاء أحياء ومدن جديدة مخططة مركزيا في أماكن فارغة بدلا من إعادة تخطيط الأحياء الفقيرة الداخلية، فزادت سوءا سكنا وسكانا وفقرا. (3)
صحيح أن هناك اتجاهات حديثة لاستخدام نظم المعلومات الجغرافية لشبكة المياه والصرف الصحي، وأن هناك مساعي من جانب شركات توزيع الكهرباء لحسن الإمداد والتوزيع، إلا أن معظم هذه الجهود تدور في المناطق الجديدة والغنية من القاهرة؛ حيث تساعد الطرق الواسعة على مثل هذه الأعمال، بينما الأحياء المكدسة سكانا محرومة من هذه الأعمال الحديثة إلا عند توسعة شارع أو شق محور حركة جديد داخل الأحياء الفقيرة. (4)
فما بالنا بالأحياء التي التصقت بحواف القاهرة، والتي درجنا أن نسميها بالعزب والعشوائيات، وحول القاهرة وحدها 79 من هذه الطفيليات العمرانية في الجيزة 32 وفي القليوبية 69 معظمها بين شبرا الخيمة والمرج، والكثير من هذه الطفيليات تكاد لا تتحصل على شيء من البنية التحتية الأساسية، ومن هنا الكوارث الناجمة عن ارتفاع منسوب المياه الجوفية، وارتفاع عدد الأمراض الناجمة عن سوء الحالة الصحية في البيوت والحارات والمسارب بين أشكال من بيوت وعشش يسكنها نحو عدة ملايين من الناس هم من الفقراء وسكان الطفيليات العشوائية . هؤلاء ليس لذويهم أعمال حقيقية، ومن ثم الفقر المدقع الذي يساعد على تدهور كل شيء من الغذاء إلى الأخلاق؛ فيصبح بعضهم نهبا لكل أشكال التطرف السلوكي من إجرام إلى انتظام في جماعات هدامة. (5)
ومما يزيد من إشكالية الموضوع؛ التركيز الذي لا مبرر له على اختطاط أحياء عمرانية جديدة ضمن دائرة القاهرة الكبرى. في البداية كانت هناك المدن التوابع التي أنشئ بعضها قريبا من القاهرة الكبرى، وخاصة مدينتي مايو وأكتوبر، بينما كانت مدينة رمضان على بعد مقبول، ولكن المسافة بين مصر الجديدة ورمضان سرعان ما أغرت مخططي وزارة التعمير، قبل الأفراد، بإنشاء سلسلة من المدن بدأت بالحرفيين والسلام، وانتهت بالعبور وهايكستب والشروق، مستخدمين في ذلك وجود أوتوستراد الإسماعيلية كبنية محورية، فاستهلكوه! والغرض الأساسي من إنشاء مدن التوابع لم يتحقق. فما زالت أرتال السيارات تنقل العاملين من أحياء القاهرة والجيزة إلى رمضان وأكتوبر صباح مساء، وانحرف التوجه من تخفيف الضغط السكاني في القاهرة الكبرى إلى السكن الفاخر الموسر في أحياء أسماؤها ذات رنين الرفاهية، مثل: «ماي فير» و«بفرلي هيلز» و«الأشجار» ... إلخ. (6)
قضى إنشاء محور صلاح سالم على آخر مواقع الحفاظ على القديم التي كانت تنزوي في أحياء باب الوزير والتبانة والباطنية والدراسة والعطوف والجمالية تحت تلال الدراسة، وفي ظلال حمايتها. كما انكشفت مقابر المماليك بين برقوق وقايتباي. (7)
نجا طريق صلاح سالم من الابتلاع بواسطة العمران على جانبيه بفضل وجود الجبانة المملوكية ومعسكرات ونواد عسكرية في شرقه، وانتشار معسكرات للشرطة والجيش بين العباسية والقلعة على الجانب الغربي، مع ارتفاع مناسيب الأرض لسابق وجود تلال وأكوام قديمة في هذه المناطق استغلت بعضها في إقامة دار الإفتاء ومبنى مشيخة الأزهر. (8)
كان إنشاء أوتوستراد مدينة نصر-حلوان بمثابة التفاف من الشرق حول هذه الجبانات المملوكية فوقعت بين فكي كماشة الأتوستراد وصلاح سالم، ومن ثم اخترقتها طرق حديثة للسيارات سوف تهدد المباني المعمارية الرائعة للمساجد والمدارس والآثار المملوكية بالتدمير البطيء نتيجة لمؤثرات ثلاثة، هي: عادم السيارات، والاهتزازات الأرضية الناجمة عن مرور اللوريات والشاحنات الثقيلة، وسكن عشوائي داخل هذه المنطقة الأثرية مع إنشاء ورش إصلاح ودهان السيارات، وما يؤدي إليه من تسرب ماء باطني تحت أساسات المباني، وإلى أبخرة لحام الأوكسجين وطلاء الدوكو المشبع بالمتطايرات من المواد الكيميائية، ولكن بعد تكثيف البناء شرقي الأوتوستراد تحول الطريق الدائري في صلاح سالم والأوتوستراد إلى ممرات للحركة الكثيفة البطيئة داخل المدينة. (9)
ثم جاء الطريق الدائري الذي أصبح يعمل كالمغناطيس في جذب مزيد من اختطاط أحياء جديدة، خاصة في الجزء القاهري منه، بينما الجزء الآخر في الجيزة لا يزال تائها بين القرى التي فقدت معنى ووظيفة الريف وبين الألسنة العمرانية الحديثة للمهندسين والصحفيين وفيصل والهرم. والمفروض أن القليل جدا من أبنية خدمات الطريق كمحطات البنزين واستراحات صغيرة، هي التي تقترب من أي طريق حلقي؛ لكي يبقى طريقا حرا للحركة السريعة حول المدينة مع تعدد المداخل والمخارج من وإلى محاور رئيسية في شبكة طرق المدينة. لكننا نهدم الأساس الذي بني من أجله الطريق الدائري بإنشاء مجموعة أحياء جديدة، سميت: القاهرة الجديدة، قيل: إنها سوف تتسع لمليونين أو لأربعة ملايين من الناس أو أكثر، تمتد من الهجانة إلى التجمع الأول والخامس والثالث والقطامية والأمل والمعادي الجديدة ... أسماء كثيرة وطموحات غير صحيحة لا في الموقع أو المحتوى والهدف . فأين إذن الطريق الحلقي إذا أضفنا إلى ذلك النمو العمراني على الأرض الزراعية من شبرا الخيمة وميت نما إلى السلام وبركة الحاج والمرج والقلج شمال وجنوب الطريق الدائري مباشرة؟ (10)
استغرق تحول طريق صلاح سالم إلى طريق داخلي نحو ربع قرن. أما الطريق الدائري الجديد، فإنه سيتحول في زمن أقل من ذلك بكثير إلى طريق داخلي. ذلك أن مقدمات التحول بدأت فعلا في شمال وشرق القاهرة، وقد يترتب على ذلك أن مطار القاهرة الدولي سوف يصبح داخل دائرة عمران القاهرة بإحاطته من الشمال والشرق فضلا عن إحاطته الحالية من الغرب والجنوب. فهل يتحول هو الآخر إلى مصير مطار ألماظة، ونبحث عن موقع مطار آخر على بعد 40-50 كيلو متر من القاهرة؟
هذا النمو الضخم المتسارع قد فجرته عدة عوامل، على رأسها المركزية المطلقة التي تمارسها القاهرة على كل أشكال الحياة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر. أصدق تعبير عن تلك المركزية المسيطرة هو استحواذ القاهرة على أكبر قدر من الهجرة الداخلية،
4
وقد نقل المهاجرون عددا من الأشكال الحضارية إلى أحياء تكاد أن تقتصر على مهاجرين من إقليم معين أو محافظة معينة، وبذلك أخذت مناطق كثيرة من القاهرة «تتريف»؛ أي تظهر في مساكنها ومحلاتها التجارية وملابس وتصرفات سكانها اليومية سمات حياة القرية الريفية داخل المدينة.
ونتيجة لهذا أصبحت القاهرة منطقة اختلاط، وتضارب في المفهومات وبعض الممارسات الاجتماعية، وربما بعض الممارسات اللغوية نتيجة للتركيب الحضاري للسكان، وهناك عوامل كثيرة اجتماعية واقتصادية تسعى إلى تسوية الفروق بين هذه التراكيب المدينية في القاهرة، ويقوم شيوخ التعليم الحديث في القاهرة بالدور الأول في هذه التسوية، إلا أن ذلك سوف يأخذ وقتا قبل أن يصبح الكل مواطنين للمدينة جيلا واحدا على الأقل، ويتطلب هذا تحديد تيار الهجرة إلى القاهرة إلى حدود ضيقة وبوسائل متعددة كما سنوضح فيما بعد.
مشكلة القاهرة الكبرى
هذا باختصار شديد ما حدث خلال هذا القرن؛ لكي تصبح القاهرة حقيقة شديدة البروز فوق خريطة مصر. فقد امتد مجمع المدينة الكبير امتدادا شاسعا بالنسبة لمساحة المجال العمراني الضيق في مصر، ولم يعد لهذه المدينة نظير - من قريب أو بعيد - في مصر والشرق الأوسط وأفريقيا، ليس فقط من حيث المساحة، ولكن من حيث محتواها المكتظ بملايين الناس ومئات المشكلات الاقتصادية والاجتماعية والتموينية والتعليمية والصحية، وعشرات الآلاف من المشكلات اليومية، على رأسها آلام الانتقال اليومي في الشوارع الأساسية من حيث الاختناق وفوضى المرور؛ لأسباب عدم التوازن بين الشوارع ومتطلبات الحركة الحالية،
5
وعدم إيجاد ساحات انتظار للسيارات في المجاورات السكنية، أو حول محلات السوبر ماركت و«المول»، وعدم تنفيذ جراجات لكل عمارة رغم النص عليه في تراخيص البناء، أو تحويل الجراجات إلى محلات ومخازن رغم أنف القانون، وكلها تعبير عن أنانية متفاقمة، وتسيب، وعدم الالتزام بالقوانين. هذا فضلا عن قصور معظم الناس عن الاستخدام الأمثل للسيارات الخصوصية أو العامة؛ مما يسبب مزيدا من عدم انضباط الشارع القاهري.
وفي مقابل هذه المشكلات الكثيرة لم تقدم الدولة والجهاز الإداري المختص بالقاهرة ما يجب أن يتم من خلال خطة متكاملة تخدم مستويات زمنية متصاعدة. بل كانت الحلول غالبا وقتية وجزئية دون مساس بالجوهر أو إحاطة بالشمول، وكان إنشاء لجنة القاهرة الكبرى في الستينيات - التي ورثتها وزارة التعمير والإسكان، ثم أضيف إليها عبارة: «المجتمعات العمرانية الجديدة» كوصف طنان - عملا جيدا من الناحية النظرية، ولكن أعمال هذه اللجنة ووزارة الإسكان فيما بعد، من حيث التفكير في إنشاء مدن جديدة وتنفيذها في صورة حلقة حول القاهرة بغرض استيعاب الزيادة المستمرة في سكان ونشاط القاهرة، لا تشكل الحل الأمثل لمشكلة القاهرة.
ذلك أنه في الواقع - وبغض النظر عن الصعوبات التي تواجه إنشاء حلقة المدن الإضافية في مواقع صحراوية تحتاج إلى إمدادات مياه في الوقت الذي نعاني فيه من محدودية موارد مياه النيل، الذي لا يستطيع أن يعطي إلى ما لا نهاية - فإن النتيجة النهائية هي خلق مشكلة قاهرة أكبر من الكبرى، وأعقد من الحالية. فطبيعة العمران المديني أن يزحف تجاه بعضه طالما كانت المسافات الفاصلة غير كبيرة مع استمرار تأثير عوامل النمو، ومن ثم يزحف العمران من القاهرة صوب المدن الإضافية القريبة، والعكس صحيح باعتبار أن المدن الإضافية سوف تنظر دائما صوب القاهرة بما فيها من مراكز القوة والجذب، وتعطي ظهرها لجبهات التوسع التي يجب أن تكون بعيدة كل البعد عن المجال المغناطيسي للقاهرة.
النمو الانفجاري للمدن
ليست كل المدن متساوية في درجة النمو لسبب أو آخر، كما أن درجات نموها ليست ثابتة على المقياس الزمني، ومن أهم أسباب ذلك: (1)
موقع وموضع مدينة ملائم في الماضي وغير ملائم في الحاضر، مستجيب أو غير مستجيب لتطورات الحضارة، والمبتكرات الآلية، وشبكة المواصلات. (2)
أنشطة اقتصادية نامية أو خامدة أو كامنة تتفجر مع تغيرات جذرية في تكنولوجية الإنتاج ونظريته، واستعداد الناس للتكيف مع الجديد من المستحدثات. (3)
نمو أو سقوط الوظيفة الأساسية للمدينة لتغيرات جذرية في الوضع العام السياسي والإداري والإستراتيجي والاقتصادي والثقافي للمدينة. فقد فقدت إسطنبول الوظيفة السياسية في تركيا الحديثة مقابل نمو أنقرة العاصمة السياسية، لكن انتقال العاصمة لم تكن له آثار سلبية على إسطنبول بحكم موقعها وتاريخها الأطول من القاهرة. (4)
وهناك عوامل أخرى تشترك معا بدرجات متفاوتة، تبرز بعضها أحيانا من لا شيء، مثل مدن البترول والتعدين عامة. ومجموع هذه العوامل تحدث على مر الزمن التغيرات التي تطرأ على المدن في نموها أو ثباتها أو تدهورها، أو عودتها إلى مقدمة الحياة في الإقليم مرة أخرى في صورة يشارك في تكوينها نظريتا دورة الحياة وعدم فناء المادة، وقد مرت القاهرة بهذه المراحل وعادت إلى رأس الحياة المصرية مرات عدة أبرزها العودة في العهد المملوكي بعد الركود الفاطمي، والعودة في العصر الحديث بعد الركود العثماني.
وحينما تتفق الظروف التي تدعو مدينة إلى النمو؛ فإن المدينة تظل تنمو إلى أن تصل إلى أقرب تلاؤم مع الظروف السائدة، فإذا لم تتغير ظروف ودوافع النمو فإن نمو المدينة يكاد أن يتوقف، بل ويصبح للمدينة مجال سلبي يؤدي بصفة عامة إلى طرد الفائض من النمو الطبيعي للسكان إلى أماكن الجذب الأخرى. لكن هذه الحالة المثالية قلما كان لها نظير في الواقع إلا لفترات زمنية محدودة؛ فالمدينة إما أن تنمو أو تنكمش، ذلك لأن دوافع النمو المديني عبارة عن «مركب حي» صفته الأساسية دينامية حركة دائمة نتيجة للتغير الدائم في ترتيب مواضع العوامل والدوافع، كما ونوعا، داخل هذا التركيب الحي، ومن ثم فإن المدن في حركة مستمرة.
وحينما تزداد كثافة عوامل النمو في مدينة ما فإن نمو المدينة يظل سائرا دون توقف إلى أن تبلغ المدينة حجما معينا ليس له قياس فعلي بالمعنى المادي أو الرقمي؛ لأن لكل مدينة مقياسها الخاص ارتباطا بظروفها الحضارية والتكنولوجية. حينما يتم ذلك نجد تغيرا كيفيا يطرأ على المدينة، فبدلا من أن تعتمد المدينة في نموها على مجموعة العوامل والدوافع والظروف المستمدة من المكان والمستوى الحضاري والتكنولوجي والخلفية التاريخية، يصبح للمدينة قوانينها الخاصة التي تفرضها على مجموعة عوامل النمو السابقة، وبعبارة أخرى: تنعكس الصورة نظريا، ويصبح للمدينة تأثير على مؤثرات نموها.
تبني المدينة لنفسها «روحا»، أو تصطنع لنفسها «قلبا» يحولها إلى «كينونة» ذاتية القوانين، ويصبح لهذه الكينونة نهم شديد للتوسع، واجتذاب المزيد من البشر بصورة طاغية تؤثر بوعي وبلا وعي على الاختيار «الإداري» للمخططين والمستثمرين وجميع الأعمال والوظائف التي تمارسها المدن، ويصبح الجميع أسرى لهذه الطاقة الذاتية للمدينة لا يستطيعون الخلاص من سطوة تأثيرها، ولا يفكرون إلا من خلال ما تفرضه المدينة الطاغية من مشكلات تدعوهم إلى إصلاحات وحلول جزئية ووقتية.
وفي الغالب لا يتاح لكل مدن الدولة أو مدن إقليم من أقاليم الدول ذات المساحة الواسعة مثل هذا «الطاغوت»، إنما يحدث غالبا لمدينة واحدة تستقطب النمو وتؤدي إلى إيقاف أو بطء النمو في المدن الأخرى بحيث تصبح قزمية النمو إلى جوار المدينة العملاقة.
ولسنا نعرف على وجه التحديد إلى أين يقود النمو الذاتي لمثل هذه المدن المتسلطة، وأغلب الظن أنه يقود إلى «انفجار» - إذا شئنا المبالغة - يهدد المدينة بالتراجع نتيجة للخلل الذي يحدث كما وكيفا في حجم المدينة مكانيا وسكانا ونشاطا، وهي التي تزيد من المصاعب في مستوى أداء وظائف المدينة، وفي تركيب المدينة اجتماعيا وصحيا وأمنيا وإدارة يترتب عليها تناقضات كبيرة بين الترف والفقر في أحياء المدينة، وإلى مزيد من البيروقراطية والمركزية، وتدخل السلطة؛ لتحجيم الخلل ولو جزئيا.
ولا توجد لدينا أمثلة عن مثل هذا الانفجار لمدن حديثة، وإن كان أقربها إلى هذه المرحلة طوكيو ونيويورك، التي تسمى في المصطلح العلمي
Megapolis ، ولعل روما الرومانية وبغداد الإسلامية من الأمثلة على انفجار المدن العملاقة في الماضي المؤرخ، وساعد على انفجارها مركزيتها المطلقة للعالم المعروف آنذاك، ورخاؤها وترفها الخيالي وتعفن تركيب قياداتها، وعوامل أخرى خارجية عسكرية ودينية، وعلى رأسها تحركات شعوب الترك والمغول، وهجراتهم من وسط آسيا؛ فاكتسحوا أوروبا والصين والعالم الإسلامي.
وليس من الضروري أن تبلغ المدن حدودا موحدة تدخل بعدها مرحلة الانفجار، ذلك أن هناك ارتباطا كبيرا بين المدينة الواحدة وخلفيتها الحضارية والتكنيكية يجعل لمرحلة الانفجار في كل مدينة مقياسا خاصا بها. فما يصدق على طوكيو لا يصدق على القاهرة. ومن أهم المقاييس التي يمكن أن تؤخذ مؤشرا على ذلك أن يصبح الوفاء بخدمات المدينة الأساسية أمرا بالغ الصعوبة؛ مثلا مشكلة إمداد المدينة بالمياه، أو مشكلة الانتقال داخل المدينة، وكلتاهما من المشكلات التي تواجه كثيرا من مدن العالم الكبرى في الوقت الحاضر. وقد استطاعت طوكيو أن تجد حلولا لمشكلة المياه حتى قارب سكانها عشرة ملايين، ثم أصبحت بعد ذلك مشكلة خطيرة بعد أن تعدت المدينة 12 مليونا. فهل نتوقع أن تصمد القاهرة لمشكلة المياه بعد ملايينها السبعة - القاهرة الكبرى نحو أحد عشر مليونا - أو الإسكندرية بعد أن أشرف سكانها على أربعة ملايين؟
لم يعد هناك مجال للكلام عن جزئيات المشكلة، والمهم الآن هو السيطرة على نهم المدن الكبرى سيطرة حقيقية، وبدون شك هناك إمكانات كثيرة للسيطرة؛ مثلا يقال: إيجاد تشريعات تمنع أو تحد من الهجرة للقاهرة، لكن ذلك في الحقيقة صعب المنال، وربما يحولنا إلى دولة بوليسية تمنع حرية الأفراد في التنقل داخل وطنهم. وربما كان الإجراء الأجدى ألا تشجع السلطات إقامة منشآت عمالة جديدة بالقاهرة كمرحلة أولى، ثم تمنع ذلك لفترة زمنية طويلة - عقدين أو ثلاثة عقود - حتى يعتاد رأس المال على استثمارات في ريف مصر؛ فيحل إشكالية الزيادة السكانية الريفية العاطلة.
لكن هناك دائما تجاوزات عن التشريعات تحدث بضغوط المصالح التي لا تقاوم، وتبدأ التجاوزات تتسع لتصبح قوانين غير معلنة، وينتهي الأمر إلى تغيرات جديدة في التشريعات السابقة لصالح ضغوط المصالح، ولهذا نجد للتشريعات ملاحق في أزمان مختلفة تواكب «المتغيرات الضاغطة» وتتصالح معا! (2) القاهرة تحت الحصار
في مصر كان النمو العمراني منذ نصف قرن يسير في خطوط ملتزمة بلوائح البلدية قدر الإمكان، ولكن مع تزايد السكان رأى المختصون إمكان تطبيق فكرة المدن التوابع حول القاهرة كما أسلفنا. لكن ما نفذ في لندن أو استكهولم، على سبيل المثال، يختلف جوهريا عن القاهرة في:
أولا:
أن النمو السكاني في العالم الأوروبي الغربي يكاد يقترب من الصفر، بينما نمو سكان مصر هو 2٪ سنويا - بمعنى أننا ننمو بمقدار أربع إلى خمس مرات قدر تلك الدول.
وثانيا:
البيئة الطبيعية في غرب أوروبا مختلفة في أنها ليست بيئة جافة تفتقر للماء كحال مصر، ومن ثم تحتاج إلى مواصفات خاصة.
ثالثا:
أن الأوروبيين يلتزمون بالقانون واللوائح التي تنطبق على الجميع دون استثناء، بينما الالتزام بالقانون في مصر ضعيف في أكثر الحالات، وترتب على ذلك أن حواجز الأمان الفاصلة بين المدينة الأم والمدن التوابع ظلت قائمة للحفاظ على البيئة والاستمتاع بها في أوروبا.
أما في العالم الثالث: فإن المدن الحلقية - أقيمت فيها أنشطة خاصة أو لم تقم - تدير وجهها نحو المدينة الأم، بدلا من الاحتفاظ بمدن الحلقة كل داخل إقليمه. نجد الرغبة تتولد في النمو تجاه المدينة الكبيرة بحكم اعتياد الحركة اليومية للعمالة في هذه المدن، والأغلب أن تستجيب الأجهزة الإدارية والوزارية لهذه التوجهات، وهذه الاستجابة قد تكون بوعي وإدراك لتنفيذ غرض معين؛ كالاستفادة من المسافات الحاجزة في إقامة مشروعات محددة، مثل: إقامة أسواق الجملة في العبور و6 أكتوبر. ويؤدي وجود الطريق والماء والكهرباء إلى ضغوط للحصول على أراض لإشباع المتطلبات العديدة لأية تنمية عمرانية أو إنتاجية، والأغلب أن عنصر المضاربة على الأرض من جانب الإدارة الحكومية أو المستثمرين يكون له الريادة على بقية العناصر؛ مما يؤدي إلى افتعال أسعار عالية لأرض لم يكن لها قيمة بصورة عامة، وهو ما يؤدي إلى ارتفاع الناتج المحلي العام بضع سنوات، ثم يهبط إلى قيمته الحقيقية محولا الكثير من المدخرات التي دفعت في شراء هذه الأراضي إلى قبضة رمال!
وقد فعلنا نحن ذلك حول القاهرة بصورة مبالغ فيها، وحول الإسكندرية بصورة أقل؛ فإن إنشاء العاشر من رمضان كان عملا جيدا في حد ذاته كمدينة صناعية وسكنية متكاملة في مخططها الأصلي، ونجح المخطط بدرجة حسنة في إقامة المصانع، وبالرغم من التساؤلات حول ماهية القيمة الفعلية، وديمومة المنشآت الصناعية في ظل التسهيلات التي تمنحها الدولة، فإن الصناعة قد أرست جذورا في العاشر. أما الشق الثاني من المخطط - وهو إقامة سكن دائم لغالبية العاملين في المصانع؛ فما زال دون التحقيق بنسبة كبيرة، فمعظم المقيمين أو أصحاب الوحدات السكنية لا يرتبطون بصناعات العاشر. ويحتاج الأمر إلى دراسة جادة، ومكاشفة صريحة؛ لتبين من هم سكان العاشر من رمضان: هل منهم نسبة من العازفين عن حياة المدن الكبيرة وخاصة من أصحاب المعاشات، أو مستثمرين ورجال أعمال يقضون عطلة نهاية الأسبوع، أو يقيمون مآدب لعقد صفقات العمل؟ أم أخيرا هم فعلا من العاملين في إدارة وصناعة العاشر؟ وتبقي الحقيقة أن الجانب الأكبر من العاملين في العاشر - وكذا 6 أكتوبر - يقيمون في القاهرة الكبرى، ويقومون برحلة العمل اليومية صباحا ومساء عبر طريق الإسماعيلية الصحراوي وطريق الهرم وفيصل. فهذا أمر لا ينكره كل ذي عينين حتى لو كان قلبه مغلقا عن المعنى وراء هذا الهول من الازدحام كأنه الحشر مكررا!
ومع تحفظات معروفة عن الطبيعة الجيوفيزيقية لموضع مدينة 15 مايو، فإنها الوحيدة من مدن الحلقة التي تقع في مواجهة المجمعات الصناعية في إقليم حلوان، وبالتالي فإنها مارست وظيفتها السكنية المؤهلة لها بطريقة جيدة. أما مدن الحلقة الأخرى فلم تؤد إلى تخفيف عبء السكان والضغط على المرافق والخدمات في القاهرة، ولم تعط الفرصة لتفريغ القاهرة من المساكن المتهالكة؛ ولهذا فإن إعادة بناء القاهرة بتنمية أحزمتها الفقيرة لم تتم، وأصبحت القاهرة متحفا اجتماعيا شديد التفاوت يتجاذبه قطبي الفقر المدقع والغنى الفاحش متمثلا في أحياء متجاورة كالزمالك والمهندسين إلى جوار إمبابة أو الدقي وبولاق الدكرور أو جاردن سيتي والسيدة زينب ودار السلام والمعادي ... إلخ. ويتسلل داخلها وخارجها السكن العشوائي كالنبات المتسلق فوق الأسطح أحيانا، وكالخلايا السرطانية في الهوامش أكثر الأحيان.
ولا يقتصر عدم وفاء مدن الحلقة على هذه الجوانب السلبية التي قوضت أسس الفكر الذي من أجله صممت وأنشئت، وهو الإسهام في حل مشكلات الإسكان، بل إن تراخي الإدارة المحلية - لأسباب غير معروفة تماما - عن منع الناس من الإنشاء والتعمير على جانبي الطرق السريعة قد أدى إلى اختناق هذه الطرق. فالأملاك على واجهات الطرق تغري بالإنشاءات غير المسموح بها لارتفاع قيمة الأرض بالدرجة التي تدعو للمخاطرة بالمخلفات، ومع شيء من النفوذ والقوة تكتسب المخالفات صفة الأمر الواقع، وتصبح بذلك مصدرا للقياس يقتدى به، وبذلك يتقلص حرم الطريق السريع من 500 متر إلى 50 مترا - وفي أحيان إلى أقل من ذلك! وربما كان من بين أسباب الإغراء أن الإدارات الحكومية تقوم الأراضي بأسعار عالية؛ مما يؤدي إلى قيام المستثمرين بإنشاءات مخالفة، من حيث تجاوز حرم الطريق أو الارتفاعات؛ لتعويض ما قدروه مسبقا من الربح.
والأشد خطرا أن ترى الحكومة في المسافات الفارغة التي تخدمها الطرق السريعة مجالات للإنشاءات الضخمة مثل إدارة التجنيد في الهايكستب ومدينة الهايكستب السكنية، وسوق العبور على طول طريق الإسماعيلية، ولم تكتف بذلك؛ بل زايدت الأجهزة الإعمارية على نفسها بملء الفراغات حول الطرق المحيطة بمدينة العبور بتخصيصات للصناعة، ثم استدارت فأعلنت مزايا كثيرة لبيع غرود الخانكة والصحاري شرقها على طريقي الإسماعيلية والسويس في صورة تجمعات مدن الشروق وبدر. إلى جانب مشروعات التجمع الخامس، وعلى طول الطريق الدائري الجديد من المعادي إلى القطامية والهجانة؛ بل إننا نرى الآن غابات من مباني الطوب الأحمر، غاية في القبح، بدأت تغزو جانبي الطريق الدائري في القطاعات التي اكتملت من مدينة السلام إلى ميت نما، وتحاصر القاهرة من الشمال في جبهة عريضة من مناطق الفقر، ومناطق الصناعة في شبرا الخيمة ومسطرد والمرج وكفر الشرفا ... إلخ. والنتيجة أن الالتحام واقع لا محالة بين واجهات القاهرة الشرقية والشمالية: «المعادي - البساتين - منشأة ناصر - مدينة نصر - مصر الجديدة - النزهة - المطرية وعين شمس - عزبة النخل وشبرا الخيمة»، وبين جبهات الحصار في مواقع المدن الجديدة في: «القطامية والهجانة والقاهرة الجديدة وبدر والشروق والعبور والسلام والعاشر من رمضان»، كل ذلك في صورة تجمع مدن أخطبوطي الأذرع هائل المساحة قد يكون نحيف السكان في مناطق الأغنياء وكثيف السكان في أخرى، تتزاحم فيه الطباقية الاجتماعية والبنية الوظيفية، وتتخلل فيه الإدارة والانضباط. أردنا حل مشكلة القاهرة فأنتجنا قاهرة أضخم حجما وسكانا ومشكلات أعتى وأعصى على الحل بالقياس إلى القاهرة الأصلية!
هل يمكن فك الحصار؟ هذا سؤال صعب له إجابة واحدة تنصرف على ما تم وما لم يتم، وما هو مخطط للمستقبل. ونقطة البدء ببساطة هي أن أي مدينة جديدة نخطط لها يجب أن تنطلق من فرضية أن المدينة تتمركز حول نفسها؛ أي إلى داخلها، وليس إلى المدينة الأم إلا في أضيق الحدود المعروفة عن تراتب مكانة المدن من حيث العدد والقوة الاقتصادية. صحيح إذن أن هناك تراتب المدن، عبرت عنها نظريات الحضرية بأكثر من شكل وأكثر من بنية
6
بحيث تعتمد المدن الأصغر على مدينة أكبر في بعض الوظائف والخدمات. لكن تبقى للمدينة الصغيرة وظيفة هي مبرر قيامها - سواء كان هذا المبرر إنتاجيا أو خدميا أو ترفيهيا. باختصار أن تكون المدينة المنشأة ذات كينونة مستقلة في بنيتها الفيزيقية والسكانية بحيث تقل الحركة اليومية إلى الحد الذي لا تشكل فيه عبئا على الطرق، سواء كان ذلك انتقال العمالة اليومية أو الانتقال السلعي اليومي وحركة التلاميذ والمرضى إلى منشآت مركزية في المدن الكبرى، كل ذلك بقدر مدروس ومحسوب على إسقاطات زمنية معقولة.
وهناك نقطة بداية أخرى ذات قدر كبير من الأهمية. تلك هي أن العادة جرت إلى الفترة المعاصرة على أن يدور تحليل وتصنيف المدن حول «عظم» المدينة دون «الأنسجة والعضلات المحركة ». فالدارج أن مخطط أي مشروع حضري يركب على المسح الطبيعي للمكان بصورته القائمة دون حساب مدخلات التغير الذي يطرأ على البيئة فجأة، كالأمطار السيلية في الوديان الجافة لعشرات السنين. ثم يضاف شكل المدينة ومحاور حركتها بناء على الوظيفة المقترحة. كل ذلك ضمن أطر وقيم معروفة لدى المخططين هي أشبه بجداول اللوغارتمات أو «استامبة» كليشيه المجاورات السكنية كأننا في أمريكا أو أوروبا! وفعلا يمكن الحصول على مخطط متميز دون الإشارة إلى المجتمع إلا في صورة عددية وإطار دخل الأفراد.
ولكن ليس هذا هو كل المطلوب؛ فالإنسان، محرك النشاط ومصدر الوظائف، هو نفسه مستهلك نواتج التفاعل بين أنشطته وحركته في المدينة، سواء كانت تلك الحركة للعمل أو استهلاك الخدمات الأساسية وخدمات الترفيه والثقافة. والإنسان ليس نمطي السلوك والطبائع، ولا يتحرك ضمن قوالب سلوكية موحدة. باختصار هناك بعد ثقافي يحيل المجموع إلى فرادى، والمجتمع إلى مجموعات متعددة، وليس الغرض أن يدرس المخططون الأبعاد الثقافية للمجتمع الذي يمكن أن يحيل «الماكيت» إلى لوحة حية. إنما الغرض أن نترك مساحة ما لروح المبادأة والإبداع في كل حي من أحياء المدينة، يقوم المجتمع من خلالها بإعطاء «الحي» الصبغة واللون الذي يحس من خلاله بوجوده وتوحده مع مسكنه ومدينته؛ أي يصبح منتميا إلى المكان الجديد.
فالممارسة الحالية والتي تكررت كثيرا تجعل المقيم الجديد يعيش في قالب غريب عن اعتياداته وسلوكياته، بل غريب أيضا عن خصوصياته، وربما أيضا عن تسانده الاجتماعي الذي درج عليه في بيئته السابقة. إنه يحس داخل بنايات «علب الكبريت» أنه محاصر في لوح كالح نمطي لعمائر الواحدة تلو الأخرى وشوارع الواحد وراء الآخر. أين الدكاكين الصغيرة وعلاقة الجيرة والمقاهي الشعبية التي يجد فيها المكدود راحته، ويعلم فيها الأخبار، ويصبح من خلالها ممارسا للحياة الاجتماعية؟ لهذا نجد الناس يحولون بعض الشرفات إلى أعشاش للطيور الداجنة أو أجزاء من المساحات الخضراء بين العمائر إلى ملاعب أو مشرب للشاي ومنتدى للاجتماع المحلي، وأين مجال حركة النساء في هذا الخضم؟ هذه كلها مساحات مطلوب من المخططين أن يتركوها لإبداع المجتمع، ووضع لمساته الحياتية الخاصة. فتتحول القوالب إلى مدينة أو حي له شخصيته.
أما الممارسة الحالية التي تقسم المدن إلى مناطق لمستثمرين، كل يعطي شكلا لحي قد يكون في أجواء ومناخات غير مصرية كالحدائق وأحواض السباحة المشتركة التي تعطي الانطباع كأننا في أمريكا أو أوروبا ذات المناخ المعتدل لممارسة حياة خارج البيت، مع أن خارج البيت عندنا لا يشغل سوى ربع السنة مجزأ بين أيام شتاء دافئة وربيع غير خماسيني وخريف غير قائظ، والأرباع الثلاثة غالبها حر هجير ووهج يدفع الناس إلى داخل البيوت وإلى ملاذ التكييف للقادرين. هذا فضلا عن أن هذه المخططات تكاد أن تلغي الخصوصية حتى بين المثقفين والأغنياء؛ لأن الخصوصية ما زالت سمة مجتمع له جذور ضاربة في التاريخ .
وبإيجاز فإن المدينة هي التقاء المجتمع البشري بالتركيب المادي للأبنية والطرقات؛ مما يجعل المدينة كائنا حيا، ينمو ويمرض، ويحتاج إلى توازن مع البيئة، وإلى انضباط كي لا يفرط أو ينفرط.
ماذا يمكن أن نفعل الآن؟ إن ما تم إنشاؤه لا يمكن تعديله، ولكن ما هو مخطط أو ما بيع من مخططات وتخصيصات ففي الإمكان إيقافه وتعديل مواقعه إلى أماكن أخرى أحوج إلى التنمية من منطقة القاهرة. كأن تختار مواقع أخرى بعيدا عن نطاق جذب العاصمة، في الصعيد شرق النيل كمثال، أو شرق قناة السويس على ضفة سيناء كمثال آخر؛ ففي شرق الصعيد من الأرض ما يتسع للتنمية الزراعية والسكن والمدن الصناعية والحرفية المتوسطة والصغيرة. فقد آن الأوان أن نكف عن الطموح غير القادر بإنشاء مدن نصف مليونية كما هو الواضح من دعاوي إنشاء مدن الحلقة حول القاهرة، وفي شرق القناة آن أوان تعظيم الاستفادة من هذا المجرى المائي المدهش الذي يربط المكان العربي والشرق أوسطي والأسيوي بالاتفاق على إقامة «عزب» صناعية متعددة تتوطن فيها صناعات مصرية بتكنولوجيا ومشاركة جدية أورو-أمريكية-أسيوية في هذا المكان المتميز من العالم القديم، وهو ما يحدث الآن في مشروع تنمية شمال غرب خليج السويس وميناء السخنة، وفي هذا المجال وغيره ، مثل إقليم بحيرة النوبة- ناصر، يمكن الاستفادة من التعاقدات والأموال التي دفعها المستثمرون - والمضاربون - في أراضي المدن والضواحي المعلنة: «بدر وتجمعات عديدة من الشروق، وربوة أكتوبر، والتجمع الخامس» في المشروعات التي يمكن أن تقام، على أن يكون ذلك أمر طوعي من جانب المستثمرين. وعلى هذا النحو من الاجتهاد يمكن أن يفتح الباب لاجتهادات ومشروعات أخرى تسعى لتخفيف الحصار عن القاهرة، وتعيد لمصر توازن سكاني وسكني واقتصادي فقدته منذ فترة نتيجة تخلخل الرؤية المتكاملة لمشكلات مصر الخالدة على مسرى التاريخ.
غزو المطار
مطار القاهرة مهدد بغزو العمران حوله من كل جانب. ففي الثمانينيات زحف العمران بهدوء على طريق المطار أمام الكلية الحربية، وبلغ هذا الزحف قمته بإنشاء مستوطنة تعرف بمساكن شيراتون، وبرغم أننا قد نلاحظ أثر التلوث السمعي الذي تحدثه الطائرات على ساكني الشيراتون في أسماع وأبدان أبنائهم في المستقبل، إلا أننا سنركز في هذه العجالة على اختناق المطار بتأثير النمو السكني للقاهرة، وهذه المساكن ما فتئت تنمو، وآخر فصل في هذا النمو هو مشروع حي الملتقى العربي، وبذلك يكون المطار قد طوقته المباني من الجنوب والجنوب الشرقي، وفي غرب المطار بدأت العمائر السكنية تنمو مباشرة على طول طريق السندباد في منطقة النزهة الجديدة - وبعضها يبنى خارج خط التنظيم، بحيث إن ردودها من الشرفات تغطي منطقة رصيف الشارع، وبعضها وصل إلى خمس طوابق أو أكثر.
فهل يتم البناء بعيدا عن أعين المسئولين - علما بأن هذا الطريق يمر فيه آلاف الناس يوميا، بما في ذلك بعض المسئولين عن إسكان محافظة القاهرة! وبهذا فإن مسار الطيران إلى المدرج الشمالي للمطار أصبح وكأنه يسير في نفق بين عمائر الشيراتون والسندباد، وتحاصر مدينة نصر مدخل المدرج الشرقي للمطار، وهو الأكثر استخداما. وتهدد أبراج مدينة نصر الملاحة الجوية في هذا الاتجاه، ولا توجد فوق هذه الأبراج الأنوار التحذيرية المتعارف عليها عالميا برغم أن ذلك يهدد المئات من ركاب الطائرات من وإلى عزيزتنا القاهرة. ومن زمن ليس بعيدا كانت الأنوار التحذيرية مثبتة فوق بعض عمارات مصر الجديدة ، لكن الإهمال أدى إلى اختفاء معظم هذه الأنوار! ولا يوجد ما يمنع من الإصرار الآن على وضع هذه الأنوار بدلا من انتظار ما لا يحمد عقباه. وقد ظهر مشروع «القاهرة الجديدة» والذي - إذا تم - سيكتمل غزو المطار من الشرق والشمال بامتداد التجمعات الأولى والخامسة والهجانة وبدر والشروق والعبور والسلام، والتحام كل هذه الكتلة بكتلة مدينة نصر ومصر الجديدة والمرج وكفر الشرفا، حيث بدأت عمائر من الطوب الأحمر والإسمنت تخجل العين من النظر إليها مرتين، تحدق بالطريق الدائري الجديد الذي أنفقت الدولة على تشييده الملايين من الجنيهات؛ لتيسير الحركة حول القاهرة. فإذا لم يراع البعد بقدر 50 إلى 100 متر عن الطريق الدائري فسيكون مآله هو ذات المصير الذي لقيه طريق صلاح سالم مع الفارق أن الضغوط السكانية على الأرض الزراعية في شمال القاهرة أقوى من ضغوط سكان المقابر في الغفير والقرافة الشرقية وباب الوزير!
هل نعلن عن مناقصة عالمية لإنشاء مطار جديد مثلا في منتصف المسافة بين القاهرة والسويس، وما أدرانا ألا تلاحقه أيضا مشروعات مدن جديدة، فالطرق الممتازة لها جاذبية خاصة للعمران غير المنضبط، وعلى الدولة أن تتكلف مليارات الجنيهات لبناء المطار الجديد وتجهيزاته المتعددة، وخاصة التجهيزات الإلكترونية والرادارية، ويعلم العارفون بأمور الطيران أن هذا العبء المالي هو بالقطع فوق طاقة مصر كثيرا، وأنه إن وجدت هذه الأموال، فالأجدى استثمارها في قطاعات إنتاجية تعطي مردودا لمصر بدلا من إنفاقها على إصلاح ما يفسده نمو القاهرة الجديدة. فهل نحن على استعداد لتقبل سقوط المطار من أجل زيادة مشكلات القاهرة أضعافا مضاعفة يجعل ضبطها وإدارتها هي الصعوبة بعينها؟ أليس من الأجدى تنشيط السكن في مدن قائمة في شمال شرق القاهرة كالعاشر من رمضان؟
إنقاذ القاهرة
7
أصدر مجلس الوزراء في 5/ 11/ 1995 قرارا بتأجيل مشروع مدينة «القاهرة الجديدة» ووقف بيع الأراضي الصحراوية المملوكة للدولة، ورد المقدم الذي تم تحصيله من المشترين - إذا كان ذلك واردا في العقود - وكذلك إنشاء لجنة من عدد من الوزراء: الدفاع، النقل، قطاع الأعمال، الإسكان، والمجتمعات العمرانية الجديدة، بالإضافة إلى محافظة القاهرة والجيزة؛ «لدراسة مشكلة المجتمعات العمرانية الجديدة حول القاهرة الكبرى في ضوء عدم قدرة المدينة على استيعاب المزيد من السكان ... وتقديم الخدمات اللازمة لهم، وترجمة توجيهات رئيس الجمهورية إلى مشروعات عملية.»
وهذا القرار الشجاع - الذي لم ينفذ لتغير الوزارة - إنما يعبر عن إدراك المسئولين لخطورة الموقف العمراني في القاهرة، ويحتاج من المصريين، مسئولين ومفكرين، إلى وقفة تأمل عميقة عما يراد بالقاهرة: تركيز المزيد من المصريين في قاهرة أصبحت عاجزة عن مداواة مشكلاتها الحالية. التوجه الأساسي في إنشاء المدن التوابع التي تتحلق حول مدينة كبيرة. أن تنظر المدينة الجديدة إلى داخلها، وليس إلى المدينة المجاورة؛ بحيث لا تتحول إلى مدن «منامة» ينطلق منها كل صباح آلاف الناس إلى عملهم بالمدينة الكبيرة، متكدسين كأسراب الجراد فوق الطرق التي تبنيها الدولة بشق الجيوب.
وفي الغرب يحدد عدد سكاني يتراوح بين عشرين وخمسين ألفا للمدينة الجديدة؛ كي يسهل حل إشكالياتها المتوقعة وغير المتوقعة، ولكننا في مصر نتصدى لإنشاء مدن لنصف مليون أو تزيد! كأننا أقدر على مواجهة المشكلات، وأقدر على منع الخارجين على لوائح العمران ارتفاعا وطولا وعرضا! فأين نصف المليون في مدن رمضان وأكتوبر والسادات برغم مرور نحو 30 سنة على إنشائها؟
8
المطلوب إرساء قواعد تنظيمية للتخطيط الشامل في صورة لجنة دائمة مكونة من أشخاص متعددي الاختصاص حتى لا يستأثر رأي واحد بقرار قد يكون في النهاية غرما على المصلحة العامة. فقد آن أوان الموضوعية الهادئة حتى لا نكلف مصر اليوم وغدا خسارات فادحة ومدنا نجاحها في «فض الاشتباك» السكاني في القاهرة غير ناجحة. فنحن دولة مواردها محدودة، ولا نستطيع أن نهدرها في إضافة تعاسة عمرانية إلى تعاسة القاهرة المعاصرة. (3) الحركة المرورية في القاهرة الكبرى
يكون النقل والانتقال داخل المدن نوعا خاصا من المشكلات يختلف عن النقل في الطرق التي تربط المدن وأنواع المحلات السكنية الأخرى بعضها بالبعض، وهناك أسباب عديدة لهذا التمييز على رأسها أن طرق المدينة تخدم كتلة سكانية وسكنية كثيفة في: (أ)
علاقات المدينة الوظيفية الداخلية متعددة الأشكال، وهذه تمثل الحركة الذاتية للمدينة. (ب)
علاقات المدينة ودورها داخل إقليم تسيطر عليه المدينة، وتستقطب من خلاله أشكال العلاقات التجارية والإدارية والثقافية والتموينية؛ لإشباع احتياج الغذاء اليومي لكتلة السكان، وهذه تمثل الحركة الخارجية للمدينة.
وفي الحالتين تتعاظم حركة النقل والمرور الذاتية والخارجية كلما كبرت المدينة إلى أن نصل إلى العواصم القومية التي تمثل ذروة الكثافة المرورية بحكم وظائفها السياسية والاقتصادية، وكل أشكال الخدمات الصحية والتعليمية والمعلوماتية والترفيهية؛ وهو مما يزيد استقطابها لحركة النقل السلعي، وانتقال الناس ليس فقط من داخل إقليمها بل على أبعاد الدولة.
وينطبق هذا المعيار على كل دول العالم، لكنه يصبح أشد تركيزا في الدول النامية مركزية الحكم والإدارة حيث تكون الإدارة المحلية للأقاليم باهتة، قليلة الصلاحيات الفعلية.
ومصر من هذا النوع، ولكن ظروفها الجغرافية والتاريخية تزيد تسلط العاصمة على مدار مئات السنين، فالمعمور المصري القابل للإنتاج والسكن محكوم جغرافيا وجيولوجيا ومناخيا بمساحة ضيقة ملتصقة بمورد المياه داخل غلاف صحراوي قاحل منذ عدة آلاف السنين. ومركزية الموقع للعاصمة أمر صعب تجاوزه إلا في حالات الضرورة السياسية القصوى كطيبة «تقهقر قوة مصر»، أو تانيس «صان الحجر - نمو الإمبراطورية المصرية إلى بلاد الشام»، أو الإسكندرية «علاقات مصر المتوسطية خلال العصر الإغريقي الروماني».
وعلى هذا فإن القاهرة كنموذج للحركة والنقل داخل المدن في مصر تأخذ شكلا حادا، وتتطلب المزيد من العناية برسم مخطط عام مرن
Master plan
لا ترهقه المدن الجديدة التي تلقي عليها أعباء مرورية فوق طاقتها الاستيعابية الفيزيقية والبشرية.
وفي القاهرة مجموعة كبيرة من مكونات الحركة والانتقال، سنكتفي منها بالمسببات الأساسية كمعايير لقياس الحركة، هي: القوة العاملة التي تتحرك وظائفيا، وعناصر جذب الحركة، اتجاه تيارات الحركة؛ شرايين وشوارع القاهرة التي تتعامل مع كتلة الحركة العامة. (3-1) قوة العمل في القاهرة الكبرى
عدد السكان بالآلاف للفئة العمرية 15-60 سنة (تعداد 1996).
العدد بالآلاف
المنطقة
الأقسام
1205
الشمال
الشرابية - شبرا - روض الفرج - الساحل - الزاوية الحمراء - شبرا الخيمة
1197
شمال شرقي
حدائق القبة - الزيتون - المطرية - عين شمس - المرج
622
الشرق
السلام - النزهة - مصر الجديدة - مدينة نصر 1 و2 - منشأة ناصر
486
الوسط
الزمالك - قصر النيل - بولاق - الأزبكية - الموسكي - عابدين الجمالية - الدرب الأحمر - باب الشعرية - الظاهر - الوايلي
374
جنوب وسط
السيدة زينب - الخليفة - مصر القديمة
876
الجنوب
البساتين - المعادي - طرة - حلوان - 15 مايو - التبين
1500
الغرب
إمبابة - العجوزة - الدقي - بولاق الدكرور - الجيزة - العمرانية - الهرم
6250
المجموع
العاملون الذين تناولهم تعداد 1996 هم 1822000 في محافظة القاهرة، ونحو 660 ألفا في محافظة الجيزة - نسبة 45٪ من قوة العمل في الجيزة - ونحو 300 ألف في شبرا الخيمة، ويكون المجموع قرابة مليونين وثلاثة أرباع المليون عامل في القاهرة الكبرى، منهم نحو ثلثي مليون من النساء.
وبافتراض أن 40٪ من العاملين يتحركون في دوائر عمل قريبة من سكنهم - نحو مليون ومائة ألف عامل - يصبح المتنقلون نحو مليون و600 ألف عامل يتحركون في القاهرة بعيدا عن مساكنهم، نحو 500000 عامل على الأقل حركة يومية إلى ومن القاهرة الكبرى.
فالمحصلة النهائية أن نحو مليونين ومائة ألف يتحركون يوميا في شوارع القاهرة.
وربما يعطينا الجدول التالي شكل الحركة واتجاهاتها في التسعينيات من القرن العشرين.
جدول : تورزيع احتمالات الحركة اليومية على المناطق الجغرافية للقاهرة الكبرى «الأعداد بالآلاف».
المنطقة
عاملون ذكور
عاملون يتحركون
عاملات إناث
عاملات يتحركن
جملة العاملين
جملة المتحركين
الشمال
375
225
127
76
502
301
شمال شرق
312
188
126
75
438
263
الشرق
165
138
66
40
230
178
الوسط
156
75
51
30
176
105
جنوب وسط
97
58
40
25
137
83
الجنوب
230
140
95
57
325
197
الغرب
515
309
145
87
660
396
المجموع
1850
1133
650
390
2468
1523
ويضاف إلى المجموع الذي ينتقل للعمل نحو نصف مليون يأتون من خارج القاهرة الكبرى يوميا؛ وبالتالي يصبح المتنقلون في شوارع القاهرة قرابة مليونين ومائة ألف شخص يوميا.
ولا شك في أن مجالات الحركة تختلف من منطقة لأخرى. فغالبية الحركة اليومية في منطقة الجنوب تكاد تتركز في المنطقة، ونسبة قليلة قد لا تتجاوز الربع تأتي من خارج المنطقة. وفي أقسام الشمال تتجه الحركة اتجاهين مختلفين؛ أحدهما: إلى الشمال نحو الساحل وشبرا الخيمة، والثاني: نحو وسط البلد. وفي الغرب تتجه أكثر من نصف حركة إلى وسط البلد أو إلى مناطق العمل ذات النفوذ في منطقة الشرق وخاصة مصر الجديدة ومدينة نصر. وهناك تبادلية واضحة في الحركة بين الشرق والوسط، أما الشمال الشرقي: فيرسل حركة متشعبة كثيفة إلى الشرق وإلى الوسط معا.
شكل 6-1:
شبكة الطرق الرئيسية في القاهرة الكبرى.
وحيث إن الوسط والشرق مراكز جذب للحركة من الشمال الشرقي والشمال، فإن هناك محاور اختناق تتمثل في شارع جسر السويس والخليفة المأمون وأوتوستراد النصر، التي تلتقي كلها في شارعي رمسيس والعباسية وكوبري 6 أكتوبر وشارع الأزهر بوجه خاص. هذا في شرق القاهرة، وفي الشمال اختناقات شارعي كورنيش النيل وشبرا ونفق شبرا في اتجاه ميدان رمسيس وشارع الجلاء من ناحية، وشبرا المظلات وشبرا الخيمة وقليوب من ناحية ثانية، وشوارع وسط البلد كلها تموج بحركة بطيئة في كل الاتجاهات.
نقلا بتعديل وإضافة عن
Celam Barge “Accessibilite et urbanite: l’exemple du Caire” contemporain, letter d’information 44, Avril 1996 . (3-2) عناصر جذب الحركة في القاهرة
مجالات الجذب الآتية هي وراء الشكل العام لحركة سكان القاهرة اليومية: (1)
الإدارات الحكومية والشركات في لاظ أوغلي وقصر العيني وباب اللوق وميدان التحرير وشارع الجلاء وماسبيرو وباب الخلق وعابدين + وزارات العباسية ومدينة نصر وإمبابة. (2)
تجارة الجملة في الأزهر والجمالية والنحاسين وتحت الربع والدرب الأحمر وأسواق العتبة ودرب البرابرة والخازندار والمناصرة وشارع الجمهورية وأسواق السبتية وبولاق + سوق العبور. (3)
تجارة التجزئة في الموسكي والسكة الجديدة والصاغة وخان الخليلي والغورية وباب الشعرية وأسواق وسط البلد من الأزبكية إلى الإسعاف والتوفيقية إلى باب اللوق + أسواق روكسي وميدان الجامع والعقاد ومصطفى النحاس في الشرق والدقي والمهندسين وفيصل في الغرب والمعادي في الجنوب. (4)
محطات ومواقف وسائل النقل الأساسية، وعلى رأسها باب الحديد والتحرير والجيزة ومطار القاهرة، ومجموعة مواقف النقل العام داخل القاهرة، ومجموعة مواقف النقل إلى خارج القاهرة الكبرى، ومشروع محطة الترجمان في قلب القاهرة الذي تتبناه الآن وزارة النقل، ولنا عليه تحفظات كثيرة. (5)
الخدمات الطبية والعيادات في وسط البلد، وهجرة بعضها إلى الأطراف، وخاصة المعادي ومدينة نصر ومصر الجديدة والدقي. المستشفيات الكبرى الآن هي في الأطراف أيضا. (6)
الخدمات التعليمية منتشرة دون تركيز باستثناء المدارس الخاصة للغات التي هاجرت إلى مدينة نصر وطريق الإسماعيلية، وإلى الغرب في الدقي ومنطقة الهرم و6 أكتوبر. (7)
خدمات التعليم الجامعي شديدة التركيز، وتجذب يوميا عشرات الآلاف، وكانت الجامعات في الأصل في الأطراف مثل عين شمس والقاهرة، لكنها غرقت في خضم المدينة المتنامية في كل الاتجاهات. الجامعات الخاصة هربت إلى مدينة 6 أكتوبر وأتوستراد الإسماعيلية امتلأ بالمعاهد العليا المتخصصة، والجامعة الأمريكية بسبيل الهروب إلى القاهرة الجديدة. (8)
محلات الأغذية الجاهزة ومقاهي الفنادق ودور السينما والمسرح والأسواق الجديدة التي تتجمع فيما يعرف باسم «المول»، تمثل مناطق جذب حركة غالبا في المساء، وهذه تظهر على كورنيش النيل ووسط البلد ومناطق من الأحياء الجديدة في مدينة نصر والمهندسين وشارع الهرم كنماذج لتكاثف الحركة الليلية في القاهرة. (9)
المعسكرات، وخاصة بين العباسية ومدينة نصر، وامتدادها إلى الطريق الدائري، تجذب حركة يومية كثيفة داخل القطاع الشمالي الشرقي من القاهرة. (3-3) تيارات الحركة
شرايين وشوارع القاهرة التي تتعامل مع كتلة الحركة العامة
الحركة النهارية هي أكثف أنواع الحركة؛ لأنها غالبا ما تشمل الحركة من خارج القاهرة بالإضافة إلى حركة سكان القاهرة أنفسهم. فإذا كان هناك مليونان من القاهريين في حركة العمل أو أي نشاط آخر، فإن نصف مليون آخرين يجيئون ويرحلون عن القاهرة في النهار، ويتزاحمون في مواقف نهايات وسائل النقل العامة بالإضافة إلى سيارات بعضهم التي تتراكم في مخارج ومداخل القاهرة بكم هائل من الحركة يصعب فك اشتباكه. ويزيد الموضوع أزمة انتقال آلاف العاملين في مصانع وإدارات 10 رمضان و6 أكتوبر وحلوان ممن يسكنون القاهرة ويفضلونها لأسباب معروفة على رأسها ندرة الخدمات في المدن الجديدة أو ضواحي القاهرة.
ولا شك في أن الطرق الآتية التي تحف بالقاهرة أو تخترقها هي مجالات لحركة كثيفة يومية:
أوتوستراد الإسماعيلية من وإلى 10 رمضان ومجموعة من المصانع والمدن غير المكتملة مثل الهايكستب والعبور والشروق + سوق العبور ومدينة السلام وشرق الدلتا. وتتفرع أو تنصب هذه الحركة من وإلى طرق أوتوستراد النصر والعروبة - صلاح سالم والحجاز وجسر السويس.
طريق الإسكندرية الزراعي الذي يجلب الحركة من القليوبية والغربية، ويرفده طريق القناطر إلى المنوفية، وتقودها إلى شبرا ووسط البلد بطريقين متوازيين، هما شارع شبرا وكورنيش النيل.
أوتوستراد النصر من المطار إلى حلوان الذي يجر معه حركة شرق القاهرة من مصر الجديدة ومدينة نصر إلى الأزهر، ووسط البلد، وإلى المنشآت الصناعية في دار السلام وطرة وحلوان.
طريق العروبة-صلاح سالم يوازي الطريق السابق من المطار إلى الأزهر ومصر القديمة وطرة وحلوان بطريق الكورنيش، ويرفده طريق الروضة إلى الجيزة.
طريق مسطرد - السواح - شارع الخليج - شارع بورسعيد الذي ينتهي إلى المنطقة التجارية بين باب الخلق وباب الشعرية، ويتقاطع معه شارع الأزهر إلى العتبة والأوبرا ووسط البلد.
والملاحظ أن هذه الشرايين طولية؛ أي إن معظمها يتجه في محاور شمالية جنوبية، وكان المفروض أن تكتمل الشبكة بطرق عرضية ذات محاور شرقية غربية؛ لكي تكون الحركة متعددة الاتجاهات. لكن القاهرة تنقصها هذه المحاور العرضية؛ مما يسبب اختناقات المرور المعروفة في الأماكن القليلة التي توجد فيها الطرق العرضية. هناك شبكات طرق في أحياء محددة مثل وسط البلد، مثلا: شوارع عدلي وثروت وقصر النيل تكون شبكة محدودة مع شوارع الجمهورية ومحمد فريد - عماد الدين وشريف وطلعت حرب. لكنها تقف عند الأوبرا من ناحية وطلعت حرب من ناحية أخرى فهي تصطدم بالكتل العمرانية القديمة فيما وراء الأوبرا وطلعت حرب، ويرجع ذلك إلى أن تخطيط القاهرة وامتداداتها قد تم في عصور ومراحل متعددة لكل منها مخطط نابع من عصره، ويقف عند حدود إعمار منطقة معينة، ومثل هذا نجده في منطقة التوفيقية. بينما كان تخطيط مدينة نصر عبارة عن شبكة مفتوحة من الطرق المتقاطعة تسمح بأي امتداد في الاتجاهات التي لا تكتنفها عوائق التضاريس أو المعسكرات.
وأكثر الطرق العرضية أهمية هو طريق الأزهر - العتبة - الأوبرا - 26 يوليو. فهو يخترق القاهرة من الدراسة إلى إمبابة والمهندسين، بل ويقود إلى الطريق الصحراوي و6 أكتوبر في امتداده الجديد، وهو بذلك العصب الحقيقي للقاهرة؛ لأنه أيضا يربط مناطق أسواق الجملة في الأزهر والعتبة والجمهورية وبولاق وأسواق التجزئة في وسط البلد، ومن ثم فإن مشكلات المرور فيه ضخمة ومستفحلة على طوله، وبخاصة عند الالتقاء بطرق طولية في منطقة بين الصورين والعتبة والأوبرا والجمهورية وعماد الدين والتوفيقية والإسعاف وكورنيش بولاق والزمالك وسفنكس ولبنان، وقد يحل نفق الأزهر المشكلة جزئيا في القطاع الشرقي من هذا المحور، لكنه سيزيدها سوءا عند الأوبرا وما بعدها غربا إلى وسط البلد. كما زادت أعباؤه أضعافا مضاعفة بإنشاء محور 26 يوليو عبر الوادي الزراعي إلى الطريق الصحراوي في اتجاه مدينة 6 أكتوبر وضواحيها، واتجاه الإسكندرية.
أطول المحاور العرضية في شمال القاهرة هو شارع أبو بكر الصديق من ألماظة إلى ترعة الإسماعيلية وشبرا المظلات. لكن تنميته ما زالت ضعيفة للغاية برغم أهميته التي تتضح عند تقاطعاته مع الحجاز عند المحكمة وسليم الأول في حلمية الزيتون، ثم يتوه في مخططات المطرية وعشوائياتها إلى أن يصل ترعة الإسماعيلية في نقطتين: السواح ومسطرد، وهناك محور عرضي ثالث يمثله شارع التحرير من عابدين إلى الدقي، ومن ثم إلى بولاق الدكرور، وإشكاليات المرور في هذا المحور حادة في باب اللوق والتحرير والجزيرة بين كوبري قصر النيل والجلاء، والاهتمام به سيقلل التشابك المروري في الدقي وقصر النيل بصفة عامة. وأخيرا، فإن المحور العرضي الرابع هو ذلك الممتد بطول شارعي الأهرام وفيصل إلى ميدان الجيزة ومن ثم إلى الروضة ومصر القديمة حيث يلتحق بطريق صلاح سالم، ويرتبط بكورنيش النيل إلى المعادي وحلوان، ولأهميته فإن اختناقاته متعددة، وخاصة من ميدان الجيزة عبر الروضة إلى كوبري الملك الصالح ونفق صلاح سالم.
نتيجة لهذا النقص الشديد في الطرق العرضية لشبكة طرق القاهرة فإن المساعي التي قامت بها الدولة مشكورة تتمثل في إنجاز كوبري أكتوبر العلوي، وكوبري الزمالك العلوي، وكوبري المنيب الذي هو جزء من الطريق الدائري الخارجي حول القاهرة الكبرى، لكنه لم يعد خارجيا الآن للسماح بالنمو العشوائي أو النمو المخطط حوله، مثل ما نراه في مخطط القاهرة الجديدة والنمو العشوائي من المرج إلى ميت نما، وهو ما دعا إلى رسم طريق خارجي جديد على بعد كبير لخدمة إدخال القاهرة الجديدة والنمو العمراني في قليوب والقناطر الخيرية وما وراء إمبابة شمالا وغربا، ونمو بولاق الدكرور وصفط اللبن وغيرها من النوايات العمرانية القديمة/الجديدة في مركز الجيزة على حساب الأرض الزراعية. فإلى متى ننشئ طرقا دائرية ثم نهدمها؟
كوبري 6 أكتوبر العلوي هو شريان عرضي مهم يمتد من جنوب مدينة نصر إلى الدقي، وفي جزء كبير منه هو طريق علوي متكامل مع شارع رمسيس والجلاء، وقد أزاح عن كاهل شارع رمسيس بين باب الحديد وغمرة عبئا مروريا كبيرا. أما شارع الجلاء فهو مشكلة المشكلات حقا؛ لأنه يعترض معبر شبرا في اتجاه شمال القاهرة ومعبر الإسعاف في اتجاه بولاق والزمالك، والكوبري بعد ذلك لا يخدم العباسية المزدحمة أضعاف طاقتها بالمرور السطحي إلى الوزارات الجديدة وجامعة عين شمس ومعسكرات عديدة بطول شارع الخليفة المأمون، الذي يقود إلى مصر الجديدة والنزهة وجسر السويس إلى الزيتون والمطرية وعين شمس ... إلخ؛ أي إلى الكتلة السكانية الضخمة في شمال شرق القاهرة، والتي يبلغ عدد سكانها نحو ثلاثة ملايين وربع المليون، أو ما يساوي نحو 47٪ من سكان القاهرة - وليس القاهرة الكبرى.
أما كوبري الزمالك، فهو من الضيق بحيث لا يتسع لحركة كثيفة واردة عليه، وخاصة بعد امتداد محور 26 يوليو إلى مدينة 6 أكتوبر وطريق الإسكندرية الصحراوي، أو الحركة المتوقعة إذا ما امتد إليه كوبري علوي يربطه بكوبري 6 أكتوبر، ولهذا بدأت الأجهزة المسئولة في توسيع مسار الكوبري في قطاعه العابر للنيل، أما قطاعه في الزمالك؛ فهو من الضيق بحيث قد يمس الكوبري العمارات على جانبيه في حالة توسيعه هو أيضا.
وقد يحل كوبري المنيب جزءا من الضغط الحالي في الروضة، لكنه لن يحل مشكلة المرور من مصر القديمة وصلاح سالم إلى الجيزة وأوائل الهرم وفيصل، واحتياجات الحركة من وإلى الروضة، وهي حركة كثيفة بحكم كثافة السكان في المنيل والروضة. (3-4) مقترحات وتوصيات
مشكلات المرور في القاهرة كثيرة، ويجب التفكير الجدي في بعض المقترحات الآتية: (1)
التوسع في تحسين الطرق العرضية من أجل تكامل شبكة الطرق، وتقليل الضغوط على العدد القليل من نقاط التقاطعات الحالية. هناك طرق يمكن تنميتها بالوسائل المعروفة سواء كانت تحسين الخدمة المرورية بالإشارات واللوحات الإرشادية وشرطة المرور، أو بتوسيع بعض الشوارع القائمة فعلا كما يأتي. (2)
شارع «أبو بكر الصديق» في شمال القاهرة: تحسين المرور والإرشادات المرورية؛ ليخدم الانتقال من مصر الجديدة إلى شبرا المظلات، وخدمة تقاطعاته مع شوارع الحجاز وسليم الأول وميدان المطرية والسواح وتحت نفق السكة الحديد ، مع تحسين اتصاله مع شارع العروبة؛ ليصل إلى المطار، ويشكل بذلك محورا سهلا بين شبرا والمطار. (3)
ربط أوتوستراد النصر في أكثر من موضع مع صلاح سالم، وخاصة شمال مقابر الغفير للوصول إلى شاع العباسية ومن ثم رمسيس، وكذلك الربط عند منطقة مقابر باب الوزير؛ لتسهيل الانتقال إلى شارع ونفق الأزهر، ومن ثم إلى وسط البلد. (4)
إنشاء محور عرضي مهم بين صلاح سالم وباب الحديد، وذلك بتوسيع الطريق الحالي من صلاح سالم إلى شارع الجيش وبورسعيد الممتد محاذيا لسور القاهرة الفاطمية الشمالي - سكة قايتباي، وشارع البغالة - مع إنشاء ساحات لانتظار السيارات أمام بوابتي النصر والفتوح؛ وذلك لخدمة الحركة إلى قلب القاهرة القديمة في النحاسين والجمالية، مع مد هذا المحور إلى باب الحديد بطريق كامل صدقي لخدمة منطقة الفجالة التجارية؛ فنكون بذلك قد فتحنا طريقا عرضيا من باب الحديد إلى أوتوستراد النصر عبر مناطق عديدة مهمة في شمال الجمالية وشمال باب الشعرية وجنوب الظاهر إلى الفجالة. (5)
تحسين شارع الأزهر بعد إزالة السور الأوسط - وربما الكوبري العلوي - بحيث تقام جراجات متعددة في الدراسة وقرب التقائه بشارع بورسعيد؛ لخدمة الأعمال في الصاغة وخان الخليلي والتربيعة والغورية وجوامع الأزهر والحسين والغوري وقلاوون ... إلخ، وتنمية الحركة السياحية والترفيهية في هذه المنطقة المجيدة ذات الشهرة العالمية بخاناتها المتعددة وبيوتها السكنية القديمة ومسارحها التجريبية ومعارضها الفنية. كما أن تحسين هذا الشارع يخدم أسواقا متخصصة حول العتبة والموسكي وبين الصورين ودرب البرابرة ... إلخ. (6)
تحسين شارع تحت الربع ومحاولة تحسين امتداده جنوب الجامع الأزهر أو عند الباب المحروق إلى صلاح سالم، ومن ثم نخلق محورا مهما موازيا لمحور الأزهر، ويمتد جنوب القاهرة الفاطمية إلى باب الخلق وحسن الأكبر، ومن ثم باب اللوق ليرفد محور شارع التحرير شمال قصر عابدين إلى الدقي؛ أي من شرق القاهرة عند الأوتوستراد وصلاح سالم إلى الجيزة عند بولاق الدكرور. ويمكننا هذا الطريق من تنمية منطقة الدرب الأحمر بآثارها الإسلامية ومشغولاتها اليدوية، وخاصة الخيامية وقصبة رضوان وغيرهما.
شكل 6-2:
تنمية محاور عرضية في وسط القاهرة. (7)
ميدان باب الخلق يمثل دائرة انطلاق على جانب كبير من الأهمية في سيولة الحركة من العتبة إلى القلعة وصلاح سالم والإمام الشافعي، والسيدة زينب، ومن ثم إلى جنوب شارع قصر العيني، خاصة بعد توسيع شارع السد، وهو بذلك يخدم الحركة إلى منطقة الوزارات في لاظ أوغلي ونوبار في الجنوب، ويمتد شمالا إلى العتبة وما بعدها. (8)
تحسين الطرق من البساتين إلى دار السلام، ومن ثم إلى كورنيش النيل شمال المعادي، وربطه بشارع آخر عند مجموعة كنائس قصر الشمع وجامع عمرو؛ لتحسين حركة السياحة والتنمية العمرانية معا مع الاحتفاظ بمنطقة آثار الفسطاط محمية أثرية لمزيد من إجراء البحوث والحفائر للتعرف على جانب مهم من تاريخ القاهرة.
خلاصة
الكباري العلوية والأنفاق عملية مكلفة غير ودودة بالبيئة؛ ولهذا فإن أهم التوصيات: عدم الالتجاء إلى أي منهما إلا عند الضرورة القصوى، والملاحظ أن بعض الكباري العلوية، مثل كباري ميدان الجيزة تسهل الحركة في قطاع صغير، ثم تلقي بها في خانق شديد الضيق في جزيرة الروضة أو شارع مراد، فهي حل جزئي يترتب عليه ضرر مضاعف! وقد حدث هذا أيضا عند افتتاح محور 26 يوليو أن تكدست السيارات في ميدان لبنان؛ مما اضطر إلى شق طريق في قرية ميت عقبة - مع كم من التعويضات - ولم يعد أمام هذا المحور من سبيل إلى وسط البلد إلا بالتفكير في عمل كوبري علوي يربط كوبري الزمالك بكوبري أكتوبر، وهو ما يحدث الآن في توسعة الكوبري بإضافة حارات مرور جديدة على جانبيه، ومثل ذلك أيضا ما نتوقعه في العتبة والأوبرا حين يبدأ استخدام نفق الأزهر الذي سوف يلقي بأكداس من السيارات في بحيرة مرور شبه مغلقة؛ لأنها مكدسة هي الأخرى في شوارع وسط البلد.
ما سبق ليس إلا نماذج من مشكلات المرور في القاهرة. فإذا كنا نقف أمامها طويلا بحثا عن وسائل وطرق لتخطي هذه العقبات، فما بالنا حين تلقى على القاهرة أعباء مرور وخدمات أكثر نابعة من مدن وأحياء تبنى لصيقة بالقاهرة، فتضاعف من همومها. ومثل هذه المدن والأحياء، فضلا عن تكلفتها الاستثمارية العالية، وتجميد مدخرات الناس في فيلات وشقق، فإنها تصبح جاذبة لمزيد من الهجرة السكانية من الأقاليم إلى القاهرة في الوقت الذي تتطلب فيه النظرة الموضوعية محاولة إيجاد صيغ حياتية تساعد على انتشار الناس على مسطح مصر بصورة أحسن مما هي عليه الأوضاع الراهنة بدلا من التركيز المرهق في حيز ضيق، والتكديس المخيف في مدينة القاهرة وحدها. فقد كانت القاهرة الكبرى تساوي 18,9٪ من مجموع سكان مصر عام 1947 وأصبحت بعد نصف قرن تستحوذ وحدها على نحو ربع سكان البلاد؛ أي من 3,6 مليون إلى نحو 15 مليون من البشر.
فأي انفجار نتوقع في السنوات العشر القادمة؟ وهل هذا هو ما سنورثه لمن بعدنا؟ (4) نماذج لمشكلات مرورية شديدة الصعوبة (4-1) شارع الجلاء ومحطة الترجمان المركزية
يسترعي انتباه كل الذين يمرون في شارع الجلاء كم هو ازدحام الشارع إلى درجة الاختناق والانسداد الكامل، ويحاول الناس قدر جهدهم تجنب السير فيه؛ لأنه على قصره النسبي مكدس بكل وسائل الحركة من الباصات الضخمة إلى الميني والميكروباص، إلى سيارات الملاكي والنقل الخفيف والثقيل والموتوسيكلات وسيارات الشرطة والإسعاف تطلق «سارينتها» دون جدوى؛ فالكل يسير قليلا ... ويتوقف طويلا.
هذا التكدس سببه واضح: فهو الشارع الوحيد الذي تنصرف فيه الحركة جنوبا من باب الحديد إلى التحرير مقابل شارع رمسيس الذي يقود الحركة في الاتجاه المعاكس؛ أي من التحرير إلى باب الحديد، وبطبيعة الحال هذا إجراء مروري سليم. إذن لماذا التكدس في الشارعين؟
شارعي رمسيس والجلاء هما بمثابة شارع «داير الناحية» الذي نعرفه في القرى؛ أي الشارع الذي يحيط بكتلة القرية السكنية من الخارج، ومنه وإليه تنصرف الدروب داخل القرية، وشارع رمسيس هو داير الناحية بالنسبة لوسط البلد تنصرف إليه كل شوارعها من عماد الدين وأحمد عرابي و26 يوليو وثروت وغيرها، فضلا عن امتداد الحركة الضخمة من وإلى شبرا عبر التوفيقية وعماد الدين، ومن ثم وسط البلد، وتخرج من رمسيس حركة إلى بولاق عبر الإسعاف، ووصلتان صغيرتان إلى شارع الجلاء عند معهد الموسيقى العربية وأمام التوفيقية.
أما شارع الجلاء فهو داير ناحية آخر، ولكن لمنطقة شديدة التباين التاريخي والسكني والمستوى الحياتي ونوع الوظائف، بين عشش الشيخ علي والترجمان وورش السبتية والسكن الشعبي في بولاق والقللي وغيرهما، وبين البنايات الفارهة الفارعة الحديثة؛ مركز التجارة العالمي وأبنية البنوك وفندق كونراد ودار الكتب وبرجي وزارة الخارجية والإعلام وهيلتون رمسيس على واجهة النيل، وأبراج المؤسستين الصحفيتين الأهرام والأخبار على شارع الجلاء. ويستقبل شارع الجلاء كل حركة باب الحديد وشبرا وبولاق، ولا يكاد ينصرف منه إلا القليل إلى السبتية وبولاق. فهو أشبه بأنبوب، أو إن شئنا وبلغة العصر أشبه بنفق المترو الذي يجري تحته وكوبري أكتوبر الذي يجري فوقه، وهو بالتعبير الجغرافي أشبه بنهر تصب فيه روافد كثيرة فيطفو فوق ضفافه بصفة دائمة.
شكل :
شارع الجلاء ومحطة الترجمان.
لماذا يتجشم الناس مخاطر إضاعة الوقت في شارع الجلاء؟ رواد هذا الشارع في غالبيتهم العظمى مضطرون لذلك؛ لأن الشارع يكاد أن يكون حكرا على أبنية عامة للناس فيها مصالح متعددة. ففي البداية عمارة تشمل مكاتب الشهر العقاري لشمال القاهرة وعدة محاكم متخصصة، ثم يأتي قسم شرطة الأزبكية المحاصر تماما من جهاته المختلفة؛ مما يعوق الحركة السريعة المطلوبة من الشرطة. ثم مستشفى السكة الحديد والبنك الصناعي ومجمع محاكم شمال القاهرة، وأبراج مؤسسة الأهرام، وغير بعيد عنها مؤسسة أخبار اليوم، ثم مستشفى الولادة، ثم معهد ليوناردو دافنشي، وعدة أبنية حكومية، وبيوت فقيرة إلى أن نصل إلى هيلتون رمسيس وميدان الشهيد عبد المنعم رياض، وكل هذه الأبنية على الجانب الغربي من الشارع، أما الجانب الشرقي: فتطل عليه الواجهات الخلفية لأبنية عامة ضخمة على شارع رمسيس مثل: مصلحة الكيمياء، وسنترال رمسيس الضخم، وجمعية الإسعاف، ونقابة المهندسين، وغيرها كثير.
كم من الناس لهم مصالح يومية أو أسبوعية في هذه الأبنية العامة؟ وكم من الموظفين العاملين في هذه المؤسسات مضطرون للحركة اليومية صباحا ومساء. لماذا كل هذا التكدس الذي يفوق تكدس وزارات لاظ أوغلي.
حتى أوائل الخمسينيات كان شارع الجلاء مليء بالمساحات الفارغة، ضعيف الحركة بالقياس إلى شارع رمسيس الموازي له، وكانت أكثر أماكنه الممتلئة بالنشاط هي تلك عند تقاطعه مع شارع فؤاد - 26 يوليو - المؤدي بواسطة الترام من العتبة إلى بولاق والزمالك وإمبابة، وكذلك كان التقاطع مع نفق شبرا. بهذا استغلت ناصيتي التقاطعين في بناء مستشفى فؤاد - للولادة - ومعهد دافنشي، ثم مستشفى السكة الحديد، وحين أرادت جريدتي الأخبار والأهرام أن تتوسعا بنت كل منهما إنشاءاتها الكبيرة في متسع من الأراضي الفضاء.
سبب هذا التكدس بالنسبة لشارعي الجلاء ورمسيس أن كلا منهما كان مسارا لترعتين متجاورتين تأخذان من النيل شمال كنيسة كل القديسين محل ميدان عبد المنعم رياض حاليا، وقد ردمتا في آخر القرن الماضي غالبا مع ردم مسار الخليج المصري من فم الخليج حتى غمرة عام 1899؛ ترعة الإسماعيلية بعد ردمها وإنشاء مأخذها الحالي شمال شبرا أصبحت مسارا لشارع عباس؛ «الملكة نازلي ثم رمسيس حاليا». أما الترعة البولاقية: فقد استخدمت أرضها بعد ردمها لمد خط حديدي من باب الحديد إلى ثكنات الجيش الإنجليزي في قصر النيل، وظل الخط الحديدي قائما إلى نحو نهاية الأربعينيات، وكان الطريق المجاور للخط يسمى شارع فم الترعة البولاقية حتى تقاطعه مع 26 يوليو، ومن ثم كان شارع الترعة البولاقية موازيا لشارع آخر باسم سيدي المدبولي الذي كان يبدأ من باب الحديد ويتصل بشارع الترعة خلف السنترال. وبعد فترة من جلاء الإنجليز عن الثكنات عام 1947 ضم شارعي سيدي المدبولي وفم الترعة، وأصبح الطريق المستقيم الجديد هو شارع الجلاء الحالي، وعلى طول شارع رمسيس بنت الدولة مباني حديثة كحمام وزارة المعارف ومصلحة الكيمياء وجمعية الإسعاف ومعهد الموسيقى وسنترال تليفونات القاهرة وسجن الأجانب؛ وبذلك ظل شارع الجلاء شارعا خلفيا لفترة طويلة، ومع تحويل خط مترو مصر الجديدة من عماد الدين إلى الجلاء بدأت حركة نشطة للبناء والتعمير في شارع الجلاء؛ فصار شديد الازدحام للدرجة التي رفع معها خط المترو إلى كوبري الليمون كحل لأزمة شارع الجلاء، ولكن بدون نتائج حاسمة.
وللآن ليس واضحا ماذا يمكن عمله للتخفيف عن هذا الشارع المحوري. هل يعود المرور إلى اتجاهين في الجلاء ورمسيس؛ بحيث يخفف الضغط عليهما فلا يضطر العابر للجلاء دون مصلحة فيه أن يسلكه مرغما، ويتحول عنه إلى رمسيس في اتجاه التحرير، وكذلك يسلكه القادم من التحرير إذا كان صاحب مصلحة في شارع الجلاء بدلا من التزاحم والعنت في شارع رمسيس؟ ربما يتم التثبت من جدوى هذا المقترح بواسطة متخصصي المرور بناء على دراسة واقع سيولة الحركة بأجهزة العد الآلي التي تقام في الشوارع، واستبيان يطرح على المستفيدين من الحركة في الشارعين. أو هل يوجد أي اقتراح آخر يخفف آلام الحركة؟
أما مشروع محطة الترجمان المركزية للنقل البري والمطروح الآن للتنفيذ بعد الدراسة؛ فإنه لا شك مشروع هندسي جيد أو ممتاز، ولكن على الورق. غير الجيد فيه موقعه السيئ غير المناسب لحركة مركزية، وقد يسبب كارثة مرور فوق الكارثة المرورية الحالية في وسط البلد. فالترجمان تقع وسط ما ذكرناه من مناطق شعبية كثيفة داخل إطار من الأبنية الإدارية والحكومية والتجارية والفندقية، ولكل من هذه الأبنية وظائف لها متطلباتها من حيث انسياب وسيولة حركة المرور إليها، ويحد هذه المنطقة من الشرق شارع الجلاء، ومن الجنوب شارع 26 يوليو، ومن الغرب كورنيش النيل، ومن الشمال خط حديد الصعيد وشوارع السبتية المكتظة. كلها إذن شوارع مكدسة بلغت الحركة فيها أضعاف طاقتها المرورية مهما بلغ تنظيم المرور فيها مبلغه. فكيف يمكن للسيارات والأتوبيسات السياحية وأتوبيسات الأقاليم اختراق هذه الشوارع إلى محطة الترجمان؟ هل ستحفر أنفاق تحت النيل وشبرا وباب الحديد والتحرير؛ لكي تصل السيارات إلى المحطة؟
كيف يمكننا أن نوفق بين خطتين متعارضتين؛ أولاهما: إبعاد محطات النقل الإقليمي من أحمد حلمي - الذي هو في موقع أفضل من الترجمان - إلى عبود وشبرا الخيمة من أجل تخفيف العبء المروري عند باب الحديد، والخطة الثانية: تركيز المحطات الإقليمية في واحدة هي الترجمان الذي يقع داخل أعتى الأماكن ازدحاما فتزيد السوء سوءا؟! أليس لدينا منهاج واحد ثابت لمدة عقدين أو ثلاثة عقود من الزمن حتى تستقر الأمور، ونرى ما تسفر عنه خطة أو توجه من اعتياد الناس للحركة، على ألا نحيد عن الخطة خلال تلك الفترة لمجرد تغير المسئولين؟ أليس الهدف حركة مرورية أرحم من الانسدادات الحالية من أجل قاهرة أحسن؟ وهنا أعيد التذكير أن المدينة التي تتعقد فيها حركة المرور هي مدينة مريضة تحتاج حلا. (4-2) لاظ أوغلي الجديد في ميدان العباسية
لاظ أوغلي هو الميدان الذي أعطى اسمه لحي الإدارة والحكم في مصر خلال نحو قرن من الزمان. كانت تلتف حوله وقربه رئاسة الوزراء ووزارات المالية والحقانية والداخلية والصحة العامة ومجلسا النواب والشيوخ، وليس بعيدا عنه وزارت المعارف العمومية والحربية والمواصلات والأشغال العامة والشئون الاجتماعية، والكثير من الأبنية الحكومية التابعة لوزارات الداخلية والمالية والصحة كمصلحة تحقيق الشخصية ومصلحة الأملاك الأميرية وخزانة الدولة ومصلحة الطبيعيات - الأرصاد ومياه النيل - في شارع منصور ومصلحة الطب الشرعي ومصلحة الضرائب وغير ذلك مما لا تعيه الذاكرة، وفي الحي ذاته كانت هناك أبنية عامة معظمها علمي؛ كالجمعية الملكية الجغرافية والمعهد العلمي المصري والجامعة الأمريكية التي كانت أصلا مقرا للجامعة الأهلية المصرية قبل أن تصبح جامعة فؤاد الأول، وتنتقل إلى متسع من الأرض في الأورمان، وأبنية أخرى أبرزها: ضريح سعد، وقصر الأميرة شويكار الذي أصبح مقرا لمجلس الوزراء حتى الآن، ومتحف الشمع الذي يشغل مكانه الآن مركز دعم اتخاذ القرار.
وبطبيعة الحال كانت حركة المشاة هي الغالبة؛ لكثرة وسائل النقل العامة من ترام وأوتوبيس وعربات الحنطور والقليل من التاكسي. وكانت الشوارع ظليلة بأشجار على الجانبين رعايتها من قبل مصلحة التنظيم مستمرة من أجل راحة المشاة، ومن ثم لم يكن هناك ازدحام وتكدس مروري وما والاه من تلوث معروف الآن، فكل موظف أو طالب خدمة حكومية كان يأتي راجلا أو راكبا وسيلة نقل، ثم يتجه إلى الوزارة المعنية ويغيب داخلها؛ لهذا لم تكن هناك حاجة إلى مواقف للسيارات. أما الآن فالأمر قد اختلف وشوارع هذا الحي الذي يحكم إدارة مصر قد اكتظت بالسيارات على جانبيه عدا أمام مجلسي الوزراء والشعب. وأصبحت المعاناة مريرة لكل من يذهب ليقضي مصلحته من مبنى حكومي. فالترام قد اختفى بعد أن كان وسيلة نقل تحمل أعدادا من الناس أكبر من الأتوبيسات التي زادت أعدادها لكنها تزيد حركة المرور ارتباكا بضخامتها، فضلا عن الميكروباصات التي تتداخل بشكل مزر في حركة المرور لرعونة السائقين.
ونتيجة للنمو السكاني الكبير ونمو احتياجات الحكم من إدارات ومصالح جديدة وخلق وزارات جديدة؛ فقد بدأت هجرة لأجهزة حكومية من حي لاظ أوغلي التقليدي نتيجة لتشبعه القاتل بالأبنية المضافة إلى الأبنية الأنيقة السابقة، واتجهت الهجرة الحكومية إلى عدة اتجاهات؛ أبرزها الاتجاه إلى الدقي، وإمبابة غرب النيل، والاتجاه إلى العباسية ومدينة نصر في شرق القاهرة التقليدية.
لكن القاهرة نمت شرق العباسية وعبر طريق صلاح سالم إلى مدينة نصر، وما تزال تنمو عبر طريق النصر في اتجاه الطريق الدائري؛ لتخنقه في اتجاه ما يسمى الآن باسم القاهرة الجديدة : التجمعات الثالث والخامس والقطامية ... إلخ. الحصيلة النهائية لهذا النمو السرطاني غير الواعي بمشكلات القاهرة - برغم أنه مخطط من قبل وزارة التعمير - أن العباسية لم تعد في شرق القاهرة، بل في وسط القاهرة. تماما كان حي لاظ أوغلي في وسط قاهرة أوائل القرن العشرين، وبذلك استحقت العباسية أن تسمى الآن لاظ أوغلي الجديد مع فارق الزمن وكثرة الناس والسيارات. في العباسية الآن وزارة الكهرباء ومصالحها العديدة، مثل: مصلحة كهرباء الريف، والكثير من الأبنية التابعة لوزارة العدل، مثل: مجمع محاكم شمال القاهرة، وأبنية لوزارة الداخلية عديدة، مثل: معهد الشرطة ... وغير ذلك، وكلها مجمعات ضخمة مكونة من أبراج عديدة تصل إلى نحو عشرة أدوار ارتفاعا، تحتجز وراءها مدرسة سانت فاتيما وتحاصرها. ومقابل هذه الأبنية العملاقة مبنى كلية الشرطة التي يقال: إن النية متجهة إلى نقل وزارة الداخلية إليه بعد أن تنتقل الكلية إلى مبنى ضخم عبر الطريق الدائري، وأبراج مصر للسياحة ... إلخ. هناك كوبري علوي قصير يمر في هذا الشارع المختنق بالحركة التي تنصب من وإلى مدينة نصر والأوتوستراد في اتجاه وسط البلد عبر شارع رمسيس وشارع العباسية والجيش وشارع الخليفة المأمون، وكوبري 6 أكتوبر العلوي يمر وراء المحاكم ووزارة الكهرباء، ووراءه جامعة عين شمس التي اختنقت بمرور الكباري والجسور وخطوط المترو ومترو الأنفاق، ويخترق الحرم الجامعي طريق الخليفة المأمون المكتظ بالحركة، وبذلك أصبحت جامعة عين شمس حبيسة موقع محاصر مخترق. الخلاصة أن المنطقة ككل هي من بين المناطق الأصعب في الحركة بالقاهرة، وما أكثرها!
بعد هذا الوصف العام الذي يعرفه كل قاهري يفكر في العبور من الشرق إلى الغرب أو العكس، ويعمل له ألف حساب كأنه مقبل على اجتياز حقل ألغام يسير فيه بسرعة هي غالبا أقل من سرعة المشاة، نأتي إلى تحليل دور المخطط الحكومي في صنع هذه العقبة الكئود.
لقد بنيت هذه الأبراج الحكومية على نفس النمط الذي تأسست عليه مباني لاظ أوغلي القديمة، كأن الزمن لا يتحرك! فلم يعد للمشاة دور في الحركة كما كان الأمر في مطلع القر؛ بل تعتمد الحركة الآن على السيارات من كل صنف. أين تقف هذه السيارات الخاصة بالموظفين والعملاء من الشعب؟ لم يبن المخطط جراحات تحت وحول المبني، وعلى الموظفين والأفراد الساعين لقضاء مصالحهم أن يتقاتلوا من أجل مكان يضعون فيه سياراتهم، وهو أمر بعيد المنال! أي قوة من رجال شرطة المرور غير قادرة على تنظيم الحركة، وأصبح الأمر كله متروكا لمن نسميهم «المنادين» ينظمون انتظار السيارات تحت الكوبري وعلى جانبي الطريق صفوفا متعددة حتى ضاق بهم نهر الطريق، وأسهم بذلك في المزيد من بطء حركة السير.
إذا كانت القوانين تنص على تخصيص جراجات تحت العمارات، فإن الأبنية الحكومية هي أول من يخالف القانون، ولهذا فلا عتب على ملاك العمارات أو المباني التي تحف بها حديقة صغيرة أن يحولوا الجراجات والمساحات الشجرية إلى محلات وبوتيكات، تاركين مهمة ركن السيارات إلى جوانب الشوارع وأرصفتها، وهذا ما يعطي القاهرة ظاهرة فريدة، لكنها معيبة، بين المدن الكبيرة في العالم.
فما بالنا لو انتقلت وزارة الداخلية إلى مبني كلية الشرطة الحالي؟ صحيح أن هناك مكانا واسعا الآن أمام الكلية، لكن البعض من المخططين والمهندسين ينصحون دائما باستخدام كل الفراغات لبناء ملحق جديد وملحق بالملحق ... إلخ. انظر إلى مبني وزارة الداخلية الحالي. لم أدخله منذ أكثر من ربع قرن، لكن يستبين للناظر من الخارج أن كل فراغ قد بنيت فيه ملاحق حتى أصبح غابة من الأبنية ضاعت إلى الأبد متنفساتها الطبيعية من الهواء والنسيم صيفا وأشعة الشمس الدافئة شتاء، وحل محل الطبيعة النظيفة ما تنفثه أجهزة التكييف من غازات ضارة وما تصدره من ضجيج يلوث السمع. فما بالنا بالعاملين داخل هذه المباني المهمة: هل هم يعملون في وزارة أم ماذا؟! وما بالنا حين تنتقل وزارة المالية ومصلحة الجمارك إلى أبراجها العديدة في امتداد شارع رمسيس شرق العباسية؟ ماذا سيكون حجم الحركة في هذه المنطقة بين عشرات الآلاف من طلبة جامعة عين شمس، ومؤسسات الجيش، وموظفي الوزارات والعملاء المترددين عليها؛ لقضاء حاجاتهم من هذه الوزارات المركزية المحتوى والمضمون؟
قبل أن نقول: إن الأمر يحتاج إلى تخطيط جديد للمرور، علينا أن نطالب الوزارات والمصالح الحكومية أن تخصص أماكن لانتظار السيارات؛ فليس بمستساغ أن تبني الأجهزة الحكومية ما شاءت، ثم تلقي بالكرة في ملعب إدارات المرور التي ليس لديها حلول سحرية لعلاج ما أفسده الآخرون!
إذا أردنا تعداد المناطق العقدية في حركة المرور - أو ما يسمى اختناقات عنق الزجاجة - في القاهرة فهي كثيرة، وأسبابها متعددة أيضا، لكن ليس أحدها بسبب سوء التخطيط الحكومي مثل لاظ أوغلي الجديدة والقديمة على حد سواء. الوزراء لا يشعرون بالمعاناة؛ لأنهم ينتقلون في طرق فتحتها لهم سيارات وموتوسيكلات المرور من أجل العبور السريع، وغالبا ما يضيف مرور مسئول أو ضيف كبير إلى مشكلة بطء المرور؛ لأن الطرق تقفل قبيل مرور سياراتهم بعدة دقائق هي في الواقع كافية لتراكم انتظار أرتال من السيارات. (4-3) هل يمكن إنقاذ أوتوستراد الإسماعيلية؟
9
تتسم القاهرة بمداخل ومخارج تتزاحم عليها الورش والمصانع والمخازن وأنواع رديئة من السكن المصاحب؛ ويترتب على ذلك أن الطرق الممتازة التي تربط القاهرة بأجزاء مصر تنتهي فجأة إلى متاهة من اختناقات المرور! فهنا تتزاحم شتى أشكال ووسائل النقل من عربات الحيوان إلى السيارات الخاصة إلى الشاحنات بأحجام ومقطورات مختلفة إلى الأتوبيسات والميكروباصات.
وسواء كان الطريق أوتوسترادا أو طرقا من درجات أقل؛ فإن للطرق في العالم جاذبية فتافيت السكر للنمل، أو جاذبية قضيب المغناطيس لكل أشكال المباني؛ ما كان منها للسكن أو أية مشروعات تجارية أو صناعية أو خدمية أو إدارية أو أمنية، وكل ما يتفتق عنه الفكر البشري من أبنية ذات وظائف تلبي احتياجات الإنسان التي لا تنضب.
وفي بلاد العالم بما فيها نحن، قوانين ولوائح وضوابط لكبح هذه الجاذبية القوية، وتيسير انسيابها في اتجاهات محددة. كأن توضع حدود لاقتراب المباني من حرم الطريق، أو أن يحدد شكل الطريق ومواصفاته المناسبة لوظائف الأحياء أو المدن أو القرى التي يخدمها.
ومثل هذه التشريعات والقوانين هي أشد صرامة بالنسبة للأوتوسترادات بحيث يصبح الطريق أشبه بالطريق الحديدي؛ فله حرم عريض، ولا تبنى عليه مباشرة أية منشآت عمرانية أو صناعية أو تجارية أو إدارية إلا على مسافة تتجاوز نصف الكيلو متر أو أكثر، وذلك من أجل المحافظة على وظيفتي السرعة والأمان المروري، وهما الهدف من إنشاء مثل هذه الطرق السريعة، وإلا كأننا ننفق الأموال الطائلة؛ لنهدرها بعد قليل نتيجة التراخي في تنفيذ القوانين!
أوتوسترادات مهدرة
إن إهدار قيمة الطرق السريعة في مصر هو واقع مؤلم، فننظر إلى أوتوسترادات القاهرة الكبرى لنرى كيف أصيبت بكل العلل التي أردنا تجاوزها بإنشاء هذه الطرق. فالأوتوستراد الزراعي اختنق بين شبرا وشبرا الخيمة وقليوب وطوخ اختناقا بلا صحوة، وأوتوستراد حلوان رحل كنظيره الزراعي تائها بين غابات من عماليق الأبراج في المعادي، واختلاط الحابل بالنابل بين المساكن المحشورة وسط المصانع والمخازن والورش في دار تسمى بالسلام أو حدائق حلوان، أو ذلك النمو العشوائي فوق ما خطط له في مدن العمالة في حلوان والتبين ومايو وطرة، وكل ذلك مليء بالمفارقات والعجائب من متلفات أوزون، ومذهبات صحة! وحتى الأتوسترادات الصحراوية أصابتها شيخوخة مبكرة! فإذا كانت هناك حجج ومعاذير لاختناق الطريق الزراعي أو حلوان أنهما يمران بمناطق معمورة من قبل، وأن هذا المعمور نما وانتفخ فوق التشريعات إلى أن استسلمت البلديات والمحافظات، فما هي الحجة بالنسبة لطرق الصحاري؟
الالتزام هو التصرف الحضاري
هناك دعوة أن نكون أناسا حضاريين، وأن نتصرف بما أضفته علينا مواريثنا الحضارية لآلاف السنين، ولكنها دعوة لم تخرج إلى حيز الممارسة في أشياء كثيرة، وواحد من أدلة التصرف الحضاري هو الالتزام بالقوانين والتنظيمات سواء كان هناك رادع عقابي أو لا يوجد، ونحن ما زلنا بعيدين عن مثل هذا الالتزام، وخاصة بالنسبة لقوانين البناء وخطط التنمية. فطريق الإسكندرية الصحراوي لم يعد صحراويا إلا بالكاد؛ الملايين يتحركون عليه، وكل عام يرون من الصحراء جزءا متناقصا، وهذا شيء مفرح تنمويا، لكن العمران السكني والخدمي المحاذي للطريق قد حوله إلى طريق زراعي آخر في قسمه الشمالي، وسوف يتم الخناق بالنمو المتسارع لمدينة العامرية الصناعية، وربما يحدث اختناق آخر في القسم الأوسط إذا ما تذكر أحد مدينة السادات وأيقظها من خمولها. وفي القسم الجنوبي امتلأ الطريق عند «أبو رواش» وما حولها بالمخازن والورش والمزارع الخاصة أو تلك التي في طور الإنشاء.
أوتوستراد الإسماعيلية
أما هذا الطريق الذي أنشئ في الأصل كطريق استراتيجي من القاهرة إلى منطقة القناة؛ فإنه يتحول الآن إلى مصير كافة الطرق السريعة المصرية. فالمدخل القاهري في طريقه إلى الاختناق السريع نتيجة الورش والمصانع والمدن السكنية المتعددة، وكان بالطريق غابة لعلها كانت حزاما أخضر فيما مض، لكن المصانع احتوتها، ولم يعد باقيا سوى بقايا يسيرة حزينة تائهة في غير محيطها، فهل يمكن الحفاظ على البقية الباقية والعناية بها؟ أم أن حاجة الوزارات - أو الهيئات التي تملكها - إلى المال سوف يسلمها إلى مصير محتوم؟! ولحسن الحظ أن الجانب الأيمن من الطريق يسير موازيا لخط حديد السويس، وبينهما مباني منشآت أمنية قديمة، وهذه الأبنية ذات الحركة المحدودة نسبيا قد ساعدت على الحفاظ على قدر من السيولة المرورية على الطريق، والأمل أنه في حالة التفكير في نقل هذه المنشآت ألا تباع الأرض لأغراض البناء السكني كما حدث في حالات مماثلة. بل تتحول أماكنها إلى جنة خضراء للترفيه أو إقامة أندية ومناشط شبابية لاستيعاب حركة الشباب جنبا إلى جنب مع مدارس تحتاجها هذه المنطقة التي نمت فيها مدن عشوائية أو مخططة، وفوق هذا فهذه المنطقة تقع في حرم مدرج المطار من جهته الغربية تقريبا، وحرام أن نحيط المطار بالأبنية والمدن كما ذكرنا من قبل.
أحمال فوق أحمال على الطريق
وعلى هذا الطريق أيضا أنشئ مؤخرا مبنى للتجنبد المركزي والسوق المركزية في العبور ومدينة السلام والهايكستب والشروق ... إلخ. لكن أكبر هذه المدن، وربما أكثرها احتياجا للحركة على الطريق هي مدينة العاشر من رمضان؛ تلك المدينة الصناعية التي بدأت الآن مرحلة الانطلاق. إن نمو الصناعة في العاشر يؤدي إلى مزيد من الضغط على الطريق. فهل هناك حسابات لطاقة تحميل الطريق لعجلات تجري بالخامات، وتعود بالسلعة المصنعة في اتجاه القاهرة؟ ويعرف الناس أن هناك حركة أخرى يومية للعمالة التي تسكن القاهرة وبلبيس صوب العاشر، بينما القطاع السكني في العاشر ما زالت نسبة إشغاله دون المتوسط، كما أن جانبا من السكان المقيمين لا يرتبطون بعمل في مصانع المدينة، ويعرف المختصون أيضا أنه لا توجد مدينة مخططة من الألف إلى الياء كالعاشر يخترقها الأوتوستراد! ففي شرق الأوتوستراد المصانع، وعلى الجانب الآخر الحي السكني، دون أن تكون هناك أنفاق أو جسور للراكبة والراجلة تؤمن حركتهم، وتضمن للأوتوستراد وظيفته في النقل السريع الآمن. ومؤخرا وبعد نحو 20 سنة أقام المسئولون كوبريين علويين لتأمين حركة الأتوستراد وتأمين الحركة بين المصانع والمساكن. والنموذج الأمثل لمثل حالة العاشر أن المدينة بقسميها السكني والصناعي تنشأ معا على جانب واحد من الأوتوستراد، ويفصل القسمين طرق خدمة للحركة الدائبة للمدن.
وفوق هذه الأحمال فإن الأوتوستراد هو محور يتلقى حركة الطرق التي تنصرف إليه من السويس وبلبيس والسلام والإسماعيلية وغيرها؛ مما يشكل أعباء ثقيلة عليه تتطور مع زيادة عدد ملاك السيارات، ونمو أشكال الأنشطة التجارية والترفيهية في منطقة البحيرات المرة والإسماعيلية وبورسعيد - فضلا عن تكاثف الحركة إلى سيناء الشمالية، ونمو مصالح ووشائج مطلوبة ومرغوبة - فأين إذن قدرة هذا الطريق الوحيد، برغم فخامته واتساعه، على مواجهة هذه الأحمال دائمة النمو؟
وبالإضافة فقد اجتذب الأوتوستراد عشرات المدارس والمعاهد وجامعة واحدة، وكلها مدارس لغات حديثة تشغل مساحات كبيرة ومصاريفها عالية، وهناك آلاف التلاميذ الذين ينتقلون بالباصات الخاصة التي تديرها المدارس، أو بسيارات ذويهم، وليس من شك في أن هذا هو ما يزيد الحركة على الأوتوستراد أعباء مضاعفة. صحيح أن هذه المدارس بنيت في بيئة صحية قليلة التلوث الجوي والسمعي،
10
ولكن ازدحام الطريق غير المحسوب أصلا، قد جعل المشوار إلى المدرسة من مصر الجديدة وضواحيها مشوارا مؤرقا، ويستغرق وقتا أطول مما خطط له يذهب بحيوية التلاميذ عند وصولهم المدرسة، ولدى عودتهم لبيوتهم!
الخلاصة أنه من اليسير على أهل المعرفة حساب كم من آلاف الأطنان من السلع والخامات والأغذية يتعامل معها سوق الجملة ومصانع العاشر وجملة الصناعات الأصغر على طول طريق جسر السويس، وكم من السيارات تمر حاملة آلاف الناس إلى أعمالهم وبيوتهم بين القاهرة وبلبيس والسلام والعاشر والإسماعيلية. ويبدو أننا في مصر اعتدنا نسبة عالية من الكوليسترول في أوعيتنا الدموية لتضخم مأكولاتنا، والطرق هي شرايين الحياة بالنسبة للاقتصاد والناس، فهل ننقل سمة الكوليسترول العالي إلى طرقنا فنحملها فوق طاقتها بمدن ومشروعات عديدة، وسريعا ما نفقدها كطرق ربط سريعة!
سوق الجملة
ويتطلب سوق الجملة بالعبور بضعة تعليقات: هو جيد ونظيف ونتمنى أن يظل كذلك بعد طول استخدامه. آفة الشرق إجمالا هي قلة الصيانة في وقتها، واستخدام الشيء لغير ما خصص له أو أكثر من طاقته التصميمية. لم يحدث هذا داخل أسوار السوق، ولكن الغريب أنه قد نشأت عند بوابة السوق الخلفية سوق موازية في حالة لا تسر من حيث عرض السلع، لكنها أرخص من نفس السلع في الداخل. من يمول هؤلاء التجار؟ قد نظن أن بعض كبار التجار يساندون السوق الخارجية كمنصرف للمواد التي لم تعد طازجة أو مغرية من خضر وفواكه.
والأغرب هو إنشاء محطة سكة حديدية باسم محطة العبور على خط السويس البطيء على مبعدة نحو ثلاثة أرباع الكيلومتر، فهل هي محطة لخدمة العاملين في السوق؟ معروف أن السكك الحديدية لا تستطيع أن تنافس السيارة والباص في المسافات القصيرة للمرونة الفائقة التي يتمتع بها النقل البري مقابل جمود الحركة الحديدية على خط واحد. أما إذا كانت المحطة بغرض نقل سلعي، فهذا أيضا غير ممكن بالنسبة لسوق يتعامل مع أغذية نباتية وحيوانية وأسماك وغير ذلك من المواد سريعة العطب التي لا تتحمل بطء النقل الحديدي - ناهيك عن أن خط السويس هو خط هامشي لا يرتبط بالشبكة الحديدية الكثيفة إلا بطريق غير مباشر من خلال محطة مصر - أي إنه لا يرتبط مباشرة بخطوط تجري في مناطق إنتاج السلع الغذائية.
مقترحات
الاقتراح الأول:
هو إنشاء طريق مواز لأوتوستراد الإسماعيلية من القاهرة حتى العاشر - على الأقل - وذلك لتحمل نصيبا من الضغط المتزايد على الطريق. جزء من هذا الطريق المقترح قائم فعلا ممثلا في طريق الهايكستب غربي المطار، وهو طريق يمكن تطويره ومده شرق الخط الحديدي. مع وصلات عبره إلى الأوتوستراد.
الاقتراح الثاني:
هو إعادة استخدام خط حديد السويس الحالي بطريقة أكثر انتظاما ومرات أكثر في اليوم، والأحسن هو كهربة الخط، أو تسيير مترو سريع التقاطر على الأقل حتى العاشر من رمضان، مع ربطه بشبكة مترو القاهرة في محطة المرج، وهذه الوسيلة من النقل الجماعي أكثر أمنا
11
وأوفر اقتصاديا وأوفر في الوقت بالقياس إلى النقل بالميكروباصات، وبالتالي فهو سيرفع عبئا كبيرا عن الأوتوستراد.
والخلاصة أنه يجب إصدار تقنين أشد قوة في التنفيذ لمنع المزيد من المنشآت كثيفة الحركة على هذا الطريق. فكفاه ما هو عليه من مشروعات. كذلك تشجيع المستثمرين والمنظمين على الاتجاه إلى الطرف الآخر من الأوتوستراد حول الإسماعيلية وشرق القناة من أجل توزيع عادل نسبيا لأماكن العمل على رقعة أبعد من دائرة جذب القاهرة والمدن التي تدور في فلكها نتيجة تخطيط لم يكن مدركا لظاهرة التزاحم والتمركز المصرية إدراكا قويا، وقد حان الوقت أن يقف المفكرون في الجوانب الاجتماعية من الحياة بقوة جنب المخططين الفيزيقيين من أجل تسهيل انتشار الناس بطريقة محسوبة ومستجيبة على مساحات أكبر من أرض مصر بدلا من المركزية الراهنة. (4-4) شارع الأزهر والنفق
12
ليس من قبيل التكرار التطرق إلى مشكلات شارع الأزهر التي يعرفها الجميع، وحل هذه المشكلات لا تأتي بتنفيذ عنصر واحد كبناء كوبري الأزهر فيما مضى، أو إنشاء النفق كما يحدث الآن، لكن الحل يكمن في ضرورة النظر لمنطقة الأزهر بشمولية أرحب من معالجة قضية واحدة. وليس من قبيل التزيد في القول أن شارع الأزهر اسم علم على واحدة من أهم مناطق القاهرة التجارية، ويضم بين جنبات المنطقة ثروة بالمليارات. كما أنه الجزء الشرقي من المحور العرضي الأساسي الذي يخترق القاهرة من الدراسة إلى إمبابة، ويربط أسواق العتبة والموسكي ووسط البلد وشارع الجمهورية وسوق وكالة البلح وأسواق الكورنيش والزمالك الحديثة، ومن ثم تأتي أهمية هذا الشارع والمنطقة التاريخية الاقتصادية التي تتمحور حوله.
وفي خطة توسيع ميدان الأزهر-الحسين ترددت الأفكار الآتية: (1)
هدم مبنى مشيخة الأزهر القديم لتوسيع الميدان. (2)
تحويل المنطقة إلى منطقة مشاة فقط. (3)
عمل نفق لانسياب الحركة من الأوبرا والعتبة حتى طريق صلاح سالم.
وهدم مشيخة الأزهر عمل هدام فعلا، صحيح أن هناك بناية جديدة أنشئت للمشيخة إلى جوار دار الإفتاء، لكن لماذا الهدم؟ لقد شاهد غيري كثيرون أن الأجزاء القديمة من المدن الأوروبية - وهي أحدث بكثير من القاهرة الفاطمية المملوكية - يحافظون عليها مهما كان الشارع ضيقا؛ لأن هذه أبنية تراثية.
وأعتقد، وكثيرون غيري، أن مبنى المشيخة الحالي هو من المعمار الإسلامي الراقي قارب عمره على مائة عام، وربما لا يستطيع صناع زماننا تقليده إلا بتكلفة عالية. لكننا، فيما يبدو، نستسهل الهدم دون تحري الواقع، وأخيرا صدر قرار عال بمنع هدم هذا المبنى؛ فكفى المؤمنين شر القتال.
الاختناق المروري الحالي في منطقة الأزهر يعود إلى أسباب أخرى غير وجود مبنى المشيخة. أول هذه الأسباب توجد فينا كسائقي سيارات خاصة أو عامة أو نقل، خلاصته: عدم الالتزام بقواعد المرور وآدابه، وتداخل سيارات مستهلكة في مجرى المرور، وهي لن تجد حلا إلا بجدية تطبيق القانون والملاحقة بالقوة الجبرية على كل الناس بغض النظر عن قوة الانتماء.
السبب الثاني هو وجود مجموعة من الأبنية المتنافرة معماريا وماديا وحضاريا مع روائع الأبنية التراثية. فالنازل من الدراسة إلى الميدان يجد على يمينه مباني متهالكة متنافرة مع بعضها، زادها تنافرا وتشويها المحال والدكاكين التي تقيم نشاطا في مساحات قزمية لا تصلح لشيء مهم. هذه المتهالكات ورواد دكاكينها تضيق الخناق على حركة المرور القادمة من صلاح سالم وشارع المنصورية الموازي له والقادم من العباسية الشرقية. لن نخسر كثيرا بإزالتها، لعل ذلك يؤدي إلى تحسين قيمة العقارات مساحة وبناء، والقادم من العتبة يرى عمارات تغطي على أبنية وكالة الغوري وجامع «أبو الدهب»، فإذا أزيلت هذه العمارات الثلاث غير المنسجمة معماريا فإنه سوف ينكشف ميدان فسيح من جامع الغوري إلى الأزهر، به مجموعة أبنية تعود إلى نحو خمسة قرون وأكثر؛ هي تحفة للناظرين ودرس معماري للدارسين وعشاق الفنون الإسلامية الشرقية. هذا فضلا عن انكشاف منظر الأزهر الشريف بعد عمليات التجديد والصيانة الحالية.
أما مبنى المشيخة الحالي، فيمكن تجديده وتحويله إلى غرض من الأغراض الثقافية؛ كأن يصبح مقرا لمكتبة القاهرة الإسلامية، أو أن يصبح متمما لمكتبة الأزهر، وبعبارة أخرى: يتحول إلى مركز علمي إسلامي.
فإذا نال مبنى المشيخة الحالي بعض الصيانة، وأضيفت مجموعة نافورات صغيرة تتوسط أحواض ورود ورياحين، وأشجار ظل تقي المشاة وهج الصيف وحره، وأزيل السور الحديدي القبيح، فسيكون لدينا ميدان فسيح جدا يمتد بين جوامع: الغوري والأزهر والحسين، يجمع روائع المعمار الإسلامي من تواريخ وعصور مختلفة، تبدأ من ألف عام إلى مائة عام، يمكن أن يتفوق على الميادين الكبيرة في مدن إسلامية، مثل: «ميدان شاه» في أصفهان أو ميدان «راجستان» في مدينة سمرقند بجمهورية أزبكستان، والذي يوصف أحيانا بأنه أنبل ما صنع المعمار البشري من توافق وانسجام، ويجب أن يصاحب هذا تحويل المنطقة للمشاة.
هذا العناء كله ليس فقط من أجل الآثار، بل من أجل نزهة المشتاق إلى أيام زمان. فغير خفي الجذب الذي يشد الناس إلى سهرات الأجداد على الشاي والشيشة والبليلة والكباب في رمضان وغير رمضان، أبقاها الله مع الدعوة إلى تحسين أساليب استضافة الناس في المقاهي والمطاعم، ونظافة الدروب والسكك والخانات.
ويمكن تحويل المنطقة إلى منطقة مشاة فقط ، بتنفيذ أسلوبين مكملين لبعضهما لكي نعطي للتخطيط الجديد عمقا زمنيا مستقبليا.
الأول:
أن تحول المنطقة إلى مشاة بين التاسعة صباحا والحادية عشرة مساء، مع بعض التغيير في رمضان وفي الصيف وفي الشتاء. على أن يكون التنفيذ صارما لشهور وشهور.
والثاني:
البحث عن طرق بديلة لشارع الأزهر كمحور مرور عرضي في محورين كما سيأتي ذكره بعد قليل، وبذلك نكون قد حفظنا آثار القاهرة من هزات ماكينات حفر الأنفاق التي قد تؤثر على أسس الآثار الرائعة، وعادم السيارات الذي ينخر في الحجارة الأثرية بغازاته وأكاسيده. وفي هذه الحالة أيضا يمكن تحويل شارع المعز من بوابة المتولي - زويلة - إلى الفتوح لمنطقة مشاة لأعظم شارع أثري مليء بعبق التاريخ من مساجد وأسبلة ومشربيات ومقرنصات غاية في الجمال والأبهة، على أن يسمح بمرور وسائل نقل تقليدية كعربات الحنطور والكارو والترسكلات غير ذات الموتور، وعلى النسق نفسه يمكن تحويل شارع الجمالية من باب النصر إلى الحسين إلى منطقة مشاة في ساعات النهار.
هذه صورة نأمل تنفيذ ما يمكن منها على مراحل؛ لكي نستعيد الماضي المشرف لمصر المحروسة.
ويمكن أن تتضح الصورة العامة للموضوع من التدقيق في الخريطة
6-2
ومن النقاط الآتية تلخص الموضوع تحت عناوين الموضوعات الرئيسية:
أولا:
منطقة ميدان الأزهر: (1)
تحويل الجزء من شارع الأزهر الممتد من أمام باب جامعة الأزهر إلى منطقة تبعد نحو 30 مترا غرب جامع الغوري إلى منطقة مشاة خضراء، مع إزالة السور الحديد في هذا الجزء. (2)
إزالة عدد من البيوت التي تحجب الآثار الإسلامية الرائعة في الميدان، مثل العمارات التي تحجب وكالات الغوري، وكذلك المباني المتهالكة أمام جامع الغوري على الجانب البحري من شارع الأزهر. (3)
تحويل الساحة الضخمة الناتجة «بين جوامع الأزهر والحسين والغوري» إلى ساحة وارفة الظلال كثيرة النافورات الإسلامية دقيقة الصنع. (4)
في التنفيذ النهائي يجب إزالة كوبري الأزهر من شارع الأزهر بأكمله. (5)
إقامة مواقف للسيارات متعددة الطوابق عند بدايات منطقة المشاة من ناحيتي العتبة والدراسة؛ لكي تخدم انتقال الأشخاص والسلع من الاتجاهين.
ثانيا:
حول الطرق البديلة لشارع الأزهر: (1)
إن شارع الأزهر هو الطريق العرضي الوحيد بين شرق القاهرة ووسطها؛ لهذا فهو بالفعل عنق زجاجة، والفرصة الآن مواتية للتخلص من عنق الزجاجة بفتح طريقين جديدين لا يصبان في نقطة واحدة، هي الأوبرا، كما يفعل شارع وكوبري الأزهر الحالي. (2)
الطريق الأول يسير شمال القاهرة الفاطمية وبحذاء السور القديم. يبدأ من طريق صلاح سالم تقريبا أمام مجموعة مساجد السلطان برقوق، ويستحسن أن يمد شرقا؛ ليتصل بالأوتوستراد في مسار يقع شمال مجموعتي آثار ومساجد السلطان إينال والسلطان برقوق، هذا إذا لم تكن هناك موانع أثرية يهددها فتح الطريق في الجبانة الشرقية. يسير الطريق بين السور الشمالي للقاهرة من ناحية ومقابر بوابة النصر وحي البيومي والحسينية من ناحية أخرى، ثم يلتحم بشارع البغالة الذي يجب أن تجرى عليه التوسعات اللازمة لاحتواء حركة هذا المحور، وفي النهاية يلتقي بشارع الجيش تقريبا أمام قسم الشرطة. ويستحسن أن يمد الطريق المحوري هذا بضع عشرات الأمتار ليلتحم بشارع بورسعيد الذي يمكن أن تنساب فيه الحركة شمالا إلى غمرة وما بعدها، أو جنوبا إلى باب الشعرية، ومن ثم إلى العتبة في طريق الجيش، أو بين الصورين وباب الخلق في طريق بورسعيد. كما يمكن توسيع بعض الشوارع العرضية جنوب بركة الرطل إلى شارع كامل صدقي - الفجالة - ومن ثم يتكون لدينا محور ممتاز من الأوتوستراد إلى ميدان باب الحديد يساعد في امتصاص حركة شرقية غربية إلى شارع الجمهورية بأسواقه المتخصصة، بديلة لشارعي رمسيس في الشمال والأزهر في الجنوب. (3)
يستحسن عمل كوبري علوي لهذا الطريق المحوري عن تقاطعه مع شارع الجيش، وأن يستمر الكوبري العلوي في شارع بورسعيد جنوبا؛ ليعبر عنق الزجاجة في باب الشعرية بحيث يكون له منزل عند شارع الجيش إلى العتبة، ومنزل آخر في بين الصورين؛ ليكمل الطريق في شارع بورسعيد إلى باب الخلق. (4)
أما الطريق المحوري الثاني: فيقع إلى الجنوب من قاهرة المعز، حيث يبدأ من باب الخلق مستخدما شارع تحت الربع إلى باب زويلة - المتولي - ثم يستخدم طريق الدرب الأحمر إلى سور القاهرة الشرقي، ويعبر منطقة التلال إلى أن يلتحق بطريق صلاح سالم عند ثنيته الكبيرة أمام جبانة باب الوزير. وهذا المحور يقود من باب الخلق إلى عدة اتجاهات: إلى العتبة بطريق محمد علي، وإلى السيدة زينب وجنوب القاهرة بطريق بورسعيد، وإلى وسط القاهرة بطريق شارع حسن الأكبر إلى ميادين عابدين وباب اللوق والتحرير. وربما احتاج الطريق المحوري الجنوبي تكلفة أعلى من الشمالي؛ حيث إن الأمر يحتاج إلى نزع ملكيات غالية في شارع تحت الربع. لكنه لن يحتاج إلى كبار علوية؛ لأن ميدان باب الخلق متسع، ويمكن تنظيمه ليستوعب الحركة الجديدة.
الخلاصة:
أن هذا المخطط يمكن تنفيذه على مراحل بحيث يستوعب الناس اتجاهات التنمية لقلب القاهرة القديمة تدريجيا، ويتكيفوا معها منذ البدء بإصلاح ميدان الأزهر، وتحويله إلى منطقة مشاة بعض الوقت من النهار كما أسلفنا، خاصة وأن المتوقع معارضة قوية من قبل أصحاب المصالح من التجار الراسخين في شارع الأزهر عشرات السنين.
هل يحل النفق مشكلة المرور في شارع الأزهر؟
ربما كانت الأنفاق وسيلة أكثر تقدما من الجسور العلوية، وأقل تشويها للمناظر العامة للمدن، ولا شك في أن كوبري الأزهر قبيح بكل المعاني؛ فهو يضيع معالم المعمار الممتاز في ميدان العتبة، ويعبر فوق حديقة الميدان فيمسخها، ويحيل المرور حولها إلى شيء أشبه بالمتاهة، وهو أيضا يغطي معالم معمارية نادرة في أجزاء من شارع الأزهر، مثل: جامع القاضي زين الدين يحيى (1444م) عند تقاطع الأزهر مع شارع بورسعيد، كما يغطي معالم جامع الغوري (1503م)، ويكمل السور الحديدي - المقام وسط الشارع - وكوبري المشاة سلسلة القبح المعماري حتى جامعة الأزهر، ويلقي الكوبري حمولته أمام جامع الغوري، ويزدحم الطريق فتضيع معالم المعمار في قصر الغوري ووكالته وجامع «أبو الدهب» (1774م) وجامع الأزهر (970م)، وكلها تقع تحت طائلة التآكل بما تطلقه آلاف السيارات من عادم ضار بصحة الإنسان والمباني الأثرية معا، خاصة وأن الكثير من السيارات والشاحنات من القدم بحيث تطلق خلفها سحبا سوداء لا نجاة منها.
لن نجد شيئا من هذا حين نشق النفق ونزيل كوبري السيارات والمشاة والسور الأوسط، وهذه إحدى حسنات النفق، ولكن النفق طويل يصل إلى نحو كيلومترين طولا، فهل جربنا مثل هذه الأنفاق الطويلة للسيارات؟ ويمكن أن نقف طويلا أمام الملاحظات الآتية عند فكرة النفق:
شكل 6-4:
مقترحات تنمية شاملة لمنطقة الأزهر. (1)
الجوانب التكنولوجية: لا شك في أن حفر الأنفاق في القاهرة أصبح في متناول التقنية المصرية بما اكتسبت من نجاح في حفر أنفاق مترو القاهرة في شبرا وعابدين وتحت النيل، ومن قبل من باب الحديد إلى السيدة زينب. لكن الذي يمر هنا هو قطارات كهربائية عادمها وهدير صوتها محسوب. أما نفق السيارات فسوف تمر فيه عشرات الآلاف من السيارات ينبعث منها عادم غازي سام، خاصة وأنه من الصعب عمليا منع السيارات التي تفرز عادما أكثر من المقرر من دخول النفق؛ وذلك لقدم الكثير من سيارات القاهرة، ولأن الكثير من ملاك السيارات - أفرادا أو هيئات خاصة وعامة - لا تقوم بأعمال صيانة السيارات بالدرجة المناسبة. (2)
الجوانب البشرية والسلوكية: إن المترو يتحكم فيه شيئان: السائق ولوحة المراقبة الإلكترونية، أما السيارات فيقودها عشرات الآلاف من السائقين؛ بمعنى أن سلوكيات حركة المترو منضبطة، بينما سلوكيات سائقي السيارات غير ذلك، وكلنا يشكو من رعونة كثير من السائقين التي تتسبب في حوادث كثيرة في شوارع القاهرة السطحية، فما بالنا داخل أنبوب النفق المغلق؟ (3)
كثرة استخدام آلات التنبيه في سيارات القاهرة سمة معروفة لدى السائقين لا يردعها رادع حتى الآن، فما بالنا لو تعطلت سيارة داخل النفق؟ لا شك في أن النفق سوف يتحول إلى زئير صوتي يصم الآذان عند حدوث عرقلة ما نتيجة تعطل سيارة أو بطئها. فهل يؤثر الزئير الناجم عن مئات آلات التنبيه على بنية النفق؟ وماذا عن التلوث السمعي القاتل في مثل هذه الأحوال؟ وتجربتنا في الجسور العلوية الحالية شاهد على ارتباك المرور عندما تتعطل سيارة فوق الكوبري وتحت نور الشمس، فما بالنا عند حدوث ذلك تحت ضوء الأنوار الكهربائية داخل النفق؟ (4)
مسار النفق يمر تحت أجزاء كثيرة من كتلة سكنية متهالكة البناء، فهل هناك حسابات لإخلاء هذه المساكن، وإسكان شاغليها في أماكن جديدة مناسبة، علما بأن الكثير من شاغلي هذه الأبنية عبارة عن ورش ومشاغل حرفية أو مخازن بضاعة، وكلها ضرورية لاستكمال مئات الأعمال التجارية التقليدية لهذا القلب التجاري الحقيقي للقاهرة؟ وهل ستتضرر أسس أبنية تراثية أثناء عمل النفق؟ (5)
الخلاصة أن حفر النفق ليس عملا تيسره التكنولوجيا فقط، وليس قرارا مساره عمل هندسي فقط، بل يجب أن تكون هناك لجنة من المهندسين والأثريين والاقتصاديين والجغرافيين ومخططي المدن والجيولوجيين ومخططي المرور ومنظميه والاجتماعيين والسلوكيين وأصحاب المصالح التجارية؛ لكي يأتي المشروع متكاملا قدر الإمكان قليل العيوب قليل الاعتراضات. ثم يأتي بعد ذلك القرار التنفيذي، وهكذا يصبح المشروع حضاريا بكل معنى هذه الكلمة السائدة الآن دون معنى حقيقي.
هذا من ناحية الأمان وسيولة المرور، لكن هناك نقطة أخرى مهمة يجب أن يحسب لها حساب، هي: ما هي كمية السيارات التي تعبر الآن شارع الأزهر في اتجاه الأوبرا بالنسبة لعدد السيارات المتجه إلى شارع الأزهر والطرق المتفرعة عنه؟ بالمشاهدة والتجربة نلاحظ أن النسبة الكبرى هي التي تقصد شارع الأزهر، بينما القلة هي التي تخترق الكوبري إلى الأوبرا، فالشارع شديد الازدحام من الدراسة إلى مطلع الكوبري، ويستمر الازدحام المروري إلى جوار الكوبري والقليل هو الذي يصعد الكوبري، ومثل هذا من الناحية الأخرى، فعلى الكوبري من الأوبرا إلى الغوري أقل من نصف الحركة المرورية التي تخترق العتبة إلى شارع الأزهر.
ذلك أن الناس في حاجة إلى شارع الأزهر بتجارته الواسعة ومخازنه وورشه الحرفية بطول الشارع الذي يكون عصب الحركة إلى اتجاهات كثيرة في شارع المعز والصاغة وخان الخليلي والجمالية شمالا، والغورية والعطارين والسكرية جنوبا وعشرات الدروب التي تتفرع عنها. كذلك يحتاج الناس إلى شارع الأزهر للدخول إلى تقاطع شارع بورسعيد الذي يقود إلى أسواق الجملة عند بين الصورين وجامع البنات والسكة الجديدة والموسكي. والقليل يصعد تفريعة الكوبري إلى باب الخلق. وأخيرا هناك المصب النهائي لشارع الأزهر في العتبة التي تقود إلى مجموعة أسواق أخرى مثل سوق الكهرباء خلف المطافئ، ومنطقة البواكي المؤدية إلى ميدان صيدناوي وشارع كلوت بك وميدان الخازندار، وكلها أسواق متخصصة.
فإذا أغلقنا شارع الأزهر أمام حركة السيارات، وفتحنا نفقا إلى الأوبرا فإن ذلك الإجراء لا يحل سوى مشكلة العابرين من صلاح سالم إلى الأوبرا وبالعكس فقط، بينما يسلب العمود الفقري للحركة الجارية التي تقدر قيمتها بالملايين أو المليارات!
فكيف إذن نحل مشكلة شارع الأزهر؟
أولا:
لا توجد حلول جاهزة التنفيذ الفوري. فنحن هنا بصدد تراكمات قلب القاهرة العملاقة لأكثر من ألف عام، ومن الصعب تصور حل هذه التراكمات على مدى عام أو عامين، فالأمر في مثل هذه المواضع ذات القيمة التاريخية والاقتصادية يحتاج إلى مخطط رئيسي نلتزم شعبا وحكومة بتنفيذه مرحليا، وأن يكون من المرونة بحيث يمكن تعديله بناء على أرض الواقع فيما عدا خطوط يجب الالتزام بها على أي الحالات، ومنها على الأخص خطوط التنظيم وارتفاعات المباني.
ثانيا:
يمكن أن يكون المخطط الرئيسي محتويا على العناصر الآتية: (1)
يشبع النفق طلب العابرين من صلاح سالم إلى الأوبرا وبالعكس، مع الاهتمام ببعض المحاذير التي سبق ذكرها، وإضافة الوسائل التي تؤمن سلامة المرور كوحدة كهربائية إضافية تعمل عند اللزوم أوتوماتيكيا، وكذلك تشغيل محطات التهوية التي بدونها غالبا ما يحدث اختناق للناس، والاهتمام المشدد بالكثير من أعمال الصيانة بطول النفق. (2)
تحسين الشارع الذي يمتد شمال سور القاهرة القديم، ومده إلى صلاح سالم، وإلى شارع الجيش وبورسعيد، وبذلك نكون قد شكلنا محورا عرضيا يعوض نسبيا محور شارع الأزهر، ويصل إلى شارع كامل صدقي ومنطقة الفجالة وباب الحديد، ومن هذا المحور تمتد طرق جنوب السور تصل محلات شارعي الجمالية والمعز الشمالية بالحركة المطلوبة لنقل السلع والناس. وارتباط هذا المحور بشارعي الجيش وبورسعيد سيضمن سيولة حركة إلى العتبة كمركز عصبي للحركة في وسط القاهرة، وإلى العباسية شمالا. (3)
تخرج من المحور الجنوبي طرق متجهة شمالا إلى قرب الغورية وقرب جامع الأزهر؛ وذلك لخدمة الحركة التجارية في الجزء الجنوبي من القاهرة الفاطمية. كما تخرج منه طرق تتجه جنوبا إلى الدرب التبانة وسوق السلاح وإلى الخيامية والسروجية ... إلخ في القاهرة المملوكية. ووصول هذا المحور إلى باب الخلق يفتح مجالات الحركة شمالا في شوارع بورسعيد ومحمد علي إلى أسواق منطقة العتبة، كما أنه يخدم الحركة جنوبا إلى القلعة، وإلى أحياء الحلمية وطولون والسيدة زينب التي تحتاج إلى تنمية للبنية الأساسية بعد إهمالها، وانصراف الاهتمام إلى المناطق الجديدة حول القاهرة. (4)
إعداد شارع الأزهر تدريجيا؛ لكي يصبح جزؤه الأوسط منطقة مشاة كما أسلفنا القول، وذلك بالإزالة التدريجية للعمارات التي تغطي وراءها تراثا معماريا، وكذلك بعض البيوت المتهالكة؛ لكي يحل محلها جراجات متعددة الطوابق. وزيادة في التأكيد نكرر القول بتحويل ميدان الأزهر بين الغورية والجامع الأزهر وجامع الحسين إلى ساحة كبيرة ترصعها نافورات صغيرة ومظلات ومقاعد وكنبات لراغبي تمتع العين بهذه المنطقة التاريخية الفريدة في المدن الإسلامية. (4-5) النيل طريق طبيعي رائع
يشكل مسار النيل طريقا طبيعيا طويلا من شبرا الخيمة إلى حلوان، فهل يمكن استخدامه كطريق اتصال مكثف بين أجزاء القاهرة الكبرى. كانت هناك تجربة «الأتوبيس النهري» في الماضي القريب، لكنها لم تكلل بالنجاح لأسباب كثيرة؛ كقلة العائمات وبطئها وإدارتها الحكومية، وتخطيط مسار حركتها المحدود.
الآن، وبعد الحركة الكثيفة في القاهرة الكبرى يمكن إعادة التفكير في نقل الأفراد بواسطة مجموعة من الخطوط الملاحية العرضية بين بر القاهرة والجيزة، ومجموعة مهمة من الخطوط الطولية من الشمال إلى الجنوب تربط شبرا الخيمة وإمبابة بنقاط محددة في وسط بر الجيزة والقاهرة، وتمتد جنوبا إلى المعادي وحلوان والتيين. صحيح أن النقل النهري بطيء، ولكن الانتقال بالطرق البرية من شبرا الخيمة إلى حلوان هو أيضا بطيء؛ لكثافة الحركة بطول الكورنيش بدرجة كبيرة، ولعل النقل النهري الموازي للكورنيش سوف يكون عاملا مساعدا في تخفيف حركة الانتقال على الطرق البرية. وربما يمتد النقل النهري إلى مواقف الباصات عند القناطر الخيرية، وعند المنيب وساقية مكي التي تأتي بالحركة اليومية للعاملين من وسط الدلتا، ومراكز الجيزة الريفية إلى القاهرة، وبالتالي تتناقص حركة الباصات إلى قلب القاهرة والجيزة.
وبطبيعة الحال يقتضي هذا إجراءات إدارية حاسمة على رأسها التذكرة الموحدة بين أشكال النقل البرية والنهرية في اتجاه واحد؛ أي على سبيل المثال : تذكرة واحدة من منوف بالباص إلى القناطر، ومن ثم بالنهر إلى شبرا أو بولاق أو قصر النيل أو حلوان. محاسبيا هذا أمر سهل حتى لو كانت شركات الباص غير شركات النقل النهري، وذلك عن طريق عدها أوتوماتيكيا عند بوابات الباص والقارب.
على أي الحالات يجب التفكير جديا في استخدام هذا الطريق الطبيعي بوسيلة أو أخرى مع التفكير في تجنب تلويث مياه النيل فوق ما هو عليه، وذلك باستخدام طاقة نظيفة في محركات السفن النهرية كالكهرباء والخلايا الضوئية، وترغيبا يمكن أن تجهز المراكب بمثل تجهيز باصات النقل العام الضوئية، وترغيبا يمكن أن تجهز المراكب بمثل تجهيز باصات النقل العام المكيفة حتى لا تقبل أكثر من حمولتها، وتتجنب حوادث سقوط الأفراد والأطفال في مياه النهر.
بعض ما جاء في هذا الموضوع نقلا عن مقال للمؤلف باسم «القاهرة: المشكلات العامة للمدينة والعاصمة» مجلة الطليعة التي كانت تصدر عن الأهرام 1972.
ساكن العطارين أو الخيامية غالبا يعمل في مهنة العطارة، أو صنع الخيام المشهورة بزخرفها من الملصقات القماش الملون - الأبليك - سواء كان هو شيخ المهنة أو صاحب ورشة أو عامل بالمهنة، والآن ساكن الزمالك أو جاردن سيتي أو المعادي أو في مصر الجديدة يدل على متوسط دخل الفرد العالي بالقياس إلى ساكن روض الفرج أو الخليفة أو الدرب الأحمر أو السيدة زينب، فهو عادة من ذوي الدخل المتوسط إلى الفقير، ولم يعد اسم القسم كافيا بل تحديد الحي أهم؛ ففي مصر الجديدة روكسي والكوربة وشارع العروبة تمثل منسوبا أعلى من منطقة الجامع وأطراف مصر الجديدة القريبة من الزيتون.
بالرغم من وجود قانون 27 لسنة 1956 بتجديد الأحياء المتهالكة البناء ونزع الملكية وإعادة التخطيط، والقانون 3 لسنة 1982 الذي يتفق في كثير من مفاهيمه الأساسية مع قانون 1956، وخاصة الاحتفاظ بنفس الكثافة السكانية وتوفير مساحات خضراء، فإنهما لم يطبقا إلا في حالات قليلة، وبخاصة في المناطق العشوائية التي تمت إزالتها في بعض أطراف القاهرة دون الأحياء القديمة في قلب القاهرة. راجع كتاب «تجديد الأحياء» لأحمد خالد علام ويحيى عثمان شديد وماجد المهدي، مكتبة الأنجلو المصرية 1997.
في 1960 كانت القاهرة والجيزة تستحوذ على نصف حجم الهجرة الداخلية في مصر، وفي عام 1976 كانت الهجرة إلى القاهرة في حدود ثلاثة أرباع المليون، وإلى الجيزة ثلث مليون، وفي 1986 هبطت الهجرة إلى القاهرة إلى حدود نصف مليون، ولكنها ارتفعت في الجيزة إلى نصف مليون، ولا شك أن الهجرة إلى الجيزة كبيرة بالقياس إلى تجمد حجم الهجرة بالنسبة للقاهرة التي أشبعت تماما، والمهاجرون يحسون الطلب، ويتوجهون إليه باستجابة بطيئة إلى أن تتشبع منطقة الهجرة كما حدت في مدن القناة بين 76 و1986. والسؤال: لماذا «نشوش» على تيار الهجرة ببناء مدن حول القاهرة تبعدهم عن التوجه الصحيح إلى مناطق التنمية في سيناء أو جنوب الوادي؟
في العادة تحتل الطرق وساحات انتظار السيارات ومحطات البنزين والجراجات نحو ثلث مساحة منطقة المدينة، وفي لوس أنجيلوس تزداد هذه المساحات إلى نحو 70٪ وهي بذلك أعلى نسبة في العالم؛ نتيجة لأن المدينة مبنية على مساحات ضخمة متفرقة للتباين التضاريسي المحلي، ولسيادة السيارة كوسيلة نقل وحيدة. والغالب أن نسبة مساحة الطرق وأماكن السيارات في القاهرة هي أقل من 15٪ في قلب القاهرة، وتتحسن في الأحياء الجديدة إلى نحو الثلث، وهذا هو على رأس مشكلة المرور في القاهرة.
مثل نظريات المكان المركزي لفالتر كريستالر
Christaller (1933) عن مركزية الخدمات وتراتبها، وتعديلات أوجست لوش
Lósch
حول اقتصاديات المواقع (1956)، ونظرية كريستالر تطوير وتحديث لما سبقه من نظريات المكان عند يوهان هاينريخ فون تونن
Von Thunen (1783-1850) عن مواقع الاستخدام الزراعي، وألفرد فيبر
Weber (1909) عن مواقع الصناعة.
مقتطفات من مقال «إنقاذ القاهرة» للمؤلف، جريدة الأهرام - صفحة العمران: القاهرة 17/ 12/ 1995.
راجع الفصل
الثاني
من هذا الكتاب حول المدن الجديدة.
الجانب الأكبر من هذا الموضوع نقلا عن بحث للمؤلف نشر في مجلة جمعية المهندسين المصرية المجلد 32، عدد 3 لسنة 1993.
لم يؤخذ ضجيج الطائرات في الحسبان، فالمنطقة قريبة من المطار. كما أن ازدياد حركة النقل بالشاحنات الضخمة له هدير يؤثر على الأسماع، وله من العادم ما يلوث الهواء.
حوادث القطارات هي بالقطع أقل بكثير جدا من حوادث السيارات. فمثلا عدد قتلى حوادث قطارات شركة آمتراك
Amtrak
الأمريكية مائة قتيل منذ 1971 مقابل أكثر من 40 ألف قتيل في حوادث السيارات السنوية في الولايات المتحدة.
شغل موضوع شارع الأزهر بعض كتابات المؤلف منذ نشر موضوع «ماذا نحن فاعلون بميدان الأزهر؟» في صفحة العمران بجريدة الأهرام في 20/ 11/ 1997، ومشكلة المرور في شارع الأزهر، «وهل يحل النفق المشكلة؟» في 14/ 4/ 1998 ونبذات أخرى عن محاذير الأنفاق في موضوعات متعددة بصفحة قضايا وآراء بجريدة الأهرام بعد ذلك.
الفصل السابع
هل يمكن حل إشكاليات القاهرة (1) عمدة المدينة
القاهرة عاصمة أقدم حضارات العالم، ومن مدن العالم الكبرى، وأكبر مدينة في أفريقيا والشرق الأوسط والعالم العربي، تشكو الكثير من المشكلات المتشابكة بين جهات حكومية متعددة، هذا التشابك هو أحد أسباب تراكم المشكلات التي تبحث عن حل، هل الحل في يد المحافظة أم وزارة كذا ... إلخ؟ هذا التشابك بين السلطات يحتاج فعلا إلى خطوة جريئة لفض الاشتباك، ووضع الأمور في نصابها.
أول المسائل والتساؤلات لتصحيح الأمور هو السؤال الوحيد والأساسي: لماذا لا تصبح مسائل المدينة كلها في يد عمدة المدينة، أو ما نسميه محافظ المدينة؟ ولماذا تقتص منه صلاحيات تختص بها وزارات الدولة المختلفة كالتعمير والكهرباء والماء؟ لماذا لا تفوض بلديات الأحياء في القيام بأعمال البنية الأساسية وصيانتها ضمن إطار مخطط وتمويل المحافظة؟ لماذا يقع العبء على المحافظ وحده في اتخاذ القرارات صغيرها أكثر من كبيرها، مثل تسييل المرور بإغلاق تقاطعات الطرق الرئيسية بدلا من جعل الناس يحترمون إشارات شرطي المرور بقوة القانون؛ لكي تصبح عادة يألفها الناس، ويتفاعلوا معها بأسلوب درجنا على تسميته «حضاريا». لا شك أن هناك لجانا ومجالس مشتركة بين المحافظة والوزارات المعنية، لكن الأغلب أن الغلبة هي لصالح فكر وزارة أكثر منه لفكر المحافظة التي يفترض أن تلتقي عندها كل مخططات الوزارات المعنية بالبنية الأساسية كعمل طريق علوي أو نفق سفلي، أو مد كابلات التليفون أو أنابيب الغاز أو توسعة شارع أو تعويض المضارين سواء كانوا في أحياء راسخة أو عشوائية.
في البلاد الأخرى نجد لعمدة المدينة صلاحيات واسعة، فمتى نفض الاشتباك بين المحافظات والوزارات؟ ومتى نقلل من مركزية اتخاذ القرار داخل المحافظة الواحدة؟ ومتى يحاسب مسئول عن اتخاذ قرار جانبه الصواب؟ ومتى ينتخب عمدة المدينة؛ ليكون مسئولا أمام الناخبين إلى جانب مسئوليته تجاه الدولة؟ ذلك لأن أي خطأ في مخطط عمراني يظل على الدوام مصدرا للمعاناة، وفي هذا قيل: إن مخطط شارع الأزهر الأصلي في عهد أحد ملوك مصر كان يسير في خط مستقيم من العتبة إلى الجامع الأزهر، بحيث يرى الواقف في العتبة هذا الجامع العتيد. لكن مصالح معينة جعلته يلتوي ويتقوس، وما زال كذلك حتى الآن! عوقب المسئول آنذاك، لكن العقاب لم يغير الخطأ على مدى قرن أو أكثر، فما زال الشارع يسير ملتويا مقوسا! فالخطأ المعماري فادح والخطأ التخطيطي أشد وأعتى. (2) نقل العاصمة السياسية
1
إن نقل واحد من وظائف مدينة متضخمة قد يعطينا حلا جريئا للتغلب على طاغوت المدينة، وهذا النقل سوف يقضي على بعض عوامل التوسع في المدينة، ويعطي للمخططين الفرصة السانحة للتخطيط والتشريع الملائم للمدينة. فما هي الوظائف الأساسية للمدن الكبيرة كالقاهرة؟
الوظيفة السياسية:
الحكم بما في ذلك الرئاسة والوزارات والتشريع النيابي.
الوظيفة الإدارية:
الحكم المحلي لشئون المدينة، ويشتمل على كثير من النشاطات، مثل إمداد المدينة بالمياه وشبكة الصرف والكهرباء، وكل أشكال البنية التحتية، والأمن وكافة الخدمات التعليمية والصحية والتموينية، وفي حالة العواصم يقع هذا الحكم في ظل الحكم المركزي، ويصبح باهتا لوجود السلطة الأعلى إلى جواره وفوقه مباشرة.
الوظيفة الاقتصادية:
نقصد بها الإنتاج السلعي والاستهلاك وأشكال الوظائف العامة المساندة للوظيفة السياسية والإنتاجية والاستهلاكية معا، وفي المدن يدور الإنتاج أساسا حول الصناعة، وتصنيع السلع بما في ذلك إمداد وتموين المدينة.
الوظيفة المالية:
الأعمال البنكية، والائتمانية، ومؤسسات الاستثمار.
وظائف الخدمات:
وهي كثيرة من الخدمات الصحية والتعليمية والنقل، إلى الخدمات الإعلامية والبحثية والترفيهية.
ولا شك أن هناك الكثير من التداخل بين هذه الوظائف، إنما التفصيل والتقسيم للإيضاح، وإذا أردنا اختيار إحدى الوظائف الأساسية للقاهرة؛ لكي نبعد تأثيرها فعلينا أولا أن نعرف - من الناحية العددية - توزيع العمالة على الأنشطة والوظائف المختلفة .
وقد كان سكان القاهرة سنة 1960هو 3348779 شخصا، وكانت نسبة العاملين فوق 15 سنة إلى مجموع سكان المدينة هي 25 بالمائة، وبعبارة أخرى نقول: إن مقياس الإعالة كان بنسبة واحد إلى أربعة أشخاص من سكان القاهرة، وبناء على ذلك نستطيع أن نحسب متوسط عدد أفراد الأسر للعاملين نظريا في مختلف القطاعات. فيصبح عدد الأشخاص المعتمدين على وظائف الخدمات هو 1211672 من سكان القاهرة، والمعتمدين على الوظيفة الاقتصادية 988548 من السكان، والمعتمدين على الوظيفة التجارية والمالية 578976 والمعتمدين على وظائف الحكومة 546412 شخصا من سكان القاهرة.
وفي 1996 وصل عدد سكان القاهرة إلى 6789479 فردا، وكان عدد العاملين مليونا و822 ألفا، ومتوسط عدد أفراد الأسرة 4 أفراد. وكانت نسبة العاملين 27٪ من سكان القاهرة، منهم 3٪ عاطلون، وبعبارة أخرى: إن التركيب الوظيفي من حيث نسبة العمالة ظلت كما هي في الفترة 60-1996 دون تغيير كبير سوى في جملة أعداد السكان، وفي سنة 1960 كان عدد الموظفين الحكوميين نحو 150 ألفا، زادوا إلى 450 ألفا في 1986 ثم تضخموا في 1996 إلى نحو 595 ألفا، فضلا عن نحو 245 ألفا يعملون في قطاع الأعمال شبه الحكومي، مقابل نحو 950 ألفا في القطاع الخاص والاستثماري، وبعبارة أخرى: إن نحو 45٪ من العاملين هم حكوميون وشبه حكوميين،
2
وهي نسبة كبيرة حقا تمثل عبئا على المدينة، وقد أخذت الحكومات المتتابعة على عاتقها «إصلاحا وظيفيا واقتصاديا» منذ أواسط الثمانينيات شملت بالأساس برنامجا لخصخصة بعض من قطاع الأعمال.
إذا عدنا إلى موضوعنا عن وظائف المدينة سنجد عدد السكان المعتمدين على قطاعات الوظائف الأساسية سنة 1996 على النحو الآتي - أرقام مدورة - باعتبار متوسط عدد أفراد الأسرة في القاهرة أربعة أشخاص حسب نتائج التعداد:
القطاع الحكومي:
595 ألف عامل × 4 أفراد للأسرة = مليونان و380 ألفا من السكان.
قطاع الأعمال العام:
244 ألف عامل × 4 أفراد للأسرة = 976 ألفا من السكان.
القطاع الخاص:
948 ألف عامل × 4 أفراد للأسرة = ثلاثة ملايين وثلاثة أرباع المليون.
ومن البديهي أنه لا يمكن لمدينة ما أن تعيش دون أي من قطاعات الوظائف السابقة، بدرجات متفاوتة، باستثناء الوظيفة السياسية المتمثلة في مجموع موظفي الوزارات. ذلك أن المدينة، أيا كان حجمها، عبارة عن مكان محدد من الأرض تتبادل مع إقليمها المحيط بها عددا لازما من الأنشطة الوظيفية غير الحكومية.
لهذه الأسباب التي هي من صنع الإنسان يتضح أن من بين الحلول المقترحة لمشكلات القاهرة؛ نقل الوظيفة السياسية من القاهرة كوسيلة لاستبعاد أحد عناصر جذب العمران وهجرة العاطلين إلى المدينة المترهلة فعلا، وبطبيعة الحال فليس متوقعا نقل هؤلاء جميعا بأسرهم إلى العاصمة الجديدة، وإلا كنا كما يقول المثل: «كأنك يا أبو زيد ما غزيت.» الموضوع يحتاج إلى تفكيك مركزية الوزارات، وتوزيع كثير من موظفي القطاع الحكومي على المحافظات التي يجب أن تتمتع بقدر أوفر بكثير من السلطات الممنوحة لها الآن. هناك يكون الموظف الحكومي على رأس عمل فعلي بدلا من الأعمال الورقية والكتابية التي تمارسها مركزية الوزارات بالقاهرة.
توصيف الوزارة المركزية
في البداية يجب توصيف الوظائف التي تحتاجها الوزارات المركزية، ومن ثم تحديد أعداد الوظائف دون إضافات سنوية بلا هوية، ولكي يكون ذلك ممكنا يجب أن تختص وظيفة الوزارة المركزية برسم الخطط العامة على ضوء احتياج البلاد، تاركة التنفيذ المرن للحكم المحلي الذي يتبادل بدوره الرأي مباشرة مع الناس ذوي الاهتمامات المختلفة في قواعد العمل والإنتاج، ولهذا فالمتوقع أن يكون عدد العاملين في الأجهزة المركزية قرابة 50 إلى 75 ألف عامل حكومي مركزي، ومن ثم قد يبلغ عدد العاملين بأسرهم نحو ربع مليون شخص، ومع إضافة عمالة الخدمات في مدينة الحكم المركزي المقترحة قد يصبح عدد سكان العاصمة 400-500 ألف شخص، وعلى هذا لا يجب أن يتعدى سكان العاصمة نصف المليون حتى لا تتكون للمدينة قوى نمو ذاتية تفرض نفسها على أجهزة المدينة كما أسلفنا في
الفصل السادس .
في سنة 1971 رجحت أن تنقل الوظيفة السياسية من القاهرة إلى عاصمة جديدة في مكان قريب من موقع مدينة السادات الآن، وكان ذلك اعتمادا على أن عدد الموظفين بالحكومة وأسرهم لا يتجاوز نصف مليون فرد. الشيء المهم هو أننا لم نطلب نقل كل الموظفين، وذلك اعتبارا من منطق ضرورة التغيير الإداري إلى حكومة مركزية في العاصمة الجديدة وحكومات محلية في المحافظات، وبالتالي فإن نقل نصف مليون شخص لم يكن واردا، وإنما مجموعة من الإدارات في الوزارات المركزية المختلفة تشرع وتخطط السياسات العمة للدولة، وتترك التنفيذ المرن للأقاليم. واليوم، وبرغم تضخم عدد الموظفين الحكوميين وأسرهم، إلا أننا ما زلنا نرى أن الوظيفة السياسية تحتاج إلى منبر يطالب بالإصلاح الحكومي إدارة ومكانا، ولا يجب أن يغني ذلك عن مطلب آخر ضروري وجوهري، وهو تحجيم المشروعات الاستثمارية والمدن الجديدة حول القاهرة، وتحويل ذلك إلى أقاليم الدولة بعيدا عن القاهرة المتخمة والمثخنة بالجراح.
مصاعب نقل العاصمة السياسية من القاهرة
ارتباطا بما سبق تفصيله في وظائف القاهرة، وبما سيأتي ذكره من دوافع وأسباب، فإن الاقتراح الذي نطرحه للبحث الجدي هو نقل الوظيفة السياسية من القاهرة إلى مدينة أخرى تنشأ أساسا لتكون مدينة الحكم في مصر، وإلا أصبحت مشكلات أكثر تسلطا وأكثر صعوبة في إمكانية إيجاد حل لها، والآن نرى ماذا يكلفنا نقل العاصمة من مدينة القاهرة: (1)
الصعوبة الناجمة عن الارتباط العاطفي بين القاهرة كمدينة وكعاصمة لمصر لأكثر من 1300 سنة منذ إنشاء الفسطاط. هذا الارتباط العاطفي يتزايد في فترات تاريخية معينة حينما تصيب بلاد الشرق الأوسط العربي ضائقة، فتصبح القاهرة عاصمة للعالم العربي الواسع، كما حدث خلال الحملات الصليبية والتتارية، وما يحدث الآن من مخاطر الإمبريالية الصهيونية المعاصرة على مستوى الشرق الأوسط والعالم معا. كذلك يتزايد الارتباط العاطفي بالقاهرة كعاصمة لإقليم أوسع في مصر في فترات ازدهار حضاري ومادي، كما حدث في عهد الخلافة الفاطمية، وفي العهد المملوكي وفي العصر الحديث ابتداء من القرن التاسع عشر إلى اليوم. وبعبارة أخرى: فإن الارتباط العاطفي بين القاهرة والعاصمة يتعدى في فترات عواطف المصريين إلى عواطف سكان الشرق الأوسط عامة. ولا شك أن المشكلة العاطفية تعطي بعدا عميقا للمسألة، وتجعل للزمن وحده القدرة على التغلب على هذه المشكلة، وربما كان أحد الحلول السريعة للمشكلة العاطفية أن تسمى مدينة الحكم الجديدة: القاهرة الجديدة أو الثانية، وإن كان الأرجح تسميتها «المدينة البيضاء» تيمنا. (2)
لقد تجولت عاصمة مصر كثيرا في تاريخها الطويل، فلم تكن العاصمة هي دائما القاهرة . فقد كانت العاصمة الأولى لمصر الموحدة - حسب معلوماتنا الراهنة عن الوحدة المصرية - هي مدينة منف (ميت رهينة وسقارة الحالية)، ثم انتقلت العاصمة إلى اللاهون (مدخل الفيوم) في عصر الدولة الوسطى، ثم انتقلت إلى طيبة (الأقصر) معظم فترات الدولة الحديثة مع فترات انتقال إلى تانيس (صان الحجر بالشرقية) وبوبستس (الزقازيق) في العصور الفرعونية المتأخرة. ثم أصبحت مدينة الإسكندرية عاصمة مصر طوال العصرين البطلمي والروماني، وأخيرا عادت إلى موقع القاهرة منذ دخول الإسلام: الفسطاط وقاهرة المعز الفاطمية والقاهرة الأيوبية والمملوكية والعثمانية وأسرة محمد علي وعصر الجمهورية إلى وقتنا هذا.
وبعبارة أخرى: تجولت العاصمة المصرية خلال خمسة آلاف سنة بادئة من منطقة القاهرة ، ومنتهية بها، وكان التجوال مرتبطا بأشياء كثيرة، منها: الضعف والقوة المصرية وكثافة العلاقات وتطورها مع الشرق الأوسط تارة والبحر المتوسط تارة أخرى، بحيث كان المكان الذي تنتقل إليه العاصمة مستجيبا لأحداث سياسية عالمية - بمنطلق العالمية آنذاك - أو مستجيبا لقوى التفاعل الداخلي، سواء كان ذلك مرتبطا بالأسر الحاكمة أو المنطلقات الدينية والتفاعلات الاقتصادية والتجارة العالمية، وحين تنتقل العاصمة السياسية الآن سوف يكون ذلك لمبررات لم تكن موجودة من قبل هي التكدس السكاني ومركزية الاقتصاد والعمالة، وتركز القرارات التنفيذية من جانب هيئات عامة وخاصة في الإقليم الجغرافي للقاهرة الكبرى بصورة مبالغ فيها؛ مما يؤدي إلى تيار هجرة مستمرة لا يمكن كسر حلقاته. (3)
ستظل القاهرة - برغم نقل المؤسسات المركزية السياسية - مركزا حضاريا وماليا وثقافيا مصريا وعربيا، مثلها في ذلك مثل نيويورك وفرانكفورت وزيورخ وشنغهاي وبمباي وكراتشي وجوهانسبرج ... إلخ. وستكون هناك فرصة لمخططي القاهرة، وهي إعادة تجديد الأحياء القديمة، وتنظيم الطفيليات العشوائية بتناقص الجذب السكاني، وانخفاض نمو عدد السكان لانتقال بعض العاملين في قطاعات الخدمات الرئيسية الإنتاجية والتجارية والتعليمية والصحية والإدارية إلى مدن مصر الأخرى نتيجة لفاعلية إيجاد حكم محلي حقيقي، وعلى هذا فإن أي مدينة يمكن أن تعيش وتنمو وتزدهر بدون أن يكون لها وظيفة العاصمة السياسية. (4)
الصعوبة المادية الناجمة عن بناء عاصمة جديدة لمصر، من حيث الاستثمارات اللازمة لعمليات البناء وشبكة الطرق والخدمات، وبالرغم من أن استثمارات البناء والخدمات ذات أرباح متوقعة وسريعة نسبيا إلا أن المشكلة الأساسية تكمن في إيجاد الأموال اللازمة للاستثمارات. وهنا تساؤل تطرحه بعض العواصم الجديدة مثل برازليا وإسلام أباد، والنمو السريع لمدينة بيروت بعد حرب أهلية ضروس، وقد نمت هذه المدن بدون شك نتيجة دعوة الاستثمارات إليها من الداخل والخارج. فهل يمكن ذلك بالنسبة للعاصمة الجديدة في مصر؟ الرأي النهائي بطبيعة الحال لرجال المال واتجاهات الاستثمارات العالمية، لكن يجب أن ننوه بعدة أشياء، منها؛ الأول: أن بناء المدينة سيكون بالضرورة أمرا تنفيذيا تدريجيا داخل إطار مخطط مرسوم بعناية، ومطروح لآراء خبراء كثيرين، والثاني: الأخذ في الاعتبار بإمكانات مصر الذاتية، والثالث: دعوة رأسمال استثماري مصري وعربي من الخارج، والرابع: احتمالات القروض الداخلية والمساعدات الخارجية. (5)
قد يكون من الصعب نقل الموظفين من القاهرة إلى العاصمة الجديدة نظرا لارتباطاتهم وأسرهم بالقاهرة، لكن ذلك لا يجب أن يكون عائقا أمام الانتقال الملزم. وفي مقابل ذلك يجب أن تكون هناك تسهيلات حقيقية في الخدمات والسكن والتعليم والترفيه، وفي هذا المجال يمكن أن تضم المدينة الجديدة معاهد عليا من أنواع معينة تحتاجها العاصمة كالإدارة والمعلمين والعلوم السياسية والاقتصادية والقانونية وتكنولوجيا الاتصالات.
إيجابيات نقل العاصمة السياسية
وفي مقابل هذه المصاعب الرئيسية فإن هناك فوائد عديدة، وضرورات ملحة تبرر نقل العاصمة السياسية من القاهرة، بعضها ما يلي: (1)
إن اختيار الوظيفة السياسية لنقلها من القاهرة الحالية هو أقل الوظائف التي تنقل تكلفة. فمثلا لا تقاس تكلفة بناء عاصمة جديدة إلى تكلفة حل المصانع، وإعادة تركيبها في مدينة جديدة، وكما سبق القول: فإن أي مدينة يمكن أن تعيش بدون أن تتواجد فيها الحكومة، ولكنها لا تعيش دون مقوماتها الاقتصادية الرئيسية. (2)
إن نقل الحكم من القاهرة الحالية سوف يؤدي إلى تفريغ عدد معين من السكان. في حدود نصف مليون شخص من الموظفين وأسرهم وأسر العاملين في قطاعات الخدمات والتجارة الداخلية وغير ذلك من العاملين الذين يشكلون مقومات المدينة الجديدة، وبذلك تحدث تهدئة لمشكلات عديدة مزمنة في القاهرة الحالية ، من أهمها: الإسكان، والموصلات، وأزمة مباني الوزارات والهيئات الحكومية الأخرى والهيئات التشريعية، وتخفيف اختناق الطرق بالسيارات. (3)
وفضلا عن ذلك سيعاد توزيع بقية العاملين الحكوميين على المحافظات بما فيها محافظة القاهرة؛ ومعنى ذلك: حدوث حركة تدريجية ينتقل بمقتضاها نحو 300 إلى 350 ألف عامل حكومي إلى محافظات مصر، ويبقى في القاهرة نحو مائة ألف عامل حكومي في مختلف قطاعات العمل الرسمي، وبطبيعة الحال سوف توجد مقاومة من جانب بعض المسئولين، وكثير من الموظفين
3
لكن مقابلها سوف تنتعش الأقاليم بهذا العدد القادم الذي يمكن أن يثبت دعائم الحكومات المحلية، ويجعلها قادرة على إدارة الأمور بشكل مكثف. ستكون هناك فرص كثيرة للعمل في التشييد والبناء والخدمات في عواصم المحافظات، فتستقيم أمور تقلل من البطالة والهجرة. (4)
وفي ذات الوقت يجب أن تشرع قوانين خاصة بالقاهرة للحد من إقامة منشآت العمالة الكثيفة في القاهرة وضواحيها - المصانع بالذات؛ وبذلك تترك الفرصة للقاهرة لكي تحدث بعض التعادل في توزيع كثافة السكان لمدة لا بأس بها قبل أن يغطي النمو الطبيعي الفراغ الناجم عن انتقال العاصمة إلى المدينة الجديدة، وانتقال كثير من الموظفين إلى عواصم وحواضر مصر الأخرى، وفي خلال فترة الهدنة هذه يمكن لحكومة القاهرة المحلية أن تنشط بسرعة، وفي إطار خطة متكاملة؛ لعلاج العيوب الخطيرة في القاهرة، وتجنب حدوثها في المستقبل. «التركيز التجاري والصناعي يجب أن يجد له حلولا في تلك الفترة، كذلك وسائل النقل العامة، واتساع الطرق والتركيز الثقافي لمعاهد التعليم ومراكز الفنون والترفيه.» (5)
انتهاز فرصة نقل العاصمة لعلاج أخطر مشاكلنا السياسية والإدارية: المركزية المطلقة التي تسيطر على مصر. يجب أن تشتمل العاصمة الجديدة على الحكم المركزي أو الاتحادي في صورة وزارات مهمتها الأساسية وضع الخطط والسياسات العامة المختلفة في إطارات مرنة. أما التنفيذ الفعلي؛ فتقوم بتطويعه الإدارة المحلية في كل إقليم أو محافظة وفق ظروفها وإمكاناتها وتشريعاتها دون الرجوع إلى الوزارات المركزية إلا في أضيق الحدود.
تلازم نقل العاصمة بتغيير التقسيم الإداري لمصر
وثمة موضوع يمكن أن نلمح إليه؛ لإلحاحه الشديد، ولأنه مكمل لشمولية الإصلاح الحكومي ؛ ذلك هو اقتراح بإنشاء نوع وسط من المركزية في صورة حكومات محلية على مستوى إقليمي فوق مستوى المحافظات الحالية مع بقاء هذه المحافظات أو إلغائها بعد التجريب. ومبرر ذلك ضرورة التعامل على مساحات أوسع من المحافظات الحالية لتنفيذ عدد من الخطط الخاصة بالإنتاج الزراعي والصناعي والرعاية الاجتماعية والصحية ومشكلات التعليم، ويمكن أن نقترح مناطق الحكم المحلي في التجمعات الإدارية الإقليمية التالية:
إقليم الجنوب:
ويشمل: محافظة أسوان وجنوب الوادي الجديد إلى شرق العوينات، ومن ثم حتى حدود مصر ليبيا عند جبل العوينات، وتمتد شرقا إلى القسم الجنوبي للبحر الأحمر من حلايب إلى مرسى علم.
إقليم مصر العليا أو الصعيد:
ويشمل محافظات : قنا وسوهاج وأسيوط، وشرقا إلى المنطقة الوسطى من البحر الأحمر بين الغردقة والقصير، وغربا إلى واحتي الخارجة والداخلة حتى الحدود الليبية.
إقليم مصر الوسطى:
يشمل محافظات: المنيا - والفيوم - بني سويف - جنوب الجيزة - واحتي البحيرة والفرافرة، ويمتد شرقا حتى سلسلة جبال البحر الأحمر عند الحدود مع إقليم السويس «أو سيناء-القناة».
الإقليم المركزي أو إقليم القاهرة:
ويشمل: القاهرة - وسط وشمال الجيزة - جنوب القليوبية حتى القناطر وقليوب والخانكة.
إقليم السويس نسبة إلى خليج السويس (أو سيناء-القناة):
بورسعيد - الإسماعيلية - السويس - سيناء الشمالية والجنوبية - شمال البحر الأحمر حتى مدخل خليج السويس.
إقليم الشرق (أو الدلتا الشرقية):
الشرقية - القليوبية - الدقهلية - دمياط.
إقليم الدلتا:
ويشمل محافظات المنوفية - الغربية - كفر الشيخ.
إقليم الغرب:
البحيرة - الإسكندرية - الصحراء الغربية.
4
وفي حالة نقل العاصمة السياسية من القاهرة يمكن إنشاء إقليم إداري خاص باسم إقليم العاصمة، غالبا ما سيكون في شرق الصحراء الغربية بين إقليمي الغرب ومصر الوسطى والإقليم المركزي حول القاهرة الكبرى.
وتعطي الخريطة
7-1
صورة تقريبية للوحدات الإدارية المقترحة، والمكونات الاقتصادية الرئيسية لهذه الأقاليم.
تغيير مفهوم الحكم المحلي
شكل 7-1:
التقسيم الإداري المقترح لمصر.
ليس المهم فقط تغيير مساحات وأسماء التقسيم الإداري المصري من محافظات صغيرة عديدة إلى أقاليم أرحب وأكثر قابلية للتنمية بحكم المساحة وأعداد السكان والموارد المتعددة الزراعية والتعدينية والصناعية والخدمية، بل يجب أن يصاحب ذلك تغير في مفهومنا وممارستنا للحكم المحلي. وأول أشكال التغير هو العزوف عن ممارسة السلطة المركزية؛ حق تعيين المحافظين ووكلاء وزارات التعليم والصحة والاقتصاد والزراعة والشرطة ... إلخ، وجعل هذا حقا من حقوق الناخبين في الإقليم. وبالتبعية ينشأ مجلس تنفيذي منتخب لا تصبح صلاحية قراراته نافذة المفعول إلا بعد موافقة مجلس نيابي إقليمي منتخب، له ما للمجالس النيابية من حقوق الموافقة أو الاعتراض على مشروعات المجلس التنفيذي للإقليم، وبعبارة موجزة: تتسلسل مجالس محلية منتخبة في مدن وقرى الإقليم.
لا شك أن مثل هذا الترتيب يحتاج إلى تشريع مركزي يؤمن وجوده، ويساعد السلطة على حسن الأداء الوظيفي في أنحاء الجمهورية قاطبة. ولعل أكبر مكسب هو أن تعتبر السلطة المركزية مثل هذا الشكل من أشكال الحكم المحلي المدرسة الأولى التي تعد الناس إلى ممارسة حقيقية لديمقراطية الحكم المحلي والمركزي على حد سواء. وبطبيعة الحال قد نتخلص من العصبيات القديمة لتجمعات الأسر القوية في محلات مختلفة، وذلك ليس فقط من خلال الانتخابات متعددة المستويات؛ بل أيضا بوجود أحزاب حقيقية معبرة عن مصالح معينة، وبالتالي ذات برامج واضحة ينتمي إليها مؤيدوها بالفعل، وليس بالتعاطف مع شخصيات فردية فقط.
أين نبني العاصمة الجديدة؟
نظرا لضيق المجال الحيوي داخل مصر، وكثرة امتداد الصحاري؛ فإنه من الضروري أن تكون العاصمة الجديدة في مكان يسمح لها بالاستفادة من مياه النيل مع استخدام وسائل توصيل المياه الحديثة. لكنه في الوقت نفسه لا يجب أن تكون العاصمة بالقرب من مدينة ما من المدن المصرية الكبيرة حتى لا يلتحم عمرانهما، وحتى لا نرفع العبء عن القاهرة، ونضعه على مدينة أخرى، ومن ثم فإنني أقترح أحد موضعين للعاصمة الجديدة:
5
المكان الأول:
في مكان ما بين وادي النطرون والقطاع الجنوبي لمديرية التحرير على الطريق الصحراوي السريع بين القاهرة والإسكندرية قرب الكيلو 70. في هذه المنطقة يلتقي طريق الخطاطبة الصحراوي بالطريق الصحراوي السريع في منطقة سهلية كبيرة على ارتفاع 60 مترا فوق سطح البحر.
هذا الموضع متوسط بين المدينتين الرئيسيتين: القاهرة والإسكندرية، كما أنه في مواجهة الدلتا، ويبعد 30 كيلو مترا عن فرع رشيد عند الخطاطبة وطهواي، ويمكن بسهولة مد خطوط أنابيب المياه من فرع رشيد أو فرع مديرية التحرير. ويعزز هذا المكان وجود الطريق الصحراوي السريع مما يقلل من تكلفة إنشاء طريق خاص. كذلك يكون وادي النطرون ظهيرا لطيفا للمعسكرات والرحلات والترفيه. كما يمكن أن يؤدي وجود العاصمة إلى مزيد من الاهتمام بتنمية وادي النطرون اقتصاديا: «زراعة - دواجن - ماشية أو أغنام - تعدين - الأملاح المختلفة وإقامة صناعات عليها».
المكان الثاني:
منطقة المنحدرات الشمالية لجبل القطراني شمالي بحيرة قارون، وبالقرب من مسار الخط الحديدي والطريق الجديد من الواحة البحرية إلى الجيزة. تقع هذه المنطقة على ارتفاعات 250-300 متر فوق سطح البحر، مما يلطف الجو كثيرا. فيها كثير من مجاري الوديان الجافة التي تصلح - مع التعديل - لشبكة صرف المدينة أو الطرق المتعامدة دون تقاطع. المنطقة على بعد نحو 70 كيلومترا من الهرم، ويمكن أن تتصل بطريق الفيوم الصحراوي بوصلة طولها حوالي 30 كيلومترا. المنحدرات الشمالية في المجموعة سهلية حجرية تقع إلى الجنوب منها صخور البازلت في جبل القطراني التي ترتفع إلى 350 مترا فوق سطح البحر، ويمكن أن تصبح هذه المنطقة الجبلية وانحداراتها الجنوبية السريعة إلى بركة قارون - مع التشجير - منطقة مشتى ومعسكرات وترفيه جميلة فريدة في مصر. المشكلة الأساسية جلب المياه بواسطة أنابيب تعتلي ارتفاعات عالية، وهي في حد ذاتها ليست مشكلة من الناحية الفنية. مصدر المياه إما من النيل مباشرة في منطقة البدرشين أو العياط، وإما من ترع بحر يوسف في الفيوم، وإما استخدام مياه صرف الفيوم بعد معالجتها بالطرق المعروفة.
ثالثا:
وفي الوقت الحاضر يرى البعض أنه إذا كان الهدف الاستراتيجي المصري الحالي هو الاهتمام بجنوب الوادي - الذي طال انتظاره؛ ليتحول من الحوش الخلفي لمصر إلى الواجهة - فإن في الإمكان إنشاء العاصمة السياسية قرب أحد مدنه الرئيسية، مثل: غرب البحر اليوسفي على الحافة الصحراوية في محافظة المنيا، أو على الهضبة الشرقية في محافظتي المنيا أو أسيوط.
هذه باختصار مقترحات مبدئية، والأمر يحتاج إلى مزيد من التمحيص من وجهات نظر عدة قبل التفكير الجدي في اختيار المكان الملائم للعاصمة الجديدة، ولكن هناك عدة أمور أرجو أن ألح عليه كثيرا على رأسها:
أولا
يجب أن تكون العاصمة الجديدة بعيدة بعدا كافيا عن القاهرة والإسكندرية؛ لكي لا يتلاحم العمران، وبالرغم من أن المكانين المقترحين ليسا على درجة كافية من البعد اللازم، إلا أن وجود الصحراء لهذه المسافة
6 - مع عدم وجود مصادر للمياه - سوف يمنع تماما التحام المدن خلال نموها، وهذا هو الذي دعاني إلى اختيار منطقة صحراوية للعاصمة، فضلا عما تتمتع به من ظروف صحية جيدة.
وثانيا
مشكلة أخرى من ناحية الفكر المدني هي نظرية التوسط الجغرافي الكلاسيكية والحديثة. لا شك أن القاهرة ذات موقع متوسط شديد الامتياز في مصر، وسيظل كذلك بالنسبة للقاهرة، جاعلا منها عاصمة فعلية في عالم الإنتاج الصناعي والخدمات والتجارة والبنوك والتعليم والفنون. أما العاصمة الجديدة - برغم عدم بعدها كثيرا عن الموقع المتوسط للقاهرة - فلا تحتاج إلى التوسط التقليدي من حيث المكان، وقد حلت الاتصالات الحديثة السلكية والتلفزيونية واللاسلكية والإنترنت في كثير من الأحيان محل التوسط المكاني لمركز الحكم. ونظرة واحدة إلى العالم تجعلنا نعتقد أن توسط العاصمة السياسية ليس أمرا محتوما: لندن - باريس - واشنطن - فيينا - برلين - بكين - دمشق، كنماذج من العواصم القديمة، وأوتوا - كنبرا - بون - إسلام أباد، من العواصم الجديدة.
وثالثا
وأخيرا ألا تكون العاصمة داخل أراض زراعية أو أراضي توسع زراعي مستقبلي لما نعرفه من ضيق الرقعة الزراعية ضيقا لا يحتاج إلى تنويه.
إن الموقف في المدن الكبيرة عامة، وفي القاهرة خاصة لأنها تعنينا، على جانب كبير من الخطورة. فلا يجب أن ننتهي إلى مشكلات أكبر من قدرتنا، كما يجب أن نستفيد من تجربة المدن الأخرى. ففي أمريكا - دولة المدن العملاقة - وفيها ما فيها من إمكانات عظيمة في مجالات المال والتخطيط والتقدم الفني، أصبحت المدن جحيما لا يطاق، ليس فقط من نواحي الإسكان والمواصلات والجريمة، لكن في كل نواحي الحياة الاقتصادية والاجتماعية، والمثال الذي يمكن أن يخيف المدن الأخرى هي حالة المواصلات العامة والخاصة في غالبية المدن الأمريكية الكبرى. فمتوسط سرعة السيارة داخل المدن تتراوح بين 15-18 كيلومترا في الساعة،
7
وهي سرعة لم تزد إطلاقا عن سرعة عربات الخيل التي كانت شائعة منذ مائة سنة! كذلك أفلست عدة شركات كبرى من شركات النقل. وفي المجموع اضطرت بلديات بعض المدن أن تتولى إدارة شركات النقل الرئيسية أو تدعمها ماليا، وبرغم الاستعدادات الفنية الكثيرة في أنفاق نيويورك من حيث الأمان، فإن الحرائق تحدث باستمرار، وتؤدي غالبا إلى وفيات وإصابات وأمراض نفسية، وأصبح إصلاح الطرق السريعة المؤدية إلى المدن الكبرى الأمريكية أمرا يكاد أن يصبح مستحيلا.
وهذه الحقيقة وحدها تنعكس عليها كل مفهومات ومضمونات الحضارة والعصر الصناعي؛ حياة المدينة. فقد ظلت الصناعة منذ نشأتها تمتص السكان الذين كانوا موزعين بشيء من التعادل في أرجاء الدولة، وتركزهم بصفة مستمرة في المدن الحديثة لخدمة مراكز القوى الصناعية قلبا وفكرا، وبهذا أصبحت المدينة الحديثة خلاصة الحياة المعاصرة، وأصبحت لها مشكلاتها الخاصة التي كان يواجهها الإنسان بقدر من الإصلاح الوقتي والتلقائي دون الإحساس بشمول وتفاقم خطر المدينة، ومن ثم فإن الإصلاحات التي تمت في بعض المدن - كالأنفاق والمداخل والطرق السريعة - قد أدت إلى نمط لم يعد في الإمكان إصلاحه مع تفاقم مشكلاته، تماما كما يحدث الآن في نيويورك وغيرها من المدن الأمريكية.
هذه لمحة عما يحدث من مشكلات عويصة في دولة غنية بكل شيء من الفكر والتكنولوجيا إلى العمل، ومن الخطة إلى التنفيذ. ونحن أحوج ما نكون إلى تجنب هذه المشكلات بوقف تضخم القاهرة على النحو السابق شرحه. فالمدينة التي يتراوح زمن اختراقها من أطرافها إلى قلبها في أي من محاورها الرئيسية أكثر من ساعة زمن، ويتراوح متوسط سرعة السيارة بين 20-30كم هي غالبا مدينة مريضة.
لهذا نجد هجرة الأجهزة الحكومية وهيئات أخرى قد بدأت من لاظ أوغلي إلى مدينة نصر والعباسية وكلية الشرطة والجامعة الأمريكية - القاهرة الجديدة - ومن قبل رئاسة الجمهورية إلى مصر الجديدة. واستجابة لمثل هذه الحركة المهاجرة انتقلت عيادات طبية ومستشفيات وشركات أعمال إلى الأطراف الجديدة، وأنشأت الأندية فروعا لها خارج وسط القاهرة كالنادي الأهلي في مدينة نصر ونادي الجولف قرب القطامية، وتبحث نواد أخرى عن متسع أرضي في الشروق أو القاهرة الجديدة أو 6 أكتوبر ... إلخ.
والخلاصة أن العاصمة المصرية انتقلت كثيرا دون أن تحدث للحياة المصرية أضرار ونكسات تصيب مصر في مقتل، ومن ثم فإن نقل العاصمة السياسية من القاهرة إلى مكان آخر لن يكون له دور سلبي على المستوى القومي، ولكنه سوف يساعد القاهرة الحالية على تقليل النمو السكاني والسكني المتسارع، ويعطي فرصة أن تعالج القاهرة ما أصابها من ترهل جعل إدارتها صعبة المراس من ناحية، وتنمية المناطق حول العاصمة الجديدة من ناحية أخرى.
إن الفكر السائد الآن هو الخروج من الوادي التقليدي إلى مناطق أرحب، وهو فكر يحتاج أيضا إلى فكر مواز لمستقبل العاصمة. فهل نقل العاصمة هو الحل أم أن هناك حلولا أخرى أقل تكلفة، وفي الوقت نفسه تساعد على تخفيف آلام هذه المدينة العظيمة؟ (3) رؤية لحل مشكلات التكدس في القاهرة ومركزيتها
8
الفرضية الواقعة
القاهرة الكبرى مدينة مكدسة بالسكان ومركزية الحكم وطبقات التاريخ على مدى ألف عام، وهي فوق هذا مكدسة بكل أشكال الخدمات، وكل أشكال الترفيه، وكل أشكال المؤسسات التعليمية والتدريبية والإعلامية والسياحية، وكل أشكال الهيئات الدولية الممثلة في مصر. وفيها يتركز الأحسن النسبي من البنية الأساسية من طرق وخطوط المياه والصرف الصحي والكهرباء والغاز الطبيعي والاتصالات المحلية والدولية والعالمية. كل ذلك في مساحة من الأرض لا تزيد كثيرا عن نحو ألف كيلو متر مربع؛ أي ما لا يتجاوز جزءا واحدا في الألف من مساحة مصر. في هذا الحيز المحدود يعيش نحو 10-12 مليون شخص يزيدون بصفة مستمرة بالهجرة الدائمة من ريف مصر والهجرة اليومية لأصحاب العمل والعاملين من وإلى القاهرة؛ لهذا كله فحركة الانتقال فيها فوق أحمال الطرق التي لم تكن مبنية لهذا الكم المتزايد من السيارات العامة والخاصة، وبخاصة في مناطق مركزية، مثل أحياء الوزارات: «لاظ أوغلي - قصر العيني، والعباسية - مدينة نصر»، والجامعات: «عين شمس، والقاهرة، والأزهر، والأمريكية»، وتجارة الجملة: «منطقة القاهرة الفاطمية»، وأسواق القاهرة الكبرى في وسط البلد وفي الأحياء الشرقية: «مصر الجديدة، ومدينة نصر»، والأحياء الغربية: «الدقي، والمهندسين، والجيزة»، والجنوبية «المعادي وحلوان»، وهناك أيضا مناطق الإنتاج الحرفي ونصف الآلي في الجمالية وباب الشعرية وبولاق والسبتية والخليفة والبساتين.
ثلاثة حلول مقترحة
هناك ثلاثة حلول أساسية هي: (1)
نقل العاصمة السياسية إلى مكان ما خارج القاهرة؛ لتخفيف الضغط، وعوامل الجذب، وقد سبقت دراسته بالتفصيل. وموجز الاعتراض: أنه حل لا يرضي الجميع من حيث العلاقة العاطفية بين القاهرة ومصر، والقاهرة والعالم العربي، والقاهرة وبقية العالم، والقاهرة والتاريخ. وهو لا يرضي الجهات المالية؛ لما يقتضيه من أموال هائلة، برغم الأموال الضخمة التي أنفقت على إنشاء المدن الجديدة، لكنها لم تؤد إلى تخفيف الضغط على القاهرة. وأخيرا هو لا يرضي جميع العاملين في شتى أشكال الوزارات والإدارات والهيئات والمؤسسات العامة والخاصة؛ لما في القاهرة من أشكال حياة جيدة ونوعية متميزة وخدمات وتعليم وعلاج وترفيه ... إلخ. (2)
تقسيم القاهرة الكبرى إلى عدة محافظات بدلا من محافظتين، بحيث تقتصر محافظة القاهرة على الأقسام الوسطى من باب الحديد إلى السيدة زينب ومن بولاق إلى الأزهر. وتتكون محافظة القاهرة الشمالية من أقسام تشمل: شبرا الخيمة وجميع أقسام وأحياء شبرا والشرابية والزاوية الحمراء، ويمكن تسميتها: محافظة شبرا. وتشمل محافظة القاهرة الجنوبية: المنطقة من مصر القديمة والخليفة إلى حلوان والتبين، ويمكن تسميتها: محافظة الفسطاط-حلوان أو الفسطاط فقط. وتشمل محافظة شمال شرق القاهرة الأقسام من العباسية إلى مدينة السلام المتمحورة حول طريق جسر السويس، ويمكن تسميتها محافظة «أوون»؛ وهو الاسم التاريخي لمدينة العلم في عين شمس في العصور الفرعونية، مثلها في ذلك مثل الأسماء التاريخية السابقة: القاهرة والفسطاط وشبرا. أما محافظة شرق القاهرة فتشمل: مصر الجديدة ومدينة نصر ومنشأة ناصر والامتداد الشرقي إلى ما يسمى الآن: «القاهرة الجديدة» التي تصلح اسما لهذه المحافظة. وبالمثل تتكون محافظة الجيزة من محافظتين؛ هما: الجيزة التي تشمل المنطقة من النيل إلى الهرم، ومن المنيب إلى الأورمان، وتشمل محافظة إمبابة الأقسام من بولاق الدكرور إلى الوراق، ومن النيل غربا إلى طريق الإسكندرية الصحراوي.
وهذا الحل غرضه الأساسي ليس زيادة الوظائف بتعدد المحافظات، وإنما تمكين أجهزة كل من المحافظات المقترحة من حسن الإدارة والتفاعل مع واقع محدود المساحة ومتناسب السكان. فمحافظة القاهرة سوف تضم ثلاثة أرباع المليون شخص، وشبرا مليون وثلاثة أرباع المليون، والفسطاط مليون وثمانمائة ألف شخص، وأوون تصبح أكبر المحافظات عددا بنحو مليونين وثلث المليون شخص، وتصبح محافظة القاهرة الجديدة أكبر المحافظات مساحة تحسبا للامتدادات المدنية المستمرة حول الطريق الدائري في قطاعه الشرقي، لكنها حاليا تضم 875 ألف شخص، وتضم محافظة الجيزة نحو المليون وإمبابة مليونا وربع المليون.
وليس من المعقول أن تتعامل محافظة القاهرة الحالية مع ثمانية ملايين شخص، وأن تتعامل محافظة الجيزة الحالية مع نحو مليونين ونصف المليون في مدينة الجيزة وحدها فضلا عن سكان القرى والمدن في بقية أجزاء المحافظة. والمقصود بالتعامل هو حمل أعباء ومشكلات الحركة والانتقال، وتحسين الطرق وإمدادات الماء والكهرباء، وتحسين الخدمات التعليمية والرعاية الصحية، وتنمية المناطق السكنية المتقادمة، وإحلالها بخطوط تنظيم جديدة، واشتراطات بناء مناسبة، ومعالجة المواقف المتأزمة في الأحياء العشوائية، وما تثيره من مشكلات اجتماعية واقتصادية وصحية وأمنية. (3)
الإبقاء على الأوضاع الحالية مع بعض التغيير في جاذبية التكدس والحركة والهجرة، وذلك باتباع وسيلة التخفيف الجزئي من الوزارات والإدارات، وتوزيعها على بعض المدن المصرية من أجل تنمية تلك المدن أيضا، وهذا الحل يعتمد على تفكيك المركزية المكانية للقاهرة، وليس تخفيف المركزية المصرية المتشددة - وإن كنا نأمل في ذلك أيضا - والكثير من دول العالم المتقدم تنتهج هذا النهج؛ لتخفيف الضغط السكاني، وضغوط الحركة عن العواصم بشكل نسبي. ففي ألمانيا على سبيل المثال: تتوزع الوزارات بين برلين: «الرئاسة، المستشارية، المجلسان النيابي والاتحادي، الخارجية، الداخلية، النقل ... إلخ»، وفي بون: «وزارة الدفاع والصحة والبيئة والتعليم والبحوث إلخ»، البنك المركزي في فرانكفورت، والمحكمة الدستورية العليا، والمحكمة الاتحادية في كارلسروه، ومحكمة العمل في إرفورت، وهيئة المحاسبات في ميونخ ... إلخ.
ويقتضي هذا المبدأ التنظيمي، إذا أقر، توزيع الإدارات على سبيل المثال على النحو الآتي:
القاهرة:
تختص بمقار رئاسة الجمهورية، والمجالس التشريعية، ورئاسة الحكومة، وعدد من الوزارات كالداخلية والخارجية والاتصالات والتعليم والطيران والمحكمة الدستورية العليا والبنك المركزي.
6 أكتوبر:
وزارة البحث العلمي، وزارة الإعلام.
الإسكندرية-برج العرب:
الجمارك والنقل البحري والتجارة الخارجية والاقتصاد.
طنطا:
النقل الحديدي والشئون الاجتماعية.
السادات:
وزارة الزراعة والاستصلاح الزراعي.
المنصورة:
وزارة العمل والجهاز المركزي للإحصاء.
المحلة:
وزارة الصناعة.
السويس:
وزارة البترول والمناجم.
أسيوط الجديدة:
محكمة الجنايات العليا، وزارة العدل، مصلحة الشهر العقاري.
بني سويف الجديدة:
الجهاز المركزي للمحاسبات، وزارة المالية، الضرائب.
الواسطة غرب - على الطريق الصحراوي للصعيد:
وزارة الدفاع.
الأقصر:
وزارة السياحة.
الغردقة:
وزارة شئون البيئة.
أسوان:
وزارة الطاقة الكهربائية، وزارة الري.
إن تركز الوزارات والإدارات في القاهرة كانت ضرورة تمليها مقتضيات القرب المكاني نتيجة شكل المواصلات والانتقال الماضية، ومع ضيق المكان المركزي للحكومة في لاظ أوغلي حدثت هجرة لبعض الوزارات المستجدة أو الوزارات التي تقسمت إلى مناطق بعيدة عن القلب الوزاري القديم في اتجاه العباسية ومدينة نصر وفي اتجاه إمبابة والجيزة، وهذه الهجرة في حد ذاتها مؤشر ودليل على إمكانية بعثرة الوزارات والإدارات على مسافات متباعدة، ومع ذلك لا تخل بالأداء الوظيفي المطلوب. واليوم، ونحن نملك وسائل اتصال لم تكن متوافرة من قبل، وعلى رأسها اتصالات شبكات الحاسب الآلي والبريد الإلكتروني والفاكس، أصبح بالإمكان عمل الوزارات عن بعد مثل الاستشعار عن بعد. فلا خوف إذن على المركزية وحسن الأداء.
على أن ذلك يقتضي تقنية جديدة في استخراج المعاملات بدلا من ضرورة التوقيعات وخاتم النسر وحضور المستلم بنفسه، وسياحته بين المكاتب والطوابق والكثير من الدورة الورقية والبيروقراطية. لحل ذلك لا تجهز كل أجهزة الكمبيوتر بإصدار المعاملات، وإنما جهاز واحد في الإدارة هو الذي يصدرها، وعلى ورق به علامة مائية لشعار النسر، وبالتالي يمكن التحكم بنسبة عالية من الدقة في صحة هذه الإصدارات بدلا من تلال القضايا في المحاكم المختلفة.
ويقتضي هذا أيضا أن تكون للوزارات والإدارات في القاهرة والمدن الأخرى مكاتب اتصال متعددة على نسق مكاتب وزارة الخارجية وإدارات المرور وغيرهما المنتشرة في أنحاء القاهرة وعواصم المحافظات. يقدم الطالب طلبه، ويمكن أن يحصل على مبتغاه في مدة يوم أو أكثر حسب نوع الطلب، وما يقتضيه من إجراءات بحثية.
وأخيرا يقتضي هذا برمجة الملفات، وتدريب الموظفين على هذا النوع من العمل الإلكتروني، والتدريب ليس عملية شاقة، ففي خلال نصف سنة أمكن للبنوك التعامل مع السحب والإيداع في أقل من دقيقة زمن. أما برمجة الملفات فهي العمل الأصعب، ولكن لا شك أن هناك برامج جاهزة كل منها يستوعب احتياج وزارة أو إدارة، مع تطويع للبرنامج حسب مواصفات العمل في وزارة أو هيئة أو إدارة.
وكل هذه أشياء ليست موجودة؛ بل هي قائمة تستخدمها وزارات عدة مثل الداخلية وأجهزتها كالجوازات والرقابة أو الري أو المحافظات فضلا عن البنوك، وفي كل وزارة ومعهد وجامعة وحدة كمبيوتر على الأقل، وفي الكثير منها ما يسمى وحدة نظم المعلومات الجغرافية سواء بالاسم أو بالفعل.
ما أحوجنا إلى النظر مليا في هذه المقترحات التي هي عبارة عن مؤشرات إطار عمل للحكومة المصرية يمكن صقله وتعديله بواسطة المختصين من أجل: (1)
تواكب مقتضيات الأمور، وتوازن بين هيئات تستخدم تكنولوجيا الاتصال وهيئات أخرى تسير على نمط «كاتب الدوبيا» الذي كان سائدا في القرن الماضي، وما زالت له ذيول في هيئات ووزارات مختلفة. (2)
إحداث الخلخلة المطلوبة في التكدس الإداري والحكومي في القاهرة من ناحية، والمساعدة على تنمية المدن المصرية وخاصة الجديدة، بدلا من وقوعها دائما في ظل الحكومة القاهرة في القاهرة.
الكثير مما يأتي تحت هذا العنوان سبق للمؤلف نشره في صيف 1971 بجريدة الأهرام، وفي العدد 7 السنة الثامن، يوليو 1972، من مجلة الطليعة التي كانت دار الأهرام تنشرها، وفي ندوات عدة منها ندوة في جمعية المهندسين المصرية عام 1998.
دلالة هذه الأرقام خطيرة؛ ففي جيل كامل (1960-1996) تضاعف عدد موظفي الحكومة بنسبة نحو 350٪ بينما كانت الزيادة 240٪ في قطاعات التجارة والمال والصناعة، والمعنى: أن الوظائف الحكومية تنمو بمعدلات أعلى بكثير من الأنشطة الأخرى، وهي علامة غير صحية.
لوحظ في الثمانينيات في الولايات المتحدة هجرة معاكسة من المدن الكبيرة في الشمال إلى مدن أصغر في الوسط والغرب حتى لو كانت الرواتب والأجور أقل؛ وذلك هربا من كثافة المدينة الكبيرة وازدحامها، وارتفاع تكلفة المعيشة، وإيجارات المساكن، وتكلفة الانتقال داخلها، وكثرة الجريمة بشتى أشكالها من الجريمة المعروفة إلى الجريمة الجنسية، فضلا عن أن البيئة في المدن الصغيرة أفضل في جوانب كثيرة على رأسها الجوانب الصحية، ومن ثم يطلق على نطاق هذه المدن: مدن الشمس؛ إشارة إلى التمتع بأجواء صحية. ولا شك في أن الموظف القاهري سيجد الحياة أرخص وأكثر صحية وأمنا حين ينتقل من القاهرة إلى مدن مصرية أخرى.
محمد رياض 1972 و1985 و1998.
تعود هذه المقترحات إلى ما كتبته عامي 1971 و1972؛ أي قبل إنشاء مدينة السادات الحالية في منطقة المكان الأول المقترح قرب النطرون.
في السبعينيات - حين كتبت هذا الاقتراح - كانت هذه المنطقة فعلا صحراوية، وكان مشروع مديرية التحرير يسير متعثرا قرب فرع رشيد شمالي الخطاطبة، والآن تحولت المنطقة إلى مزارع فردية وتعاونية كثيرة بطول الطريق الصحراوي، فانتقلت بذلك الصيغة الصحراوية لأبعاد أقل من بضعة كيلومترات حول محور الطريق.
مثل هذا البطء الشديد في الحركة يلاحظه ويمارسه كل من زار نيويورك من المصريين، وبخاصة الانتقال داخل مانهاتن وبروكلين.
نشرت معظم المادة التالية تحت هذا العنوان في جريدة الأهرام - صفحة قضايا وآراء بتاريخ 16/ 6/ 2000.
الخاتمة
إنجازات طيبة ... ولكن!
المتجول في القاهرة يرى إنجازات طيبة هنا وهناك؛ من حيث رصف شوارع وتوسيعها، وتحسين شبكات البنية الأساسية من إمدادات المياه والكهرباء والغاز والتليفونات والبريد السريع، وظهور الكثير من شركات اتصالات الإنترنت التي أصبحت من اللوازم كما كان الراديو من قرن مضى. كذلك لا ينكر المتجول مجهودات التشجير في بعض الطرق، والاهتمام بإنشاء الحدائق العامة وحدائق الطفل والأندية الاجتماعية، وغير ذلك من مقومات تحسين الوجه الحضاري بعد أن صار رماديا كالح اللون؛ لكثرة إزالة الأشجار، وتعملق الأبنية الإسمنتية الزجاجية، وسيطرتها على أفق القاهرة وسمائها لنصف قرن أو يزيد.
والأمل كبير أن تكون تلك المحاولات التحسينية أولا: ضمن مخطط شامل ينفذ على مهل، وثانيا: أن يتعدى التحسين الواجهات الرئيسية لشوارع القاهرة في بعض أحيائها إلى داخل الأحياء بحيث يتغلغل داخلها باعثا الأمل في حياة أفضل، وثالثا: أن يشمل التحسين الأحياء الشعبية وشوارعها المزدحمة بالناس والبيوت المتداعية المكتظة، وبعبارة أخرى: إعادة تجديد الحياة في هذه الأحياء الفقيرة، ورفع منسوب الأداء الخدمي العام فيها.
والأمل أكبر في أن يشارك الناس في مخططات التحسين في كل حي على حدة. فالمشاركة الشعبية مطلب ضروري من حيث إنها إعلان للناس بما يراه الخبراء والمخططون من إجراءات التحسين كخطوة أولى بدلا من مفاجأة الناس بأمر واقع حتى لو كان تحسينا. والخطوة التالية: أن الإعلان عن أوجه التحسين يصبح منبرا للناس يتداولون الرأي فيه، ويقترحون تعديلات بالشكل الذي يحسونه أكثر تلبية لاحتياجاتهم الفعلية بدلا من فرض نمط تخطيطي يقومون هم بتعديله فيما بعد بصورة تشوه المنظر العام، وقد حدث ذلك كثيرا في الإنشاءات التي تسمى المساكن الاقتصادية للأسر أو الشباب.
تنمية الأحياء الشعبية هي إحدى أهم وظائف الدولة في المدن وبخاصة القاهرة، بينما الأحياء الغنية وفوق المتوسطة تستطيع أن تنمي نفسها بنفسها؛ ذلك أن الخدمات الخاصة تأتي إليها كالعيادات الصحية والمستشفيات والمدارس الخاصة التي تخاطب هؤلاء القادرين. أما في الأحياء الشعبية، فالشغل الشاغل للناس إلى جانب المسكن هو الصحة والتعليم. صحيح أن هناك مستشفيات ومراكز علاجية ومدارس حكومية مجانية، ولكنها ذات تكلفة أعلى من قدراتهم؛ لما يتكلفونه من مصاريف للحصول على الدواء المناسب، ودروس خصوصية من أجل النجاح المرغوب. هاتان هما خدمتان أساسيتان، فهل يدخلان ضمن مخطط تنمية الأحياء الشعبية بالكثرة التي يتناسب فيها عدد السكان مع عدد أسرة المستشفيات وحجرات الدرس؟
تسعى وزارة البيئة سعيا حثيثا لتحسين معطيات المحيط المعيشي للسكان، ولكن «يدا واحدة لا تصفق.» فهل التعاون الوزاري بينها ووزارات الصناعة والصحة والتعليم والإسكان والتموين فعال، أم أن كل هؤلاء عوالم بذاتها غارقة في إشكالياتها الذاتية؟
على سبيل المثال: هل تلح وزارة الصناعة على استخدام تكنولوجيات حديثة في صناعة الإسمنت تقل معها أمراض الرئة التي يعاني منها سكان المناطق الجنوبية من القاهرة الواقعين تحت نفوذ الغبار والأتربة التي ترسلها مصانع إسمنت طرة عالية في الجو؟ وماذا عن عمال الحديد والصلب وفحم الكوك في التبين من نواحي الصحة وأشكال الحياة؟
وكم تتكلف فاتورة العلاج في التأمين الصحي نتيجة أمراض المهنة أو أمراض ناجمة عن فشل الصرف الصحي في مناطق وعزب الفقراء المدقعين في التبين وحلوان وشبرا الخيمة؟
وكم ينفق الناس من وقود سياراتهم للانتقال في شوارع القاهرة المختنقة؟ وكم من العادم الذي تنفثه السيارات في جو القاهرة فتساعد على مزيد من الغلاف الضبابي المترب والمؤكسد الذي يحيط بالقاهرة مثل قبة من الغمام الضار تزداد بوجود ضغط عال من الهواء البارد، فتحتبس الحرارة، وتسبب في السحابة السوداء المتكررة الحدوث خريف كل سنة؟ ليس حرق قش الأرز هو الجاني وحده؛ بل عشرات آلاف السيارات واللواري والأتوبيسات وأجهزة التكييف في المنازل والأبنية العامة والشركات، عوامل أساسية في مضاعفة آثار هذه الظاهرة المناخية بالأساس.
لو كانت وسائل النقل الجماعية ذات الطاقة المحركة النظيفة كالترام والمترو أضعاف ما هي عليه الآن؛ لأراح الناس، ووفر الكثير من النقود، ووفر علينا تكرار ظاهرة السحابة السوداء. لقد كانت هناك خطوط ترام فيما يشبه الشبكة الجيدة في القاهرة الوسطى ومصر الجديدة وحلوان وشبرا الخيمة. لكننا أزلنا 90٪ من هذه الشبكة بحجة أنها وسائل نقل بطيئة، فقد كان هذا صراعا بين السيارة والترام. وبعد أن أفسحنا المجال أمام السيارة في الشوارع التي أزيلت منها الخطوط الحديدية، وحلت الأتوبيسات الضخمة محلها، فماذا كانت النتيجة؟ أصبح الانتقال بالباص كبيره وصغيره والسيارات الخاصة وسيارات النقل الصغيرة تتزاحم في الطرق بحيث عدنا إلى سرعة انتقال بطيئة كالترام أو أقل. عدنا مرة أخرى إلى النقل الحديدي في صورة مترو الأنفاق، الذي هو ليس بأنفاق إلا في أقل من نصف مساراته، والباقي سطحي استخدمنا فيه الطرق الحديدية السابقة: خط الضواحي من كوبري الليمون في باب الحديد إلى المرج، وخط حلوان السطحي من السيدة زينب إلى حلوان، وهناك أفكار لمزيد من استخدام خطوط حديدية أخرى كخط السويس إلى العاشر من رمضان ثم السويس، أو استخدام الخط الحديدي العسكري من العباسية إلى القلعة والبساتين والمعادي.
والآن - عود على بدء - نقترح إعادة استخدام ترام سطحي حديث يحل إشكالية الانتقال داخل المدينة الأصلية من منشأة ناصر والدراسة إلى العتبة وعابدين والتحرير من ناحية، وإلى الأزبكية وبولاق من ناحية ثانية، وإلى العباسية من ناحية ثالثة، وإلى السيدة والقلعة ومصر القديمة من ناحية رابعة. على أن تنشأ جراجات عديدة عند نهايات شبكة الترام في الدراسة وبولاق ومصر القديمة والعباسية يترك فيها الناس سياراتهم لينتقلوا بالترام الحديث إلى وسط المدينة، وهذا تماما ما يفعله سكان مصر الجديدة مثلا حين يتركون سياراتهم في أماكن غير منظمة بالدرجة المناسبة عند سراي القبة لركوب المترو إلى وسط البلد.
الخلاصة
لكي تستعيد القاهرة البهاء الذي كانت عليه، ولكي تصبح مدينة سكناها أقل مشقة في الانتقال، وأقل تلوثا، وأقل ضجيجا تحتاج إلى:
تناغم حقيقي بين السلطات المحلية للأحياء ممثلة في مجالس منتخبة، وبين أجهزة الوزارات المعنية؛ لتنفيذ مشروعات التحسين.
الكف عن إنشاء مدن جديدة تتحلق حول القاهرة، وتزيد من إشكالياتها في الحركة وفي أعداد السكان.
أن تنتقص من أنشطتها الاقتصادية بالعيش عالة عليها ...
ملحق الصور
جزء من سور بدر الجمالي 1087م - فاصل بين القاهرة الفاطمية وحي الحسينية.
بوابة الفتوح في 1878م.
باب زويلة-البوابة الجنوبية للقاهرة الفاطمية، يسميها القاهريون: بوابة المتولي. مبنى السلطان المزيد. مئذنتا جامعه فوق البوابة؛ فأصبحت نمطا معماريا فريدا.
أحد أبراج حصني بابليون (130م) قصر الشمع.
فن الأرابيسك في الكنيسة المعلقة - قصر الشمع - مصر القديمة.
حارة ضيقة داخل قصر الشمع.
صحن جامع ابن طولون ومئذنته الفريدة الوحيدة في مصر.
مئذنة الناصر بن قلاوون بشارع المعز. روعة النحت على الحجر.
صحن الجامع الأزهر وحلقات الدراسة حول الشيوخ.
جامعي السلطان حسن (1360م) والرفاعي (1860م) - قرب القلعة.
إيوان القبلة ودكة المبلغ في جامع السلطان حسن. الضخامة وروعة المعمار ودقة الصانع.
سكة البادستان-خان الخليلي.
وكالة ذي الفقار التجارية - رسم تخطيطي للرسام
Coste
1673.
رسم لأحد أسواق القاهرة (1880) على خلفية جمع السلطان الغوري، لاحظ أيضا السقف يظلل الشارع.
القاهرة والزحام: شارع الغورية، واستمرار قوة المركز التجاري للقاهرة القديمة.
مقاهي ومطاعم القاهرة في القرن التاسع عشر.
تناغم الضوء في بيت السحيمي - المشربية والإبداع في جو حار وضوء مبهر.
واجهة بيمارستان السلطان المؤيد.
حمام السلطان المؤيد (رسم
).
القلعة وجامع محمد علي مقر الحكم لأكثر من ثمانية قرون.
متحف قصر عابدين: أكبر قصور مصر ومقر الحكم حتى منتصف القرن 20.
شارع كامل «الجمهورية حاليا»: حديقة الأزبكية، وفندق كونتننتال (أوائل القرن 20).
كوبري قصر النيل - أول كباري القاهرة - قبل 1930.
شارع في القاهرة في أواخر القرن 19.
قصر إسماعيل بالزمالك - الآن جزء من فندق.
تأثر المعمار بالطرز الأوروبية في قاهرة إسماعيل.
العمارة الشرقية - شارع اللقاني - روكسي، مصر الجديدة.
مدينة نصر - الكتل الخرسانية وتوحيد المعمار.
دار الأوبرا القديمة وميدان إبراهيم باشا قبل احتراقها.
دار الأوبرا الجديدة - الجزيرة.
شارع الهرم في بداياته (نهاية القرن 19).
نيل القاهرة بين البنايات الحديثة والترويح في الحدائق.
التخطيط النجمي: قصر سكاكيني يتوسط مركز النجمة - الظاهر.
حديقة الأندلس - تحفة حدائق الترويح بالجزيرة.
المتحف المصري - ميدان التحرير.
المتحف الإسلامي.
المتحف القبطي «متحفان يحكيان حضارة مصر الروحية.»
تنسيق شوارع وسط البلد - شارع البورصة.
ترام سوارس عند جامع السلطان حسن في مطلع القرن 20، وسيلة نقل عامة تجرها البغال والحمير.
وكالة الغوري عندما كانت مدرسة للحرف اليدوية في الستينيات.
مقياس النيل وقصر المانسترلي في جنوب جزيرة الروضة.
سبيل كتاب قايتباي (1479م) أول بناء في القاهرة يجمع بين السبيل والكتاب.
المجالس التشريعية: الشعب والشورى، وفي الخلف مبنى وزارة الأشغال.
المصادر والمراجع
مصادر عربية ومترجمة
ما أكثر الكتب والمقالات والبحوث بكل اللغات عن القاهرة سواء عن تاريخها أو حاضرها ومشكلاتها! وقد اقتصرت هنا على ما رجعت إليه، وما استندت إليه من نصوص أفادتني في تفسير ظاهرة أو عارضتني في رأي أو فكر حر لإعطاء القارئ الكريم صورة موضوعية عن قاهرتنا العزيزة علينا جميعا.
أحمد خالد علام، يحيى عثمان شديد، ماجد المهدي: «تجديد الأحياء»، نشر مكتبة الأنجلو القاهرة 1997.
إرمان ورانكه: «مصر والحياة المصرية في العصور القديمة» ترجمة عبد المنعم أبو بكر ومحرم كمال، نشر إدارة الثقافة بوزارة المعارف العمومية، القاهرة (بدون تاريخ - غالبا أوائل الخمسينيات).
ابن بطوطة: «أبو عبد الله محمد بن عبد الله اللواتي الطنجي»: «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار» المكتبة التجارية الكبرى، القاهرة 1958.
ابن حوقل، أبو القاسم: «صورة الأرض» مكتبة الحياة، بيروت 1979.
ابن الوزان، الحسن بن محمد (ليون الأفريقي): «وصف أفريقيا» ترجمة عن الفرنسية - عبد الرحمن حميدة - منشورات جامعة الإمام محمد، الرياض 1979.
الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء:
انظر المصادر
الإحصائية.
المجالس القومية المتخصصة: «ملامح ثروة مصر الأثرية والسياحة» القاهرة 1993.
المقريزي، تقي الدين أحمد بن علي: «المواعظ والاعتبار في ذكر الخطط والآثار» مكتبة إحياء علوم الدين - الشياح، لبنان (د/ت).
سرجنت ر. ف: «المدينة الإسلامية» - مقالات مختارة من حلقة التدارس بمركز الشرق الأوسط، كلية الدراسات الشرقية، جامعة كمبردج - ترجمة أحمد محمد تعلب، نشر اليونسكو، السيكومور-فجر 1983.
شحاتة عيسى إبراهيم: «القاهرة» - سلسلة الألف كتاب رقم 184، دار الهلال، القاهرة (بدون تاريخ - غالبا أواخر الخمسينيات).
عباس الطرابيلي: «شوارع لها تاريخ» الدار المصرية اللبنانية، القاهرة 1997.
عبد العال الشامي: «مدن مصر وقراها عند ياقوت الحموي» الجمعية الجغرافية الكويتية بجامعة الكويت 1981.
عبد اللطيف البغدادي: «الإفادة والاعتبار في الأمور المشاهدة والحوادث المعاينة بأرض مصر» (المعلومات التي أوردتها في هذا الكتاب عن البغدادي هي نقلا عن كراتشكوفسكي جزء أول، وعن نقولا زيادة).
عبد الله يوسف الغنيم: «جغرافية مصر من كتاب الممالك والمسالك عن أبي عبيد البكري» مكتبة دار العروبة للنشر، الكويت 1980.
عزة سليمان وشنودة سمعان: «التوسع الحضري ومشكلة الإسكان في مصر» - في منشورات «ندوة التوسع الحضري» - معهد التخطيط القومي، القاهرة 1988.
علاء سليمان الحكيم: «ظاهرة التحضر ونمو المدن» في منشورات ندوة التوسع الحضري - معهد التخطيط القومي، القاهرة 1988.
علماء الحملة الفرنسية على مصر: «وصف مصر» ترجمة زهير الشايب - مكتبة الخانجي بالقاهرة - الأجزاء: 1-8 سنوات 1980-1983، دار الشايب للنشر، جزء 9-10، القاهرة 1986-1992.
علي بهجت: «قاموس الأمكنة والبقاع التي يرد ذكرها في كتب الفتوح» - نشر شركة طبع الكتب العربية، القاهرة 1906.
علي مبارك: «الخطط التوفيقية الجديدة لمصر القاهرة» طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة - الجزء الأول 1980 الجزء 11 سنة 1994.
كراتشكوفسكي، إجناطيوس بوليانوفتش: «تاريخ الأدب الجغرافي العربي» ترجمة صلاح الدين عثمان هاشم - لجنة التأليف والترجمة والنشر، الإدارة الثقافية - جامعة الدول العربية، القاهرة 1963.
محافظة القاهرة: «نشرة القاهرة 2000» - المركز العام لمعلومات شبكات ومرافق القاهرة 1999.
محافظة القاهرة:
نشرة الإدارة العامة للخطة والمتابعة 1997.
محمد السيد غلاب: «السكان» في كتاب «جغرافية مصر» إصدار المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1994.
محمد رمزي: «الجغرافية التاريخية لمدينة القاهرة» - مجلة العلوم السياسية - السنة التاسعة - المجلد الخامس.
محمد رمزي: «القاموس الجغرافي للبلاد المصرية» من عهد قدماء المصريين إلى 1945 - نشر دار الكتب المصرية 1953 (قسم 1) و1954 - 1063 (قسم 2).
محمد رياض:
بمناسبة العيد الألفي للمدينة «القاهرة، دراسة تمهيدية» حوليات كلية الآداب جامعة عين شمس العدد 12 سنة 1969.
محمد رياض: «القاهرة - المشكلات العامة للمدينة والعاصمة» مجلة الطليعة الشهرية - كانت تصدر عن دار الأهرام - عدد 7 السنة الثامنة يوليو 1972.
محمد رياض: «الجغرافيا وتخطيط الأقاليم الإدارية في مصر» في كتاب «الجغرافيا والمجتمع» إصدار كلية الآداب جامعة الإسكندرية، دار المعرفة الجامعية 1990.
محمد رياض:
هل يمكن إنقاذ أوتوستراد الإسماعيلية؟ «مجلة جمعية المهندسين المصرية» مجلد 32 عدد 3 لسنة 1993.
محمد رياض:
تقسيم إداري جديد لمصر «ندوة الأقسام الإدارية - المجلس الأعلى للثقافة»، القاهرة 1999.
محمد رياض: «السكن العشوائي في جمهورية مصر، وحالة القاهرة الكبرى بشيء من التفصيل» ندوة السكن العشوائي - المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة، مارس 2000 (تحت الطبع).
محمد رياض:
20 بحثا وندوات منشورة في جريدة الأهرام: صفحة العمران وصفحة قضايا وآراء منذ 1985 وإلى الآن حول المشكلات التي تعاني منها القاهرة، مثل: القاهرة تحت الحصار (16/ 5/ 1995)، حول نقل العاصمة السياسية (ندوة جمعية المهندسين المصرية ديسمبر 1997)، حول مشكلات المرور (عدة مقالات)، ماذا نحن فاعلون بميدان الأزهر؟ (20/ 1/ 97)، هل يحل النفق مشكلة المرور في شارع الأزهر؟ (15 / 5 / 98)، دراسة ضرورة تغيير الأقاليم الإدارية في مصر (23 / 3 / 98)، القاهرة بالطول والعرض (18 / 7 / 99)، العاصمة تريد حلا (23 / 10 / 98)، المياه الباطنية تهدد القاهرة الفاطمية (29 / 1 / 99) وتأملات في المسألة السكانية في مصر والقاهرة (18 / 8 / 99)، كوبري 6 أكتوبر (14 / 10 / 99)، التنمية القاتلة في حلوان (31 / 10 / 99)، لاظ أوغلي الجديد (26 / 4 / 99)، رؤية لحل مشكلات التكدس في القاهرة ومركزيتها (16 / 6 / 2000)، شارع الجلاء ومحطة الترجمان (3 / 10 / 2000) وغير ذلك، وقد أشرت إلى بعض منها في نص وهوامش هذا الكتاب.
محمد سمير مصطفى وعزة سليمان: «مستقبل التوسع الحضري في مصر وأثره على البيئة» في منشورات ندوة التوسع الحضري، معهد التخطيط القومي، القاهرة 1988.
معهد التخطيط القومي: «تقارير التنمية البشرية السنوية» 1994، 1995، 1996.
ممدوح الولي: «سكان العشش والعشوائيات» نشرة نقابة المهندسين، القاهرة 1993.
نقولا زيادة: «الجغرافية والرحلات عند العرب» دار الكتاب اللبناني، بيروت 1962.
وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية:
التقرير الوطني المقدم لمؤتمر الأمم المتحدة الثاني للمستوطنات البشرية (قمة المدن) في إسطنبول 1996.
وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية: «مبارك والعمران» (د/ت - 1999).
وزارة الإسكان والمرافق والمجتمعات العمرانية: «أطلس القاهرة الكبرى» الهيئة العامة للتخطيط العمراني - مركز التخطيط العمراني للقاهرة الكبرى، القاهرة 2000.
المصادر الإحصائية والرقمية: نشر الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء
الكتاب الإحصائي السنوي 92-1998. يونيو 1999.
النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت لعام 1996 محافظة القاهرة.
النتائج الأولية للتعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت لعام 1996 محافظة الجيزة.
التعداد العام للسكان والإسكان والمنشآت 1996 «النتائج التفصيلية لتعداد المنشآت (1) إجمالي الجمهورية (2) محافظة القاهرة (3) محافظة الجيزة.
تقدير المشتغلين (15-65 سنة) حسب نوع القطاع الذين يعملون فيه في الجمهورية (حضر وريف) النتائج السنوية لدورتي 1997.
تقدير المشتغلين بأجر (15-65 سنة) حسب أقسام النشاط والنوع بكل محافظة. النتائج السنوية لدورتي 1997.
تقدير المشتغلين بأجر (15-65 سنة) حسب نوع القطاع الذي يعملون فيه.
إحصاء العاملين المدنيين بالحكومة والقطاع العام وقطاع الأعمال العام عن الحالة 1 / 1 / 1996 - إصدار يوليو 1997.
إحصاء العاملين المدنيين بالحكومة والقطاع العام وقطاع الأعمال العام، حسب فئات السن والنوع بكل محافظة - دورة 1997.
تقدير المشتغلين حسب الحالة التعليمية والنوع بكل محافظة - دورة 1997.
تقدير المتعطلين (15-64 سنة) حسب فئات السن والنوع بكل محافظة - دورة 1997.
تقدير المتعطلين (15-64 سنة) حسب الحالة التعليمية والنوع بكل محافظة - دورة 1997.
تقدير المشتغلين حسب الحالة التعليمية والنوع بكل محافظة.
مصادر ومراجع بلغات أجنبية
Christaller, Walter, “Die Zentralen orte in suddeutschland”, Jena, 1933.
Clerget, Marcel, “Le Caire, etude de Geographie urbain et d’histoire economique”, E & R. Schindler, Le Caire 1934.
Denoix, S., “decrier Le Caire-Fustat-Misr”, Institut Francais D’Archeologie Oriental du Caire, 1992.
El-Sayed-Marsot, Afaf Lutfi, “Egypt in the Reign of Muhammad Ali”, Cambridge 1988.
Jacobs, Jane, “The Death and Life of Great American cities”, Penguin 1988.
Lӧsch August, “Die Raϋmliche Ordnung der Wirtschaft” Jena 1941.
Mumford, Lewis “The City in History”,
Observatoire urbain du Caire Contemporain, Lettre d’information 1966-1997.
l’agglomération du Caire” Annales de Géographie, Armand Colin, Paris Lxxix.
Raymond André, “The Great Arab Cities in the 16th-18th. Centuries, New York University Press, New York & London 1984.
Raymond André, “Le Caire” Paris, Fayard 1993.
Rice, David Talbot, “Islamic Art” Thames & Hudson, Revised edition, 1975.
Weber, Alfred, “Uber den Standort der Industrien”, Tubingen, 1909.
Weber, Max, “The City” Macmillan, London 1958.
Waterson, Barbara, “The Egyptians”, Blackwell, Oxford 1997.
Williams, Caroline, “Islamic Monuments in Cairo” American University Press in Cairo 1993 (4th edition).
Unknown page