هوميروس‏

سقراط‏

أفلاطون‏

أرسطاطاليس‏

الإسكندر‏

يوليوس قيصر‏

بين عصرين‏

العصر الحديث‏

هوميروس‏

سقراط‏

أفلاطون‏

أرسطاطاليس‏

الإسكندر‏

يوليوس قيصر‏

بين عصرين‏

العصر الحديث‏

قادة الفكر

قادة الفكر

تأليف

طه حسين

هوميروس

أرادت مجلة «الهلال» الغراء أن تكون صلة بيني وبين قرائها في نشر طائفة من الفصول التي اقترحت موضوعها. فمن الحق أن أبدأ هذه الفصول بأن أقدم إلى «الهلال» أجمل الشكر؛ لما تفضلت به من إيجاد الصلة بيني وبين قرائها، ولما وفقت له من اقتراح هذا الموضوع، الذي قد يكون عسيرا أشد العسر، ولكنه نافع أعظم النفع، فمهما يتكلف الكاتب من العناء في البحث عن دقائقه فهو واثق كل الثقة بأن عناءه ليس ضائعا، وبأنه واجد في هذا العناء نفسه من اللذة والفائدة ما ينسيه مشقة البحث وآلامه. ولقد أجاهد نفسي جهادا شديدا لأمنعها عن الإسهاب في بيان ما لهذا الموضوع من نفع وخطر؛ لأني أعلم أن البحث نفسه سيبين هذا النفع والخطر أحسن بيان. وحسبنا أننا سنعرض في هذه الفصول لا لتاريخ أشخاص بعينهم، بل لتاريخ العقل الإنساني، وما اعترضه من ضروب التطور وألوان الاستحالة والرقي حتى انتهى إلى حيث هو الآن.

على أني لا أريد أن أبدأ البحث قبل أن أقدم بين يديه تنبيها للقارئ، أرى أن ليس منه بد؛ فقد تعود الناس في الشرق عامة وفي مصر خاصة، أن يفهموا من مثل هذا العنوان الذي قدمته، أن عناية الكاتب والباحث ستتناول الأشخاص وتقصر عليهم؛ فلفظ «قادة الفكر» إذا سمعه القارئ المصري أو الشرقي، فهم منه لأول وهلة، طائفة من الأشخاص لهم أثر يختلف قوة وضعفا في تكوين الحياة الفكرية عامة، في جيل من الأجيال، أو في بلد من البلاد، ثم اتصل ذهنه بهؤلاء الأشخاص، وانتظر من الكاتب أن يقص عليه أطرافا من حياتهم، وما اعترضها من خطوب، وما اختلف عليها من محن. وبعبارة موجزة: انتظر من الكاتب أن يقص عليه تراجم هؤلاء الأشخاص.

وهذا النوع من البحث مألوف شائع في الشرق والغرب، يحبه الناس، ويكلفون به منذ كتب الكاتب اليوناني المعروف «فلوترخس» كتابه المشهور، الذي ترجم فيه لعظماء الرجال من اليونان والرومان، والذي كان له في العصر القديم وفي القرون الوسطى، وفي أول هذا العصر الحديث أثر لا يكاد يعدله أثر، والذي ما نزال نقرؤه الآن بلذة لا تعدلها لذة، وعناية لا تشبهها عناية. هذا النحو من البحث مألوف شائع، ولكني مع ذلك سأعدل عنه، وسأكون شديد الاقتصاد في ذكر الحوادث والأخبار والتواريخ التي تتصل بحياة الأشخاص الذين سأعرض لهم في هذه الفصول، لا لأني أهمل هؤلاء الأشخاص إهمالا، أو أنسى تأثيرهم العظيم في البيئة التي نشئوا فيها؛ بل لأن لي رأيا أظن أنه الرأي المقرر الآن عند الذين يعنون بتاريخ الآداب والآراء، وهو أن هذه الآداب والآراء على اختلافها وتباين فنونها ومنازعها ظواهر اجتماعية أكثر منها ظواهر فردية: أي إنها أثر من آثار الجماعة والبيئة أكثر منها أثرا من آثار الفرد الذي رآها وأذاعها.

وإذا كان الأمر كذلك، فليس من الحق في شيء أن ننسى الجماعة التي هي المؤثر الأول في ظهور الآداب والآراء الفلسفية، وتقصر عنايتك على الفرد الذي كان مظهرا لهذه الآداب أو لهذه الآراء. وأحب أن نتفق قبل كل شيء؛ فالناس يذهبون في مثل هذا الموضوع مذهبين متباينين أشد التباين؛ أريد أنا، كما أراد غيري من المؤرخين المحدثين، أن أتوسط بينهما وأن آخذ من كل منهما خلاصته. فمن الناس من يغلو في إكبار الجماعة والبيئة وإضافة كل شيء إليها واستنباط كل شيء منها، حتى ينسى الفرد نسيانا تاما، فإن تذكره فإنما يذكره على أنه أداة من الأدوات ومظهر من المظاهر ليس له قوة، ولا عمل، ولا إرادة. ومنهم من يغلو في إكبار الفرد، فيضيف إليه كل شيء، ويقصر عليه كل العناية، ويفني الجماعة فيه كما يفنيه السابقون في الجماعة. أولئك يمحون الفرد محوا، وهؤلاء يمحون الجماعة محوا، أولئك وهؤلاء مخطئون فيما أعتقد. فلست أجهل أن الفرد قوة تختلف عظما وضآلة، ولكنها قوة على كل حال، قوة لها أثرها في تكوين القوة الاجتماعية، بل لها أثرها العظيم في تكوين هذه القوة. وإذن، فليس من البحث العلمي القيم في شيء أن تعتبر هذا الفرد كما مهملا، كما يقولون. ولست أجهل أن الفرد لم ينشئ نفسه، وليس من سبيل إلى تصوره مستقلا؛ وإنما هو في وجوده المادي والمعنوي، أثر اجتماعي وظاهرة من ظواهر الاجتماع، لا يوجد إلا إذا التقى الجنسان، فإذا وجد فالجماعة كلها متعاونة متظاهرة على تنشئة وتربية جسمه وعقله وشعوره وعواطفه. وهل التربية المادية والمعنوية إلا قالب يصاغ فيه الفرد على صورة الجماعة التي ينشأ فيها! يتعلم الفرد بهذه التربية اللغة التي يتكلمها وليس هو الذي يحدث هذه اللغة، وليس من الممكن أن تعرف الفرد الذي أحدث لغة من اللغات، بل ليس من الممكن أن توجد اللغة إلا إذا كانت هناك جماعة تحدثها، لأنها محتاجة إليها. ثم يتعلم الفرد الدين الذي ينظم حياته الروحية، وليس هو الذي أحدث هذا الدين، بل ما من سبيل إلى وجود الدين إذا لم تكن هناك جماعة تحتاج إليه. وقل مثل هذا في الأخلاق، وقل مثله في النظم الاجتماعية والسياسية، وقل مثله في جميع الأوضاع والآداب.

الفرد إذن ظاهرة اجتماعية، وإذن فليس من البحث القيم العلمي في شيء أن تجعل الفرد كل شيء وتمحو الجماعة التي أنشأته وكونته محوا، إنما السبيل أن تقدر الجماعة، وأن تقدر الفرد، وأن تجتهد ما استطعت في تحديد الصلة بينهما، وفي تعيين ما لكليهما من أثر في الآداب، والآراء الفلسفية، والنظم الاجتماعية، والسياسية المختلفة. وإذا كان هذه السبيل المعقولة فلا ينبغي أن تنتظر من هذه الفصول تراجم لقادة الفكر كما تقرأ في كتاب «فلوترخس» تراجم عظماء الرجال من اليونان والرومان، ولا ينبغي أن تنتظر من هذه الفصول مباحث اجتماعية أو جغرافية تدرس منها البيئات والبلدان درسا مفصلا، بحجة أنها هي المؤثر الأول في وجود الآراء والأفكار التي خضعت لها الأجيال الإنسانية. إنما هذه الفصول مزاج من البحث الفردي والاجتماعي، سأجتهد ما استطعت في أن أبين فيها شخصية الفلاسفة والمفكرين الذين سأعرض لهم، ولكن على أن تكون هذه الشخصية متصلة بالبيئة التي نشأت فيها، متأثرة بها، ومؤثرة فيها أيضا. •••

وبأي هؤلاء المفكرين والفلاسفة تريد أن أبدأ هذه الفصول؟ هم كثيرون، أكثر من عشرة، بل هم أكثر من مائة، بل أحسب أن العد لا يكاد يحصيهم، بل أزعم أنا نجهل منهم أفرادا كثيرين، فكم من مفكر، وكم من فيلسوف كان له الأثر الأعظم في ترقية بيئته وتهيئتها للتطور، ولكن الزمان محا شخصيته محوا، وأخفاها عن الأجيال إخفاء، فلم يعرف الناس من أمره قليلا ولا كثيرا، وإنما استمتعوا بآثاره، وانتفعوا بآرائه وهم يجهلونه، ثم قد يخطر لهم أحيانا أن يبحثوا عنه ويتلمسوا شخصيته، فإذا لم يجدوا إليها سبيلا اخترعوها اختراعا وابتكروها ابتكارا، وخلقوها من عند أنفسهم.

ولقد أريد أن أحدثك اليوم عن شخص من هؤلاء الأشخاص، أو عن طائفة من هؤلاء الأشخاص، كان لهم أعظم أثر في تكوين أمة بأسرها، وفي تصوير النظم السياسية والاجتماعية والدينية التي خضعت لها هذه الأمة عصورا طوالا، وفي تهيئة هذه الأمة للرقي والتطور، اللذين جعلاها مصدر الحياة العقلية التي لا تزال الإنسانية متأثرة بها إلى اليوم وإلى غد، وإلى آخر الدهر، أريد بهؤلاء الأشخاص أولئك الشعراء الذين أنشئوا «الإلياذة» و«الأودسا»، وغيرهما من الأناشيد القصصية اليونانية التي لم يبق لنا منها إلا طرف قليل، والتي كانت قوام الحياة اليونانية عصورا طوالا حتى خلفتها الفلسفة. ولعلك تدهش حين تراني أحدثك عن منشئ «الإلياذة» و«الأودسا». لعلك كنت تقدر أني سأحدثك عن فيلسوف من هؤلاء الفلاسفة الذين خلد التاريخ القديم والحديث أسماءهم وآراءهم: عن «سقراط»، أو «أفلاطون»، أو «ديكارت»، أو «جان جاك روسو»، أو «كنت»، أو «أوجست كمت»، أو «سبنسر»، سأحدثك عن هؤلاء، ولكن بعد أن أحدثك عن «هوميروس» وخلفاء «هوميروس».

وفكر معي قليلا في تاريخ اليونان الذي ترجع إليه الحضارة الإنسانية الحديثة والقديمة. وفكر معي قليلا في تاريخ العرب أيضا الذي ترجع إليه الحضارة الإسلامية من بعض الوجوه. وعلام كانت تقوم الحياة اليونانية في بداوة اليونان وأول عهدها بالحضارة؟ علام كانت تقوم الحياة العربية في بداوة العرب، وأول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر.

ونستطيع أن نقول: على الشعر وحده؛ فالعرب واليونان يتشابهون من هذه الجهة تشابها كاملا؛ تستطيع أن تبحث عن فلاسفتهم وحكمائهم، وقادتهم وساستهم، ومدبري أمورهم الاجتماعية أيام البداوة فلا تجد إلا الشعراء. ثم تستطيع أن تبحث عن فلسفتهم ودينهم ونظمهم المختلفة وحياة عقولهم وعواطفهم فلا تجدها إلا في الشعر.

الشعر إذن هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القوية لهاتين الأمتين. وتستطيع أن تقول في غير حرج: إن الشعر هو أول مظهر من مظاهر الحياة الاجتماعية القومية لكل الأمم المتحضرة التي عرفها التاريخ. وإذن فالشعراء هم قادة الفكر في هذه الأمم؛ تأثروا بحياتها البدوية، فنشئوا ملائمين لها؛ وتميزت شخصياتهم فأثروا فيمن حولهم، ثم في الأجيال التي خلفتهم.

وهل كانت توجد الحضارة اليونانية التي أنشأت «سقراط» أو «أرسطاطاليس»، والتي أنشأت «إسكولوس» و«سوفكليس»، والتي أنشأت «فدياس» و«بيركليس» لو لم توجد البداوة اليونانية التي سيطر عليها شعر «هوميروس» وخلفائه؟! وهل كانت توجد الحضارة الإسلامية، التي ظهر فيها من ظهر من الخلفاء والعلماء وأفذاذ الرجال، لو لم توجد البداوة العربية، التي سيطر عليها امرؤ القيس والنابغة والأعشى وزهير وغيرهم من هؤلاء الشعراء الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟! غير أن هناك فرقا عظيما بين بداوة العرب وبداوة اليونان: بداوة العرب أثرت في العرب وفي الحضارة الإسلامية، ولم تجاوز الحضارة الإسلامية إلا قليلا. وإذن، فشعراء الجاهلية العربية عرب لا أكثر ولا أقل. أما بداوة اليونان، فقد أثرت في اليونان، وأثرت في الرومان، وأثرت في العرب، وأثرت في الإنسانية القديمة والمتوسطة، وهي تؤثر الآن في الإنسانية الحديثة، وستؤثر فيها إلى ما شاء الله، وإذن فشعراء البداوة اليونانية يونان، ولكنهم ملك للإنسانية كلها.

ومن هؤلاء الشعراء من نسيتهم الإنسانية نسيانا تاما، وعاشت بآثارهم عصورا طوالا، ثم تنبهت لجمال هذه الآثار فأخذت تبحث عن أصحابها، وما تزال تبحث عنهم إلى الآن دون أن تجدهم؛ وأكبر الظن أنها لن تجدهم أبدا، وإذن فقد خلقتهم خلقا، وابتكرتهم ابتكارا. وبين أيدينا منهم صور مختلفة، تختلف باختلاف الأجيال التي أنشأتها. بين أيدينا الصورة اليونانية التي اخترعها اليونان في القرن السابع قبل المسيح، وفي القرون التي وليته، والتي تمثل لنا «هوميروس» بطلا من الأبطال نشأ من الزواج بين نهر من أنهار آسيا الصغرى وامرأة من عامة النساء، وتقص علينا من أخباره أقاصيص نعجب بها، ولكننا لا نستطيع أن نؤمن بها، ثم بين أيدينا صورة أخرى ظهرت في أوربا في القرن الثامن عشر، وصور أخرى ظهرت في أوربا في القرن التاسع عشر، تمثل «هوميروس» رجلا من الرجال، وتجتهد في أن تنشئ له سيرة تشبه سير الناس، ثم بين أيدينا صورة أخرى ظهرت في أوربا أوائل القرن الماضي، تنكر شخص «هوميروس»، وتجحده جحودا تاما، وتزعم أن «هوميروس» هو الأمة اليونانية البدوية كلها، وأن «الإلياذة» و«الأودسا» أثران من آثار الأمة اليونانية كلها. ثم بين أيدينا هذه الصورة التي وقف عندها البحث الحديث إلى حين، إلى يوم يظهر باحث جديد يظهر لنا صورة أخرى. وهذه الصورة التي انتهى إليها البحث الآن تنكر شخص «هوميروس» كما روته الأساطير، وتزعم أن هناك أسرة كانت تسمى أسرة «الهومريين» توارثت الشعر القصصي فيما بينها، وأذاعته في البلاد اليونانية. ولست تريد - فيما أظن - أن أوغل بك في هذه المباحث المختلفة المعقدة حول شخص «هوميروس» أو أشخاص الشعراء القصصيين الذين أنشئوا «الإلياذة» و«الأودسا» وغيرهما من الشعر القصصي اليوناني؛ فذلك شيء لا غناء فيه الآن؛ وإنما الذي أستطيع أن تأخذني به هو أن أبين لك كيف كان هؤلاء الشعراء الذين نسيهم التاريخ قادة الفكر أثناء البداوة اليونانية، وأثناء عصر طويل من الحضارة اليونانية، وكيف لا يزال هؤلاء الشعراء يؤثرون في الحياة الإنسانية إلى الآن.

تصور جماعة من الناس لا يقرءون، ولا يكتبون، ولا يختلفون إلى مدرسة، ويستمعون إلى فيلسوف، ولا يطمحون في حياتهم إلى أكثر من الأكل والشرب والأمن والدعة. هذه الجماعة التي تعيش هذه العيشة الخشنة، تجدها في البلاد اليونانية قديما، وفي البلاد العربية قبل الإسلام، وفي بلاد أخرى لم تبلغها الحضارة اليوم، تصور هذه الجماعة وقد أقبل عليها في يوم من الأيام رجل في يده أداة موسيقية تشبه الربابة فأخذ يلحن على أداته الموسيقية، واجتمع الناس حوله يستمعون إليه، وما هي إلا أن أضاف إلى ألحانه غناء أخذ ينشده، فغنى الناس به وشجعوه، واندفع هو في غنائه، وإذا هو يقص عليهم، في لغة عذبة ساذجة رائعة، أخبار طائفة من الأبطال يمثلون الثروة التي يطمحون إليها، والقوة التي يعتزون بها، والشجاعة والبأس، وما إلى ذلك من الأخلاق والخلال التي يكبرها البدو، ويحرصون عليها؛ لأنها قوام حياتهم. واندفع الشاعر في قصصه يغنيه ويلحنه، وأغرق الناس في الاستماع إليه والإعجاب به، وإذا هم معلقون بشفتيه، وإذا هو يخلب ألبابهم ويستهوي عقولهم؛ حتى إذا فرغ من قصصه وغنائه التفوا حوله يهنئونه ويكرمونه، واستبقوا إليه يضيفونه ويمنحونه المنح، حتى إذا قضى بينهم أياما ينشدهم ويجيزونه، تركهم وقد حفظوا عنه كثيرا وقد أحيا عواطفهم وغذا عقولهم. تركهم وانتقل إلى جماعة أخرى وقد شجعه ما لقي من الجماعة الأولى، فكان أمره مع الجماعة الثانية كأمره مع الجماعة الأولى. تصور هذه الجماعات وهؤلاء الشعراء المغنين، توجد لنفسك صورة مقاربة للحياة اليونانية، وتأثير الشعر فيها أيام البداوة. تصور الشعراء العاميين الذين يقصون على الناس في قرى مصر أخبار الهلالية والزناتية يلحنونها على الربابة؛ ولكن لا تتصور الناس الذين يستمعون لهؤلاء الشعراء متحضرين تحضر المصريين، يلتمسون آدابهم وأخلاقهم ونظمهم المختلفة في الدين والعلم والفلسفة والسياسة، وإنما تصورهم قوما ليس لهم دين منظم، ولا أدب مدون، ولا فلسفة ولا سياسة، وإنما الشعراء يحملون إليهم من هذا كل شيء؛ تصور هذا تتمثل تأثير «الإلياذة» و«الأودسا» في الحياة اليونانية الأولى.

ثم أضف إلى هذا كله شيئا آخر، وهو أن هذه الأناشيد التي كان يتغنى بها الشعراء، على هذا النحو الذي قدمته، لم تكن كأخبار الهلالية والزنانية، وإنما كانت تمتاز بشيء من الجمال والروعة ليس إلى وصفهما من سبيل؛ فلم يقف تأثيرها عند هذه الجماعات البادية، وإنما تحضرت هذه الجماعات والتمست آدابها وفلسفتها ونظمها في مصادر أخرى غير هذه الأناشيد، ولكنها مع ذلك لم تستطع أن تنسى هذه الأناشيد أو تسلوها، وإنها أخذت تستظهرها وترويها وتحرص عليها الحرص كله، وبالغت في ذلك حتى عنيت حكوماتها المنظمة بتدوينها على نحو ما عنيت حكومة الخلفاء الراشدين بتدوين القرآن الكريم.

ثم لم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر في هذه الأمة اليونانية شعراء عدلوا عن القصص إلى الغناء، أو قل عدلوا عن هذا الشعر الذي يقص سير الأبطال إلى شعر آخر يتغنى العواطف الإنسانية المختلفة من حزن وابتهاج، فلم يستطع هؤلاء الشعراء أن يستغنوا عن الشعر القصصي القديم، وإنما التمسوا فيه موضوعاتهم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، وإنما ظهر في هذه الأمة شعراء آخرون عدلوا عن القصص والغناء إلى التمثيل في الملاعب، فلم يبتكروا قصصهم ابتكارا، وإنما التمسوا أكثرها في الشعر القصصي القديم. ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل ظهر في هذه الأمة اليونانية فلاسفة ومفكرون عدلوا عن القديم كله، وجددوا كل شيء، ولكنهم لم يستطيعوا أن يستغنوا عن الشعر القصصي القديم؛ لأنه كان مستودع المثل العليا في الأخلاق والحياة الإنسانية الساذجة البريئة من الفساد، فرجعوا إليه في فلسفتهم وأخلاقهم ثم دالت الدول وتغير الزمان، وكان العصر الحديث، وأراد الشعراء المحدثون أن ينشئوا القصص التمثيلية والقصائد الغنائية، فالتمسوا نماذجها عند شعراء اليونان، فإذا هم ينشئون قصصهم وقصائدهم على نحو ما كان يفعل اليونان، متأثرين «بالإلياذة» و«الأودسا»، ثم بدا لهم أن يمثلوا القصص اليونانية نفسها، فترجموها إلى لغاتهم، وأخذوا يمثلونها حينا في اللغات الحديثة وحينا في اللغة اليونانية القديمة نفسها. و«بيت مليير» الآن معني بتمثيل قصة من قصص «سوفلكليس» هي «أوديب في كولونا»، اشتغل المترجم بنقلها إلى الفرنسية عشرين سنة. ومن قبل ذلك اشتغل عميد «بيت بليير» بنقل قصة «الفرس» «لإسكيلوس» وتمثيلها. ومن قبل ذلك اشتهر الممثل الفرنسي النابغة «سولى» بتمثيل «أوديب ملكا». وفوق هذا كله لا توجد مدرسة تحترم نفسها في أوربا لا يدرس فيها الشباب الأوربي «الإلياذة» و«الأودسا » في نصوصها اليونانية، أو مترجمة إلى اللغات الحديثة.

أكنت مصيبا إذن حين زعمت أن شعراء «الإلياذة» و«الأودسا» يعدون بحق من قادة الفكر الإنساني؟ ولكنك ستسألني: ما «الإلياذة»؟ وما «الأودسا»؟ ولست أجيبك عن هذا السؤال، وإنما أريد أن تجيب نفسك عنه، أريد أن تقرأ «الإلياذة» و«الأودسا»، لتعرف ما هما. وكل ما أطمح إليه في هذه الفصول هو أن أشوقك إلى أن تقرأ شيئا قليلا أو كثيرا من آثار المفكرين الذين أتخذهم موضوعا لهذه الأحاديث.

سقراط

رأيت في الفصل الماضي كيف كانت قيادة الفكر إلى الشعراء في العصور الأولى من حياة الأمة اليونانية وغيرها من الأمم التي تشبهها قليلا أو كثيرا، ورأيت كيف كان هؤلاء الشعراء يقودون الفكر في شعوبهم المختلفة. ورأيت الطرق التي كانوا يسلكونها لتكوين الآراء والسيطرة على العقول. وأريد في هذا الفصل أن أبين لك، في شيء من الإيجاز الشديد الذي أنا مضطر إليه اضطرارا، كيف انتقلت قيادة الفكر من الشعراء إلى طائفة أخرى هي طائفة الفلاسفة، وكيف استطاع هؤلاء الفلاسفة أن يقودوا الفكر ويدبروه، وماذا اتخذ هؤلاء الفلاسفة من طريق قيادة الفكر وتدبيره.

وفي الحق أن قيادة الفكر لم تنتقل من الشعراء إلى الفلاسفة في يوم وليلة، بل لم تنتقل إليهم في عام ولا أعوام، بل لم تنتقل إليهم في عشرات السنين، وإنما احتاجت إلى القرون الطوال لتصبح ملك الفلاسفة بعد أن كانت ملك الشعراء. احتاجت إلى القرون الطوال، واحتاجت معها إلى أشياء كثيرة نستطيع أن نختصرها في هذه الكلمة الصغيرة التي تدل على معان كثيرة لا تكاد تحصى، وهي كلمة «التطور»؛ ذلك أنك تستطيع أن تشعر بهذا الفرق العظيم بين الشعر من جهة والفلسفة من جهة أخرى لتعلم أن ليس من السهل ولا من اليسير أن يخضع شعب من الشعوب لسلطان الشعر اليوم، حتى إذا أصبح خضع لسلطان الفلسفة. ليس ذلك سهلا ولا يسيرا، بل ليس ذلك ممكنا إذا لم تتحقق شروط كثيرة تحتاج في تحققها إلى عصور طوال.

ما الشعر؟ وعلى أي ملكة من ملكات النفس يعتمد؟ وما الفلسفة؟ وبأي ملكة من ملكات النفس تعتز؟ أليس الشعر لونا من ألوان التصور وضربا من ضروب الحس والفهم أقل ما يمكن أن يوصفا به أنهما يعتمدان على الخيال قبل كل شيء؟ يعتمدان على الخيال فيدركان الحقائق، لا كما هي، بل كما يتصورانها، ويحكمان على الحقائق، لا كما ينبغي أن يحكما عليها. بل كما يستطيعان أن يحكما عليها. أليس الشعر، ولا سيما الشعر القصصي الذي كان إليه قيادة الرأي في العصور الأولى، مظهرا من مظاهر الطفولة الإنسانية وصورة من صور الحياة الساذجة الغليظة! وإذا كان الأمر كذلك، فالفرق بين الشعر وبين الفلسفة عظيم. ذلك أن الفلسفة لا تعتمد على الخيال ولا تعتز به، وإنما هي مظهر الحياة العقلية القوية، وهي وسيلة الإنسان إلى أن يتصور الحقائق كما هي ويحكم عليها الأحكام التي تلائم طبائعها، أو قل: إنها الوسيلة إلى أن يتصور الإنسان الحقائق ويحكم عليها بعقله لا بخياله ولا بحسه ولا بشعوره. تعتمد الفلسفة على النقد، ويعتمد الشعر على التصديق. ولأجل أن ينتقل الإنسان من هذه الحياة التي يبهره فيها كل شيء، ويستأثر به فيها كل شيء، إلى حياة أخرى لا يخضع فيها لتأثير الأشياء، وإنما يحاول، أو يعتقد أنه يحاول، أن يخضع الأشياء لتأثيره وسلطانه. أقول: لأجل أن ينتقل الإنسان من تلك الحياة إلى هذه الحياة لا بد له من عصور طوال تنمو فيها ملكاته وتستحيل.

تصور هذه الشعوب الأولى التي كانت ترهب كل شيء وتتأثر بكل شيء وترى في كل شيء إلها تخافه وتتملقه وتترضاه: ترى في الهواء إلها، وفي الماء إلها، وفي الأرض إلها، ماذا أقول! بل ترى في الأحجار والحشرات والأشجار والأنهار وألوان النبات آلهة تقدم إليها الصلوات وضروب القربان، وتنظم حياتها على إكبار هذه الأشياء وإجلالها؛ وتتخذ من هذا الإكبار والإجلال قواعدها الخلقية والسياسية والاجتماعية. ثم تصور هذه الشعوب وقد تغيرت واستحالت، فهي لا ترهب الأشياء ولا تخافها، بل تحاول إخضاعها وتذليلها واستخدامها، فهي لا ترى في الهواء إلها، وإنما هي تحاول أن تفهم الهواء، وأن تستخدمه في حاجاتها ومنافعها. وهي لا ترى في الماء إلها، وإنما ترى فيه عنصرا من العناصر التي يجب أن تستخدم لحاجة الإنسان ولذته. وعلى الجملة هي لا تعبد الأشياء، وإنما تستذلها وتستخدمها. تصور هذه الشعوب في هاتين الحالتين تشعر بالفرق العظيم بين هذين العصرين اللذين يسيطر الشعر في أحدهما على الحياة وتسيطر الفلسفة في الآخر عليها، ثم تشعر بهذا الزمن الطويل الذي يجب أن تقضيه الشعوب لتنتقل من إحدى هاتين الحالتين إلى الأخرى. ونحن إذا سألنا التاريخ عن مقدار القرون التي قضتها الأمة اليونانية مثلا لتستبدل العقل بالخيال ولتديل الفلسفة من الشعر، أنبأنا بأن هذه القرون ليست أقل من خمسة أو ستة. فقد كان سلطان الشعر القصصي مسيطرا على الحياة اليونانية سيطرة كاملة في القرن الحادي عشر والعاشر قبل المسيح، ثم أخذ العقل اليوناني يوجد وينمو ويسطر قليلا قليلا على الحياة. والغريب أن سيطرته الأولى على الحياة لم تأخذ مظهرا فلسفيا وإنما احتفظت بالصورة الشعرية. أريد أن العقل أثر في الشعر فجعل حظه من الفهم والحكم أعظم من حظه في الخيال والحس، وأخذنا نجد في الشعر القصصي ضروبا من الفهم أو محاولة الفهم، وألوانا من الحكم أو محاولة الحكم لم نجدها فيه من قبل. ومعنى ذلك أن العقل أخذ يختلس سبيله إلى الحياة اختلاسا، ويسلك إليها طرقا خفية، يسلكها شيئا فشيئا دون أن يشعر الناس بذلك، أو يلتفتوا إليه. وأخذ الشعر كلما عظم فيه تأثير العقل يفقد جماله الأول وسذاجته الطبيعية شيئا فشيئا، حتى استحال إلى شيء لا نستطيع أن نسميه شعرا، وإنما نحن مضطرون إلى أن نسميه نظما. وربما كان أحسن مظهر لهذا النوع من الشعر الذي ينتصر فيه سلطان العقل على سلطان الخيال، والذي هو أشبه شيء بكتب التعليم وفصول الفلسفة، وأبعد شيء عن هذا الشعر الرائع الخلاب، هذه القصائد التي تنسب إلى الشاعر اليوناني «هسيودس»، ولا سيما هذه القصيدة التي تسمى «الأعمال والأيام» التي تجد فيها ضروبا من الأدب، وألوانا من العلم مختلفة ، تجد فيها الأخلاق منظمة مرتبة، يستدل الشاعر على خيرها وعلى شرها استدلالا ليس فلسفيا كاستدلال «سقراط» ولكنه ليس شعريا كاستدلال شعراء «الإلياذة» و«الأودسا»، وإنما هو شيء بين بين، له نصيب من الخيال، وفيه حظ من التفكير والتأمل والتجربة، ثم تجد فيها جانب الأخلاق ضروبا من التعليم العملي يمس الزراعة وفصولها وحاجاتها ونظمها. ثم تجد فيها ضروبا من التعليم الديني يصف الآلهة وأخلاقهم، والصلة بينهم وبين الناس. وما أعظم الفرق بين الآلهة في هذا الشعر وبينهم في الشعر القصصي القديم! وكان سلطان هذا الشعر التعليمي منبسطا على الأمة اليونانية في القرن الثامن قبل المسيح، وكان المنشدون ينتقلون به في المدن والقرى، ويلقونه على الجماعات كما كان المنشدون ينتقلون «بالإلياذة» و«الأودسا» من قبل.

غير أنه من الحق أن نتبين بعض الأسباب التي دعت إلى هذا التطور، وجعلته أمرا محتوما، إذا لم نستطع أن نحصيها كلها، ولست أذكر منها إلا سببين اثنين، أعتقد أن لهما أعظم الأثر في هذا التطور: أحدهما سبب اقتصادي، والآخر سياسي واجتماعي.

فأما السبب الاقتصادي، فهو هذا التغير الذي طرأ على الحياة اليونانية فأقرها في المدن والقرى، ونظم لهما الحكومات وأنواع السلطان، وجعلها حاضرة بعد أن كانت بادية، في هذه الحياة الحضرية تغير شعور اليونان بالأشياء وفهمهم إياها وحكمهم عليها، وأخذوا بحكم الزراعة والتجارة والصناعة يشعرون بسلطانهم على الطبيعة، وأخذوا يرهبون هذه الطبيعة أقل مما كانوا يرهبونها من قبل. كانوا في العصور الأولى يجنون ثمرات الأرض على أنها نعمة من الآلهة؛ أما الآن فهم يكرهون هذه الأرض على أن تعطيهم ثمراتها. أضف إلى هذا أنهم كانوا يجهلون الملكية ونتائجها، أما اليوم فقد عرفوا الملكية، وأخذت كل أسرة تحرص على حظها من الأرض، ونشأت الخصومات بين الأسر، واشتد تنازع المنافع. فليس غريبا أن يكون لهذا كله تأثير عظيم في تكوين العقل وبسط سلطانه على الحياة.

السبب الثاني أن هذه الجماعات اليونانية التي استقرت في الأرض وتحضرت بعد بداوة وأخذت تجني ثمرات الحضارة الحلوة، أخذت في الوقت نفسه تبلو ثمراتها المرة: ضاقت بها الأرض، واشتدت بينها الخصومات، فعرفت الحرب الداخلية والحرب الخارجية؛ واضطرت، بحكم هذين النوعين من الحرب إلى ضروب من المهاجرة والضرب في الأرض، فاستعمرت بلادا بعيدة في أقطار من الأرض مختلفة، في آسيا وفي إيطاليا وصقلية وفرنسا وإسبانيا بل في إفريقية أيضا. وأنت تعلم هذه النتيجة المحتومة التي يحدثها اختلاط الشعوب المختلفة، وما ينشأ بينها من حرب وجهاد. تنبه العقل اليوناني بحكم هذه الأشياء كلها، وأخذ يفهم الحياة على نحو جديد لم يكن مألوفا له من قبل، وكان رقي العقل مصباحا لرقي آخر هو الرقي السياسي. فلم تكن الأمة اليونانية في حياتها السياسية أثناء القرن الثامن والسابع كما كانت أثناء القرن العاشر والتاسع؛ إذ بينما كانت الحياة السياسية في العصور الأولى ملكية خالصة تعتمد على سلطان الدين وحده، إذا بها أصبحت في هذا الطور الثاني أرستقراطية ينتقل فيها الحكم من الملك، الذي كان مثالا لإله من الآلهة، إلى الأشراف الذين يمثلون الأسر ومنافعها وحاجاتها. أي إن الحكم انتقل من الفرد إلى الجماعة، أي إن الجماعة وأفرادها أخذوا يشعرون بوجودهم وشخصياتهم، ويحاولون أن يجعلوا هذا الوجود وهذه الشخصيات أمورا معترفا بها لا تقبل نزاعا ولا جدالا. وبعبارة مجملة: أخذت شخصية الفرد تظهر قليلا قليلا، وسلطان الفرد يتغلب على سلطان الجماعة، ولا يمكن أن يكون هذا إلا نتيجة لتنبه العقل وعظم حظه من الحياة. ثم تتبع هذه الشعوب اليونانية، في بلادها الأولى أو في مستعمراتها الجديدة، تجد هذين النوعين من التطور مطردين؛ ينمو العقل فتقوى شخصية الفرد وتشتد مطامعه، وتنشأ عن ذلك الثورات السياسية؛ ثم تنمو المنافع الاقتصادية العامة فتظهر الخصومات بين المدن وتنشأ بينها الحروب، وينتج عن هذا كله أنواع من النظم الاجتماعية والسياسية والدولية لم تكن مألوفة من قبل. ومن هنا لا يكاد ينتصف القرن السابع حتى نجد بلاد اليونان كلها - أو أكثرها - في ثورة سياسية اجتماعية متصلة، فليس النزاع الآن بين الملوك والأرستقراطية كما كان في القرن الماضي، وإنما هو بين الأرستقراطية وأفراد الشعب. وليس لهذا معنى إلا أن سلطان الحياة العقلية قد أخذ ينمو ويمتد، حتى أخذ الأفراد جميعا على اختلاف طبقاتهم يشعرون بشخصياتهم وحقهم، لا في الوجود وحده، بل في الوجود وفي الحكم أيضا.

هذا التطور الذي لم يعرفه العالم القديم إلا في البلاد اليونانية وفي البلاد الرومانية من بعد، والذي لم يحدث وحده، وإنما حدث معه تطور عقلي لم يعرفه العالم القديم من قبل، وكان له كل الأثر في حياة الإنسانية من بعد، يدعونا إلى أن نعرض لمسألة تحتاج إلى شيء من التفكير.

بين الشرق والغرب

هذه المسألة هي العلاقة بين اليونان والشرق المتحضر، فأنت تعلم أنه بينما كانت الأمة اليونانية خاضعة لسلطان الشعر القصصي الذي يمثلها ساذجة جاهلة قليلة الحظ من النظم السياسية والاجتماعية الراقية، كان الشرق قد انتهى إلى درجات من الحضارة مختلفة، ولكنها راقية لا تقاس إليها حياة اليونان: كان الساميون في بابل وآشور وغيرهما، قد بسطوا سلطانا ضخما، وأسسوا حكومات قوية منظمة، وانتهوا إلى ألوان من الفن والعلم لا تزال تبهرنا إلى الآن. ولست في حاجة إلى أن أحدثك عما كانت مصر قد انتهت إليه من الحضارة. وإذن، فليس من شك في أن الاتصال قد وجد واشتد بين هذه الأمم الشرقية الراقية وهذه الأمم اليونانية الساذجة، وجد هذا الاتصال واشتد، وتأثرت الأمة اليونانية من غير شك بالحضارات الشرقية المختلفة، وأخذت عن الساميين في آسيا، وعن المصريين في إفريقية، أشياء كثيرة مختلفة. ولم تكن الأمة اليونانية جاحدة ولا منكرة للجميل، وإنما كانت شديدة الاعتراف بالجميل، وربما بالغت فيه مبالغة شديدة أيضا، فنسبت كثيرا من الأشياء إلى الشرقيين، بل نسبت مدنا مختلفة إلى المصريين حينا، وإلى الفينيقيين حينا آخر. وعدت نفسها دائما تلميذة للأمة المصرية وغيرها من الأمم الشرقية الآسيوية في الحضارة وألوان الفن.

فإلى أي حد كان تأثير هذه الأمم الشرقية في الأمة اليونانية؟ ثم إلى أي حد كان تأثير هذه الأمم الشرقية في تكوين الفلسفة اليونانية، التي لا تزال تدبر حياة العقل الإنساني إلى الآن؟ هذه هي المسألة التي نريد أن نقول فيها كلمة موجزة؛ ونأسف لأن قوما قد لا يرضون، ولكن الحق أحق أن يتبع.

نعتقد - ونظن أن غيرنا من مؤرخي الفلسفة المحدثين يعتقد أيضا - أنه لم يكن للشرق في تكوين الفلسفة اليونانية والعقل اليوناني والسياسة اليونانية تأثير يذكر، إنما كان تأثير الشرق في اليونان تأثيرا عمليا ماديا ليس غير، فقد أخذ اليونان عن الشرقيين أشياء كثيرة ولكنها عملية مادية كما قلنا. أخذوا عنهم - مثلا - نظام النقد، وأخذوا عنهم نظام المقاييس. وأخذوا عنهم شيئا من الموسيقى، وتعلموا منهم فنونا عملية كالحساب والهندسة، ولكنهم لم يأخذوا عنهم شيئا عقليا يذكر. فلئن كان البابليون قد رصدوا النجوم ووصلوا من ذلك إلى نتائج قيمة، فهم لم يضعوا علم الفلك، وإنما هذا العلم اليوناني لم ينشأ عن النتائج البابلية، وإنما نشأ عن البحث اليوناني والفلسفة اليونانية. ولئن كان المصريون قد وصلوا إلى نتائج قيمة من الهندسة العملية والآلية فليس المصريون هم الذين وضعوا علم الهندسة، وإنما اليونان هم الذين ابتكروه ابتكارا، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى نجد عند اليونان أشياء لا نجد شيئا يشبهها في الشرق القديم: نجد عندهم هذه المذاهب الفلسفية المختلفة التي حاولت منذ القرن السادس قبل المسيح فهم الكون وتفسيره وتعليله، ثم نجد عندهم هذه الفلسفة، فلسفة ما بعد الطبيعة، وما نشأ عنها من أنواع البحث التي نظمت العقل الإنساني، ولا تزال تنظمه إلى الآن. ثم نجد عندهم هذه الفلسفة الخلقية التي أنشأت علم الأخلاق، والتي لم يعرفها العالم القديم من قبل. ونحب أن نلاحظ أن العقل الإنساني ظهر في العصر القديم مظهرين مختلفين: أحدهما يوناني خالص، هو الذي انتصر، وهو الذي يسيطر على الحياة الإنسانية إلى اليوم. والآخر شرقي انهزم مرات أمام المظهر اليوناني، وهو الآن يلقي السلاح ويسلم للمظهر اليوناني تسليما ...

بينما نجد العقل اليوناني يسلك في فهم الطبيعة وتفسيرها هذا المسلك الفلسفي الذي نشأت عنه فلسفة سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس، ثم فلسفة «ديكارت» و«كنت» و«كمت» و«هيجل» و«سبنسر» نجد العقل الشرقي يذهب مذهبا دينيا قانعا في فهم الطبيعة وتفسيرها: خضع للكهان في عصوره الأولى، وللديانات السماوية في عصوره الراقية، وامتاز بالأنبياء كما امتاز العالم اليوناني الغربي بالفلاسفة.

هناك شيء آخر نجده عند اليونان، ولا نجده في الشرق، وهو هذا التطور السياسي الخصب الذي أحدث النظم السياسية المختلفة في المدن اليونانية من ملكية وجمهورية وأرستقراطية وديمقراطية معتدلة أو متطرفة، والذي لا يزال أثره قويا في أوربا إلى اليوم، والذي أخذ الشرق يتأثر به في نظمه السياسية أيضا، وبينما كانت المدن اليونانية تخضع لهذا التطور الغريب الذي حقق حرية الأفراد والجماعات، والذي انتصر حتى أصبح المثل الأعلى للحياة الحديثة في الشرق والغرب، كان الشرق خاضعا لنظام سياسي واحد لم يتغير ولم يتبدل، وهو نظام الملكية المطلقة المستبدة الذي تفقد فيه الجماعات والأفراد كل حظ من الحرية، فكيف نستطيع أن نفسر هذا الاختلاف بين الشرق والغرب؟ ولم نفسر؟ وما حاجتنا إلى هذا التفسير؟ يكفي أن نسجل الحقيقة الواقعة، وهي أن الحياة اليونانية التي خضعت للشعر في أول أمرها، ثم خضعت بعد ذلك للعقل، كانت أخصب حياة عرفها الإنسان في العالم القديم.

سقراط

بين يدي الآن كتاب ظهر في هذه الأيام، موضوعه تاريخ الفكر اليوناني، لأستاذ من علماء الفرنسيين هو المسيو «ليون روبان»، وليس هذا الكتاب الضخم القيم أول كتاب ظهر في هذا الموضوع، ولن يكون آخر كتاب، بل ليس هو الكتاب الوحيد الذي ظهر في هذه الأيام من نوعه، وإنما هناك كتب كثيرة ظهرت، وتظهر وستظهر في هذا الموضوع، لأن الأوربيين يتخذون هذه القاعدة قانونا لهم، وهي أن ليس إلى فهم الحياة الحديثة على اختلاف وجوهها من سبيل إلا إذا فهمت مصادرها الأولى. ومصادرها الأولى هي الحياة اليونانية من جهة، والرومانية من جهة أخرى؛ أو قل: هي الحياة اليونانية؛ لأن حياة الرومان كانت من أكثر وجوهها متأثرة بالحياة اليونانية وإذا كنا قد أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك سبيل الأوربيين، لا في حياتنا العقلية وحدها، بل في حياتنا العملية على اختلاف فروعها أيضا، فليس لنا بد من أن نسلك سبيل الأوربيين في فهم هذه الحياة التي استعرناها. أقول: إننا أخذنا في هذا العصر الحديث نسلك السبيل الأوربية في جميع فروع الحياة، ونعدل عن حياتينا القديمة عدولا يوشك أن يكون تاما. وأحسب أنك لن تطالبني بالدليل على ذلك؛ فأنت في المدرسة تتعلم العلم الأوربي، وأنت إذا قرأت تقرأ العلم الأوربي، وإذا فكرت فعلى النحو الأوربي. وأنت في بيتك وفي صلاتك المختلفة تسلك المسلك الأوربي. وأنت في حياتك السياسية وفي نظامك الإداري والاجتماعي تنهج المنهج الأوربي. وما أحسب أننا نكتفي من هذا الحياة بتقليد القردة، وإنما أعلم أننا نريد أن نتخذها حياة لنا عن فهم وبصيرة. وإذن فلنفهمها قبل كل شيء. ولنتبين - إذا كان الأمر كذلك - كيف كانت حالة الفكر في تلك العصور اليونانية الخصبة، وكيف كانت قيادة الفلسفة إياه. ولنبدأ من هؤلاء الفلاسفة الذين أشرفوا على قيادة الفكر اليوناني، ولا يزالون يشرفون على قيادة الفكر الإنساني، بأبيهم وزعيمهم جميعا «سقراط».

ولست أستطيع أن أحدثك عن سقراط دون أن ألفتك إلى أنه لم يتول قيادة الفكر اليوناني إلا بعد أن ارتقى هذا الفكر، وانتهى من الرقي إلى حد عجيب، وأن الفلسفة سلكت من قبله طرقا مختلفة شديدة الالتواء وأفلست فيها واحدة بعد أخرى، وأن هذه الفلسفة التي أفلست في آخر الأمر كانت أيام انتصارها مشرفة على العقل اليوناني، تقوده وتدبره، وتنتهي به إلى الخير، ولكن هذا العقل كان شديد التطور سريع الاستحالة، فلم يكن بد لتلك المذاهب الفلسفية من أن تنتهي إلى ما انتهت إليه من إفلاس، ولم يكن بد من أن يظهر مذهب فلسفي جديد يلائم هذه الحياة الجديدة التي انتهى إليها العقل اليوناني في آخر القرن الخامس قبل المسيح.

تستطيع أن تقرأ في غير هذا الفصل من كتب التاريخ الفلسفي، كيف نشأت الفلسفة اليونانية، وكيف جاهدت لتنتصر على الشعر والدين وكيف التمست تفسير هذا الكون في الأرض مرة، وفي السماء مرة أخرى، وفي الماء حينا، وفي الجو حينا آخر، ثم كيف عدلت عن المادة إلى المعنى ، وكيف تعمقت في بحثها المعنوي دون أن تنتهي إلى شيء قيم، وكيف كانت أثناء هذا البحث والاضطراب مصدرا لهذا التطور السياسي الذي أقر النظام الديمقراطي في أثينا وغيرها من المدن اليونانية، وأما أنا فلن أحدثك من هذا كله بشيء، وإنما أحدثك في كلمات موجزة عن حال العقل اليوناني أيام سقراط، لتستطيع أن تفهم فلسفة سقراط وما تنشأ عنها من المذاهب المختلفة. أما الحياة العامة الأثينية، فكانت متأثرة بشيئين مختلفين: أحدهما النظام الديمقراطي المتطرف الذي يقوي حرية الفرد إلى أقصى حد ممكن، ويجعل شخصيته بارزة تستطيع أن تعاند الدولة وتنتصر عليها أحيانا. والثاني هذا الاختلاط الشديد بين الشعوب المختلفة المتباينة الذي كان يبعث على الحياة العقلية القوية ويجعلها مضطرمة دائما، والآخر كان يبعث على اصطدام المنافع وتنازعها وتعقدها إلى حد عظيم. أضف إلى هذين السببين ما أشرت إليه من إفلاس المذاهب الفلسفية الأولى تنته إلى هذه النتيجة، وهي أن العقل اليوناني في ذلك العصر كان قد وصل إلى حال من الشك لم يعرفها من قبل: شك في الفلسفة التي عجزت عن تفسير الكون، وشك في الدين الذي أصبح من السخف بحيث لا يستطيع أن يؤمن به عقل يحترم نفسه، وشك في الحياة السياسية التي اشتد فيها الاضطراب وعبثت بها الحروب من جهة، والثورات من جهة أخرى. والأهواء الشخصية من جهة ثالثة، وشك في النظام الاجتماعي الذي لا قيمة له إذا لم يعتمد على فلسفة قوية، أو دين متين، أو سياسة ثابتة - شك في كل شيء وحرص على المنفعة الخاصة التي يمكن أن يؤمن بها الفرد حقا؛ لأنه يمسها ويستمتع بها ويسعى إليها.

في هذه الحال نشأت فلسفة «السوفسطائيين» (Sophistes)

التي كانت في حقيقة الأمر مرآة صادقة للحياة الاجتماعية، والتي كانت تنكر كل شيء في نفسه، ولا تعترف إلا بشيء واحد وهو المنفعة الفردية، والتي كان زعماؤها يطوفون في الأرض كما كان يفعل الشعراء القدماء يحملون الشك والإنكار، ويخدمون المنفعة الفردية، ويعلمون الفرد كيف يلبس الحق بالباطل، وكيف يعبث بعقول القضاة في المحكمة ، وبعقول الجماعات في المجالس السياسية العليا، وكيف يعبث بعقول الأفراد ومنافعهم فيما يكون بينه وبينهم من حوار.

في هذه الحال السيئة نشأ سقراط، ولم يكن من أسرة ممتازة، بل لم يكن من أسرة متوسطة، وإنما كان إلى الطبقة الدنيا أقرب منه إلى الطبقات الأخرى: كان أبوه حفارا، وكانت أمه قابلة، ولم يكن حسن الخلق، ولا جميل الطلعة، وإنما كان قبيح المنظر، ممقوت الشكل، ولكنه كان ذكي القلب، نافذ البصيرة، شديد الفطنة. ولم يكن بدعا من الأثينيين في عصره، وإنما سلك السبيل التي كان يسلكها غيره من الناس يقال: إنه تعلم مهنة أبيه ولكنه لم يمض فيها. ومهما يكن من شيء فقد كان كغيره من الشبان الأثينيين: يختلف إلى المجالس العامة، وإلى الحمام، وإلى محال الألعاب الرياضية، وكان يستمع للخطباء السياسيين في جماعة الشعب والقضائيين في المحكمة، وكان يجلس إلى «السوفسطائيين» فيسمع منهم ويحاورهم، وكان يدرس المذاهب الفلسفية المختلفة، حتى إذا قضى من هذا كله وطره وبلغ سن الرجولة، أحس أن في نفسه شيئا يخالف ما في أنفس الأثينيين، وأن له ميولا تخالف ميولهم، وأهواء تخالف أهواءهم، وأخذ يحاور السوفسطائيين من جهة والشبان من جهة أخرى، لا يصرفه ذلك عن واجباته الوطنية؛ فقد كان يشترك في الانتخابات، ويجلس في جماعة الشعب، بل انتخب في مجلس الشورى ورأس جماعة الشعب. وكان يؤدي واجبه العسكري؛ فقد اشترك في الحرب غير مرة، وأظهر فيها بلاء حسنا وشجاعة قيمة وتضحية بالنفس في سبيل الأصدقاء. ولكنه كان يحاور كل من لقيه ضروبا من الحوار غريبة لم يألفها الناس. في ألفاظ إن لم تكن راقية مهذبة، فقد كانت قوية خلابة ساحرة. وما هي إلا أن كلف به الشبان وكلف بهم، فسعوا إليه، أو قل: سعى إليهم، فلم تكن مدرسة، وإنما كان هو مدرسة متنقلة، يحاور في الميادين العامة وفي حوانيت الحذائين وغيرهم من الصناع، وفي أروقة الحمام وفي الملاعب الرياضية. وقد فتن به الشبان فتنة لم يفتنوها بأحد من قبله، فالتفوا حوله التفافا شديدا، واستغرق حواره إياهم يومه كله أو أكثره. وكان حسن الدعابة، بل لم يكن حواره إلا دعابة متصلة وهزلا مستمرا. ولكن هذه الدعابة الحلوة وهذا الهزل اللذيذ، لم يكونا إلا ستارا لطيفا شفافا ينم بما دونه من حق وجد. لم تكن له مدرسة ثابتة، ولم يكن له موضوع بعينه يدرسه أو يحاوره فيه، وإنما كان يدرس كل شيء، ويحاور في كل شيء، ويتخذ كل شيء وسيلة للبحث والجدال وطريقا إلى غاية معينة سنراها بعد حين. كان إذن يخالف غيره من فلاسفة عصره من هذين الوجهين: من حيث إنه لم يكن يلتزم مكانا للدرس، ومن حيث إنه لم يكن يلتزم موضوعا للدرس. وكان يخالفهم من جهة أخرى، فقد كان هؤلاء الفلاسفة من السوفسطائيين، سواء منهم من طوف في الأرض وانتقل من مدينة إلى مدينة يسعى إلى طلابها ويلتمسهم ومن أقام في مدينة بعينها يسعى إليه الطلاب ويلتمسونه، كانوا جميعا يتخذون الفلسفة والدرس وسيلة إلى المجد وكسب المال: وسيلة إلى المجد، فكانوا ينشئون الفصول والرسائل يتلونها في المحافل والمشاهد العامة ليفتن بهم الجمهور، ويعجب بهم الناس، كما كانوا يتعرضون للفلاسفة وزعماء العصر ويحاورونهم ويجادلونهم، ويخلبون الناس بهذه المقدرة التي كانت تتيح لهم أن يلبسوا الحق بالباطل؛ ويسبغوا على الخطأ ثوب الصواب. ووسيلة إلى كسب المال، فكانوا لا يلقون دروسهم مجانا، بل كانوا يتقاضون عليها الأجور الضخمة، وكانوا يحاسبون الطالب حسابا دقيقا على ما ألقوا إليه من علم: أتريد درسا واحدا أم دروسا عدة؟ أم أنت تريد أن تتعلم الفلسفة كلها؟ لكل شيء من ذلك أجره.

أما سقراط فلم يكن يلتمس مجدا ولا كسبا، ولم يكن يحفل بالمجامع العامة يلقي فيها الخطب أو يقرأ فيها الفصول، وإنما كان يفر من ذلك فرارا ولا يأتيه إلا إذا اضطر إليه اضطرارا في جماعة الشعب أو مجلس الشورى، وكان لا يعد الخطب للناس يلقونها في المحاكم أو الجماعات السياسية، وكان لا يتقاضى على علمه أجرا؛ لأنه كان يعتقد أنه لا يعلم الناس شيئا. فليس غريبا أن يفتن به الجمهور من شباب أثينا. وليس غريبا أن يتسامع به الناس في «أتكا» ثم في البلاد اليونانية الأخرى. وليس عجيبا أن يفد اليونانيون من أقطار الأرض على أثينا ليلقوا سقراط، ويتحدثوا إليه. ولكن حادثة حدثت فغيرت من سيرة سقراط ورأيه في نفسه شيئا كثيرا، ذلك أن أحد المعجبين به - وكانوا كثيرين - ذهب إلى «دلف» (Delphes) ، وسأل «أبلون» (Appollon) : أبين فلاسفة اليونان وحكمائهم من يفوق سقراط أو يبلغه فلسفة وحكمة؟ فأجابت الكاهنة أن لا. وبلغ ذلك سقراط، فحمله على أن يتبين السبب الذي بعث الإله «أبلون» على أن يعلن أنه أحكم الناس وأحسنهم فلسفة. ولم يكن سقراط يرى في نفسه هذا الرأي، وإنما كان يرى أنه أشد الناس جهلا وأقلهم حظا من علم أو فلسفة.

وما هي إلا أن أخذ في البحث والتحقيق، فألم بالحكماء والفلاسفة، وبالشعراء والكتاب، وبالصناع وأهل الفن، يحادثهم ويسألهم ويعلم علمهم، حتى انتهى إلى هذه النتيجة، وهي أنه أحكم الناس حقا؛ ذلك لأنه رأى هذه الطبقات كلها شديدة الغرور، قوية الإيمان بحظها من العلم أو الفلسفة أو الشعر أو الفن، شديدة الجهل بنفسها، ورأى أنه هو الرجل الوحيد الذي لا يغره شيء، ولا يعلم إلا شيئا واحدا هو أنه شديد الجهل بكل شيء، وكان القدماء قد كتبوا على معبد «دلف» هذه الحكمة القديمة «اعرف نفسك بنفسك»، فما أسرع ما اتخذها سقراط شعارا له وقاعدة لحياته وحواره وتعليمه - وما أسرع ما اعتقد أنه قد أصبح شيئا يشبه الأنبياء، وأن «أبلون» قد كلفه مهمة عظيمة الخطر، هي أن يبث الحكمة في الناس ويعلمهم أن يعرفوا أنفسهم بأنفسهم. من ذلك الوقت جد سقراط في تأدية رسالته، وتحقيق الواجب الذي كلفه إياه «أبلون»، فتتبع الشباب الأثيني في كل مكان، وأخذ عليه كل سبيل، حتى لقد كان يمشي في طريقه، فإذا رأى شابا يمضي لعمل من أعماله، أخذ عليه الطريق ومنعه أن يمضي، وأخذ يلقي عليه أسئلة عادية لا قيمة لها، فيجيبه الشاب أجوبة تلائم هذه الأسئلة، ولكنه يمضي في السؤال، ويمضي الشاب في الجواب، وإذا هما في حوار فلسفي قد أنسى الشاب عمله، وجمع حولهما الناس. وقد ظهر تأثر الجماعة الأثينية بسقراط وجزع الطبقات الأرستقراطية من سلطانه على الشبان في نحو سنة 425 قبل المسيح، حين أخذ الشاعر التمثيلي المشهور «أرستفان» (Aristophane)

الذي كان لسان الأحزاب الأرستقراطية المحافظة، يعرض بسقراط في قصصه التمثيلية المضحكة، ولا سيما في قصة الطير والضفادع، ولا سيما في قصة السحاب التي خصصت كلها لسقراط والهزؤ به.

وأصبح سقراط شيئا يخيف الأرستقراطية لأنه كان شديد العبث بالعادات والأخلاق الموروثة. ولكنه، لسوء حظه، لم يرض الديمقراطية، بل كان بها شديد العبث أيضا. ألم يكن يتخذ الدين موضوعا لحواره؟ ألم يكن يتخذ النظم الديمقراطية موضوعا لهذا الحوار؟ ألم يكن يظهر كلما سنحت له الفرصة سخطه على حكم الشعب واستهزاءه بهذا الحكم؟ ثم أليس هو الذي عارض أشد المعارضة حين أرادت جماعة الشعب أن تحاكم القواد الأثينيين المنتصرين الذين اتهموا بالتقصير في جمع الغرقى في موقعة «أرجينوس» (Arginus) ؟ أبى سقراط على جماعة الشعب محاكمة هؤلاء القواد، وكان هو من رؤساء الجلسة في ذلك اليوم. ولكن جماعة الشعب حاكمت هؤلاء القواد وقضت عليهم بالموت، وأنفذت فيهم هذا القضاء، وأكرهت سقراط؛ ثم لم تلبث أن ندمت على ما قدمت، وأحست أنها قد حرمت أثينا ظلما عشرة من قوادها الماهرين حين كان احتياجها إلى الرجال شديدا.

كان سقراط قليل الميل إلى الديمقراطية؛ كما كان شديد البغض للاستبداد، عدوا للأرستقراطية، وقد أغضب هذه الطبقة كما أغضب الشعب: أغضبها حين أبى على الطغاة الثلاثين ما أرادوه عليه من المعونة، وحين عرض نفسه بذلك الخطر. ومن هنا لم ينته القرن الخامس حتى كان سقراط قد ألب على نفسه الديمقراطية المنتصرة والأرستقراطية المنهزمة، كما أنه كان قد ألب على نفسه الشعراء والفلاسفة والمعلمين، لأنه صرف عنهم الشباب من جهة، ولأنه كان شديد السخر بهم من جهة أخرى. فما هي إلا أن تم انتصار الديمقراطية على الطغاة الثلاثين، حتى تقدم اثنان من الأثينيين، أحدهما شاعر، بقضية إلى الشعب يتهمان فيها سقراط تهما عدة: منها أنه أفسد الشباب، ومنها أنه لا دين له، ومنها أنه يعبث بالنظم السياسية القائمة. وحوكم سقراط، فلم يكن موقفه من قضاته موقف الرجل الذي يريد أن يدافع عن نفسه حقا ويثبت براءته حقا، وإنما كان موقفه من القضاة موقف الساخر بهم، المزدري لهم، ومع ذلك فقد صدر الحكم عليه بكثرة قليلة جدا. وكانت العادة عند الأثينيين وغيرهم من القدماء أن يصدر في مثل هذه القضايا الجنائية حكمان: الأول يثبت إدانة المتهم أو ينفيها، والثاني يقرر العقوبة التي يستحقها المتهم إذا ثبتت إدانته. وكانت العادة إذا ثبتت إدانة المتهم أن يسأل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، وأن يسأل المدعي عن العقوبة التي يرى أن المتهم خليق بها، ثم تفصل المحكمة بين هذين الجوابين، فتقر إحدى العقوبتين اللتين اقترحهما المتهم والمدعي. فلما صدر الحكم بإدانة سقراط سئل عن العقوبة التي يرى أن يستحقها، فأجاب ساخرا مستهزئا: أنه يرى أن تطعمه الدولة مجانا بقية حياته؛ لأنه أنفق هذه الحياة في تعليم الأثينيين وتهذيبهم. وسئل المدعون فطلبوا الموت، وكان القضاة قد سخطوا لهذه السخرية القاسية، فأقروا في حكمهم ما طلب المدعون، وقضي بالموت على سقراط.

وليس من شك في أنه لو أحسن الدفاع عن نفسه لبرئ. وليس من شك في أنه لو لم يسخر من القضاة بعد إدانته لما حكم عليه إلا بالغرامة كثيرة أو قليلة؛ ولكن موقفه أحنق عليه القضاة، ثم انتهت به هذه السخرية إلى أن اعتبر مهينا للدولة، فعوقب معاقبة من تثبت عليه الخيانة العظمى أو الخروج على النظام القائم.

أما إذا أردنا أن نتبين نصيب هذا الحكم من العدل أو الجور، فنحن مضطرون إلى أن نرى فيه رأيين مختلفين: أحدهما أن أثينا لم تكن ظالمة حين قضت بالموت على هذا الرجل الذي خرج بفلسفته وتعليمه على النظام القائم، واتخذ القوانين سخرية وهزءا، وانتهى إلى أن أهان الشعب ممثلا في المحكمة. والآخر أن أثينا - وإن كانت قد عدلت في حكمها، بالقياس إلى نظمها وقوانينها - فليس من شك في أنها قد أساءت حين قضت بالموت على رجل لا لشيء إلا أنه خالف الجمهور في الرأي. وبهذا الحكم كانت الديمقراطية الأثينية عدوة لحرية الرأي. وحسبك بهذا سبة وعارا، وحسبك به مجدا وفخارا لسقراط.

صدر الحكم على سقراط والأثينيون في حفلة من حفلاتهم الدينية، قد أرسلوا وفدهم إلى «أبلون» في جزيرة «دلوس» (Dellos)

وكان «أبلون» صاحب «دلوس» هذه إلها خاصا لليونانيين يخالف من وجوه كثيرة «أبلون» صاحب «دلف» الذي كان إلها للدوريين خاصة واليونانيين جميعا. فكانت أثينا تعنى عناية خاصة بإله «دلوس»، وترسل إليه وفدا من الحجيج في كل سنة يقيمون الحفلات حول معبده في الجزيرة التي يقال إنها كانت سابحة على وجه الماء حينما هبطت أم أبلون من السماء، وكانت حاملا وكانت هاربة من زوج «زوس» (Zeuss)

كبير الآلهة؛ فأوت إلى هذه الجزيرة السابحة، ولم تكد تأوي إليها حتى استقرت في مكانها، وولدت هذه الإلهة «أبلون» و«أزتميس» أخته. وكانت العادة عند الأثينيين ألا ينفذ حكم الموت أثناء هذا العيد؛ فإذا قضي بالموت على متهم أثناء هذا العيد انتظر في السجن حتى يؤوب الحجيج ثم ينفذ فيه الحكم. فاضطر سقراط إلى أن ينتظر أياما في سجنه. وأخذ أصحابه وتلاميذه يختلفون إليه في السجن كل يوم يقضون معه بياض النهار في حوار وجدال كأن لم صدر عليه حكم، وكأنه لم يكن ينتظر الموت، حتى آب الحجيج وآن تنفيذ الحكم. في هذا اليوم أقبل تلاميذ سقراط على أستاذهم كعادتهم، ولكنهم كانوا جزعين مضطربين وكان هو كعادته هادئا مطمئنا مبتسما، فكان بينه وبينهم حوار معروف هو آية من آيات الفلسفة والبلاغة الإنسانية، وهو الحوار الذي صوره أفلاطون في كتابه «فيدون» (Phédon)

والذي يثبت فيه سقراط خلود النفس، والذي كان له التأثير العظيم في الحياة الرومانية أيام الإمبراطورية حين كان القياصرة يقضون بالموت على زعماء الرومان وأشرافهم؛ فإذا أنفذ إليهم أمر قيصر أن يموتوا استعدوا للموت هذا الاستعداد الجميل، فعنوا بأجسامهم العناية العادية، وأخذوا في أمورهم كما يأخذون من قبل. فمنهم من كان يجد، ومنهم من كان يلهو؛ حتى إذا فرغوا من ذلك قرءوا «فيدون»، ثم قتلوا أنفسهم تنفيذا لأمر قيصر.

ولست أريد أن أنتقل من هذا الموضوع دون أن أشير إلى هذه القصة التي اتفق عليها المؤرخون؛ وهي أن بعض تلاميذ سقراط هيأ له الهرب وأعد له وسائله وألح عليه فيه، ولكن سقراط أبى أن يهرب، ولو شاء لنجا: أبى الهرب إكبارا لقوانين الدولة، واحتراما لأحكامها. الحق أنا لا نستطيع أن نفهم الصلة بين هذا الموقف الذي وقفه سقراط بعد الحكم والذي يمثله خاضعا لنظام الدولة محترما له، وبين ذلك الموقف الذي وقفه أثناء المحاكمة والذي يمثله ساخرا من نظام الدولة عابثا به، وأكبر ظننا أن هذه القصة لا تخلو من مبالغة، أو قل: إن سقراط لم يأب الهرب إلا ازدراء للحياة وشوقا إلى الموت. فنحن نراه في حواره ينتظر الموت انتظار مشتاق إليه مؤمن بأنه سيكون سعيدا به. وقد تناول السم، وجاد بنفسه بين تلاميذه في فبراير أو مارس سنة 399 قبل المسيح، وهو في نحو السبعين من عمره.

أوجزت لك حياة سقراط، ولكني أشد حرصا على الأمانة التاريخية من أن أخفي عليك شيئا يضطرب في بعض أذهان العلماء العصريين من أمر سقراط، ذلك أن من العلماء المعاصرين من يشك في وجود سقراط أو ينكره ويريد أن يرى فيه رأيا يشبه رأي النقاد في واضع «الإلياذة» و«الأودسا» أي يريد أن يعتقد أن سقراط شخص خرافي اخترعه القدماء ليضيفوا إليه هذه الفلسفة التي تسمى السقراطية، والتي نشأت عنها فلسفة أفلاطون وأرسطاطاليس وغيرهما من الفلاسفة. ولست أخفي عليه أن هذا الرأي لا يزال شاذا، وأن الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تكاد تحفل به. ولكن من يدري! فقد كان رأي الذين أنكروا شخص «هوميروس» شاذا في عصر من العصور، وكان الكثرة المطلقة من العلماء والمؤرخين لا تحتفل به، ثم تمت له السيادة الآن. أليس من الممكن أن تتم السيادة في يوم من الأيام لهذا الرأي الذي ينكر وجود سقراط؟ نعتقد أن هذا لن يكون؛ ذلك لأن سقراط لم يعش في عصور جاهلية، وإنما عاش في عصر تاريخي معروف لا يخفى فيه على الناس شيء، ولا يمكن أن يجري فيه على الناس خداع غليظ كهذا الخداع. ليس عندنا شك في أن سقراط قد وجد وعلم وأثار العقل الأثيني، وأغضب الأثينيين، وحوكم وقضي عليه بالموت، وأنفذ فيه هذا القضاء، ولكن الذين ينكرون شخص سقراط معذورون:

أولا:

لأن الآثار التاريخية المباشرة التي تثبت وجود سقراط وما اعترض حياته من الخطوب قد فقدت منذ زمان طويل، فنحن لا نكاد نحقق تاريخ ميلاده، وليست لدينا نقوش معاصرة فيها اسمه أو فيها إشارة إلى ما أصابه. ولكن هذا كله لا يدل على شيء - فقد فقدنا من آثار القدماء معظمها، ولم يكد يبقى لنا منها شيء.

وثانيا:

لأن سقراط لم يكتب شيئا، وإنما كان تعليمه حوارا لا يسجل، فلم يبق لنا من سقراط كتاب يمثل شخصيته تمثيلا ما، وإنما نحن مضطرون إلى أن نلتمس شخصية سقراط فيما ترك تلاميذه من الكتب: نلتمسها عند أفلاطون وعند ذينوفون (Xénophon)

وعند أرسطاطاليس وعند غيرهم من الفلاسفة والكتاب الذين حاوروا تلاميذه. وهؤلاء الفلاسفة والكتاب لا يتفقون في تصوير سقراط، بل لا يكادون يتشابهون في هذا التصوير. أضف إلى هذا كله أن آثار هؤلاء الفلاسفة والكتاب قد أصابها شيء كثير من عبث الزمان، فهي لا تؤدي إلينا شخصية سقراط على وجه مرض.

وثالثا:

لأن الفلاسفة الذين حاوروا سقراط، وأخذوا عنه قد علموا الفلسفة بعده في مدن مختلفة، بل في أوقات مختلفة؛ وكان من المعقول أن تتشابه فلسفتهم ويتقارب تعليمهم؛ إذ كان كله منتهيا إلى مصدر واحد هو سقراط، ولكن هذه الفلسفة مختلفة وهذا التعليم متناقض؛ فإذا نطقت بلفظ الفلسفة السقراطية لم تفهم منها شيئا متشابها، وإنما فهمت منها أشياء متباينة تباينا شديدا، كما سنرى.

رابعا:

لأن حياة سقراط وموته وما اعترضه من الخطوب، كل ذلك قد أحدث في نفوس الناس أثرا عظيما، وما هي إلا أن كثرت الأساطير والأكاذيب حول سقراط وحياته، وأخذ الكتاب المتأخرون هذه الأساطير والأكاذيب فخلطوها خلطا، ومزجوها بالصواب مزجا - فأصبح من العسير جدا تمييز الحق في أمر سقراط من الباطل. ولكن كل هذا لا يثبت أن سقراط لم يوجد، وإنما يثبت شيئا واحدا لا يختلف فيه اثنان، وهو أن شخصية سقراط شيء عسير الإثبات والتمييز، وما أكثر الفلاسفة والأبطال الذين بعد بهم العهد فأصبح من العسير إثبات شخصياتهم وتمييزها - على أن مثل هذا البحث يخرج بنا عن الخطة التي رسمناها لأنفسنا في هذه الفصول، فلنتركه ولنمض فيما نحن فيه من إيجاز فلسفة سقراط، وأثرها في الحياة بعده.

الفلسفة السقراطية

قلنا: إن سقراط اتخذ لنفسه قاعدة جعلها إماما له في سيرته وفي تعليمه، وهي هذه الحكمة التي كانت مكتوبة على معبد «دلف»: «اعرف نفسك بنفسك». وهذه الحكمة نفسها إذا تأملناها أوضحت لنا جملة الفلسفة السقراطية. فهذه الفلسفة تنحصر، أو تكاد تنحصر، في شيئين:

الأول:

أن الإنسان قد جهل نفسه في جميع العصور المتقدمة، وأن جهله نفسه هو الذي حمله على أن يلتمس العلم في الخارج، فيبحث عنه مرة في الأرض وأخرى في السماء، وحينا في الجو وحينا في الماء؛ وكان الحق عليه أن يبدأ بنفسه فيدرسها ويتبين أمرها، حتى إذا فرغ منها استطاع أن ينتقل إلى الخارج. وليس هو في حاجة إلى ذلك؛ لأنه لن يفرغ في درس نفسه أبدا، ولأنه سيجد في نفسه إذا درسها كل شيء.

الثاني:

أن الفلسفة يجب أن تقوم منذ اليوم على معرفة النفس والعلم بها، أي إن الفلسفة يجب أن تكون إنسانية، أي إن الفلسفة يجب أن تقوم قبل كل شيء على الأخلاق.

فأنت ترى أن هذه القاعدة السقراطية قد حملته قبل كل شيء على أن يعلن جهله؛ لأنه لا يستطيع أن يعلم شيئا قبل أن يعلم نفسه؛ وإذا كان يجهل نفسه فهو يجهل كل شيء. ثم حملته بعد ذلك على أن يتبين نفسه، فيبحث عن جوهرها وخصالها، وعما يلائمها وما يخالفها. وبهذا البحث وضع سقراط أساس علم النفس من جهة، وأساس علم الأخلاق من جهة أخرى. أما علم النفس فلم يتعمق فيه سقراط؛ لأن سقراط لم يكن نظريا ولا مفتونا بالبحث الخالص الذي ليس بينه وبين الحياة العملية صلة، وإنما كان يشبه السوفسطائيين شبها قويا، ويخالفهم مخالفة قوية: كان يشبههم من حيث إنه كان يمقت البحث النظري الخالص، وكان شديد الميل إلى البحث الذي يمس الحياة العملية ويهدي إلى سبل الخير فيها.

من هذه الجهة كان ينكر المذاهب الفلسفية القديمة كما كان ينكرها السوفسطائيون، وكان يعبث بالعادات والنظم الموروثة كما كان يعبث بها السوفسطائيون. ولكنه كان يخالف السوفسطائيين خلافا شديدا، فقد كان هؤلاء يعرضون عن النظر الخالص إلى المنفعة العملية الخالصة، وكانوا يبتغون المنفعة في أغلظ وجوهها وأحطها: يبتغون المجد والصوت، والمال ولذات الحياة؛ ويسلكون إلى هذا كله أيسر السبل وأسهلها، لا يعوقهم عنه عائق ولا يمنعهم منه مانع.

أما سقراط، فكان يعرض عن النظر الخالص، لا إلى هذه المنافع المبتذلة، بل إلى المنفعة المحققة، إلى منفعة النفس من حيث هي؛ فلم يكن يحفل بالمجد ولا بالثروة ولا بالشهرة، وإنما كان يبتغي السعادة، وقد بحث عنها كثيرا واهتدى إليها آخر الأمر؛ فعرف أن السعادة إنما هي الخير، أي أن يكون الإنسان خيرا، عدلا مؤثرا للحق من حيث هو، مطمئنا إلى الحق في نفسه. فبينما كان السوفسطائيون يعلمون الناس أن يكونوا نفعيين ماديين، كان سقراط يعلم الناس أن يكونوا نفعيين، ولكن على الوجه الروحي الذي يؤثر الباقية على الفانية، ويستطيع أن يميز الجوهر من العرض، وأن يزدري زخرف الحياة في سبيل السعادة الحقيقية.

وبينما كان السوفسطائيون ينكرون كل شيء ويجحدون كل حقيقة؛ فيهدمون بذلك كل علم وكل فلسفة، كان سقراط يثبت الحقائق، ويعلن أن هذا العلم ليس لغوا ولا عبثا ولا باطلا، ويسلك في إثبات هذا كله سبيلا تقرب كل القرب من السبيل التي سلكها ديكارت بعده بعشرين قرنا، وهي أن يثبت وجود نفسه أولا. فإذا ثبت له وجود نفسه فقد ثبت أن في العالم حقائق ثابتة، وأن الفلسفة السوفسطائية كلها تقوم على شيء من العبث والمغالطة. ذلك أنك مهما تنكر فلن تستطيع أن تنكر نفسه، ولن تستطيع أن تنكر أنك تفكر وتحس وتشعر، وإذن فنفسك وما يصدر عنها من تفكير وحسن شعور، كل ذلك حقائق ثابتة لا تحتمل شكا ولا جدالا؛ ومن هنا قامت الفلسفة السقراطية، أولا: على محاربة السوفسطائية، وإثبات أن هناك حقائق موجودة، وثانيا: على أن هذه الحقائق، إنما تعلم إذا علمت النفس الإنسانية التي هي السبيل الحقيقية إلى إدراكها، وثالثا: على أن العلم بهذه النفس ليس معناه إلا العلم بجوهرها وما يلائمها وما يخالفها. ورابعا: على أن العلم بهذا كله ليس الغرض منه - أو لا ينبغي أن يكون الغرض منه - إلا السعادة التي هي تحصيل ما يلائم النفس وتجنب ما يخالفها، وخامسا: أن الحياة كلها تدور حول محور واحد عنه صدرت وإليه تنتهي، وهو الخير. هذه هي خلاصة الفلسفة التي يمكن أن تضاف إلى سقراط، وهي شيء من اليسير أن يوجز في جمل قصار، ولكن من العسير جدا أن يحصى تأثيره في الحياة الإنسانية والعقل الإنساني.

على أن من التقصير أن نزعم أن فلسفة سقراط قد انتهت عند هذا الحد، بل من الحق أن نقول: إن هناك وجها آخر من وجوه الفلسفة السقراطية يحسن ألا ننساه وألا نهمله، وهو منهجه في البحث وطريقته في التفكير، فلم يكن سقراط كغيره من الفلاسفة الذين تقدموه، ولا كغيره من الفلاسفة الذين جاءوا بعده بزمن قصير، يواجه المباحث الفلسفية مباشرة، ويهجم عليها هجوما عنيفا، حتى يخلص منها إلى نتائجها، وإنما كان يدور حول المباحث الفلسفية في رفق ولطف، وما يزال يدور حولها، حتى يجد مسلكا ضيقا يسلكه فينتهي به إلى النتيجة التي كان يبتغيها. هذه الطريقة الفلسفية هي طريقة الحوار. لم يكن سقراط يضع أمامه مسألة بعينها ثم يأخذ في التحليل والنقد والتعليم حتى ينتهي إلى ما يريد، وإنما كان يتحدث، فيسأل ويناقش جواب المسئول، ثم يسأل، ثم يتعرض للسؤال، ثم يجيب، ثم يورط محاوره في الخطأ، أو يتورط هو في الخطأ، وما يزال في حوار وفي أخذ ورد حتى يستخلص النتيجة كأنها إحدى القضايا الأولية التي لا تحتمل الشك ولا الجدال. ومصدر هذه الطريقة أن سقراط كان يعتقد أن النفس بطبيعتها قادرة على العلم بالأشياء، وعلى استكشاف الحقائق، ولكن ظروف الحياة العملية وأعراضها، وما ورث الناس من عادات وأخلاق، ومن أساطير وسخافات، كل ذلك قد تراكم على هذه النفس الصافية كما يتراكم الصدأ على المرآة. فعمل الفيلسوف ليس هو تعليم الإنسان ما لم يعلم، وإنما هو إعداد الإنسان لكشف الحقائق، أو قل: إن عمل الفيلسوف إنما هو إزالة هذا الصدأ عن المرآة، حتى إذا أتم صقلها وتصفية جوهرها تجلت فيها الحقائق واضحة بينة. ومن هنا كان سقراط يعلن أنه لا يعلم الناس شيئا؛ لأنه لا يعلم شيئا، وإنما يبحث معهم عن الحق فيجده حينا ويخطئه حينا، ومن هنا سميت طريقة سقراط طريقة «التوليد»؛ لأنه كان يعتقد أن النفس مشتملة على الحقائق كما تشتمل الأم على الجنين، وأن عمل الفيلسوف هو استخراج هذه الحقائق من النفس، كما أن عمل القابلة هو استخراج الجنين من الأم. وسواء أكانت هذه التسمية صحيحة أم لم تكن، وسواء أكانت بينها وبين صناعة سقراط صلة أم لم تكن، فليس من شك في أن هذه التسمية تصف طريقة سقراط الفلسفية في البحث وصفا دقيقا.

أعتقد أني قد أجملت لك ما يمكن إجماله من فلسفة سقراط وما هو بمعزل عن النزاع والجدال، فهناك مسائل كثيرة يختلف العلماء في صحة إضافتها إلى سقراط. ولم يبق علي الآن إلا أن أجمل لك مقدار التأثير الذي أحدثه سقراط في العصر الذي جاء بعده مباشرة.

قلت: إن الشباب الأثيني كان شديد الالتفاف حول سقراط، وإن الناس تسامعوا به في جميع البلاد اليونانية، فأقبلوا إليه واشتركوا في حواره، فلما قضي عليه بالموت وأنفذ فيه هذا القضاء، ظهر في أثينا روح رجعي معاد للفلسفة والفلاسفة ميال إلى المحافظة في الرأي، فتفرق تلاميذ سقراط الأصفياء سواء منهم الأثينيون وغير الأثينيين. فمنهم من عاد إلى وطنه وأخذ يعلم الفلسفة فيه، ومنهم من هاجر إلى أرض أخرى وأنشأ فيها مدرسة توارثها خلفاؤه من بعده، ومنهم من ساح في الأرض، ومنهم من استخفى في أثينا وترك الفلسفة إلى حين، حتى إذا هدأت العاصفة استأنف بحثه الفلسفي وأخذ يعلم الناس. كل هؤلاء التلاميذ نشروا في أطراف الأرض اليونانية فلسفة سقراط وفلسفتهم الخاصة. وما هي إلا أعوام بعد موت سقراط. حتى كان تلاميذه قد أنشئوا المدارس المختلفة في أطراف من بلاد اليونان الحقيقية أو في بعض المدن الإيطالية والآسيوية، بل في إفريقية. وأخذت هذه المدارس بحظوظها المختلفة من الحياة، فمنها ما بقي وحفظت آثاره، ومنها ما ذهب به عبث الأيام. ولست أذكر من هذه المدارس إلا ثلاثا كان لها أثرا عظيما جدا في حياة العالم القديم، وكان لبعضها أثر لا يزال قويا في حياة العالم الحديث: الأولى: مدرسة «الكلبيين» التي أنشأها رجل من تلاميذ سقراط يسمى «أنتستين» (Antistène)

في أثينا، والتي اتخذت اسمها من المكان الذي أنشئت فيه، والتي كانت تقوم فلسفتها على قاعدة سقراط التي قدمناها، وهي معرفة النفس بالنفس، ولكنها كانت تطبق هذه القاعدة تطبيقا انتهى بها إلى الزهد وإلى المبالغة فيه؛ لأنها حاولت أن تعرف النفس فعرفتها واستغنت بها عن كل شيء، وحملتها هذه المعرفة على أن تزدري الحياة والأحياء، وما يستمتعون به من لذة، وما يتهالكون عليه من زينة. ولعلك تعرف كثيرا من أخبار «ديوجين» (Diogène)

الذي كان يبحث عن الإنسان فلا يجده؛ لأن الإنسان عنده هو من عرف نفسه؛ وأي الناس يعرف نفسه! والذي يقال إنه كان يأوي إلى دن يتخذه له بيتا، وكان لا يكره أن يستظل السماء ويتخذ الأرض له وطاء ويشرب الماء بيده يستغني بها عن الأقداح، والذي يقال إن الإسكندر زاره وسأله: ماذا يريد؟ فأجابه: أريد ألا تحجب عني الشمس، فقال الإسكندر: لو لم أكن الإسكندر لوددت أن أكون ديوجين. كان تأثير هذه المدرسة شديدا جدا في العصور الأولى؛ فقد انبعث تلاميذها في البلاد اليونانية في أزياء الفقراء والمعوزين لا يلتمسون من الناس شيئا، ولكنهم يدعونهم إلى الزهد والقناعة والانصراف عن اللذات. ولعلك تذكر ما كان لمثل هذه النظريات من الأثر ي حياة العالم القديم، ولا سيما أيام الإمبراطورية الرومانية قبل انتشار الديانة المسيحية.

المدرسة الثانية: مدرسة «قورينا» (Cyrène) ، أو مدرسة «برقة»، وهي مدرسة مناقضة من كل وجه للمدرسة التي قدمت لك ذكرها، أنشأها تلميذ من تلاميذ سقراط يقال له أرستيب (Aristippe) ، وتوارثها خلفاؤه من بعده إلى أيام المقدونيين في مصر، وكانت تقوم أيضا على قاعدة سقراط «اعرف نفسك بنفسك»، ولكنها سلكت سبيلا غير سبيل «الكلبيين»، عرف النفس فوجدت أن الخير إنما هو في أن تزدري النفس الحياة والأحياء ازدراء لا يقوم على الزهد والحرمان، وإنما يقوم على اللذة والاستمتاع بالخير، ما وجدت إلى هذا الاستمتاع سبيلا. فلم الحرمان؟ ولم الزهد ولم النفاق؟ ألست تشعر بأن شيئا يلذك وشيئا يؤذيك! فالخير هو أن تؤثر ما يلذك على ما يؤذيك، ولكن لا على أن تجعل نفسك عبدا للذة، بل على أن تجعل اللذة أمة لنفسك، تأخذ منها ما استطعت، دون أن تأسف عليها إذا حيل بينك وبينها، ودون أن تضحي في سبيلها بإنسانيتك في حاجة إلى أن أذكرك بما كان لهذه المدرسة من التأثير في الحياة القديمة؛ فأنت تعلم أن مذهبين خلقيين كانا يتنازعان حياة القدماء: أحدهما مذهب الزهد الذي أعلنه الكلبيون بعد سقراط، وبالغ فيه الرواقيون بعد أرسطاطاليس. والآخر مذهب اللذة الذي أعلنه «أرستيب» بعد سقراط، وبالغ فيه «أبيقور» (Epicure)

بعد أرسطاطاليس.

أما المدرسة الثالثة، فهي أبقى المدارس التي نشأت عن فلسفة سقراط وأبعدها أثرا في الحياة الإنسانية، وأعظمها حظا في الخلود: أثرت في العالم القديم، وأثرت في القرون الوسطى، وأثرت في العالم الحديث، وما زال لها أنصارها وتلاميذها إلى اليوم وإلى ما بعد اليوم؛ ولكني لا أحدثك عنها في هذا الفصل؛ فهي تحتاج إلى فصل خاص؛ لأنها نشأت لنا رجلين من قادة الفكر الإنساني العام: أحدهما: «أفلاطون»، والآخر: «أرسطاطاليس».

أفلاطون

كان سقراط قد نيف على الخمسين حين ولد أفلاطون سنة 428 قبل المسيح؛ فكان أثر الحوادث التي امتلأ بها الثلث الأخير للقرن الخامس مختلفا في نفس الشيخ المجرب سقراط، وفي نفس الشاب الحدث أفلاطون: فبينما كان الشيخ ينظر إلى هذه الحوادث نظرة الفاهم لها، الذي لا يخفى عليه من أسبابها ونتائجها شيء، كان هذا الشباب ينظر إلى هذه الحوادث نظر المرتاع لها، الذي لا يقدرها ولا يكاد يفهمها.

ولعل هذا الاختلاف في النظر إلى الحوادث وفهمها والحكم عليها؛ ظاهرة مطردة في تاريخ الإنسانية كلها، على خلاف أجيالها وبيئاتها. فالإنسانية منقسمة دائما إلى الشيوخ والشبان، ونظر الشيوخ مخالف لنظر الشبان، وأثر الحادثة المعينة في نفس الشيخ غيره في نفس الشاب.

ومن هنا كان الاختلاف بين الأجيال، ومن هنا كان تطور الإنسانية المطرد، غير أن الحوادث تختلف قوة وضعفا؛ فمنها ما هو هول كله، ومنها ما هو لين كله، ونفوس الشيوخ والشبان تختلف اختلافا شديدا، فمنها الممتاز ومنها العادي.

فإذا اجتمعت الأحداث التي ليست في نفسها إلا هولا وإذا قضت المصادفة أن توجد بإزاء هذه الحوادث نفوس ممتازة راقية في حسها أو فهمها أو حكمها، كان من المعقول جدا أن يوجد الفيلسوف، أو أن يوجد الرجل العظيم؛ وكان من المعقول جدا أن يظهر الاختلاف بين الناس في فهمهم للأشياء وحكمهم عليها. وقد أرادت المصادفة أن تجتمع في هذا العصر، الذي كان أفلاطون يستقبل فيه الحياة وسقراط يستقبل فيه الموت، أحداث عظيمة خطيرة، لم تعهدها الإنسانية من قبل، وأقول الإنسانية، وأستعمل هذا اللفظ العام على عمومه متعمدا، فقد اعتادت الإنسانية الحروب، وتعرضت للأهوال، وتجشمت الخطوب منذ عرفت الحياة المنظمة، ولكنها لم تكن قد عرفت حربا، ولا تعرضت لهول، ولا تجشمت خطبا كتلك الحروب، وتلك الأهوال والخطوب التي تعرضت لها في آخر القرن الخامس قبل المسيح.

الأمر في تلك الحروب كالأمر في الحرب العظمى التي لم ننسها بعد، والتي لا نخطئ إن قلنا إن الإنسانية لم تعرف حربا تعدلها هولا وفظاعة. فإذا أردنا أن نعلل هذا فتعليله يسير، وهو أن العالم كان قد انتهى في سنة 1914 إلى حد من الرقي غير مألوف، وأن الحرب استفادت من رقي العالم، فأضافت إلى أهوالها المألوفة أهوالا لم يكن للناس بها عهد من قبل. كذلك الحال في تلك الحرب التي اضطرب لها العالم القديم في آخر القرن الخامس قبل المسيح، والتي شبت نارها حين كان الإنسان قد انتهى من الحضارة والعلم والقوة إلى حدود بعيدة جعلت هذه الحرب بدعا من الحروب التي سبقتها.

أنت تعلم أن هذه الحرب هي التي يعرفها التاريخ باسم حرب «بيلوبونيز» (Péloponèse) ، ولست في حاجة إلى أن أصف لك أهوالها، أو ألم بشيء من آثارها المنكرة في حياة العالم القديم؛ فقد تستطيع أن تظفر بما شئت من ذلك في كتب التاريخ، ولا سيما في كتاب «توسيديد» (Thucydide)

الأثيني الذي اشترك في هذه الحرب، وكتب في تاريخها كتابا هو آية من آيات الفن القديم.

نشبت هذه الحرب بين أثينا وإسبرطا في نحو العصر الذي ولد فيه أفلاطون، ولم تلبث أن اشتملت بلاد اليونان جميعا، ثم لم تلبث أن تجاوزت بلاد اليونان الحقيقية إلى المستعمرات اليونانية في آسيا الصغرى وفي إيطاليا وصقلية، ثم لم تلبث أن تجاوزت العالم اليوناني إلى العالم الشرقي، فتدخلت فيها الفرس، ثم تدخلت فيها أمم أخرى غير الفرس، إما خاضعة لأمر الفرس، وإما مخالفة للفرس وإما مناوئة للفرس، وعلى هذا النحو انتهت هذه الحرب إلى أن أحدثت اضطرابا عالميا أخذت كل الشعوب الحية يومئذ منه بحظ. ولم تدم سنة أو سنتين، وإنما اتصلت ربع قرن، ولم تقتصر آثارها على إزهاق النفوس وسفك الدماء وتدمير المدن، وإزالة السلطان وتبديد ألوان الثروة، وإنما كانت لها آثار أخرى أبعد من هذه الآثار، وأشد عملا في الحياة الإنسانية، أريد بها الآثار العقلية والسياسية والاجتماعية؛ فقد أظهرت هذه الحرب فساد القديم من أكثر وجوهه، وضرورة العدول عنه إلى شيء آخر، وأظهرت ضعف ما كانت تقوم عليه الجماعات المختلفة من أسس ونظم وعقائد، واضطرت الإنسان إلى أن يبحث عن أسس أخرى ونظم أخرى يقيم عليها الاجتماع الجديد.

اشترك سقراط في هذه الحرب، فأدى واجبه كما كان يؤديه كل أثيني، ولكنه كان شيخا، وأكبر الظن أنه لم يقدر خطر الحرب، ولم يحاول التعمق في درس آثارها في الحياة الإنسانية المقبلة، وإنما كان منصرفا عن ذلك إلى فلسفته التي قدمنا تلخيصها في الفصل الماضي. واشترك أفلاطون في هذه الحرب فأدى واجبه كغيره من الأثينيين أيضا، ولكنه لم يكن كسقراط معنيا بفلسفته ومهمته التي كلفه إياها «أبلون» (Apollon) ، فلم تكن له فلسفة، ولم يكن «أبلون» قد عهد إليه بشيء، وإنما نشأ في هذه الحرب طفلا، ثم شب فإذا الحرب ما زالت قائمة، وإذا هو مضطر إلى أن يأخذ بنصيبه منها، وقد قلنا إن هذه الحرب عبثت بالنظم المختلفة عبثا شديدا، ويكفي أن نلاحظ أنها أدركت أثينا وهي خاضعة للنظام الديمقراطي المتطرف فما زالت بها حتى عدلت عن نظامها الديمقراطي إلى نظام أرستقراطي، ثم إلى نظام ديمقراطي معتدل، ثم إلى نظام أرستقراطي يشبه الطغيان أو هو الطغيان، ثم انتهت بسقوط أثينا ونزولها عن كل ما كان لها من سلطان في البر والبحر، ثم انتهت بها إلى نظامها الديمقراطي القديم.

وكل هذه الاضطرابات والثورات، لم تقع دون سفك للدماء وعبث بالأرواح والأموال داخل المدينة، مع ما كانت تسفك الحرب من دماء، وتزهق من أرواح، وتبدد من أموال خارج المدينة. أضف إلى هذا كله شيئا آخر خاصا بأفلاطون، وهو أنه كان أرستقراطي المولد: كان ينتهي من جهة أمه إلى «سولون» (solon) ، وكانت أسرة أبيه تزعم أنها تنتهي إلى «كدروس» (Codros)

آخر ملوك أثينا. فليس غريبا أن يكون أفلاطون - بحكم مولده الأرستقراطي ونشأته الأرستقراطية، وبحكم هذه الاضطرابات المختلفة - شديد الميل إلى النظام الأرستقراطي، شديد النفور من النظام الديمقراطي.

ولكن النظام الأرستقراطي الذي كان يميل إليه أفلاطون قد اقترف في أثينا ضروبا من الآثام لا سبيل إلى إنكارها، فانصرف عنه أفلاطون كما كان منصرفا عن النظام الديمقراطي، ولبث في شيء من الحيرة غير قليل يلتمس النظام الذي يلائم الحياة الإنسانية حقا، ويبرأ من الآثام حقا.

ولما بلغ أفلاطون العشرين اتصل بسقراط، فلزمه ثمانية أعوام أو تسعة، ولم يكن سقراط أقل منه بغضا للديمقراطية، ولا أقل منه انصرافا عن الأرستقراطية. وهنا نستطيع أن نلاحظ مسرعين أن الفلسفة اليونانية كانت دائما في حرب متصلة مع الديمقراطية، كما أنها كانت شديدة الكره للنظام الأرستقراطي الذي كان معروفا حينئذ، وكان سخطها على هذين النظامين يحملها على أن تبحث عن نظام سياسي يبرأ من رذائلهما وآثامهما. فاتفقت ميول أفلاطون وميول سقراط السياسية؛ ثم لم تتفق ميولهما السياسية وحدها، بل اتفقا في أشياء كثيرة أخرى: اتفقا في كره هذا الاضطراب العام الذي تناول كل شيء وأفسد كل شيء. واتفقا في كره السوفسطائية الذين لم يكونوا يهيئون لحياة جديدة بريئة من الاضطراب، وإنما كانوا يذيعون الشك، ويؤيدون المنفعة الخاصة، ومن ذكر الشك والمنفعة الخاصة فقد ذكر الاضطراب. واتفقا في الحكم على المذاهب الفلسفية القديمة بالضعف أو الفساد أو العجز عن السيطرة على العقول والإشراف على الحياة الفكرية العامة. واتفقا أيضا في الحكم على الشعر القديم وأثره السيء في نفوس الجمهور، ثم اتفقا في الحكم على أن الديانة الموروثة لا تخلو من سخف وسذاجة يخالفان كل المخالفة ما وصل إليه العقل اليوناني من الرقي. ومن هنا اشتدت الصلة بين الفيلسوف الشيخ وتلميذه الشاب.

حتى إذا انتهى القرن الخامس، وكانت قضية سقراط ثم القضاء عليه، ثم موته، اشتد سخط أفلاطون على أثينا وعلى النظام الديمقراطي فيها، واشتد خوفه من أثينا ونظامها الديمقراطي، فهاجر فيمن هاجر من تلاميذ سقراط، ولجأ في أول الأمر إلى مدينة «مجار» (Mégare)

القريبة من أثينا، وعاش فيها حينا مع صديق له كان تلميذا لسقراط، ثم أسس في هذه المدينة إحدى المدارس السقراطية المشهورة، وهو إقليدس (Euclide)

الذي قد نعرض له في هذا الفصل، ثم ترك أفلاطون مدينة «مجار» وابتدأ سياحة طويلة زار فيها آسيا الصغرى ومصر وبرقة.

ولست في حاجة إلى أن ألفتك إلى تأثير هذه السياحة في نفس أفلاطون؛ ولكني مضطر إلى أن أذكر أن زيارته لمصر تركت في نفسه من غير شك آثارا قوية؛ فقد شاهد في هذه البلاد آثار تلك الحضارة الضخمة التي كان يتحدث بها اليونان في إعجاب لا حد له. وليس من شك في أن أفلاطون حاول أن يفهم هذه الحضارة بعض الشيء، ولكن ليس من شك أيضا في أنه لم يفهم منها شيئا قليلا، إذ لم يكن يعرف اللغة المصرية، ولم يكن يستطيع أن يتحدث إلى المصريين مباشرة، وإنما عرف ما عرف من أمر مصر بوساطة اليونان الذين لقيهم فيها، شأن المؤرخ اليوناني «هيرودوت»، ومن هنا نستطيع أن نقول: إن الحضارة المصرية لم تؤثر في فلسفة أفلاطون تأثيرا مباشرا، ثم لم تنته سياحة أفلاطون عند زيارة آسيا الصغرى ومصر وبرقة، بل زار أيضا إيطاليا اليونانية، زار صقلية، وكان له فيهما شأن سنلم به بعد قليل.

أشرنا في أول هذا الفصل إلى تلك الحرب التي اضطربت لها الحياة العالمية في طفولة أفلاطون وشبابه. ولا بد من أن نشير هنا إلى الحال السياسية في القرن الرابع قبل المسيح؛ فقد كان لهذه الحال في حياة أفلاطون وفلسفته تأثيرا ليس أقل من تأثير الحال السياسية في القرن الخامس. كان هذا القرن الرابع عصر انحطاط وانحلال في الحياة العامة كلها، سواء في ذلك البلاد اليونانية والبلاد الفارسية فبينما كانت الخصومة السياسية بين الأحزاب قد انتهت إلى أقصاها في داخل المدن اليونانية كانت الخصومة السياسية العسكرية قد انتهت إلى أقصاها بين المدن اليونانية. وكذلك كانت المدن منشقة مضطربة في حياتها الداخلية: يمزق بعضها بعضا، وينفي الحزب المنتصر أفراد الحزب المنهزم أو يقتلهم، ثم لا يدوم له الانتصار إلا حينا قصيرا؛ فإذا انتصر الحزب المغلوب ثأر لنفسه. وكانت الحياة السياسية الدولية - إن صح هذا التعبير - أشد فسادا من الحياة السياسية الداخلية؛ فكانت السيطرة متنقلة في المدن، وكانت هذه المدن تتنازع السلطان؛ فكانت السيادة (لإسبرطة) (Sparte)

حينا و(لطيبة) (Thèbes)

حينا آخر. وكانت أثينا مترددة بين هاتين المدينتين، تنتهز الفرص وتتربص الدوائر. وكان الشعور بالكرامة اليونانية والواجب الوطني قد فسد أو انمحى؛ فلم يكن اليونان أفرادا وجماعات يترددون في اقتراف الخيانة العظمى، ولم يكن الفرد يأبى أن يضحي بمدينته في سبيل منفعته الخاصة، ولم تكن المدينة تكره أن تضحي بالأمة اليونانية كلها في سبيل منفعتها الخاصة.

ومن هنا كان تدخل الأمة الفارسية في أمور اليونان، وانتهى هذا التدخل إلى أن أصبح ملك الفرس مسيطرا على الحياة اليونانية الداخلية والخارجية: يشهر الحرب بين المدن، حتى إذا أضعفها اضطرها إلى الصلح، وفرض عليها شروطه وقواعده. غير أن الأمة الفارسية نفسها لم تكن أحسن حالا من الأمة اليونانية - فقد كان الفساد قد عبث بها وتغلغل في طبقاتها، حتى عجزت عن الاحتفاظ بملكها وسلطانها، ولجأت إلى اليونان تستأجرهم لحماية هذا الملك والسلطان، ولإخضاع الأقاليم التي أخذت تضطرب وتثور وتنفصل عن الإمبراطورية.

وعلى هذا النحو زال التوازن الذي كانت تقوم عليه الحياة السياسية في العالم القديم، والذي كان يعتمد على قوة اليونان في الغرب، وقوة الفرس في الشرق. زال هذا التوازن فضعف اليونان وضعف الفرس، وأخذ كل من الفريقين يلجأ إلى صاحبه ويسخر منه: أخذ الفرس يلجئون إلى اليونان، وأخذ اليونان يلجئون إلى الفرس: أولئك يبذلون المال، وهؤلاء يبذلون الرجال.

ويظهر في ذلك الوقت أن النظم السياسية القديمة كلها قد أخفقت إخفاقا تاما: فأخفق النظام الديمقراطي والأرستقراطي في بلاد اليونان، وأخفق نظام الملكية الفردية في بلاد الفرس وفي الشرق كله، وترددت الإنسانية بين اثنتين: إما الدمار والفناء، وإما نظام سياسي جديد يخرجها من هذه الفوضى، كذلك كانت الحال في بلاد اليونان وفي الشرق. ولم تكن الحال في إيطاليا وصقلية خيرا منها في بلاد اليونان الحقيقية وفي فارس، فقد كانت المدن اليونانية في إيطاليا وصقلية مضطربة في داخلها مختصمة فيما بينها، وكان عبث الأحزاب بها شديدا.

ومع ذلك فقد خيل إلى أفلاطون أن هذه المدن اليونانية في إيطاليا وصقلية قد تكون خيرا من المدن اليونانية الحقيقية؛ فهاجر إليها، واستفاد من هذه المهاجرة فائدتين عظيمتين، كان لهما أثر عظيم جدا في حياته الفلسفية النظرية والعملية. ذلك أنه درس في هذه المدن مذاهب الفلاسفة القدماء الذين نشئوا في إيطاليا ولا سيما مذهب «الفيثاغوريين» (Pythagorricien)

الذي كان يجمع بين الفلسفة النظرية والعملية، وكان يزعم لنفسه القدرة على تدبير المدن تدبيرا يلائم المنفعة الحقيقية، وكان منتصرا في بعض المدن، متسلطا على الحياة السياسية فيها، ثم زار صقلية مدينة «سراقوس» (Syraceuse)

وكانت حينئذ عظيمة البأس، واسعة السلطان، وكانت خاضعة لنظام الطغيان، يشرف عليها طاغية قوي يقال له «دنيس» (Denys) . وكان بالقرب من هذا الطاغية رجل حكيم فيلسوف يقال له «ديون» (Doin)

كان صديقا لأفلاطون يشاركه في أهوائه السياسية، فخيل إليه أنهما يستطيعان أن يؤثرا في الطاغية، ويحملاه على نوع من الحكم يلائم المثل الأعلى الذي كانا يطمحان إليه. ولكنهما لم يكادا يقدمان إلى الطاغية نصائحهما، ويظهرانه على آرائهما، حتى نفر منهما وسخط عليهما؛ ويقال إنه باع أفلاطون كما يباع الرقيق.

عاد أفلاطون إلى أثينا، وكانت قد نسيت سقراط وأعرضت عن تلاميذه، فاستطاع أن يستقر فيها، وأن ينشئ فيها مدرسة، هي الأكاديمية (Accadémie) . على أنه لم يطل المقام في أثينا بل عاد إلى صقلية؛ ذلك لأن الطاغية الذي كان مشرفا على «سراقوس» قد مات، وآل الأمر إلى ابنه من بعده، فخيل إلى الصديقين الحكيمين أن هذا الطاغية الشاب سيكون أسمع لهما وأطوع من أبيه، ولكن الشاب لم يكن أقل من أبيه حرصا على الطغيان ونفورا من حكمة الحكماء، فغضب ثم ارتحل مرة ثالثة إلى صقلية. وحاول في هذه المرة أن لا يؤثر في الطاغية، بل أن يصلح بينه وبين صديقه «ديون»؛ على أنه أخفق في هذا أيضا، ولم ينج من سخط الطاغية إلا بمشقة. عاد إلى أثينا وقد ذهبت تلك الآمال التي كانت تبسم له وتضيء حياته وتخيل إليه أنه يستطيع أن يقر المدنية الفاضلة على الأرض، فاستقر فيها وانقطع إلى مدرسته، وأخذ يعلم حتى مات سنة 347.

عسير جدا درس فلسفة سقراط؛ لأن سقراط لم يكتب شيئا، وعسير جدا درس فلسفة أفلاطون؛ لأن أفلاطون كتب كثيرا، ولأن فهم هذه الكتب التي تركها أفلاطون وبقيت كلها وهي تنيف على الثلاثين ليس بالأمر اليسير. ليس بالأمر اليسير؛ لأن هناك ضروبا من التناقض بين هذه الكتب من جهة، ولأن آراء الفيلسوف في بعض المسائل قد بلغت من الغموض والدقة حدا عظيما جدا ، ثم لأن هذا التناقض يمكن تفسيره وإزالته. لو استطعنا أن نتبين التاريخ الذي كتبت فيه هذه الكتب. بحيث نستطيع أن نقول إن هذا الرأي قد جاء بعد هذا الرأي؛ فهو يدل على أن الفيلسوف قد تطور وغير من آرائه قليلا أو كثيرا. ولكن من العسير جدا، أو قل من المستحيل، تحديد التواريخ التي كتبت فيها آثار أفلاطون. ونحن نعلم أن أفلاطون قد بدأ الكتابة منذ مات سقراط، أي في أول القرن الرابع، وظل يكتب ويعلم إلى أن مات، أي في أول النصف الثاني من هذا القرن. وليس غريبا أن تتطور آراء الفيلسوف وتتغير في خمسين سنة، ولا سيما إذا لم يكن الفيلسوف قد لزم حياة هادئة مطمئنة. فليس إذا سبيل إلى الشك في أن فلسفة أفلاطون قد تغيرت وخضعت لألوان من التطور يمكن تحديدها لو ظفرنا بالتواريخ التي كتبت فيها الكتب الأفلاطونية. ومن هنا اجتهد العلماء المحدثون في البحث عن هذه التواريخ، وسلكوا إلى ذلك سبلا مختلفة؛ فمنهم من حاول ترتيب الكتب الأفلاطونية ترتيبا منطقيا، ومنهم من حاول أن يؤرخ كل كتاب بما يجد فيه، أو بما يمكن أن يجد فيه، من الأسماء والتعريض بالحوادث التاريخية. ولكن كتبا كثيرة لأفلاطون تخلو من هذه الحوادث، ومن هذه الأسماء. وآخر ما اهتدى إليه الباحثون في هذا النحو، هو الطريقة اللغوية، وهي التي تمكن من تحديد التاريخ الذي ظهر فيه الكتاب بوساطة لغة الكتاب نفسه، ذلك أن لغة الكاتب تتطور كما تتطور آراؤه؛ فإذا استطعنا أن نعين لغة أفلاطون في شبابه، ثم كهولته، ثم شيخوخته، فقد استطعنا أن نؤرخ كتبه.

ويظهر أن هذه الطريقة هي أقوم الطرق. ويقول النقاد والمؤرخون المحدثون إنها قد انتهت بهم إلى نتائج قيمة، وينتظر أن تنتهي بهم إلى تحديد هذه التواريخ على وجه التقريب. ومهما يكن من شيء، فلم يعرف العالم القديم قبل أفلاطون فلسفة بلغت من السمعة والعمق والتفصيل ما بلغته فلسفة أفلاطون. فقد كان الفلاسفة القدماء يحاولون فهم الكون وتفسيره، ويجدون في ذلك حتى يحدثوا مذهبا من المذاهب، ويزعمون أنه يفسر الوجود والموجود، ثم يقنعون بهذا المذهب، فيعلمونه ويؤيدونه ويذهبون عنه. ثم جاء عصر الشك الذي أنكر هذه المذاهب جملة، ثم جاء سقراط فحاول شيئا آخر غير ما حاوله الفلاسفة القدماء، وهو جعل الإنسان نفسه موضوعا للفلسفة مكان الكون والكائنات، أو مكان الوجود والموجود. ولكن سقراط لم يتجاوز أو لم يكد يتجاوز هذه النظرية التي تجعل الإنسان موضوعا للفلسفة، وتجعل معرفة الإنسان نفسه شرطا ومصدرا لمعرفة الكون والكائنات، ثم جاء تلاميذ سقراط وكلهم احتفظ بالنظام الفلسفي القديم، فأسس مذهبا بعينه، وأخذ يعلمه ويؤيده ويذود عنه. وكل ما تمتاز به فلسفة هؤلاء التلاميذ من الفلسفة التي تقدمت سقراط هو أنهم انصرفوا عن الكون والكائنات، وعن الوجود والموجودات إلى الإنسان، فاتخذوه موضوعا لفلسفتهم، وأخذوا يلتمسون الوسيلة إلى رقيه وسعادته: فمنهم من وجد ذلك في اللذة، ومنهم من وجد ذلك في الزهد. أما أفلاطون فإنه خالف الفلاسفة الذين تقدموا سقراط وخالف سقراط نفسه، وخالف تلاميذ سقراط أيضا، واستحدث في الفلسفة بدعا لم يكن مألوفا من قبل: فلم يتخذ الكون موضوعا للفلسفة، ولم يتخذ الإنسان موضوعا لها، وإنما اتخذ الكون والإنسان جميعا موضوعا لمباحثه الفلسفية. ثم لم يتخذهما موضوعا لبحث فلسفي خاص، ينشئه هو، ويقصر عليه عنايته وحياته، ويطبعه بطابعه الخاص، وإنما حاول شيئا أعظم من هذا كله، ووفق فيه توفيقا غريبا: حاول شيئا لم يكن قد حاوله أحد من قبل، وهو درس هذه المذاهب الفلسفية الكثيرة المختلفة، وموازنتها، واستخلاص ما فيها جميعا من خير، وإقامة فلسفة جديدة من جهة وقديمة من جهة أخرى: جديدة لأن الناس لم يألفوها. وقديمة لأنها لم تنشأ من لا شيء، وإنما تعتمد على المذاهب الفلسفية كلها. وفي الحق أنك تجد في فلسفة أفلاطون شيئا من كل المذاهب الفلسفية التي سبقته: تجد فيها شيئا من مذهب الاستحالة، وتجد فيها شيئا من مذهب الوحدة، وتجد فيها فلسفة سقراط، وتجد فيها خلاصة الآراء السقراطية، ثم تجد فيها الفلسفة «الفيثاغورية» ثم تجد فيها أشياء أخرى، منها ما يرجع إلى الدين، ومنها ما يرجع إلى الأدب، ومنها ما يرجع إلى شخصية أفلاطون نفسه. وكل ذلك متسق منسجم، لا يظهر فيها الاختلاف ولا التباين، وإنما هو مطبوع بهذا الطابع القومي الذي يمثل شخصية أفلاطون.

ومن أية ناحية نستطيع أن ندرس أفلاطون؟ بل من أي ناحية نحب أن ندرس أفلاطون؟ فنحن نجد في أفلاطون شخصيات مختلفة، كلها خليق بالدرس، محبب إلى الباحث. نستطيع أن ندرس أفلاطون من حيث إنه كاتب؛ فنحن نعلم أن تاريخ الأدب اليوناني لم يعرف كاتبا ثائرا كأفلاطون، وأن آثار أفلاطون كلها آيات، لا بالقياس إلى الأدب اليوناني وحده، بل بالقياس إلى الأدب الإنساني كله، سواء منه القديم والحديث. ونحن نعلم أن كل إنسان - مهما يكن حظه من الرقي العقلي، ومهما تكن جنسيته وحضارته - يستطيع إذا قرأ أفلاطون أن يجد فيه لذة لا تعدلها لذة، ولا يشعر بها الإنسان إلا حين يقرأ آيات اليونان، ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية أخرى غير ناحية الكتابة والنثر، وهي ناحية الشعر والخيال، فلم ينظم أفلاطون الشعر على قواعد العروض والقافية، ولكنه كان شاعرا في نثره؛ ولا يعرف تاريخ الأدب القديم شاعرا كان له من قوة الخيال ولطفه وسحره وسلطانه على النفوس مثل أفلاطون. ثم نستطيع أن ندرس أفلاطون من ناحية ثالثة، هي ناحية الفيلسوف الذي يبحث عما بعد الطبيعة. فيتعمق في بحثه تعمقا لم يسبق إليه، وأخشى أن أقول لم يلحق فيه، بل أستطيع أن أقول ذلك، بشرط أن أستثني تلميذه «أرسطاطاليس». ثم هناك ناحية رابعة، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون، وهي ناحية الفيلسوف الخلقي، الذي يؤسس علم الأخلاق، لا على مبادئ سقراط وحدها، بل عليها وعلى مبادئ أخرى، استطاع هو أن يكشفها أثناء بحثه عن الطبيعة وعما بعد الطبيعة. ثم هناك ناحية خامسة نستطيع أن ندرس منها أفلاطون وهي ناحية الفيلسوف السياسي، الذي وضع علم السياسة، وحاول لا أن يتفهم الحياة السياسية فحسب، بل أن يضع نظاما سياسيا يعتقد هو أنه المثل الأعلى للإنسانية المنظمة. ثم هناك ناحية سادسة ، نستطيع أن ندرس منها أفلاطون، وهي ناحية الفيلسوف النفسي، الذي هون الأمر على أرسطاطاليس وغير أرسطاطاليس من الذين عنوا بالمنطق، ووضع علما جديدا يبحث عن المعرفة وشروطها ونظمها وغايتها، فوضع أساس المنطق، وأساس علم النفس، أو قل: وضع أساس الفلسفة كلها. تستطيع أن تدرس أفلاطون من كل هذه النواحي. ولكنك تستطيع أن تطمئن؛ فلن أدرس أفلاطون في هذا البحث من كل هذه النواحي؛ فمثل هذا الدرس يحتاج إلى كتاب ضخم لست أنا الذي يستطيع أن يضعه. إنما أريد أن أوجز لك أشد الإيجاز، خلاصة من الفلسفة الأفلاطونية التي كان لها الأثر العظيم جدا في قيادة الفكر الإنساني قديما وحديثا.

ولا بد قبل كل شيء من أن نشير إلى المذهب الأفلاطوني في كتابه الفلسفة ودرسها. وهذا المذهب في نفسه هو مذهب سقراط، أي أنه يعتمد قبل كل شيء على الحوار، وإذن فهو في نفسه غير جديد. ولكن لا تنس أن سقراط كان يحاور محاورة لسانية، أي إنه كان يناقش أصحابه وتلاميذه بالفعل. أما أفلاطون فلم يكن يحاور حوارا لسانيا، وإنما كان يكتب. والفرق عظيم بين رجل يلقاك فيحاورك، وبين رجل لا يلقاك ولا يحاورك بالفعل، وإنما يستوحي قلمه حوارا بديعا: تخيل أشخاصه، واخترع موضوعه اختراعا. كان سقراط متحدثا، أما أفلاطون فمؤلف منشئ. ومن هنا كان من الحق الاعتراف لأفلاطون بفضيلة هذا الفن الفلسفي الأدبي، الذي لم يسبق إليه ولم يلحق فيه، وهو فن الحوار. نعم! إن أفلاطون لم يخترع الحوار اختراعا، وإنما تأثر بمؤثرين مختلفين، نذكرهما لنلفتك إلى الصلة بين الفلسفة والأدب.

الأول: فن التمثيل الذي بلغ أقصى ما كان ينتظر له من الرقي في القرن الخامس، وأثر في حياة الأثينيين خاصة واليونان عامة، تأثيرا لا حد له. هذا الفن يعتمد على الحوار، سواء في ذلك قصصه المحزنة والمضحكة. وهو بهذا الأسلوب، أسلوب الحوار، قد استطاع أن يؤثر في الجمهور ويبلغ من نفسه ما كان يريد. فليس عجيبا أن يفتن الناس بالحوار ويتخذوه أسلوبا من أساليبهم الأدبية. ونستطيع أن نقول: إن كتب أفلاطون كلها أو أكثرها قصص تمثيلية فلسفية. فكتب أفلاطون كلها أو أكثرها عبارة عن مجلس من المجالس، يجتمع فيه الناس حول سقراط فيتحدثون، وينتهي بهم الحديث إلى موضوع من الموضوعات ذات الخطر، فيتحاورون فيه، ويشرف سقراط على هذا الحوار وما يزال بأصحابه وتلاميذه ينقلهم من موضوع إلى موضوع ومن مسألة إلى مسألة، ومن صعوبة إلى صعوبة، حتى ينتهي بهم إلى النتيجة الفلسفية التي كان يريد إثباتها. وكل هذه الكتب أو أكثرها لا تتخذ أسماءها من الموضوعات التي تدرس فيها، وإنما تسمى بأسماء الأشخاص الذين لهم في الحوار منزلة خاصة، فهناك «فيدون» (Phédon) ، و«برتاجوراس» (Protagoras) ، و«جرجياس» (Gorgias) ، و«ألسبياد» (Alcibiade) ، وغيرها من الكتب التي تسمى بأسماء الأشخاص؛ وقليلة جدا تلك الكتب التي تسمى بأسماء الموضوعات، كالجمهورية والقوانين وغيرهما.

المؤثر الثاني: الشعر، وأريد الشعر الغنائي الذي تعمق في البحث عن العواطف الإنسانية، حتى اهتدى إلى دقائقها، وارتقى في تشخيص هذه العواطف وتمثيلها، حتى بلغ من العظمة حدا ربما لم يبلغه الشعر الحديث. وقد يكون من الحق ألا ننسى الشعر القصصي، الذي اعتمد عليه أفلاطون في هذه الأساطير المنبثة في كتبه، والتي يستعين بها على تفسير النظريات الفلسفية وتقريبها. فأنت ترى أن أفلاطون لم يخترع فنه الأدبي اختراعا، وإنما تأثر فيه بألوان الشعر الثلاثة، كما أنه لم يخترع فلسفته اختراعا وإنما تأثر فيها بالمذاهب الفلسفية المختلفة التي سبقته وعاصرته. ولكن تأثره بالشعر والفلسفة لم يضطره إلى التقاليد ولم يضعف من شخصيته، وإنما قوى هذه الشخصية تقوية عظيمة. وأين هو هذا النابغة الذي يخترع شيئا من لا شيء ويحدث أحداثا لا تتصل بما قبلها، ولا تتأثر بما حولها؟ وسنرى أن أفلاطون نفسه لم يستطع أن يتصور إلها يوجد شيئا من لا شيء.

كانت فلسفة سقراط حربا على السوفسطائية، وكذلك كانت فلسفة أفلاطون. فإن انتصار سقراط على السوفسطائيين، لم يزل سلطانهم، ولم يمح آثارهم. بل نستطيع أن نقول: إن كثيرا من السوفسطائيين اتخذوا الفلسفة السقراطية وسيلة إلى تقوية مذهبهم، والإمعان فيما كانوا فيه من شك وتشكيك ، ولعل هذا هو الذي يفسر لنا وجود هذه المدارس السقراطية المتناقضة فيما بينها، والتي انبثت في أقطار الأرض. فلم يكن إذا بد لأفلاطون من أن يذهب مذهب أستاذه في محاربة السوفسطائية، وإقامة فلسفة جديدة تعتمد على أن الحقائق ثابتة، وعلى أن الشك ضرب من الضعف لا خير فيه ولا غناء. وقد سلك أفلاطون إلى تأسيس هذه الفلسفة سبيلا واضحة قيمة، ولكن سلوكها ليس باليسير على غير الفيلسوف.

كان سقراط يقول: «اعرف نفسك بنفسك»، وكان يرى أن أول العلم هو أن يعلم الإنسان جهله بكل شيء، ثم كان سقراط يرى الإنسان متى علم جهله بكل شيء وحاول أن يعرف نفسه بنفسه، كشف في هذه النفس كنزا لا سبيل إلى أن يقدر. وذلك أن النفس عند سقراط ملئت بالحقائق، وأن بحث الفيلسوف عن هذه الحقائق، ليس في حقيقة الأمر اختراعا لهذه الحقائق، وإنما هو كشف لها في أعماق النفس. وقد أخذ أفلاطون كل هذه النظريات السقراطية، فنظمها وفصلها، واستخرج منها كل ما كانت تشتمل عليه، وجعلها أساسا لفلسفته. وفي الحق أن فلسفة أفلاطون كلها تقوم على نظرية العلم والمعلوم. فالنفس عند أفلاطون ملئت بالحقائق، كما كانت عند سقراط؛ ولكن تفسير أفلاطون يخالف تفسير سقراط مخالفة شديدة.

كان سقراط يفهم أن الحقائق موجودة في النفس بالقوة، وأن البحث يجعل هذا الوجود فعليا. أما أفلاطون فيرى أن الحقائق موجودة في النفس بالفعل، وأن البحث عن الحقائق لا يؤدي إلى انتزاعها فهي خالدة، ولا يؤدي إلى كشفها فهي معلومة؛ وإنما يؤدي إلى تذكرها، فالنفس قد نسيت الحقائق عندما هبطت من الملأ الأعلى إلى هذا العالم السفلي، وكلما أمعنت النفس في هذه الحياة العملية وما تستتبعه من الخضوع لحاجات الجسم، اشتد نسيانها للحقائق، وتراكم عليها الصدأ. وعمل البحث الفلسفي، هو أن يزيل هذا الصدأ، وأن يذكرها بما كانت تعلم من قبل. وإذا، فالحقائق كلها خالدة ثابتة لا تحدث ولا تتغير، كما أن العلم بها خالد ثابت لا يحدث ولا يتغير. ومعنى هذا أن النفس الإنسانية خالدة أيضا، لا تحدث ولا تتغير، وأنها قد مر عليها طور من الوجود كانت فيه بعيدة عن هذا العالم السفلي وأعراضه وأدرانه، كانت تحيا فيه ناعمة راضية، مجاورة للآلهة وللحقائق الخالدة، مستمتعة بالعلم الذي يظهر على كل شيء، ويمثل فيها كل شيء، ثم هبطت من ذلك العالم العلوي إلى هذا العالم السفلي، فنسيت شيئا فشيئا ما كانت تعلم.

هذا المذهب وحده غامض، وإذا لم يوضحه رأي أفلاطون في الكون والكائنات، أو في الوجود والموجود. وإذا أردنا أن نفهم هذا الرأي، وجب أن نلاحظ أنه خلاصة مذهبين فلسفيين مختلفين: أحدهما مذهب الاستحالة الذي كان يذهب إليه «هيرقليت» (Héraclite)

والذي كان يرى أن الأشياء كلها في استحالة متصلة وتغير لا ثبات له ولا استقرار. والآخر مذهب الوحدة الذي كان يذهب إليه «برمنيد» (Parménide) ، والذي كان يرى أن الكون كله منته إلى شخصية واحدة ثابتة، عنها يصدر كل شيء، وإليها ينتهي كل شيء؛ أو هي كل شيء، وليست هذه الكائنات والأحداث إلا مظاهر لها. من هذين المذهبين استطاع أفلاطون أن يكون مذهبا جديدا، بعد أن غير فيهما وبدل، وأضاف إليهما مذاهب فلسفية أخرى، وانتهى إلى أن هناك درجات ثلاثا في الوجود تقابلها درجات ثلاث في العالم: الدرجة الأولى، درجة هذه الموجودات المحسوسة، التي نلامسها ونتأثر بها ونؤثر فيها؛ وهذه الموجودات متغيرة أبدا، مستحيلة أبدا. بل هي تغير واستحالة، لا ثبات لها ولا استقرار، الدرجة الثانية، درجة موجودات أخرى، هي الواسطة بين المحسوسات وبين الدرجة الثالثة التي سنراها بعد حين. وهذه الدرجة الثانية، تمثل الصور الذهنية، والحقائق العقلية، التي تتمثل بها الكائنات والتي نتخذها وسيلة للحكم على المحسوسات وتسخيرها من جهة، وللرقي إلى الدرجة الثالثة من جهة أخرى. وهذه الدرجة الثالثة هي درجة الحقائق الثابتة الخالدة، التي لا ينالها التغيير، ولا تعرض لها الاستحالة، والتي تؤثر ولا تتأثر، والتي يسميها أفلاطون بالأفكار أو بالمثل. هذه الحقائق خالدة، وجدت قبل كل شيء، وستوجد بعد كل شيء، وليس لشيء من المحسوسات وجود إلا بها؛ صدرت عن الإله صدورا ذاتيا ، صدور المعلول عن العلة، ثم اتخذها الإله نموذجا صاغ عليه عالم المحسوسات.

وأنا أعتذر إليك من هذا الغموض؛ فقد أبذل ما أستطيع من جهد للتوضيح دون أن أبلغ أكثر مما وصلت إليه، إلا أن أتجاوز ما شرطت من الإيجاز والاختصار. وخلاصة القول: أن أفلاطون يرى في هذا العالم المحسوس طائفة من الظواهر التي لا وجود لها بنفسها، وإنما هي صادرة عن عالم آخر هو عالم الحقائق الخالدة. ومن هنا كانت درجات العلم ثلاثا، فكان هناك العلم بهذه المحسوسات أو بهذه الظواهر، وهذا العلم هو أحقر أنواع العلم؛ لأنه ظن يتغير ويتبدل بتغير موضوعاته وتبدلها. وكان هناك علم آخر أرقى من هذا العلم الأول، وهو العلم بالأشياء العامة، التي تنتزعها النفس من هذه الشخصيات المتغيرة المتبدلة، هو العلم بالأجناس والأنواع، هو العلم بالكليات والقضايا العامة التي ليست هي شخصيات متغيرة أو متبدلة. وهذا العلم تكتسبه النفس اكتسابا بملاحظة المحسوسات ومقارنتها والتفريق بينها: فهي تنتزع النوع الإنساني من أفراد الإنسان، كما تنتزع جنس الحيوان من أنواع الحيوان وهلم جرا ... ثم كان هناك علم آخر، هو العلم حقا، وهو الفلسفة حقا، وهو اليقين حقا. وهذا العلم هو العلم بتلك الحقائق الثابتة التي قلنا إنها خالدة لا تتغير ولا تتبدل.

ولست أريد أن أتعمق في تفصيل الصلة التي توجد بين هذه الدرجات الثلاث من الكائنات. وبين هذه الدرجات الثلاث من العلم؛ فذلك كله يخرج بنا عما نريد من الإيجاز. إنما ألاحظ أن العلم بهذه الحقائق الثابتة هو الغاية التي يسعى إليها الفيلسوف حقا، وأنه لا يصل إلا بعد مشقة وجهد عنيف، ولكنه إذا وصل إليها فقد وصل إلى الخير كله، واستطاع أن يمتزج بمصدر الكون أو بالإله. وما الإله عند أفلاطون؟ وكيف أوجد هذا العالم وأثر فيه؟ الإله عند أفلاطون فكرة هي مصدر كل شيء، ومرجع كل شيء، وهي فكرة الخير، وجدت بنفسها قبل أن يوجد الزمان، وهي موجودة مع الزمان، وستوجد بعده، لا علاقة لها به، ولا تأثير له فيها، وعنها صدرت كل الحقائق الخالدة، ولكن هذه الحقائق الخالدة ليست محسوسة، ولا سبيل إلى أن تحس، ومهما يبلغ أفلاطون من إثباتها فلن يصل إلى تفسير هذا العالم المحسوس. فكيف وجد هذا العالم؟ يرى أفلاطون أن الإله وحده لا يستطيع إيجاد هذا العالم. بل إن هذه الحقائق لا تستطيع إيجاد هذا العالم. وإذا فلا بد من عنصر ثالث ليوجد هذا الكون، وهذا العنصر الثالث هو المادة التي وجدت وحدها والتي اتخذها الإله سبيلا إلى إيجاد هذا العالم المحسوس.

نظر إلى الحقائق الخالدة التي صدرت عنه، فاتخذها مثلا ونماذج، صاغ عليها هذا العالم المحسوس، ثم لأجل أن تنبعث الحياة في هذا العالم المحسوس أوجد الإله صلة بينه وبين هذه المثل، فليس الإنسان الموجود في الخارج إلا مظهرا للحقيقة الثابتة الخالدة التي هي الإنسانية. وكذلك قل في جميع الموجودات الأخرى.

وليس يعنينا أن نفصل هذه الصلاة بين الحقائق الثابتة والعالم المحسوس، ولا أن نصف هذه الطرق الملتوية التي اتخذها أفلاطون ليبين كيف استطاع الإله إيجاد العالم وتدبيره. كل ذلك لا يعنينا الآن؛ وإنما الذي يعنينا هو أن نلاحظ أن هذه الفلسفة كان لها الأثر العظيم جدا في حياة العقل الإنساني قديما وحديثا، فأثر المدرسة الأفلاطونية القديمة، وأثر المدرسة الأفلاطونية الحديثة في العالم اليوناني والروماني، أشهر من أن نحتاج إلى ذكره. ثم أثر المدرسة الأفلاطونية التي أنشئت في الإسكندرية ظاهر بين. وحسبك أن الديانة المسيحية لم تخلص منه، وحسبك أنه عمل في تكوين العقل الشرقي عملا بعيد الأثر، لم يتناول الطبقات الراقية وحدها، بل تجاوزها إلى غيرها من الطبقات الدنيا في العصور المختلفة. أما أثر هذه الفلسفة في الحياة الأوربية أثناء القرون الوسطى، وفي هذا العصر الحديث فأعظم وأبعد من أن نلم به في هذا الفصل. ولعلك تعلم أن الفلسفة الأفلاطونية ما زالت حية إلى الآن، وما زال لها ممثلوها والمدافعون عنها بين فلاسفة الغرب.

على أن جزءا آخر من فلسفة أفلاطون يستحق عناية خاصة، لأنه يمتاز بشيء من الخصب والغناء، لم تظفر به الأجزاء الأخرى لفلسفته نريد به هذا الجزء الخلقي السياسي؛ فشخصية أفلاطون فيه بارزة قوية خالدة مهما تختلف العصور وتتبدل الظروف. وهذا الجزء من فلسفة أفلاطون متصل بالأجزاء الأخرى، ليس منفصلا عنها ولا ممتازا منها. فقد رأيت أن الكون كله يدور حول نقطة واحدة، عنها صدر، وإليها يرجع، وهي فكرة الخير أو الإله. وإذا كانت هذه الفكرة هي مصدر الكون ومرجعه، وهي التي ينتهي إليها بحث الفيلسوف، فينبغي أن تكون هذه الفكرة نفسها غاية الحياة العملية الإنسانية أيضا: ينبغي أن تكون هي مصدر السعادة، وينبغي أن تكون هي المثل الأعلى الذي يطمح إليه الإنسان في حياته العملية، كما أنها المثل الأعلى الذي ينتهي إليه في حياته النظرية؛ ذلك لأن الأخلاق ليست عملا عند أفلاطون، وإنما هي علم؛ أو قل إن أفلاطون لا يفرق في الأخلاق بين العلم والعمل؛ فهو يؤكد، كما كان يؤكد سقراط، أن مصدر ما نتورط فيه من الرذائل والآثام إنما هو جهلنا بالخير وقصورنا عن إدراكه؛ فإذا أزيل هذا الجهل وأتيحت لنا القوة التي تمكننا من إدراك الخير ومشاهدته، فنحن بمأمن من الرذائل والآثام. وليس يستطيع أفلاطون، كما لم يكن يستطيع سقراط، أن يتصور أن الإنسان يقدم على الشر وهو يعلم أنه شر، وينصرف عن الخير وهو يعلم أنه خير. وإذا فالفلسفة التي تؤدي إلى إدراك فكرة الخير ليست مصدر السعادة النظرية العملية وحدها، بل هي مصدر السعادة العملية أيضا؛ فالفيلسوف أسعد الناس لأنه يدرك الخير ويراه، ثم لأنه يسعى إليه ويطمع فيه وينظم حياته تنظيما يجعلها ملائمة له.

على أن أفلاطون لا يكتفي بهذا التفسير النظري الخالص، وإنما يحاول أن يفسر لنا مصدر الجهل الذي يورطنا في الشر والإثم. وتفسيره لهذا الجهل بديع قوي، فيه شعر، وفيه فلسفة معا. فالنفس عند أفلاطون مزاج يتألف من قوى ثلاث: إحداها هذه القوة العاقلة التي تتفهم الأشياء وتتبينها وتنتقل من المحسوس إلى المفهوم ومن المركب إلى المجرد، حتى تنتهي إلى الحقائق الثابتة، ثم إلى حقيقة الحقائق أو فكرة الخير أو الإله. والثانية: هذه القوة الغضبية التي وكل إليها الدفاع عن الحياة والاحتفاظ بها، وهي التي نسميها الشجاعة، وهي التي تحملنا على أن نغضب ونثور كلما احتجنا إلى الغضب والثورة. والثالثة هذه القوة الشهوية، التي تعنى بوجود الجسم المادي؛ لأنها تحمله على إرضاء شهواته المختلفة: من الأكل والشرب وما يتصل بهما من أنواع اللذات. ولكل قوة من هذه القوى الثلاث مركزها في الجسم. فأما الأولى فمستقرها الرأس، وأما الثانية فمستقرها الصدر، وأما الثالثة فمستقرها البطن. والنفس عند أفلاطون تشبه عربة يقودها جوادان أصيلان: أحدهما الغضب، والآخر الشهوة، أما سائق الجوادين فهو العقل. وإذا فلا بد من أن يوجد بين هذين الجوادين توازن في القوى وتوافق في الحركة من جهة، ولا بد من أن يوجد بينهما وبين السائق توازن آخر يضطرهما إلى الخضوع له والإذعان لأمره من جهة أخرى. فإذا اختل التوازن بين الجوادين أو بينهما وبين السائق، فذلك مصدر الشر الذي يتورط فيه. قد تسرف القوة الغضبية حتى تسيطر على القوتين الأخريين؛ وإذا فنحن متهورون مندفعون. وقد تسرف القوة الشهوية؛ وإذا فنحن عبيد اللذة وأرقاؤها. وعلى هذا النحو يرى أفلاطون أن الفضيلة حقا إنما هي مزاج ينتج من التوازن بين هذه القوى بحيث يستطيع الجسم أن يحيا ويحتفظ بحياته دون أن يحول بين النفس وبين الطموح إلى الخير والسعي إلى الوصول إليه.

شيء آخر يتم نظرية أفلاطون في الأخلاق، ويعين على فهم هذه الشخصية القوية، وعلى فهم ما كان لفلسفة أفلاطون من أثر بعيد في الحياة الإنسانية، وهو رأيه في العقوبة الخلقية، فليس يكفي أن يمثل لك الخير ويدعوك إليه. بل ليس يكفي أن يمثل لك الشر ويحذرك منه. وإنما هو يرى أن العقوبة أمر محتوم لا منصرف عنه ولا مفر منه، فلكل عمل جزاؤه، له الثواب إن كان خيرا، وله العقاب إن كان شرا - تلك نتيجة محتومة للعدل، وهي نتيجة طبيعية ليست متكلفة ولا مصطنعة، ليست كهذه العقوبات التي تفرضها القوانين المكتوبة، وإنما هي أقوى وأنفع وألزم من هذه العقوبات.

يرى أفلاطون أن هذه العقوبة ليست شرا، وإنما هي الخير كل الخير، ذلك أنها لا ترمي إلى الانتقام ولا إلى التعذيب، وإنما ترمي إلى التصفية والتطهير؛ فالأنفس الآثمة عندما تعاقب تطهر من أدران الإثم، وتعد لأن تستأنف حياتها الصالحة الراقية التي تلحقها بنفوس الأخيار وترقى بها إلى مستقرها الأول في الملأ الأعلى. أما تفصيل هذه العقوبات فجميل لا يخلو من لذة شعرية، ولا من قوة خيالية مدهشة. وحسبك أن مذهب التناسخ يختصر هذه العقوبات: فالنفس الآثمة بعد الموت تعود إلى هذه الحياة لتمحو إثمها، وهي تستقر في جسم من الأجسام يلائم نوع الإثم الذي اقترفته: كانت نفس رجل، فهي الآن نفس امرأة. كانت نفس إنسان، فهي الآن نفس فرس، أو نفس كلب، أو نفس حمار، وهلم جرا، فأنت ترى أن النظرية الخلقية لأفلاطون متصلة بنظريته في الطبيعية وفيما بعد الطبيعة. وليست بنظريته السياسية بأقل اتصالا بفلسفته العامة من نظريته الخلقية. ذلك لأن رأيه السياسي يقوم على رأيه الخلقي: فالجماعة عنده كالفرد تتأثر بما يتأثر به وتخضع له، ويجب أن تطمح إلى ما يطمح إليه.

وإذا كان الفرد مكلفا أن يطمح إلى العدل الذي يرقى به المثل الأعلى وهو الخير، فالجماعة مكلفة أن تطمح أيضا إلى هذا العدل. وقد رأينا أن العدل بالقياس إلى الفرد هو التوازن بين قوى النفس الثلاث، أو بين الأنفس الثلاث، كما يقول أفلاطون، فكذلك العدل السياسي توازن بين الأنفس الثلاث الاجتماعية أو السياسية. فللجماعة أنفس ثلاث كالفرد: لها نفس العاقلة، وهي الحكومة التي تقوم منها مقام العقل من الفرد ولها نفسها الغضبية التي تحميها وتحفظ عليها قوامها في الداخل والخارج وهي الجيش. ولها نفس الشهوية التي تقدم إليها ما تحتاج إليه من أدوات الحياة، وهي طبقة العمال والزراع ومن إليهم. وإذا فالحياة الاجتماعية السعيدة هي التي يتحقق فيها التوازن بين هذه الأنفس الثلاث، وليس تحقيق هذا التوازن بالأمر اليسير أيضا، كما أن تحقيق التوازن عند الفرد ليس بالأمر اليسير أيضا. ألست ترى أن الكثرة المطلقة من الأفراد أشقياء؟ ألست ترى أن كل المدن والدول القائمة إنما تخضع لألوان من الشقاء السياسي لا تكاد توصف ولا تحصى؟ وإذا لم يكن بد من أن يؤخذ الفرد بنوع خاص من التربية يمكنه من أن يحقق التوازن بين أنفسه الثلاث، فليس هناك بد من أن يؤخذ الأفراد بتربية سياسية تمكنهم من أن يكونوا المدينة الفاضلة التي يتحقق فيها التوازن بين الأنفس الاجتماعية الثلاث.

ولست أفصل لك قواعد التربية عند أفلاطون، فذلك شيء يطول، ومن اليسير عليك أن تقرأه في الجمهورية - فستجد في قراءته لذة لا تعدلها لذة. ولكني أجمل لك النتائج السياسية التي انتهى بها أفلاطون، والتي كونت مدينته الفاضلة التي هي في الحقيقة مثل أعلى ليس إلى تحقيقه من سبيل، والتي ندهش نحن الآن؛ لأن فيلسوفا كأفلاطون تصورها، وحاول أن يجعلها حقيقة واقعة.

يريد أفلاطون أن تتألف مدينته الفاضلة من هذه الطبقات الثلاث التي قدمناها الإشارة إليها، ويريد أن تكون الطبقة الأولى التي تشرف على الحكم بمنزلة العقل من الفرد. وكيف تكون هذه الطبقة بمنزلة العقل إذا لم تتألف من الفلاسفة! ... الفلاسفة وحدهم قادرون على تدبير الحياة الفردية والاجتماعية؛ لأنهم وحدهم قادرون على تصوير الخير والوصول إليه. وإذا فأفلاطون عدو للديمقراطية التي تكل الحكم إلى الناس جميعا دون أن تفرق بين كفاياتهم وحظوظهم من القوى العقلية. وهو عدو للأرستقراطية التي تعتمد على المولد أو على الثروة والجاه. أفلاطون أرستقراطي، ولكن أرستقراطيته تعتمد على الفلسفة. ولا تبتسم ساخرا أو مزدريا! فما زال الفلاسفة إلى اليوم وإلى غد ينحون هذا النحو، ويطمعون أو يتمنون، أن يكون الحكم إلى الفلسفة، ولعلك تعلم شيئا من رأي رينان في هذا.

ثم يريد أفلاطون أن يأخذ الطبقة الثانية - طبقة الجيش - بنوع من النظام شديد صارم، يمكنها من أن تؤدي واجب الدفاع كما ينبغي، ويمكنها من أن تحفظ التوازن بين هذه القوى التي تتألف منها المدينة، ويعدها في الوقت نفسه لأن ترقى إذا أدركتها السن إلى طبقة الفلاسفة الذين يحكمون. يريد أفلاطون أن يزيل من بين أفراد هذه الطبقة كل سبب للفرقة أو الخصومة، وأي سبب للفرقة أو الخصومة أقوى من الشخصية؟! يجب إذا أن تزول الشخصية، يجب ألا يوجد الفرد لنفسه بل للدولة. ومعنى ذلك أن كل ما يكون الفرد وشخصيته. يجب أن يزول. يجب أن تمحى الملكية، فلا فقر ولا غنى ولا حقد بين الفقير والغني ولا خصومة بين الأغنياء. يجب أن تزول الأسرة، فلا زوجية ولا أبوة، أي يجب أن تكون المرأة حظا شائعا بين أفراد الطبقة جميعا تشرف الحكومة على توزيعه بين هؤلاء الأفراد. ويجب أن تمحى الأبوة، فلا يثبت النسب من الأفراد، وإنما الأطفال جميعا أبناء الدولة، تغذوهم وتقوم على تربيتهم وتنشئتهم حتى يبلغوا سن الرشد ويندمجوا في الجيش، وهي لا تربيهم جميعا، أو قل لا تحتفظ بهم جميعا، وإنما تحتفظ منهم بمن تستيقن أنه نافع للدولة يستطيع أن يدفع عنها حقا. وإذا فالمرضى من الأطفال والذين ساء تكوينهم أو أصابتهم العاهات، يجب أن تنبذهم الدولة نبذا. ولا يفرق أفلاطون في الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة في هذه الطبقة، وإنما هما سواء على أن توزع الحكومة بينهما حظوظهما من الحقوق والواجبات، فتكلف كلا ما هو أهل له من الواجبات لصيانة الدولة وحياطتها.

أما الطبقة الثالثة، فيكاد يهملها أفلاطون، وهو لا يريد منها إلا أن تقدم إلى الجيش والحكومة ما يحتاجان إليه. ومن هنا لم يبلغ الملكية في هذه الطبقة؛ ولم يلغ الأسرة. وما يعنيه من هذه الطبقة ما دامت خاضعة لسلطان الجيش وسلطان الحكومة؟!

هذه هي المدينة الفاضلة الأفلاطونية، أعطيتك منها صورة موجزة بل ناقصة، لأني أهملت كثيرا من النظريات الأفلاطونية في السياسة والتربية حرصا على الإيجاز. والناس يرون أن هذه المدينة الأفلاطونية حلم من أحلام الخيال، ولكن من الحق علينا أن نلاحظ شيئين: أحدهما أن أفلاطون نفسه قد سبق الناس جميعا إلى الشعور بأن مدينته هذه خيال ليس إلى تحقيقه من سبيل؛ فعدل في كتاب القوانين - وهو آخر كتاب كتبه، ويقال إنه تركه غير كامل ولا منقح - عن بعض هذه الآراء الخيالية، لا لأنه جحدها أو عرف أنه مخطئ فيها، بل لأن تجاربه في صقلية وملاحظاته في بلاد اليونان، قد بينت له مكان الغلو في هذه النظريات، وعلمته أن المثل الأعلى شيء والحقيقة الواقعة شيء آخر.

الملاحظة الثانية: أن هذه النظريات الأفلاطونية التي تمثل ما يجب أن يكون، لا ما يمكن أن يكون، قد تركت آثارا قوية جدا في الحياة الإنسانية المعاصرة له والتي جاءت بعده. فقد يقال إن بعض المدن اليونانية الآسيوية تأثرت بسياسة أفلاطون، وطلبت إلى بعض الأفلاطونيين أن يضعوا لها النظم السياسية الملائمة للمدينة الفاضلة قليلا أو كثيرا، كما أن بعض المدن اليونانية في إيطاليا تأثرت بالفلسفة الفيثاغورية، ووكلت أمورها إلى الفيثاغوريين.

ومهما يكن نصيب السياسة الأفلاطونية من الفوز أو الإخفاق في حياة المدن اليونانية، فإن هذه السياسة قد أحرزت فوزا عظيما لا يزال قائما إلى الآن وإلى غد، وهو فوزها في الكنيسة المسيحية الكاثوليكية بنوع خاص. فإن شيئا من المقارنة بين نظام أفلاطون وتصوره للطبقة الحاكمة في مدينته الفاضلة وبين نظام الكنيسة الكاثوليكية، يقنعك بأن هذه الكنيسة تأثرت تأثرا غير قابل بالفلسفة الأفلاطونية في نظامها الدستوري الذي لا يزال قائما. •••

وجملة القول أن شخصية أفلاطون كانت وما زالت وستظل أبدا شخصية قوية عظيمة التأثير في الحياة العامة، بحيث إنك لن تستطيع أن تدرس مذهبا روحيا، قديما كان أو حديثا، دينيا كان أو فلسفيا، إلا وجدت للفلسفة الأفلاطونية فيه أثرا، يختلف قوة وضعفا باختلاف الظروف التي أحاطت بتكوين هذا المذهب. ولقد يكون من اللذيذ أن ندرس في يوم من الأيام تغلغل التأثير الأفلاطوني في الطبقات المختلفة من الشعوب المتباينة. فإلى الفلسفة الأفلاطونية ممتزجة بعناصر أخرى متنوعة، يرجع كثير من فنون السحر والكهانة والتصوف، وما إلى ذلك من هذه الفنون التي لا تزال عظيمة السلطان على الطبقات الدنيا في أكثر الشعوب.

لم يكد أفلاطون يأخذ في تعليمه الفلسفي في أثينا حتى أسرع إليه الناس يستمعون له، ويناقشونه ويحاورونه، وما هي إلا أن أصبحت مدرسته مجمعا علميا، أو قل مجمعا فلسفيا، لا يتألف من التلاميذ والأستاذ، بل يتألف من طائفة من الفلاسفة، يتقسمون العمل فيما بينهم، ويعنى كل واحد منهم بمسألة أو طائفة من المسائل، يدرسها ويفرغ لتحقيقها، حتى إذا مات أفلاطون، خلفه تلاميذه على إدارة المدرسة، وتفرق أصحابه في المدن اليونانية كما تفرق أصحاب سقراط، فأنشأوا فيها المدارس الأفلاطونية التي اختلف ميولها، ولكنها كانت أقرب إلى الاتفاق من المدارس التي أنشئت بعد سقراط. على أن تلميذا من تلاميذ أفلاطون كان قد نزل من قلب أستاذه منزلة خاصة، حتى أعجب به هذا الأستاذ، فكان يسميه «العقل» هذا التلميذ لم يلبث أن أنشأ مدرسة في أثينا نفسها، تعرضت لدرس المسائل الفلسفية التي تعرض لها أفلاطون، فغيرت وجهة النظر الفلسفي تغييرا ظاهرا، وأعطت الفلسفة اليونانية شكلها الأخير؛ نريد بهذا التلميذ «أرسطاطاليس»، وبهذه المدرسة مدرسة «اللوكايون» (Lycée) . ولا بد من أن نخصص لأرسطاطاليس ومدرسته بحثا كهذا البحث الذي خصصناه لأفلاطون.

أرسطاطاليس

شهد سقراط في شبابه مجد الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة، وشهد في شيخوخته هذه الجهود العنيفة التي كانت تبذلها هذه الأمة اليونانية نفسها لتقضي على ما كان لها من قوة وسلطان، شهد تلك الحرب التي لم يعرف العالم القديم مثلها، والتي أثرت في الحياة اليونانية تأثيرين مختلفين: فرقت الحياة العقلية، وحطت الحياة السياسية؛ وكانت فلسفة سقراط ممثلة لهذين التأثيرين: كان فيها انصراف عن السياسة، وكانت فيها من ناحية أخرى عناية بالحياة العقلية، وحرص على تقويتها وترقيتها وتهذيبها. وشهد أفلاطون في شبابه ضعف الأمة اليونانية عامة ومدينة أثينا خاصة؛ وتدخل الأجنبي في أمر هذه الأمة التي كانت شديدة البأس واسعة السلطان؛ فأصبحت أداة تصطنعها الأمة الفارسية لإرضاء مطامعها المختلفة في آسيا وفي أوربا. وشهد في شيخوخته انحلال هذه الأمة اليونانية وموت الروح الوطني فيها.

وكانت فلسفته ممثلة لهذا العصر الذي عاش فيه تمثيلا صحيحا؛ فكانت من جهة كفلسفة سقراط ترمي إلى تقوية الحياة العقلية ومحاولة أن تكون وحدها غاية الرجل الحكيم. وكانت من جهة أخرى كفلسفة سقراط أيضا تمثل السخط على الحياة السياسية الحاضرة، وتتخذها موضوعا للعبث والسخرية. ولكنها لم تكن يائسة من الإصلاح، وإنما كانت تخالف فلسفة سقراط وترمي إلى وضع نظام جديد للحياة السياسية ليس يعنينا الآن أكان في نفسه حسنا أم سيئا، معقولا أم غير معقول، ولكن الذي يعنينا أنه كان محاولة للإصلاح ورغبة في إقامة بناء سياسي جديد، ودليلا واضحا على أن البناء السياسي القديم الذي كان قد أخذ يتصدع أيام سقراط قد أشرف الآن على أن ينهار، ولم يبق من الاستعداد بد لإقامة بناء جديد على أنقاضه.

وقد عرفت في الفصول السابقة فلسفة سقراط وأفلاطون، وتأثيرها في الرأي العام أثناء حياة هذين الفيلسوفين وبعد موتهما. أما الفيلسوف الذي أريد أن أحدثك عنه في هذا الفصل فمتصل بهذين الرجلين العظيمين من جهة، ومنفصل عنهما من جهة أخرى.

هو سقراطي، وهو أفلاطوني؛ لأنه كان كسقراط وكأفلاطون: يقيم فلسفته على أن الحقائق ثابتة، وعلى أن الشك سخيف، وعلى أن هذه الحقائق الثابتة تنتهي كلها آخر الأمر إلى حقيقة عليا. عنها صدرت وإليها تعود. وهي حقيقة الإله، الذي صدر العالم عنه والذي يعود العالم إليه، ولكنه يخالف سقراط، ويخالف أفلاطون في طريقة البحث والتفكير، والنتائج الفلسفية التفصيلة التي انتهى إليها. وربما كان من الحق أن نقول: إنه يخالف سقراط وأفلاطون مخالفة شديدة في تكوين عقله، وتوجيه هذا العقل إلى حقائق العلم وظواهر الحياة.

كما أن فلسفة سقراط وفلسفة أفلاطون تمثلان الحياة اليونانية في عصريهما، فإن فلسفة أرسطاطاليس تمثل هذه الحياة أيضا تمثيلا قويا صادقا، فهي الدليل الناطق بأن الفلسفة السقراطية قد نجحت فيما كانت تحاول من إضعاف النظم السياسية القائمة، وهي الدليل الناطق بأن الفلاسفة كانوا مصيبين في فهم الحياة السياسية والاقتناع بأنها سيئة، وبأنها منتهية للكوارث من غير شك.

كان عصر أرسطاطاليس عصر تطور غريب لم يشهد العالم القديم مثله، وقد بدأ هذا التطور ضئيلا ضيقا لم يجاوز شبه جزيرة البلقان حيث أخذ سلطان المقدونيين يعظم ويقوى ويجاوز حدود مقدونيا في عصر فيليب، وبينما كان سلطان المقدونيين يشتد داخل مقدونيا وينبسط خارجها كان الفساد يعظم، ويشيع في المدن اليونانية على اختلاف قوتها ونظمها السياسية؛ فلم يكن بد من أن تطمح هذه الدولة الناشئة إلى السيطرة على هذه المدن المشرفة على الفناء. ثم لم تكد تخطر هذه الفكرة لزعيم المقدونيين وملكهم فيليب حتى أخذ في تنفيذها، وكان كل شيء يسهل عليه هذا التنفيذ، وكان للفلسفة حظ عظيم في تسهيله، فهي قد عملت في هدم النظم السياسية القديمة، وأسرفت في ازدرائها حتى شككت الناس فيها وصرفتهم عنها. ثم لم تكتف بذلك بل أخذت تدعو إلى تغيير هذه النظم وإلى القضاء على هذه الحياة التي تضطر اليونانيين إلى الخصومة والعنف، وتورطهم في الحرب المتصلة المهلكة للنفوس والأموال. وظهر في البلاد اليونانية قوم يدعون سرا وجهرا إلى وجوب أن يقوم سلطان قوي قاهر يبسط قوته على هذه الأمة اليونانية، فيضبط أمورها ويكرهها على احترام السلم فيما بينها من جهة، ويوجه قوتها الحربية إلى الشرق وإلى الفرس من جهة أخرى. وليس من شك في أن هؤلاء الدعاة من الكتاب والأدباء والفلاسفة كانوا متصلين أشد الاتصال بقصر فيليب، وفي أن فيليب كان يمد أكثرهم بالمال والمعونة ويتخذهم قوة معنوية يمهد بها لقوته المادية الضخمة. وقد وفق فيليب في هذا، فظهرت في المدن اليونانية كلها أو أكثرها أحزاب سياسية تميل إلى مقدونيا، وترغب في محالفتها ومناصرتها، وكانت هذه الأحزاب بطبيعتها مخاصمة للديمقراطية أو للديمقراطية المتطرفة على أقل تقدير، وقد تم النصر لفيليب فقهر الأمة اليونانية واضطرها إلى أن تذعن لسلطانه، وتنتخبه قائدا عاما لجيوشها، وتكلفه حرب ملك الفرس، فلما مات فيليب نهض ابنه الإسكندر لتنفيذ خطته، فنفذها كما تعلم، وكما سنعرض لذلك في فصل غير هذا الفصل.

وكان أرسطاطاليس يوناني الأصل، ولكنه مقدوني النشأة، ولد في مستعمرة يونانية قريبة من مقدونيا يقال لها «ستاجيرا»، ولكنه نشأ في مقدونيا؛ لأن أباه نيكوماخوس كان طبيبا لملك من ملوكها، وقد تأثر من غير شك بحياة القصر المقدوني وعادات الأشراف المقدونيين، وظهرت نتائج ذلك واضحة جلية في حياته وفلسفته معا. فلم يكن أرسطاطاليس سقراطي السير ولا أفلاطونيا في حياته، وإنما كان رجلا عمليا يعيش كما يعيش غيره من الناس، مستمتعا بلذات الحياة كما يستمتع بها غيره من الناس، لا يضيق على نفسه ولا يتكلف زهدا ولا تورعا ولا حرمانا. وكان، كما سترى: عمليا في فهمه وتصوره وحكمه على الأشياء. وليس من شك في أنه كان مقدوني النزعة السياسية، يقدر فساد الحياة اليونانية العامة، كما يقدر قوة مقدونيا وقدرتها على ضبط الأمور. وقد رحل إلى أثينا حين بلغ العشرين، فاختلف إلى أساتذة البيان والفلسفة فيها، ولكنه لازم أفلاطون ملازمة خاصة.

فتن بأفلاطون وفتن به أفلاطون أيضا، حتى لقد يقال إن أفلاطون كان يؤثره وكان يسميه القراء، وكان يسميه العقل أيضا. وقد ظل ملازما لأفلاطون أعواما طوالا، فقد كان يختلف إلى الأكاديمية ويشترك في محاورتها الفلسفية المختلفة. فلما مات أفلاطون سنة 347 قبل المسيح وتفرق نفر من تلاميذه عن أثينا، ساح أرسطاطاليس في الأرض حينا، فزار آسيا اليونانية التي كانت خاضعة حينئذ لسلطان الفرس. وكما أن حياته في مقدونيا وفي البلاد اليونانية أقنعته بضعف السلطان اليوناني وفساد أمر اليونان، فإن حياته في آسيا أقنعته بضعف الفرس وفساد أمرهم. ولا شك في أن رجلا ذكي القلب رشيدا كأرسطاطاليس كان يقدر هذا الفساد العام في الشرق والغرب، ويرى كما كان يرى غيره من المفكرين أن الخير كل الخير هو أن تقوم دولة قوية، فتجمع كل هذه القوى المتفرقة الضائعة، وتوجهها إلى ضبط الأمر في العالم المتحضر. ولكن حياة أرسطاطاليس لم تكن في ظاهر الأمر سياسية، وإنما كان الرجل منصرفا إلى التفكير وإلى البحث الفلسفي. وقد عاد إلى أوربا، ودعاه فيليب إلى تربية ابنه الإسكندر وتأديبه، فعاش في القصر المقدوني أعواما. ومهما يكن من شيء، ومهما تسكت النصوص التاريخية فقد كانت لحياة أرسطاطاليس في قصر فيليب آثار سياسية مزدوجة: كان يشير على فيليب، وكان يكون الإسكندر تكوينا ملائما لأطوار العصر الذي يعيش فيه، ولآمال فيليب وآمال مقدونيا أيضا.

ثم مات فيليب، وأخذ الإسكندر في تنفيذ خطة أبيه - فعاد أرسطاطاليس إلى أثينا وأنشأ فيها مدرسته المعروفة باسم «لوكايون

Lycée »، واتصلت الرسائل بينه وبين تلميذه الملك؛ وكان الملك يرسل إليه الأموال والطرائف من آسيا معونة له على بحثه العلمي. على أن الصلة فسدت آخر الأمر بين الأستاذ وتلميذه؛ لأن ابن أخت الفيلسوف الذي كان مرافقا للملك اتهم بالائتمار بالملك، فقتله الإسكندر، ونتج عن ذلك فساد الأمر بينه وبين أستاذه.

مات الإسكندر، وانتفض اليونان على السلطان المقدوني، ورفعت الديمقراطية اليونانية برأسها، وأخذت في تتبع المقدونيين وأنصارهم؛ فخرج أرسطاطاليس من أثينا هاربا، ولكنه لم يلبث أن مات بعد سنة أو نحو السنة في جزيرة «أبوا» سنة 323 قبل المسيح.

المؤرخون القدماء والمحدثون مجمعون على أن أرسطاطاليس ترك من الآثار الفلسفية شيئا ضخما لم يسبق إلى مثله، ولا إلى ما يشبهه، ولكنهم يختلفون في مقدار هذه الآثار اختلافا عظيما جدا. وقد لا يكون من الخير أن نعرض لهذا الاختلاف ولا لتفصيل البحث عن كتب أرسطاطاليس وما بقي منها؛ فإنك تجد ذلك مفصلا في مقدمة كتاب «الأخلاق» الذي ترجمه إلى العربية أحمد لطفي السيد (باشا)، وفي مقدمة «نظام الأثينيين» الذي ترجمته أنا إلى العربية. وإنما نكتفي هنا بالإشارة إلى أن أرسطاطاليس كان ينهج في مدرسته منهجين مختلفين: منهج التعليم الخاص الذي لا يحضره ولا يشترك فيه إلا تلاميذ المدرسة وأعضاؤها، ومنهج التعليم العام الذي كان مباحا للكافة.

وكما أن تعليمه قد انقسم إلى هذين القسمين، فإنه كتبه وكتب تلاميذه انقسمت إليهما أيضا؛ فكانت منها الكتب المدرسية الخالصة التي أنشئت للمدرسة ولبحوثها، والتي لم يكن يحسن فهمها ولا التصرف فيها إلا الذين تعودوا لغة المدرسة وأساليبها ومناهجها الفلسفية، وكانت منها كتب أخرى سهلة يسيرة توضع لعامة الناس وتذاع فيهم، وهذه الكتب هي التي ذهبت كلها أو أكثرها أحداث الزمان. أما الأخرى، فقد بقيت المدرسة ثم انتقلت منها، وعبثت بها الحوادث حينا، حتى استولى «سولا» الروماني على مدينة أثينا فنقلها إلى روما وقد أصابها فساد شديد. ومن ذلك الوقت أخذ الفلاسفة في درسها وتصحيحها وإذاعتها؛ وقد بقي لنا أكثر هذه الكتب، وهو يزيد على الأربعين. وإذا نظرنا في جملة ما بقي لنا من آثار أرسطاطاليس استطعنا أن نتصور بوجه ما عمل مدرسته وعمله أيضا. فقد يظهر أن أرسطاطاليس لم يكن يقصر عمله، كما كان يفعل أفلاطون، على البحث الفلسفي ووضع الكتب الفلسفية المختلفة، وإنما كان يقصد إلى شيء آخر أجل خطرا وأبعد أثرا في الحياة العقلية العامة من هذا كله. كان يريد أن تكون فلسفته وكتبه خلاصة صادقة لكل ما وصل إليه العقل الإنساني من نتائج البحث عن كل شيء: كان يريد أن تكون كتبه أشبه شيء بما نسميه نحن دائرة المعارف الآن. ويظهر أنه كان يقسم العمل بين أصحابه، فيختص كل واحد منهم بنوع من أنواع البحث وفن من فنون الفلسفة يدرسه ويستقصيه، ويقدم نتيجة دروسه إلى المدرسة؛ ومن هذه النتائج المختلفة كان يتكون البحث الفلسفي العام الذي يختصرها ويلخصها، ويظهر هذا ظهورا قويا في كتاب «السياسة» - فنحن نعلم أن أرسطاطاليس جد في الاستعداد لهذا الكتاب، فاستقصى النظم الدستورية لطائفة ضخمة من المدن اليونانية وغير اليونانية، واستطاع بعد هذا الاستقصاء أن يضع كتاب «السياسة» الذي هو الخلاصة العامة لكل هذا البحث الطويل الدقيق. ولدينا نموذج لهذا البحث المفصل، وهو كتاب «نظام الأثينيين» الذي استكشف في مصر آخر القرن الماضي، والذي يمثل لنا دقة في البحث ومهارة في الاستقراء لم يكن للعلم بهما عهد من قبله.

على أن أرسطاطاليس يخالف أفلاطون وسقراط من جهة أخرى، في نهجه التعليمي الخالص؛ فلم يكن يعتمد في هذا المنهج كما كان يعتمد سقراط وأفلاطون على الحوار، ولم يكن يعنى كما كان يعنى أفلاطون بالإجادة الفنية البيانية، وإنما كان عالما قبل كل شيء، يهجم على موضوعه هجوما دون أن يدور حوله بالحوار والمناقشة، ويعنى بالفكرة قبل أن يعنى باللفظ الذي يصوغها فيه. ومن هنا لم تكن كتب أرسطاطاليس ككتب أفلاطون نموذجا فنيا للإجادة البيانية، وإنما هي نموذج خالد لإجادة البحث العقلي وإنفاذه. على أن هناك وجها آخر ظهر فيه الخلاف بين أرسطاطاليس وبين أفلاطون وسقراط : فقد كان سقراط ينتقل بفلسفته في شوارع أثينا من حانوت إلى حانوت، ومن ميدان إلى ميدان؛ ثم جاء أفلاطون فأقر تعليمه الفلسفي في مدرسة اختارها لهذا التعليم هي «الأكاديمية»، كان يعيش فيها ويختلف إليه تلاميذه فيدرسون ويتحاورون. أما أرسطاطاليس فقد تخير المدرسة واستقر فيها مع تلاميذه كما فعل أفلاطون، ولكنه لم يكن يعلم ولا يحاور جالسا مستقرا، وإنما كان يمشي في حديقة مدرسته ومن حوله أصحابه وتلاميذه، فيدرسون ويحللون ويستنبطون؛ فكان وسطا في ذلك بين سقراط المتنقل وأفلاطون المستقر، ومن هذا المشي مع أصحابه سميت مدرسته مدرسة المشائين، وأطلق اسم المشائين على الذين ينتمون إلى مذهب أرسطاطاليس في الفلسفة. وربما كان من الحق أن نقرر أن أرسطاطاليس قد نهض بالفلسفة نهوضا عظيما، ورقاها ترقية بعيدة الأثر، حين عدل عن أسلوب الحوار إلى أسلوب البحث المباشر المتصل؛ فقد يصلح الحوار في ألوان من الفلسفة وضروب من التفكير، ولكنه من غير شك بعيد كل البعد عن أن يلائم البحث الفلسفي العميق عن الطبيعة وما بعد الطبيعة وعن المنطق، وما يتصل به من فنون الأدب، فهو إذا صح أسلوبا للبحث السياسي والخلقي لا يصلح لغيرهما، ومن هنا كانت فلسفة أرسطاطاليس في الطبيعة وما بعد الطبيعة أشد استقرارا وأقدر على البقاء من فلسفة أفلاطون.

ولقد أشق ولقد أسرف في الإطالة لو أني حاولت أن أختصر لك صورة ما من فلسفة أرسطاطاليس. وكيف السبيل إلى ذلك في صحف معدودة ولم يترك أرسطاطاليس فنا من فنون الفلسفة ولا لونا من ألوان البحث الإنساني إلا عرض له وقال كلمته فيه - إنما الذي يعنيك من فلسفة أرسطاطاليس هو أن تعلم أن الفيلسوف الوحيد الذي حاول في العصر القديم أن ينظم العلم الإنساني من جهة، ويستقصي قوانين التفكير والتعبير والسيرة العامة والخاصة من جهة أخرى؛ ففلسفته تدور على هذين الأمرين.

تريد أن تعلم إلى أي حد وصل العقل الإنساني في القرن الرابع قبل المسيح في دروس مسألة بعينها من مسائل الطبيعة أو ما بعد الطبيعة؟ فمرجعك في ذلك إنما هو أرسطاطاليس، تجد فيه نتائج البحث الذي سبقه. وتجد فيه نقد هذه النتائج، وتجد فيه رأيه الخاص في هذه النتائج، ومن هنا انقسمت فلسفة أرسطاطاليس إلى قسمين أساسيين: أحدهما القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة، ثم أصبح شيئا تاريخيا يرجع إليه الذين يدرسون تاريخ الفلسفة وتاريخ الحياة العقلية عامة؛ ليستعينوا على فهم هذا التاريخ، وهذا القسم هو المباحث التي تتصل بالطبيعة وما بعد الطبيعة؛ فهو يدرس الآن ويدرس درسا دقيقا لا ينتفع به انتفاعا مباشرا في الحياة العملية، بل ليستعان به على فهم العقل الإنساني وما ناله من التطور على اختلاف العصور؛ وليس هذا بالشيء القليل. والآخر هو القسم الذي أحدث آثاره الطبيعية المعقولة، وما زال يحدثها، وسيحدثها أبدا دون أن يناله في ذلك ضعف أو قصور، أي هو القسم الذي بقي وسيظل صالحا للبقاء، والذي لم يستطع العقل الإنساني على رقيه ونضوجه أن يمحوه أو يغير منه قليلا، وهو كل ما تركه أرسطاطاليس في المنطق والأدب والأخلاق والسياسة. فقد استقصى أرسطاطاليس في المنطق قوانين العقل الإنساني في البحث والتفكير على اختلاف درجاتهما وأطوارهما؛ وهذه القوانين ثابتة لا تتغير، ملائمة للإنسان من حيث هو إنسان، لا من حيث إنه شرقي أو غربي، ولا من حيث إنه قديم أو حديث.

وقد يتطور العقل الإنساني فيشتد تأثره بناحية من أنحاء البحث دون ناحية أخرى. ولكن هذا لا يستتبع إلغاء قانون من القوانين التي استكشفها أرسطاطاليس وإنما يستتبع تقديم بعض هذه القوانين على بعض، فقد كان القدماء وأهل القرون من العرب والأوربيين يعنون عناية خاصة بالقياس، ويعتمدون عليه في بحثهم الفلسفي؛ ثم تطور العقل وأصبحت الفلسفة الحديثة تعتمد على الاستقراء أكثر مما تعتمد على القياس.

ونحن نعلم أن أرسطاطاليس قد استكشف قوانين القياس وقوانين الاستقراء جميعا، وأن الفلسفة الحديثة إن عنيت عناية خاصة بالاستقراء فهي لا تلغي القياس، ولا تستطيع أن تلغيه؛ لأنه صورة طبيعية من صور التفكير الإنساني.

وكما أن منطق أرسطاطاليس خالد فأدبه خالد أيضا. ونريد بهذا الأدب قوانين البيان التي استكشفها أرسطاطاليس في العبارة والشعر والخطابة، فهذه القوانين باقية خالدة؛ لأنها الصور الطبيعية لتعبير الإنسان عن آرائه، كما أن قوانين المنطق هي الصور الطبيعية لتكوين هذه الآراء. ومن غريب الأمر أن أهل الأدب الأوربي في أواخر القرون الوسطى وأوائل العصر الحديث، كانوا يزعمون أن أرسطاطاليس يقيد القصص التمثيلية المحزنة بقيود يقال هي الوحدات الثلاث: وحدة الزمان، والمكان، والعمل، فلما وضع «كرنيل» قصة «السيد» اشتدت حملة النقاد عليه؛ لأنه شذ عن هذه الوحدات؛ ونشأ من هذا خلاف بين الأدب القديم والأحرار من الأدب الحديث كثر فيه القول كثرة فاحشة، ثم استكشف أدب أرسطاطاليس وما كتبه عن الشعر وعن القصص التمثلية المحزنة، فإذا هو لم يذكر هذه الوحدات ولم يشر إليها، وإذا آراء الأوربيين الذين كانوا يضيفون إليه هذه الوحدات لم تكن قائمة إلا على الجهل والوهم، وإذا القوانين الأدبية التي استكشفها أرسطاطاليس لا تزال باقية صالحة للبقاء كقوانين المنطق. وقل شيئا يشبه هذا بالقياس إلى القوانين السياسية والخلقية التي استكشفها أرسطاطاليس؛ فقد تطورت النظم السياسية وقواعد الأخلاق، ولا شك في أنها ستتطور، ولكن القواعد الأساسية لأرسطاطاليس ستظل قائمة باقية؛ لأنها تتبع هذا التطور وتسيطر عليه؛ فمهما تتغير الجماعات ونظمها فستظل القاعدة السياسية الأساسية هي هذا القانون الذي وضعه أرسطاطاليس، وهو أن حسن الحكومة وقبحها شيئان إضافيان؛ فالحكومة الحسنة ليست هي الملكية ولا الجمهورية أرستقراطية كانت أو ديمقراطية، وإنما هي الحكومة الملائمة للشعب، وإذا فكل حكومة مهما تكن صورتها خير إذا لاءمت روح الشعب ومنافعه، فأي تطور اجتماعي أو سياسي يستطيع أن يغير هذه القاعدة الخالدة؛ كذلك قد يتغير شعور الإنسان وحكمه على الأشياء ومذهبه في قياس الخير والشر، ولكن القانون الخلقي الذي وضعه أرسطاطاليس سيظل خالدا؛ لأنه فوق التطور يدبره ويسيطر عليه. فأي تطور يستطيع أن يغير هذا القانون قانون الأوساط، الذي يقضي بأن الإسراف شر، وبأن التقصير شر، وبأن الخير حقا إنما هو التوسط في الأمر! وأي تطور يستطيع أن يغير هذا القانون الآخر الذي استكشفه أرسطاطاليس، وانتهى إليه العلم الحديث، وهو أن الأمر في الأخلاق كالأمر في السياسة، يجب أن يقوم على الإضافية! فليس هناك خير مطلق أو شر مطلق لا ينالهما تغير أو تبدل، وإنما الخير والشر إضافيان يتأثران بكل ما تتأثر به الحياة العامة والخاصة من الظروف.

وإذا فليس من الحق أن أرسطاطاليس فيلسوف قديم، وإنما الحق أنه فيلسوف خالد ملائم لكل زمان ولكل مكان، وهو - كما سماه الغرب حقا - «المعلم الأول».

وهو بحكم هذا الاسم قائد من قادة الفكر، أو قل: أكبر قائد من قادة الفكر، وكيف تريد أن أثبت لك أنه أكبر قائد من قادة الفكر وأنت تعلم معي أن فلسفة أرسطاطاليس سيطرت منذ ظهورها على العقل الإنساني القديم، وأنها هي التي كانت لها الأثر الأكبر في تكوين العقل العربي الإسلامي، وفي وجود فلسفة العرب وعلم الكلام عندهم، وهي التي تغلغلت في الحياة العربية حتى أثرت في البيان العربي تأثيرا قويا، وهي التي كونت العقل الأوربي في القرون الوسطى، وهي التي اتخذها العقل الأوربي مصدرا وأساسا لعلمه وفلسفته في العصر الحديث. بل هناك ميزة يختص بها أرسطاطاليس دون غيره من الفلاسفة القدماء والمحدثين، وهي أن خصومه والمنتمين إلى المذاهب الفلسفية والدينية المناقضة لفلسفته يتخذون فلسفته نفسها وسيلة إلى محاربته، فالأفلاطونيون ينقضون فلسفة أرسطاطاليس بنفس القواعد التي كشفها أرسطاطاليس للبحث والنقض والاستدلال؛ وكذلك قل عن المسيحيين والمسلمين والمحدثين من الفلاسفة، كل أولئك استخدم وما زال يستخدم منطق أرسطاطاليس لمخاصمة أرسطاطاليس. إذا فهذا الاسم من الأسماء الخالدة التي قد تكون أشد من الدهر قدرة على البقاء، إن صح مثل هذا التعبير. ومن أراد أن يبحث عن قادة الفكر فلن يستطيع أن يوفق لإجادة البحث وإحسانه إلا إذا عني بأسطاطاليس وفلسفته، وأنزلهما منزلتهما الحقيقية، وهي المنزلة الأولى.

الإسكندر

كانت قيادة الفكر إلى الشعراء أول عهد العالم القديم بالوجود الاجتماعي والسياسي، ثم ارتقى هذا العالم القديم من الوجهة الاجتماعية والسياسية والعقلية، فانتقلت قيادة الفكر من الشعر إلى الفلسفة، وأصبح قادة الفكر فلاسفة ومفكرين، بعد أن كانوا أصحاب شعر وخيال ، ولكن هذه الفلسفة نفسها جدت في سبيلها التي سلكتها إلى الرقي، وانتهت إلى ما لم يكن بد من أن تنتهي إليه، فأحدثت في النفوس شكا، وتناولت النظم القائمة بالنقد حتى هدمتها، أو كادت تهدمها؛ وظهر أنها عاجزة عن قيادة الفكر بعد أن وصلت الجماعات إلى هذا التطور الذي وصلت إليه في القرن الرابع قبل المسيح، كما ظهر منذ قرون عجز الشعر عن قيادة الفكر بعد أن تبدلت الحياة الاجتماعية والسياسية.

ولم يكن بد من أن تنزل الفلسفة عن سلطانها لشيء آخر يخلفها على قيادة الفكر وتوجيه الحياة الإنسانية وجهة جديدة؛ تلائم هذه الأطوار الجديدة التي انتهت إلى الجماعات.

وفي الحق أن هذا القرن الرابع قبل المسيح كان عصر انتقال عام تظهر آثاره في جميع أجزاء العالم القديم: في الشرق الآسيوي، وفي الغرب الأوربي، وفي بلاد اليونان خاصة، وشبه جزيرة البلقان بوجه عام، فأنت حين تستعرض تاريخ العالم القديم في هذا العصر، لا تجد إلا تغيرا وتبدلا في النظم وأصول الحكم، في الأخلاق والعادات، بل في الشعور الديني نفسه.

أما في الشرق، فقد كانت الدولة الفارسية العظمى، التي بسطت سلطانها على أعظم إمبراطورية عرفها تاريخ الشرق القديم، وأخضعت لهذا السلطان بلاد الفراعنة وبلاد البابليين والآشوريين والفينيقيين، كانت قد انتهت إلى شيء من الضعف آذن بأن سقوطها قد أصبح أمرا ليس منه بد: كان الفساد قد اشتمل على ملوكها وزعمائها، وكان الترف قد عبث بعامة شعبها الذي كان مصدر قوتها وبأسها، وكان العصيان قد انبث في أقطار الأرض التي خضعت لها، فأصبحت هذه الأقطار ثائرة مضطربة يطمع بعضها في استرداد استقلاله القديم، ويخضع بعضها الآخر لأطماع الحكام والمستبدين. وكانت السلطة المركزية قد يئست من أن تقبض بنفسها على أزمة الأمر، فلجأت إلى أعدائها اليونان، تجندهم لحماية أقطارها، وتستأجرهم للدفاع عن سلطانها. وكانت الأمة اليونانية على ما علمت في الفصل الماضي، من الضعف والانحلال، والفساد الخلقي والسياسي، والزهد في هذه النظم السياسية التي ألفتها والتي ظهر فسادها وعجزها عن ضبط الأمور. ولم تكن إيطاليا ولا غرب أوربا أقل اضطرابا من بلاد اليونان والشرق، فقد كانت مدينة روما الناهضة تبسط سلطانها الجديد قليلا قليلا على إيطاليا - وكان الجهاد عنيفا بينها وبين عناصر مختلفة كانت تنازعها السلطان: كان الجهاد عنيفا بينها وبين المستعمرات اليونانية الإيطالية؛ وكان عنيفا بينها وبين الفينيقيين من أهل قرطاجنة؛ وكان عنيفا بينها وبين المدن الإيطالية التي كانت تستمتع بالحياة المستقلة في أمن وسلم، فأصبحت الآن ترى هذه الحياة المستقلة معرضة للخطر؛ ذلك إلى هذه القبائل البربرية التي أخذت تندفع إلى بلاد إيطاليا وإلى غرب أوربا، والتي لم تجد روما بدا من أن تقف منها موقف المدافع المانع. كل شيء في العالم القديم كان يدل في هذا القرن الرابع على أن الحياة الإنسانية في حاجة إلى أن تتغير، وعلى أن القوة لا بد من أن تظهر لتضبط الأمر وتقضي على هذه الفوضى العامة.

وكان لهذه القوة المنتظرة مركزان: أحدهما قريب من الشرق في مقدونيا، والآخر قريب من الغرب في روما. ولكن هذه القوة المقدونية كانت، فيما يظهر أقدر على الظفر وأخلق بالانتصار من القوة الرومانية؛ لأنها كانت قريبة من مركز الحياة الأدبية والسياسية القوية: كانت قريبة من اليونان شديدة الاتصال بهم، وكانت قريبة من آسيا أيضا، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك مقدونيا وتاريخها، ولا إلى أن أفصل لك نهضتها السياسية واستئثارها بالقوة، فكل ذلك شيء لا يعنينا الآن، وإنما الذي يعنينا هو أن ملكا من ملوكها وهو فيليب، قد استطاع أن يكسب لها قوة حربية ضخمة، واستطاع بهذه القوة أن يستأثر بالأمر كله في البلاد اليونانية، وأن يخضع هذه المدن اليونانية لسلطان قوي حازم، ويقضي على ما كان بينها من نزاع وخصومة، ويوجه قوتها المادية والمعنوية إلى جهة جديدة نافعة، هي الاستيلاء على الشرق، والقضاء على سلطان الفرس فيه.

ولكن فيليب قتل غيلة، ولما يبدأ تحقيق غايته الكبرى التي كان يسعى إليها؛ فنهض بالأمر بعده ابنه الشاب الإسكندر؛ واستطاع لا أن يحقق غاية أبيه، بل أن يتجاوزها إلى شيء لم يكن يخطر لفيليب ولا لغيره من المقدونيين واليونان، بل لم يخطر لأحد من قبله، وهو إخضاع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد قوي منظم.

لعلك تعجب حين تراني أحدثك عن الإسكندر الفاتح، في كتاب يبحث عن قادة الفكر. ولعلك تسأل: ما بال قائد من قواد الجيوش يخلط بهؤلاء الذين لم يتسلطوا إلا على العقول؟ ولكني قلت لك في أول هذا الفصل: إن قيادة الفكر قد انتقلت من الشعر إلى الفلسفة، ثم من الفلسفة إلى السياسة، وكان الإسكندر هو الذي نقلها، أو قل هو الذي انتزعها عن الفلسفة وأقرها للسياسة.

ولقد يكون من الحق، ومن الواجب أيضا، أن يتغير رأي الناس في الإسكندر، وفي عظمته، وفي مصدر هذه العظمة؛ فالناس جميعا يؤمنون بأن الإسكندر عظيم، ولكنهم يردون هذه العظمة إلى ما أحدث الإسكندر من فتح لم يعرفه التاريخ القديم. وكيف لا يكون عظيما ذلك الشاب الذي نهض بالأمر بعد أبيه، فلم يكد يستقبل الملك حتى فسد عليه كل شيء، واضطرب من حوله كل شيء، فإذا جيرانه يغيرون على مملكته من كل صوب، وإذا حلفاؤه ينقضون الحلف ويثورون به يريدون أن يقضوا على سلطانه؛ وإذا هو على حداثة سنه وقلة حظه من التجربة، قد ثبت لهذا كله، فصد المغير، ورد الحليف إلى الوفاء بالعهد، وقضى على أطماع جيرانه، ومحا آمال اليونان في الاستقلال، واتخذ من خصومه وأعدائه على اختلاف أجناسهم، وتباين أهوائهم، وتفاوت حظوظهم من الرقي العقلي، جيشا ضخما منظما، عبر به البحر إلى آسيا. فلم يكد يظهر فيها حتى طرد الفرس من آسيا الصغرى، ومضى في طريقه يتبع ساحل البحر حتى أخضع البحر كله لسلطانه، وإذا هو في الشام، وإذا هو في مصر، وإذا هو وارث ملك الفراعنة، وإذا هو يؤسس عاصمة العالم الجديد، وإذا هو يترك مصر ويتعمق في آسيا، فيقضي على دولة الفرس ويرث عرشها، وإذا هو يجد في غزوه ويمعن في فتحه، فيبلغ الشرق الأقصى، ويوغل في الهند إيغالا، ويرفع لواء الحضارة اليونانية والأدب اليوناني في أرض لم تسمع باليونان من قبل، وإذا هو يعود إلى بلاد الفرس ويستقر للراحة في بابل وقد ورث ملك الفراعنة والبابليين والآشوريين والفرس وسلطان اليونان والفينيقيين، وضم هذا كله إلى ملك مقدونيا الذي ورثه عن أبيه.

كل ذلك لم يرضه ولم يقنعه، وما كان استقراره في بابل إلا استعدادا لحركة أخرى أشد عنفا من الحركة الأولى وأبعد منها أثرا؛ فقد كان يريد أن يستأنف السير فيعبر البحر إلى إفريقية، ويمضي في طريقه حتى يبلغ عمود هرقل أو مضيق جبل طارق، فيقضي على سلطان الفينيقيين في إفريقية الشمالية، ويبسط سلطانه على أوربا الغربية، ويقتحم هذا القسم من أوربا حتى يتم دورته، وينتهي إلى مقدونيا حيث ابتدأ حركته. كان يستعد لهذا كله، كان زعيما أن يتمه ويوفق له، لولا أن الموت عاجله فوقفه في منتصف الطريق!

كيف لا يكون عظيما هذا الشاب الذي فعل هذا كله في عشر سنين أو أقل من عشر سنين؛ نعم هو عظيم، ولم تخطئ الأجيال الماضية حين أضافت عظمته إلى هذه الحركة العنيفة الخصبة.

ولكننا مع ذلك نرى أن عظمة الإسكندر ينبغي أن تضاف إلى شيء غير هذا خليق بالخلود حقا؛ لأنه يتصل بالعقل لا بالأرض، فلم يكن الإسكندر قائد جيش ليس غير، وإنما كان قائد فكر قبل كل شيء وبعد كل شيء، وفوق كل شيء. لم يفهمه معاصروه، ولم يفهمه خلفاؤه، وفهمناه نحن، ولكننا لم نفهمه بعد كما ينبغي.

عد إلى الفلسفة اليونانية التي أزهرت في القرنين الخامس والرابع قبل المسيح، والتي انتهت بإفساد النظم السياسية واليونانية، ولم توفق لإيجاد نظم جديدة تخلفها؛ عد إلى هذه الفلسفة تجدها كانت تطمح، قبل كل شيء، وبدون أن تشعر إلى توحيد العقل الإنساني، والأخذ بنظام واحد في التصور والتفكير والحكم، ولم يكن بد إذا انتصرت هذه الفلسفة من أن تتقارب الشعوب وتتعاون على توحيد الحضارة وترقيتها، وعلى إيجاد نوع إنساني متحد الغاية متشابه الوسائل في مساعيه.

ولكن، ما السبيل إلى انتصار هذه الفلسفة؟ وما الوسيلة إلى تحقيق غايتها هذه؟ أما الدعوة والنشر فما كان من شأنهما أن يضمنا هذا النصر، ولا أن يحققا هذه الغاية. فكيف تتصور انتشار فلاسفة اليونان في البلاد الشرقية وإذاعة فلسفتهم في هذه البلاد، وإذا لم يمهد لذلك بإزالة الفروق السياسية والاجتماعية والاقتصادية بين اليونان وغيرهم من الشعوب! فهم الإسكندر هذا وجد فيه فوفق له: وأخضع العالم القديم المتحضر كله لسلطان واحد، وأزال بين شعوبه تلك الفروق التي أشرنا إليها آنفا، وأتاح للآداب اليونانية والفلسفة اليونانية أن تتغلغلا في أعماق الشرق وتؤثرا في نفوس الشرقيين، وتصبغاها هذه الصبغة اليونانية التي كانت قد أعدت من قبل لتكون صبغة عامة خالدة للعقل الإنساني كله. بل لم يكتف الإسكندر بإزالة هذه الفروق السياسية وإخضاع العالم القديم كله لسلطان واحد، وإنما طمع في شيء آخر أبعد مدى وأعسر تناولا: طمع في إزالة الفروق الجنسية بين الناس. لم يكتف بخلط الشعوب بعضها ببعض، بل أراد أن يمزجها ويستخلص منها شعبا واحدا. انظر إليه حين استقر ببابل، وقد أخذ في هذا المزج بالفعل، فبدأ يزاوج بين اليونانيين والمقدونيين من جهة، والفرس من جهة أخرى، حتى لقد أحدث في يوم واحدة عشرة آلاف من هذه المزاوجة، وأنفق في تشجيع هذه الحركة أموالا ضخمة، وجعل نفسه وزعماء جيشه قدوة لعامة الجيش، بل لم يكتف بهذا، وإنما أزمع إحداث حركة عامة، وأراد أن ينقل طبقات ضخمة من الفرس إلى البلقان، وطبقات ضخمة من البلقان إلى الفرس، لا يريد بهذا كله إلا مزج الشعوب، وإزالة ما بينها من الفروق الجنسية. ولكن الموت عاجله قبل أن يبدأ في هذه التجربة التي لو تمت لغيرت وجه الأرض، ولحولت سير التاريخ.

وسواء علينا أكان الإسكندر مصيبا أم مخطئا في هذه الفكرة وفي انتهاج هذا المنهج، وسواء علينا أوفق أم لم يوفق، وإنما الشيء الوحيد الذي لا شك فيه هو أن الإسكندر لم يكن يريد أن يفتح الأرض وحدها، وإنما كان يريد أن يفتح معها العقل، بل قل: إنه إنما كان يفتح الأرض تمهيدا لهذا الفتح العقلي. بل لا تستعمل كلمة الفتح؛ فلم يكن الإسكندر فاتحا بالمعنى الذي فهمته الأجيال المختلفة: لم يكن صاحب حرب وقهر وغلب، وإنما كان صاحب مودة ومحبة وإخاء وتسوية بين الناس. ولقد أسرف في الإطالة لو أني تحدثت إليك بما لقي الإسكندر في ذلك من مشقة وعناء؛ فقد أنكره المقدونيون حتى ثاروا به وهو زعيمهم، وقد سخر منه اليونان، ودبر أولئك وهؤلاء المؤامرات، واضطر الإسكندر إلى أن يتخذ العنف وسيلة إلى قهر خصومه من أنصار القديم. كان الإسكندر قائد فكر كما كان قائد جيش، وقد وفق في قيادة الفكر لما لم يوفق له في قيادة الجيش. وهنا عبرة تاريخية يجب أن يتفكر فيها من يريد أن يتعظ ويقدر الأشياء كما هي.

ظفر الإسكندر في قيادته العسكرية بكل ما كان يريد، فخضعت له أقطار الأرض، وورث تلك العروش التي ورثها، وعبدته الشعوب على اختلافها. ولكن هذا الظفر لم يدم؛ فلم يكد الإسكندر يفارق هذه الحياة، حتى تفرق أصحابه واختلفوا، وشبت الحرب بينهم، وتقطع هذا الملك، ولم يتم تكوين هذه الدولة التي كان يرمي إليها الفاتح العسكري، وأخفق الإسكندر في قيادته الفكرية أثناء حياته، فلم يتم له ما كان يريد من توحيد الشعوب، والتقريب بين العقول، وإيجاد حضارة واحدة مشتركة، ولكنه ظفر بهذا كله بعد موته؛ لأن فتحه العسكري قد غرس هذه الفكرة في جميع أقطار الأرض التي وطئتها جيوشه. ولم يكن بد من الوقت لتستطيع هذه الفكرة أن تنبت وتنمو وتؤتي ثمراتها. ولم يكد ينتهي القرن الثامن حتى كانت الحضارة اليونانية حضارة الشرق القديم، واللغة اليونانية لغة الشرق القديم، وحتى أخذ الشرق يشارك اليونان في آدابهم وفنونهم وفلسفتهم؛ حتى نشأ من اختلاط اليونانيين والشرقيين مزاج خاص، تستطيع أن تجده واضحا جليا إذا درست الفلسفة الإسكندرية، أو آداب الإسكندريين، أو زرت المتاحف ورأيت هذه الآثار الباقية التي اشترك فيها الشرق واليونان. وما لنا نضرب الأمثال بهذه الأشياء التي لا يتاح للناس جميعا أن يشهدوها وبين أيدينا مثلان لا يستطيع أن ينكرهما منكر: الأول الديانة المسيحية؛ فليست هذه الديانة إلا نتيجة لازمة لتعاون العقلين الشرقي والغربي، ومثالا صادقا لهذا المزاج الجديد الذي نشأ من هذا التعاون؛ ولهذا ظفرت الديانة المسيحية من الفوز في أوربا بما لم تظفر به الديانة اليهودية لأنها سامية خالصة، وبما لم يظفر به الإسلام لأنه أعرق في السامية من الديانة المسيحية، والثاني هذا التفاهم القائم بين الشرق والغرب؛ فمهما تكن الفروق بين الشرقيين والغربيين، فهي فروق سياسية أو اجتماعية أو جنسية.

أما الفروق العقلية فقد محيت محوا تاما، وأصبح الشرقي والغربي يفهمان ويحكمان على نحو واحد؛ فليس هناك علم شرقي وعلم غربي، وليست هناك فلسفة شرقية يعجز الغربي عن فهمها، ولا فلسفة غربية يقصر الشرقي عن إساغتها. كل ذلك أثر من آثار الإسكندر؛ فهو الذي قارب بين الشرق والغرب، ومزج العقل الشرقي بالعقل الغربي، ولولا حركة الإسكندر هذه لكانت للشرق شؤون غير شؤونهما التي عرفها التاريخ.

والإسكندر إذن قائد من قادة الفكر، بل هو زعيم من زعماء قادة الفكر، بل هو أشد قادة الفكر القدماء إنتاجا وأكثرهم نفعا؛ فما قيمة الفلسفة اليونانية كلها لو لم يتح لها الإسكندر؛ ليذيعها في أقطار الأرض، ويبثها في مختلف الشعوب!

يوليوس قيصر

ليس من اليسير أن يذكر الإسكندر دون أن يذكر قيصر، فقد كان التشابه بينهما عظيما، على ما بينهما من اختلاف الجنس، وعلى ما بين عصريهما من تباين، وعلى ما بين الظروف التي أحاطت بحياتيهما وبالعالم القديم في عصريهما من افتراق. كان التشابه بينهما عظيما إلى حد أن ثانيهما مكمل لأولهما تكميلا شعر به القدماء أنفسهم، فشبهوا قيصر بالإسكندر، واخترعوا في ذلك أساطير مختلفة كثيرة. وسواء أكان قيصر يفكر في الإسكندر ويتخذه مثلا في سيرته ومطامعه السياسية أم لم يكن، فليس من شك في أن حياة قيصر وسيرته قد تممتا حياة الإسكندر وسيرته.

أراد الإسكندر أن يخضع العالم القديم كله لسلطان واحد سياسي، وأراد أن يكون خضوع العالم لهذا السلطان السياسي وسيلة إلى إيجاد الوحدة العقلية في النوع الإنساني كله، وإلى إزالة الفروق المختلفة التي كانت تفرق بين الشعوب، وقد أخضع جزءا عظيما جدا من العالم القديم لسلطانه، ولم تتح له الحياة الوقت الكافي لإخضاع بقية العالم القديم لهذا السلطان: فتح الشرق ولم يستطع أن يفتح الغرب، بل إن الظروف أرادت ألا يكون فوز الإسكندر هذا متصلا؛ فقد عاجله الموت ولما يتجاوز الخامسة والثلاثين من عمره، ولما يضع لدولته الضخمة من النظم والقوانين ما يكفل لها الوحدة السياسية التي كان يريد تحقيقها، فما هي إلا أن اختلف قواده وتقطع ملكه، وقامت على أنقاض دولته الضخمة دول كثيرة مختلفة. ومع هذا، فإن فوز الإسكندر عظيم، مثلناه لك في الفصل الماضي؛ لأن هذه الدول التي قامت على أنقاض دولته في أقطار الشرق، كانت كلها يونانية، فقاربت بين الشعوب، ووحدت الحضارة الإنسانية، وجعلت تعاون الشرق والغرب أمرا ميسورا.

وبينما كانت هذه الدول اليونانية الشرقية تؤدي في الشرق هذه الخدمة الإنسانية القيمة، كان الغرب الأوربي الذي لم يستطع الإسكندر أن يصل إليه، خاضعا لمؤثرين مختلفين، هزاه هزا عنيفا. وأحدثا فيه نفس الظاهرة التي أحدثتها حركة الإسكندر في الشرق: أول هذين المؤثرين، ظهور الجمهورية الرومانية في إيطاليا، وانبساط سلطانها قليلا قليلا على شبه الجزيرة الإيطالي؛ فقد كانت هذه الجمهورية قوة سياسية وعسكرية لم يعهد الغرب الأوربي مثلها، وكانت نهضتها في الغرب كنهضة مقدونيا في الشرق، تمهيدا لحركة عامة. غايتها القضاء على الفوضى والوصول إلى جمع أمور الشعوب الغربية في يد قوية حازمة تضبط الأمور: والثاني الجهاد بين الحضارة اليونانية التي كانت تمثلها المستعمرات اليونانية في إيطاليا وفرنسا وإسبانيا وصقلية، والحضارة السامية التي كانت تمثلها هذه الجمهورية الفينيقية الضخمة في إفريقية الشمالية، وهي جمهورية قرطاجنة. كان اليونان قد انبثوا على الساحل الإيطالي والفرنسي والإسباني وفي جزيرة صقلية، ونشروا حضارتهم وسياستهم وآدابهم وفلسفتهم في جميع البلاد التي استقروا فيها. وكان الفينيقيون قد انبثوا في ساحل إفريقية الشمالية وفي إسبانيا وفي جزيرة صقلية. وكان الجهاد عنيفا بين الجنسين، كلاهما يريد أن يظفر بسيادة البحر ليحتكر التجارة احتكارا، ولكن الطبع اليوناني الذي كان يستتبع الخصومة الحزبية داخل المدى والحروب السياسية بين المدن، أنتج في هذا القسم من الغرب نفس الذي أنتجه في الشرق، فضعف أمر اليونان، وتفرقت جهودهم، واستفاد الفينيقيون من هذا في الغرب، كما استفاد الفرس منه في الشرق.

ونهضت الأمة الرومانية في إيطاليا لتحقق نفس الغاية التي حققتها النهضة اليونانية في البلقان؛ فأخضعت المدن الإيطالية المستقلة، وقضت على سكان المستعمرات اليونانية في إيطاليا وصقلية، وكونت وحدة غربية قوية جاهدت الفينيقيين كما جاهد الإسكندر دولة الفرس؛ وقضت على الفينيقيين كما قضى الإسكندر على الفرس؛ وخضع الغرب كله للرومان، كما خضع الشرق كله لليونان. ثم لم يبق بد بعد أن تم هذا كله من أن تصطدم القوتان الشرقية والغربية، وتفوز بالسلطان أقدرهما على الحياة وأصلحهما للبقاء.

ولست في حاجة إلى أن أبين لك فساد الأمر في الدولة اليونانية الشرقية وصلاحه في الدول الرومانية الغربية؛ فأنت تستطيع أن تجد هذا مفصلا في كتب التاريخ، وإنما الذي يعنينا في هذا الفصل، هو أن نقول: إن القرن الثاني قبل المسيح لم يكد ينقضي حتى كان السلطان الروماني منبسطا بدرجات تختلف قوة وضعفا على البلاد اليونانية في أوربا، وعلى الدول اليونانية في الشرق؛ وحتى كانت فكرة الإسكندر - وهي تحقيق الوحدة السياسية للعالم القديم - قد أخذت تسرع إلى التحقيق وتظفر بالوجود الفعلي.

ولكن شيئا واحدا كان يحول دون تحقيق هذه الفكرة بالفعل، وهو أن العالم القديم، على ما أصابه من التطور العقلي والسياسي، لم يستطع أن ينسى نظمه القديمة ويضع لنفسه نظما ملائمة لحياته الجديدة؛ فكانت بلاد اليونان محتفظة بحياة المدن على النحو القديم، وكانت دول الشرق قائمة على نظم الدول الشرقية القديمة؛ بل كانت مدينة روما نفسها تعيش على نظامها الجمهوري القديم، وكان العالم حينئذ مظهرا لطائفة من المتناقضات الغريبة، لا تكاد تحصى دوله ومدنه المستقلة. ولكن هذا الاستقلال الذي كانت تستمتع به إنما كان استقلالا لفظيا لا حقيقيا؛ لأن السلطة الفعلية كانت لمدينة روما. على أن مدينة روما نفسها لم تكن تستمتع باستقلالها وحريتها إلا استمتاعا لفظيا فقد كانت النظم الجمهورية قائمة؛ ولكن السلطة الفعلية كانت قد انحصرت في أيدي الأغنياء يديرونها كما يشتهون، ويصرفونها كما تريد أطماعهم وأهواؤهم، وكان السخط عاما على هذه الحال المنكرة التي تعلن أنواعا من الاستقلال لا قيمة لها، وتجعل حياة الشعوب المختلفة إلى أفراد من الناس لا يكادون يبلغون الألف عدا؛ فكان الاضطراب متصلا في الشرق، وكان الجهاد بين الطبقات عنيفا في الغرب، وكان كل شيء يدل على أن صلاح الأمر واستقراره في هذا العالم القديم لن يتم إلا إذا تحققت بالفعل فكرة الإسكندر، وأشرف على هذه الدول والمدن المستقلة سلطان قوي قاهر حازم يضبط الأمور فيها. وأنت تستطيع أن تجد في تاريخ الرومان تفصيل هذه الاضطرابات وهذه الألوان من الجهاد الذي ختم حياة الجمهورية الرومانية، وكان في مقدمة لتكوين الإمبراطورية الرومانية.

في هذا الوقت ظهر شاب روماني من طبقة الأشراف هو يوليوس قيصر. ليس في حياته الأولى ما يميزه من غيره إلا أنه كان مسرفا فاسد الأخلاق، دنس السيرة مبغضا إلى الذين كانوا يحرصون على الآداب الرومانية القديمة؛ ومع ذلك فقد كان داهية ماكرا لا حد لأطماعه، وكان مع هذا كله لا يعرف حدا خلقيا يحول بينه وبين المنكر في سبيل تحقيق هذه الأطماع. كان من الأشراف، وكان يزعم أن نسبه يتصل بالإله «فينوس»، ولكنه كان ذكيا، فما أسرع ما فهم العصر الذي كان يعيش فيه! وما أسرع ما قدر ظروف الحياة من حوله! وما أسرع ما عرف أن الفوز السياسي إنما ينال بالتملق إلى طبقات الشعب والمبالغة في إرضاء هذه الطبقات! وما هي إلا أن أخذ يترضى هذه الطبقات، فإذا هو كريم مسرف ينفق بغير حساب، يستدين حتى يثقله الدين، ولا يدع شيئا يتوهم أن فيه رضا لطبقات الشعب إلا أقدم عليه وأسرف فيه، وإذا هو زعيم يلجأ إليه الفقراء والبائسون ويلتف حوله أصحاب الأطماع على اختلافهم، وإذا هو قوة يجب أن تحسب لها الدولة حسابا، وإذا هو يتقدم إلى مناصب الدولة فيظفر في الانتخاب، وإذا هو خصم لمجلس الشيوخ الروماني يدافعه ويجاهده، يظهر نفسه مظهر الصديق للديمقراطية. وانظر إليه قد فاز في جهاده فتولى حكم إقليم من الأقاليم الرومانية، ولم يكد يصل إلى هذا الإقليم في فرنسا حتى ظهرت مقدرته السياسية والعسكرية، ففتح فرنسا كلها وتعمق في ألمانيا، وعبر البحر إلى بريطانيا العظمى؛ واستفاد لنفسه من هذه الفتوح ثروة ضخمة استعان بها على كسب الفقراء والمتصوتين في روما وإيطاليا، كما أنه ضم إلى روما جزءا من الأرض واسعا خصبا، وأتاح للحضارة اليونانية الرومانية أن تثبت في أقطار الغرب كما ثبتت في أقطار الشرق، فلما أتريح له كل هذا الفوز، كثر خصومه ومنافسوه، وعظمت أطماعه؛ وإذا مجلس الشيوخ الروماني يريد أن يعزله من منصبه، وإذا هو يمانع هذا العزل، وإذا الحرب قد شبت بينه وبين الجمهورية، وإذا هو يقتحم إيطاليا فيظفر بروما، وقد فر خصومه ينصبون له الحرب في الشرق. وهنا ظهر أن قيصر خليفة الإسكندر حقا. انظر إليه قد أخضع إيطاليا، ثم طار إلى إسبانيا فقضى فيها على الحزب المناصر لخصومه، وأخضع في طريقه مدينة مرسيليا التي كانت مستعمرة يونانية مستقلة، ثم انظر إليه قد طار إلى الشرق، فقضى على خصومه في موقعة فرسال، ثم هو في مصر يقضي على المناصرين لخصومه، ويجد من الوقت ما يمكنه من التدخل في أمور مصر ومن السعادة بالحياة مع ملكتها «كليوبطرة»، وهو الآن في آسيا يصلح من أمرها ويقضي على الاضطراب فيها. ثم هو في إفريقية الشمالية يبطش بخصومه بطشا أخيرا، ثم هو في إسبانيا يقضي على آخر مقاومة لخصومه، ثم هو في مدينة روما يعلن ظفره وفوزه ويستمتع بنتائجهما، وقد تم له ما لم يتم للإسكندر من ملك العالم القديم المتحضر كله.

وكان حظه خيرا من حظ الإسكندر؛ فقد استطاع أن ينظم هذه الوحدة السياسية التي أخفق الإسكندر في تنظيمها أو أن يضع الأساس لهذا التنظيم. ولم يكد يستقر في روما حتى محا السيادة الفعلية للنظام الجمهوري واستأثر بالسلطة كلها، فجعل نفسه دكتاتورا طول حياته، وجعل نفسه مقدسا، وجعل لنفسه السلطة الدينية العليا ، ونصب نفسه زعيما للضعفاء يحميهم ويحوطهم، ولم يبق إلا أن يتخذ لقب الملك؛ وكأنه كان يريد أن يتخذه لولا أن تعجله المؤتمرون فقتلوه في مجلس الشيوخ (مارس سنة 44 قبل المسيح).

قتلوه وقد خيل إليهم أنهم سيقضون على الطغيان، ويردون إلى الشعب الروماني حريته ونظمه الجمهورية؛ ولكن الحوادث دلت على أنهم كانوا مخطئين، وعلى أن الشعب الروماني قد زهد في هذه الحرية، وسئم النظم الجمهورية، وعلى أن العالم القديم كله كان قد نضج لتحقيق فكرة الإسكندر، وإيجاد هذه الوحدة السياسية العامة التي يشرف عليها سلطان قوي متين. كان الإسكندر إذا صاحب الفكرة، وكان قيصر منفذها، ومهما يقل الفلاسفة وأنصار الحرية، ومهما يكن حكم التاريخ على قيصر أو له فلسي من شك في أنه - بعد الإسكندر - أكبر قائد للفكر السياسي في العصر القديم: هو الذي أسس الإمبراطورية الرومانية، ورسم نظامها، وجمع العالم القديم كله تحت لواء واحد، وأخضعه لنظام سياسي واحد، ولنظام قضائي واحد، وأعده ليخضع لنظام ديني واحد أيضا. والعالم القديم مدين لقيصر بهذا كله، وأوربا في القرون الوسطى مدينة لقيصر بحياتها السياسية. وحسبك أن الإمبراطورية الألمانية كانت ترى نفسها وارثة للإمبراطورية الرومانية التي أسسها قيصر، وكان رؤساؤها يسمون أنفسهم قياصرة؛ بل إن أوربا مدينة بنظامها السياسي في العصر الحديث لقيصر. فما كان لويس الرابع عشر في فرنسا، ولا قياصرة الألمان الذين كانوا يخاصمونه، إلا متأثرين بالنظام القيصري؛ بل لقد عصفت بأوربا وبالعالم الحديث عاصفة الثورة الفرنسية؛ فما هي إلا أعوام حتى أنتج النظام الجمهوري الفرنسي نفس ما أنتجه النظام الجمهوري الروماني، وقام نابليون بونابرت في باريس مقام يوليوس قيصر في روما.

بين عصرين

ظن الذين ائتمروا بقيصر وقتلوه أنهم ائتمروا بما كان يمثله قيصر وقضوا عليه، وظنوا أنهم قد وفقوا لما كانوا يطمعون فيه من رد أمور الحكم إلى الشعب، ومحو السلطان الذي كان يحاول القضاء على الروح الديمقراطي، وما الذي يمنعهم أن يظنوا ذلك أو يؤمنوا به وقد ائتمر المؤتمرون من قبلهم بالطغيان فأزالوه، وانتدبوا لنصر الديمقراطية وحرية الشعوب فوفقوا له! ولكن كل شيء وقع بعد قيصر دل على أن هؤلاء المؤتمرين كانوا أصحاب خيال لا أصحاب تحقيق، وعلى أنهم لم يأتمروا بالطغيان، وإنما ائتمروا بما كان باقيا من الديمقراطية، ولم يقضوا على الجديد وإنما قضوا على القديم، نعم! ودل كل شيء بعد قيصر على أن الذين كانوا قد ائتمروا من قبل بالطغاة والطغيان إنما وفقوا للفوز، لأن نظام الطغيان كان قد أضعف نفسه وانتهى إلى غايته، ولأن النظام الديمقراطي كان حديث العهد يكاد الناس يجهلونه، ولكنهم مع ذلك يحبونه؛ بل قل: إنهم كانوا يحبونه لأنهم يجهلونه.

وكان هذا النظام الديمقراطي يريد أن يعم ويسود، فلا يحاول بينه وبين ما يريد إلا هذا النظام العتيق: نظام الطغيان، واستئثار الأفراد والأقليات بالأمر، فلما أزيل هذا النظام العتيق خلت الطريق للجديد، فظهر وانتصر وسيطر على العقول والعواطف وفروع الحياة العملية.

أما في عصر قيصر، فقد كان الأمر على عكس هذا: كان الناس قد سئموا الحرية، أو قل كان الناس قد ضاقوا بهذه الحرية ذرعا؛ لأنهم عجزوا عن النهوض بأعبائها فلم ينتفعوا بها ولم تنتفع بهم. وكان النظام الديمقراطي القديم قد أصبح عتيقا مملولا، ولا سلطان له على النفوس، ولا تأثير له في القلوب، وكان اختلاط الشعوب، واشتداد الصلة فيما بينها قد أثبتا عجز النظام الديمقراطي القديم عن سيادة العالم وضبط أموره، وكان العالم في حاجة شديدة إلى من يسوده ويضبط أموره في حزم وعزم. وكان قيصر هذا السيد الحازم العازم الذي أتيح له أن يزيل أنقاض القديم، وليتيح للجديد أن يظهر ويظفر ويسود. لذلك لم يحسن المؤتمرون بقيصر إلى الديمقراطية، وإنما أساءوا إليها، وتعجلوا قضاء الله فيها. وأنت تعلم أن جسم قيصر لم يكد يدس في التراب حتى كان أنصاره والمشيعون له أكثر من خصومه والساخطين عليه، وحتى اضطر الذين ائتمروا به وقتلوه أن يفروا بديمقراطيتهم وحريتهم إلى مكان بعيد، وأنت تعلم أن الذين نهضوا بالأمر بعد قيصر ما زالوا بهؤلاء المؤتمرين حتى ثأروا منهم لقيصر، وأنهم بعد أن فرغوا من هؤلاء المؤتمرين انقسموا على أنفسهم، واضطروا إلى أنواع من الجهاد كلفت العالم رجالا وأموالا، وجشمته خطوبا وأهوالا، وانتهت آخر الأمر إلى حيث كان قيصر قد انتهى من تثبيت سلطان الفرد من ناحية، وجمع الشرق والغرب تحت هذا السلطان من ناحية أخرى، واستقرار أغسطس حيث كان استقر خاله قيصر.

كل هذه الأحداث التي ألمح إليها تلميحا، تدل دلالة واضحة قوية، على أنه قد آن لقيادة الفكر أن تنتقل من طور إلى طور، ومن يد إلى يد. وفي الحق أنك لا تكاد تنظر في التاريخ منذ ابتداء عصر القياصرة حتى تستيقن أن شيئين قد أخفقا إخفاقا، وآن أن يقوم مقامهما شيئان آخران. فأما الشيئان اللذان أخفقا فهما الديمقراطية والفلسفة. وأما الشيئان اللذان قدرت لهما السيادة وكتب لهما الفوز، فهما الأوتقراطية والدين. وقد يكون من الحق والصواب أيضا أن نقول إن كل شيء كان يدل في ذلك الوقت على أن الغرب قد أخفق، وعلى أن الشرق قد قدر له الفوز والانتصار، ومع ذلك فقد كان الغرب منتصرا والشرق منهزما: ألم تكن جيوش الرومان قد وطئت أقطار الشرق وأخذت تستعمره وتستذله؟ ألم يكن أغسطس قد محا استقلال آخر البلاد الشرقية المستقلة وهي مصر؟ كان الغرب منتصرا من الوجهة العسكرية، ولكن الشرق كان ينتصر من الوجهة العقلية والشعورية. أتظن أن من المصادفة المطلقة أن تنشأ الإمبراطورية في روما ويثبت سلطانها في نفس الوقت الذي يظهر فيه الدين المسيحي في الشرق وتبدأ الدعوة إليه؟! وهل كان النظام الإمبراطوري في الغرب إلا نحوا من نظام الملك الشرقي؟! لقد عرضنا أمامك في الفصول الماضية ألوان الحياة اليونانية الرومانية، وصور الحكم في هذه الحياة، فما رأيت فيما عرضنا عليك نظاما أوتقراطيا صحيحا، وإنما رأيت حكما مقيدا يتنقل بين الملكية والأرستقراطية الديمقراطية، ولكنه مقيد دستوريا على كل حال، ورأيت فيما عرضنا عليك أن اليونان والرومان لم يعرفوا نظام الدول الضخمة والإمبراطوريات الواسعة في أوربا، وإنما عرفوا في جميع أطوارهم نظام المدن الصغيرة المنفصلة المستقلة التي تتألف من حين إلى حين ، ولكن كما يأتلف الأحرار المتحالفون. ورأيت كيف أخفق الإسكندر حين أراد أن يحقق النظام الأوتقراطي، ويكون من الشرق والغرب دولة تخضع لهذا النظام. أما الآن فقد كان نظام الحكم المقيد قد أخفق، وكان نظام المدن المنفصلة قد أخفق أيضا، وكان الاتصال بين الشرق والغرب قد قوي واشتدت أواصره وأخذت تظهر نتائجه، فما الذي يمنع قياصرة الرومان أن يحكموا العالم كما كان يحكم الفراعنة في مصر والملوك في بلاد الفرس؟ على أن انتصار الشرق - على وضوحه وظهوره - لم يكن كاملا موفورا. ولم يكن بد من أن يتم الجهاد وتنتهي التجربة إلى أقصاها وينهار النظام الغربي القديم أمام النظام الشرقي الجديد. ولم يكن ذلك ميسورا إلا بعد أن يمضي وقت طويل يزداد فيه الاتصال بين الغرب والشرق شدة وقوة.

ومهما يكن من شيء، فقد فاز قيصر ومذهبه وانخذل النظام الجمهوري وأنصاره. ولم يكن إخفاق الفلسفة بأقل من إخفاق هذا النظام السياسي. وكيف لا تخفق وقد كثر الفلاسفة حتى جاوزوا الإحصاء، وكثرت مذاهبهم واشتد بينها الخلاف والتقاطع، وعجزت الفلسفة ومذاهبها عن أن تحقق للناس ما كانوا يريدون أو بعض ما كانوا يريدون؟ وأين هي آثار سقراط وأفلاطون وأرسطاطاليس في الحياة السياسية والاجتماعية؟ ألم تحتفظ المدن اليونانية التي كانت تدرس فيها هذه الفلسفة بنظمها القديمة التي اندفعت بها إلى الفوضى والاضطراب، وقادتها إلى الذلة والخضوع؟ وهل تريد دليلا على إخفاق الفلسفة من الوجهة النظرية الخالصة أكثر من هذا الخلاف بين الفلاسفة، ومن اضطرار فريق منهم إلى أن يستأنفوا الشك في كل شيء كما كان يشك السوفسطائية في القرن الخامس قبل المسيح، واضطرار فريق آخر إلى أن ينصرف عن الفلسفة النظرية إلى الفلسفة الخلقية، واضطرار نفر من هؤلاء إلى أن يزهدوا في اللذة، ونفر آخرون إلى أن يتهالكوا عليها؟

عجزت الفلسفة إذا عن إرضاء الحاجات السياسية للناس، كما عجزت عن إرضاء العقل والشعور؛ فلم يكن بد من أن تنزل عن قيادة الفكر، ولم يكن بد من أن يتولى الدين هذه القيادة. وأي دين هذا الذي يجب أن يخلف الفلسفة على قيادة الفكر؟ ليس هو الدين الوثني القديم؛ فقد جدت الفلسفة في هدم هذا الدين، ووفقت لتشكيك الناس فيه؛ وقد عجز الغرب عن أن يستبدل بهذا الدين الوثني دينا جديدا يستمسك به. واضطرب الغرب بين هذه الوثنية المضحكة وبين إباحية هادمة لكل شيء مقوضة لكل سلطان. وإذا فلم لا ينتشر في الغرب دين شرقي كما انتشرت في الغرب سياسة شرقية؟!

كان هذا كله ظاهرا بينا في العصر الذي ولي أيام قيصر، ولكنه مع ذلك لم يتحقق إلا بعد جهاد طويل عنيف. فقد ناضل القديم فأحسن النضال: لجأت المدن الجمهورية إلى مجلس الشيوخ في روما، فناضلت القياصرة ما أتيح لها النضال، ولجأت النظم الوثنية إلى مجلس الشيوخ وقصور القياصرة، فجاهدت المسيحية ما استطاعت الجهاد. ولكن القرن الثالث للمسيح لم يبلغ آخره، حتى كان انتصار الشرق على الغرب تاما شاملا. فأما آثار النظام الجمهوري فمحيت محوا. وأما القياصرة، فقد أصبحوا فراعنة يعبدون في العالم كله، على نحو ما كان يعبد الفراعنة في مصر. وأما الوثنية فقد كانت تنفق أقصى ما تملك من عنف لتحتفظ بالبقاء، ولكن البقاء لم يكن قد قدر لها. وإذا القرن الرابع قد انتصف، وإذا المسيحية هي الديانة الرسمية للإمبراطورية الرومانية كلها، وإذا المسيحية تضطهد الوثنية بعد أن كانت الوثنية تضطهدها، وإذا الشرق قد سيطر على الغرب بنظمه السياسية وميوله الدينية.

وأنت تعفيني طبعا من أن أتحدث إليك عن المسيح كما تحدثت إليك عن سقراط وأفلاطون والإسكندر وقيصر، فليس المسيح في حاجة إلى أن تدرس شخصيته وآثاره وقيادته للفكر في فصل موجز كهذا الفصل، أو كتاب مجمل كهذا الكتاب.

هناك شيء لا سبيل إلى الشك فيه، وهو أن المسيح قد قاد الفكر الإنساني دهرا، ولقد لقيت قيادته للفكر صعابا أزالتها، وعقابا ذللتها، وأتيح لها أن تستأثر وحدها بالسلطان في الشرق والغرب حينا، ولكن هذا الحين لم يتصل، وقد أخرج عما رسمته لنفسي إن حاولت أن أفصل الأسباب التي حالت بين الدين المسيحي وبين الاحتفاظ بما كان قد وصل إليه من سيطرة على العالم القديم كله أو أكثره، وإنما ألاحظ أن هذا الدين المسيحي هوجم في وقتين متقاربين، من ناحيتين متباعدتين، وقد أتيح له الانتصار في إحدى هاتين الناحيتين، وقدر له الانقباض في الناحية الأخرى.

لم يكد ينتصر في الغرب حتى أخذت القبائل الوثنية المتبربرة تهاجم العالم الروماني القديم. وقد استطاع الدين المسيحي أن ينتصر على هذه القبائل المهاجمة ويظلها بلوائه شيئا فشيئا، حتى سلمت له أوربا، ولكنه بينما كان يسود في أوربا ويبسط لواءه على هؤلاء الوثنيين قليلا قليلا، كانت حركة أخرى تحدث في آسيا، في هذه الصحراء العربية التي لم يكد يظلها القرن السابع للمسيح حتى كانت كلها مائجة بظهور الإسلام. ولم يكد ينتصف عليها هذا القرن حتى كانت قد دفعت بأهلها في أقطار الأرض المجاورة، فإذا هم يفتحون ويمعنون في الفتح وينشرون دينهم الجديد؛ وإذا المسيحية تنقبض أمامهم في الشرق كما ينقبض أمامهم النظام السياسي القيصري أيضا. ولست في حاجة إلى أن أفصل لك الصراع بين الإسلام والمسيحية، ولست في حاجة إلى أن أذكر لك أن ظهور الإسلام، مع أنه قد احتفظ للدين بقيادة الفكر الإنساني، قد قسمت به هذه القيادة بين دينين؛ فأما أحدهما فاستأثر بها في الشرق وهو الإسلام، وأما الأخر فاستأثر بها في المغرب وهو المسيحية.

وقد استقر الدينان كل في موضعه مع انبساط وانقباض من حين إلى حين، وتمت لهما قيادة الفكر عصورا لا يكاد ينازعهما فيها منازع.

وإذا تبينت أمر الفلاسفة الذين ظهروا في الشرق والغرب في ظل الإسلام والمسيحية، وتبينت حظوظهم المختلفة من نعمة وبؤس ومن سعادة وشقاء. وتبينت أسباب هذا كله، فأنت مضطر إلى أن تلاحظ أن هذه الأسباب متشابهة وإن اختلفت أطوارها وبيئاتها، وأنها راجعة كلها أو أكثرها إلى فهم الناس للدين والفلسفة أكثر من رجوعها إلى الدين والفلسفة في نفسهما: راجعة إلى مقدار ما كان للناس من علم يعظم معه نصيبهم من حرية الرأي، أو جهل يضعف معه نصيبهم من هذه الحرية.

ومن غريب الأمر أن ما يسميه الناس اضطهادا للفلسفة في ظل الإسلام أو المسيحية لم يحدث إلا من قوم كان جهلهم بالإسلام والمسيحية أكثر من علمهم بهما، وكان تعصبهم للمنافع والأطماع أشد من تعصبهم للدين. ماذا نقول! بل من غريب الأمر أن اضطهاد الفلسفة هذا لم يحدث في ظل الإسلام والمسيحية وحدهما، بل حدث في ظل الوثنية أيضا ولنفس الأسباب التي أحدثته عند المسلمين والمسيحيين، وهي الجهل من ناحية، والمطامع والمنافع من ناحية أخرى. ولقد يكون من الحق على الذين يذكرون اضطهاد ابن رشد عند المسلمين، وتحريق من حرقوا عند المسيحيين، ألا ينسوا مقتل سقراط، وهرب أرسطاطاليس عند الوثنيين، وألا ينسوا أن هؤلاء الفلاسفة جميعا إنما نكبوا في أيام فتنة ومحنة وجهل وانحطاط في السياسة والأخلاق.

استقرت قيادة الفكر للإسلام والمسيحية طوال القرون الوسطى، ولكن الله كان قد أراد أن تسترد الفلسفة والسياسة قيادة الفكر مرة أخرى؛ وقدر للإسلام والمسيحية أن يدعا قيادة الفكر بعدما استأثرا بها هذه القرون الطوال.

لست في حاجة إلى أن أفصل لك تاريخ النهضة الأوربية الحديثة، ولا ما كان من استكشاف الكتب الفلسفية والآثار الأدبية والفنية التي تركها اليونان والرومان، فأنت تعرف هذا مثل ما أعرفه؛ ولكني أحب أن تفكر معي قليلا في هذه الآثار اليونانية والرومانية، التي كان كل شيء في القرن الأول للمسيح يدل على أنها قد أخفقت وأصبحت لا تصلح قواما للحياة العامة: ما بالها في القرن الخامس عشر والسادس عشر قد أخذت تفتن الناس عن أنفسهم وديانتهم وأخلاقهم وميولهم؟ وما بالها قد أخذت تستأثر بقلوب الناس، حتى إنهم ليعرضوا أنفسهم في سبيلها لمثل ما كان يتعرض له المسيحيون في محاربتها من سجن وموت، ومن ألوان التنكيل والتمثيل؟ بل ما بالها قد أخذت تثمر في هذا العصر الحديث ما لم تستطع أن تثمره في العصر القديم؟ لقد كانت الفلسفة اليونانية قد انتهت إلى الشك في العصر القديم، وعجزت عن إصلاح النظام السياسي والاجتماعي حتى سئمها الناس، وزهدوا فيها. ولكن الناس لم يكادوا يدرسونها في العصر الحديث حتى فتحت أمامهم أبواب الأمل والعمل، ومكنتهم من استحداث العلم وتغيير نظم الحياة، وانتهت بهم إلى ما هم فيه الآن من رقي. ما بالها أخفقت قديما وفازت حديثا؟ قل في تعليل ذلك ما شئت فقد تصيب وقد تخطئ، ولكن مصيب من غير شك إن لاحظت معي أن هؤلاء الفلاسفة من اليونان، كانوا أرقى من الأجيال التي عاشوا فيها، وكانوا قد سبقوا هذه الأجيال إلى حيث لم تستطع أن تدركهم. ولم يكن بد من أن تنتظر فلسفتهم قرونا طوالا، حتى يتم نضوج العقل الإنساني فيحسن إساغتها واستثمارها. وهذا هو الذي كان: لم تكد تظهر هذه الفلسفة وتشيع بين المحدثين حتى آتت ثمرها طيبا منتجا؛ وإذا هي توجد نفرا من الفلاسفة والساسة تولوا قيادة الفكر حتى انتهوا به إلى الثورة الفرنسية، ثم إلى ما نحن فيه الآن.

العصر الحديث

أما العصر الحديث، فيجب أن يتغير مذهبنا في البحث؛ لأن موضوع هذا البحث نفسه قد تغير، ولأن الظروف التي تحيط بالعقل الإنساني قد تغيرت تغيرا عظيما، وظهرت فروق كثيرة بينها وبين تلك الظروف التي كانت تحيط بهذا العقل أثناء العصور القديمة والقرون الوسطى.

كانت قيادة الفكر للشعر، أو للفلسفة، أو للسياسة، أو للدين، وكان من الغريب أو من النادر أن تشترك هذه الأشياء اشتراكا ظاهرا في توجيه شعب من الشعوب أو عصر من العصور، وإنما كانت حياة الأمم المتحضرة في هذه العصور تصطبغ صبغة ظاهرة جلية: هي الصبغة الأدبية، أو الفلسفية، أو السياسية، أو الدينية؛ أما في هذا العصر الحديث، فأنت تضيع وقتك وقوتك إن حاولت أن تجد لشعب من الشعوب أو قرن من القرون صبغة واحدة تستأثر وتشتمل على جميع أطرافه؛ وإنما أنت مضطر حين تبحث عن قيادة الفكر أثناء العصر الحديث إلى أن توزعها بين أمور مختلفة؛ لأن ظروف الحياة نفسها قد وزعتها بين هذه الأمور؛ فلم تستأثر الفلسفة. ولم يستأثر الشعر، ولم تستأثر السياسة، ولم يستأثر الدين، بقيادة الفكر في فصل من فصول هذه القصص التي يكونها العصر الحديث، وإنما اشتركت هذه الأمور كلها في قيادة الفكر، وإن شئت التحقيق والدنو من الإصابة، فقل إن هذه الأمور كلها قد تنافست، واشتد بينها النزاع في قيادة الفكر، فقهر بعضها بعضا، وأخذ كل منها بنصيب من توجيه العقل الإنساني والتأثير في الحياة والشعوب. وآية ذلك أنك تنظر في أي وقت من أوقات هذا العصر الحديث، فإذا أنت أمام فلسفة تجاهد لتسيطر على الحياة، وسياسة تجاهد لتصوغ الحياة كما تحب، ودين يناضل ليحتفظ بمكانته سلطانه، وأدب يجد ليكون له التفوق والفوز، ولكل واحد من هذه الأشياء زعماؤه وممثلوه والداعون إليه والذائدون عنه، حتى في الأوقات التي يخيل إليك فيها أن أمرا من هذه الأمور قد ظهر تفوقه واستأثر بالفوز والغلبة، فقد يخيل إليك أن عصر الثورة الفرنسية - مثلا - كان عصر سياسة ليس غير؛ ولكن فكر قليلا وأتقن درس هذا العصر، تجده عصر سياسة وعصر حرب، وعصر علم، وعصر فلسفة، وعصر تشريع، بل عصر دين أيضا؛ وتجد كل هذه الأمور تزدحم وتتنافس وتستبق إلى قيادة الفكر تريد أن تستأثر بها وتسيطر عليها.

قد يكون من الحق أن نلتمس العلة لهذه الظاهرة الجديدة التي وزعت قيادة الفكر بين طائفتين من المؤثرات ولم تقصرها على مؤثر واحد، كما كان الأمر في العصور الأولى. ولعلنا لا نتكلف كثيرا من العناء في التماس العلة لهذه الظاهرة، فقد نلاحظ أن المطبعة اخترعت في هذا العصر، وأنها أثرت فيها آثارا لا سبيل إلى تقديرها؛ فأذاعت كتب القدماء والمحدثين، ومضت في هذه الإذاعة لا تقف عند حد ولا تنتهي إلى غاية، ولا تستطيع القوانين والنظم المختلفة أن تقيدها. فبينما كانت تذيع في هذا البلد الكتب الدينية، كانت تذيع في ذلك البلد الكتب الفلسفية، وكانت تذيع في بلد آخر كتبا أدبية وعلمية وفنية، وبينما كان القانون يضيق عليها في هذا البلد فلا يبيح لها إذاعة كل شيء كان القانون يرخص لها في ذلك البلد فيتركها تذيع ما تشاء. وكان الكاتب أو العالم أو الفيلسوف لا يظفر بانتشار كتبه في العصور الأولى إلا إذا ظفر بشيء من الشهرة، وبعد الصيت يرغب الناس في آثاره؛ ولم يكن الظفر بهذه الشهرة سهلا ولا يسيرا. أما الآن فقد يسرت المطبعة على كل ذي رأي أن يذيع رأيه ويناضل عنه، وعلى كل باحث أن ينشر ثمرات بحثه بين الناس. ولم تكد تظهر المطبعة، وتأخذ فيما أخذت فيه من النشر والإذاعة، حتى ظهرت آثار ذلك قوية في حياة العصر الجديد، فكثرت الآراء واختلفت، أو قل ظهرت كثرة الآراء واختلافها، واستطاعت أن تجاهد وتختصم وتتنافس في قوة وسرعة لم يكن للناس بهما عهد من قبل.

ومن هنا استطاعت كل هذه الأمور التي ذكرناها آنفا، وهي الفلسفة والأدب والسياسة والدين والعلم، أن تظهر وتلتمس حقها في الوجود وتظفر بهذا الحق. ومن هنا لم يكن العصر الحديث مصطبغا بصبغة واحدة ظاهرة كالعصور التي سبقته، ومن هنا لم يكن من الحق ولا من الصواب أن تبحث في هذا العصر عن قيادة واحدة للفكر، أو عن نوع واحد من قيادة الفكر؛ إنما أنت مضطر إلى أن تبحث عن قيادات للفكر، وعن أنواع من قادة الفكر.

وخذ القرن السابع عشر مثلا، والتمس فيه المؤثر في قيادة الفكر، فلن تستطيع أن تقول إنه كان عصر فلسفة خالصة، أو عصر سياسة خالصة، أو عصر أدب خالص، أو عصر دين خالص، وإنما كان عصر هذه الأشياء جميعا، بل هناك ظاهرة أخرى ليست أقل من هذه الظاهرة خطرا، وهي تمثل الاختلاف العنيف بين العصر الحديث والعصور التي سبقته، ولا سيما العصر القديم.

فقد كانت قيادة الفكر في العصور الأولى لأمر من هذه الأمور التي أشرنا إليها، وكانت في الوقت نفسه لأمة من الأمم، أو شعب من الشعوب.

كانت لليونان، ثم كانت للرومان، ثم كانت للعرب، ثم عادت إلى أوربا فكانت للكنيسة، أي لمدينة روما، أو قل: كانت قيادة الفكر لمدينة من المدن - لأثينا، وللإسكندرية، ولروما، ولمكة، وللمدينة، ولبغداد، وللقاهرة، ولقرطبة، ثم لروما. أما في العصر الحديث فقد تغير هذا كله، وكما أن قيادة الفكر لم تكن إلى الدين أو الفلسفة أو الأدب أو السياسة، وإنما كانت لها كلها، فهي لم تكن لأمة بعينها ولا لمدينة بعينها، وإنما كانت للأمم المتحضرة جميعا، وللمدن الظاهرة في هذه الأمم - وذلك كله أثر من آثار المطبعة.

وخذ هذا القرن السابع عشر، وابحث عن الفلسفة فيه؛ فقد كانت في العصور الأولى يونانية، أو إسكندرية، أو عربية، أما الآن فلن تكون فرنسية، ولا إنجليزية، ولا ألمانية، وإنما لكل أمة من هذه الأمم فلسفتها. والأمر كذلك في الأدب، وهو كذلك في السياسة، وهو كذلك في الفن والعلم، ونوشك أن نقول إنه كذلك في الدين أيضا.

للفرنسيين ديكارت، وللإنجليز باكون، وللفرنسيين شعراؤهم الممثلون، وللإنجليز شكسبير، وللفرنسيين لويس الرابع عشر وريشليو، وللإنجليز كرمويل، ونستطيع أن نذكر في الفلسفة والأدب والسياسة والدين والعلم والفن أسماء إيطالية وألمانية وهولندية.

وعلى هذا النحو اشتد توزع قيادة الفكر بين المؤثرات المختلفة من جهة، وبين الأمم والمدن من جهة أخرى، وأخذ يزداد شدة كلما كثرت المطابع وكثرت آثارها المنشورة حتى انتهى الأمر في القرن الثامن عشر، إلى شيء يشبه الفوضى، بل إلى الفوضى. وما أظن أني أقول جديدا إن زعمت أن المطبعة من أهم المؤثرات في الثورة الفرنسية التي لم يفق منها العالم بعد.

ولم يقف الأمر بالمطبعة عند نشر الكتب والرسائل وما إليها، وعند استحداث ما استحدثت من الآثار في القرن السادس عشر والسابع عشر، ولكن المطبعة استتبعت شيئا آخر غير الكتب والرسائل، استتبعت الصحف اليومية والدورية كما يقولون.

وما أظن أنك في حاجة إلى أن أدلك على أن ظهور الصحف السياسية والعلمية والأدبية، قد قوى توزع قيادة الفكر، وانتهى به إلى حد غريب، فقد كان العلماء والكتاب والفلاسفة والساسة ينشئون كتبهم وينشرونها، فيستغرق ذلك منهم الأشهر والأعوام، ويستتبع ذلك بطئا فيما يكون بينهم من النزاع والنضال والاستباق إلى قيادة الفكر. أما بعد أن ظهرت الصحف فالنزاع يومي، أو أسبوعي، أو شهري، هو عنيف، وهو سريع، وهو متصل، وهو مؤثر في توزيع قيادة الفكر، بمقدار ما يشتد ويسرع ويستمر .

والنتيجة الظاهرة لهذا كله، هو أننا كنا نجد في العصور الأولى رجلا يقود شعبا، وشعبا يقود العالم. أما الآن فقلما يظفر الرجل بقيادة مدينة، أو فرقة من مدينة، وهو إن ظفر بذلك، فإنما يظفر به إلى حد، وعلى مشقة وجهد، إلا أن يكون فذا من أفذاذ التاريخ حقا، أو يكون في أمة جاهلة لم تظهر المطبعة فيها بهذا السلطان العظيم، ولم يكثر فيها القراء والكاتبون.

أحب أن تلتمس قيادة الفكر - لا أقول في العالم، ولا أقول في أوربا وأمريكا، وإنما أقول في فرنسا وحدها الآن - لأي نوع من أنواع المؤثرات هي؟ أللفلسفة؟ ولأي فلسفة؟ ألفلسفة الوضعيين أم لأصحاب ما بعد الطبيعة؟ ولأي فريق من هؤلاء؟ أم هي للدين؟ ولأي دين؟ أللكاثوليكية أم للإنجيلية؟ أم هي للأدب؟ ولأي مذهب من مذاهب الأدب؟ فقد يكون إحصاء هذه المدارس عسيرا. أم هي للسياسة؟ ولأي لون من ألوان السياسة؟ للجمهورية المعتدلة؟ أم للديمقراطية المتطرفة؟ أم للملكية؟ أم للإمبراطورية؟ أم للشيوعية؟ أم للاشتراكية؟ ...

وتستطيع أن تسأل هذا السؤال بالقياس إلى كل بلد من بلاد أوربا الراقية.

وكأن المطبعة وما استتبعت من النشر والإذاعة، والصحف وما استتبعت من الإلحاح في النشر والإذاعة، لم تكن تكفي لتوزيع قيادة الفكر بين المؤثرات المختلفة، والأمم المختلفة، والفرق المختلفة، فاستحدث هذا العصر الجديد شيئا آخر أو أشياء أخرى، يخيل إلينا في ظاهر الأمر أنها تعين على توحيد الكلمة، وجمع الرأي، وقصر قيادة الفكر على مؤثر بعينه أو أمة بعينها، ولكنها في حقيقة الأمر تجمع الناس، وتقرب ما بينهم من المسافات المادية والمعنوية، وهي في الوقت نفسه تمعن في توزيع قيادة الفكر إمعانا غريبا؛ وهذه الأشياء هي ما اتفقنا على تسميته أسباب المواصلات.

ألغيت المسافات أو كادت تلغى، لا نقول: بين الأمم والشعوب، بل نقول: بين القارات، إلى أن يأتي اليوم الذي تقول فيه الأجيال المقبلة: بين الأفلاك والكواكب، وأصبحنا بفضل البخار والكهرباء، وبفضل التلغراف والتليفون نستطيع أن نعرف في مصر آخر النهار، ما يقع في أقصى الغرب، أو أقصى الشرق ، أو أقصى الشمال والجنوب في أوله؛ وأصبح الفيلسوف، أو الأديب، أو العالم، لا يكاد يخرج كتابه للناس في بلده الذي يعيش فيه، حتى ينتشر هذا الكتاب في أطراف الأرض، فإذا هو يدرس، ويلخص ويترجم؛ ويفسر، ويناقش في البلاد الأجنبية؛ وإذا هو يحدث آثارا مختلفة في البلاد والبيئات المختلفة؛ وإذا آثاره تمعن في التغلغل، وتتعمق في حياة الشعوب - كل ذلك ولم يمض على ظهور كتابه عام أو بعض عام - وإذا أصداء هذا الكتاب المختلفة تتجاوب في أقطار الأرض، وترتد إلى حيث ظهر الكتاب؛ وأصبح الرجل من رجال السياسة لا يكاد يكتب فصلا، أو يلقي خطبة، أو يفضي إلى أحد بحديث، حتى يتناول البرق ما قال أو ما كتب، فينشره في جميع أطراف الأرض، ولم يمض على قوله أو كتابته ساعات. ولعلك تلاحظ أن الصلة بيننا وبين المدن الكبرى في أوربا وأمريكا، قد ألغت المسافة بالفعل فيما يتصل بالسياسة؛ فنحن نقرأ ما تكتبه الصحف الإنجليزية - مثلا - في اليوم الذي تكتبه فيه، والإنجليز يقرءون ما نكتب وما نقول كذلك؛ بل تجاوز الأمر هذا الحد وأصبح الخطباء السياسيون في الأحداث الكبرى يلقون خطبهم، لا نقول في المئات والآلاف من الناس، بل نقول في مئات الآلاف.

وظاهر هذا كله أن قد اشتدت الصلة بين الجماعات، فقرب بعضها من بعض، واستطاع بعضها أن يفهم بعضها، وكان من المعقول أن يكون هذا كله سببا في توحيد قيادة الفكر وقصرها على شعب من الشعوب، أو مدينة من المدن، أو لون من ألوان المفكرين، ولكن هذا ليس من الحق في شيء، وإنما الحق أنا لا نعرف عصرا من العصور توزعت فيه قيادة الفكر، كما توزعت في هذا العصر.

ومصدر ذلك أن اصطناع المطبعة والصحف والبرق والتليفون وأدوات البخار والكهربا ليس مقصورا على شعب من الشعوب، ولا على مدينة من المدن، ولا على فرقة من الفرق المفكرة، وإنما هو شائع بين أمم الأرض، وهذه الأمم كلها تجاهد وتناضل لتحيا وتسود، والأفراد في هذه الأمم يناضلون ويجاهدون ليحيوا ويسودوا، وهم يصطنعون هذه الأدوات، ويستعينون بها على ما يريدون من سيادة وقيادة للفكر.

والأفراد يتنافسون، والشعوب تتنافس، والنتيجة الظاهرة لهذا التنافس أن قيادة الفكر موزعة في الشعوب بين الأفراد النابهين، وهي موزعة في العالم بين الشعوب النابهة.

وإذا فكل شيء يدل على أنه لم يبق أمل في أن نحصر قيادة الفكر في مؤثر بعينه، ولا في شعب بعينه، ولا في فرقة بعينها من فرق المفكرين: وإنما السبيل هو أن نبحث عن قيادة الفكر في كل مظهر من مظاهر الحياة العقلية على حدة، بل أن نوزع هذا البحث على الأمم النابهة والشعوب الممتازة.

ومع هذا كله، فقد أراد الله أن يخضع النوع الإنساني لظاهرة لم يجد إلى الآن سبيلا إلى أن يخلص منها، وليس هو في حاجة إلى أن يخلص منها؛ والخير كل الخير هو أن يستمر خضوعه لها وتأثره بها.

هذه الظاهرة، هي ظاهرة النبوغ التي تكره الأمم والشعوب والإنسانية كلها أحيانا، على أن تعترف بفرد من الأفراد، وتذعن لقوته العقلية أو الفنية أو السياسية، رغم ما فيها من قوى وكفايات، ومن جهاد بين هذه القوى والكفايات.

وليس هنا موضوع البحث عن النبوغ والتماس أصوله، والمؤثرات فيه، وإنما يكفي أن نلاحظ أن النبوغ ظاهرة اجتماعية عرفها أكثر العصور، ولم يستطع تغير الظروف واستحالة أطوار الحياة أن يمحوها، أو يزيلها، أو يضع من قدرها.

فقد تستطيع المطبعة أن تنشر وتذيع، وتسرف في النشر والإذاعة، وقد يستطيع الناس أن يجاهدوا ويناضلوا؛ ويستحدثوا الآثار المختلفة في ألوان الحياة وفروعها، ولكن شيئا من هذا لن يستطيع أن يمحو نبوغ ديكارت، وأنه قد صبغ الفلسفة الحديثة بصبغة خاصة ممتازة، ووجهها وجهة خاصة مكنتها من الإنتاج والإثمار.

ولن يستطيع شيء من هذا أن يمحو ما كان لروسو من أثر في حياة الشعوب وفي سياسة العصر الحديث. ولن يستطيع شيء من هذا أن يمحو ما كان لفتكور هوجو من أثر في الشعر الفرنسي والأدب الفرنسي الحديث بوجه عام.

النبوغ إذا ظاهرة اجتماعية واقعة، نشهدها من حين إلى حين، والأفراد النابغون مهما تعترضهم العقاب، ومهما يكتنفهم من الظروف، فلهم من قيادة الفكر، والسيطرة عليه حظ يلائم نصيبهم من النبوغ.

فإذا قلنا: إن قيادة الفكر في القرن السابع عشر لم تكن إلى الفلسفة وحدها، فنحن مضطرون إلى أن نقول: إن قيادة الفكر الفلسفي في هذا العصر، كانت إلى ديكارت. وإذا قلنا: إن قيادة الفكر في هذا العصر لم تكن للسياسة وحدها، فنحن مضطرون إلى أن نقول: إن قيادة الفكر السياسي في هذا العصر، كانت لريشيليو، وكرمويل، ولويس الرابع عشر.

وقل مثل ذلك في الأدب والفن والعلم والدين. وكل ما بين هذا العصر والعصور السابقة من الفروق، هو أن قيادة الفكر قد تنوعت في العصر الحديث، فأصبحت مضطرا إلى أن تقسم البحث عنها إلى فصول، وتلتمسها عند كثير من الناس في كثير من الأمم، بعد أن كنت تستطيع أن تجمع البحث عنها في فصل واحد، وتلتمسها عند رجل واحد، في شعب واحد، أو مدينة واحدة.

وبين يدينا كتاب «لإميل فاجيه» حاول فيه أن يدرك قادة الفكر في الأخلاق والسياسة وحدهما، وفي فرنسا وحدها، وفي القرن التاسع عشر وحده، فلم يستطع أن يكتب أقل من ثلاثة أسفار ضخام.

وما أشد ما كنت أحب أن أمضي في هذا الحديث؛ فأدرس النابهين من قادة الفكر المحدثين، كما درست النابهين من قادة الفكر القدماء؛ ولكنك ترى معي أن السفر قد طال، وانتهى إلى غاية يحسن الانتهاء إليها، والوقوف عندها، وأن درس المحدثين من قادة الفكر - على اختلاف ما تفرقوا فيه من فروع حياة العقول والشعور - يحتاج - لا أقول - إلى سفر آخر، بل إلى أسفار.

وأنا أتمنى - وما أكثر ما يتمنى الإنسان - أن يتيح الله لي من سعة الوقت وفراغ البال والنشاط لمثل هذا البحث، ما يمكنني من المضي فيه حتى أتمه، على النحو الذي قدمته في سفر أو أسفار؛ ولكن علم هذا كله عند الله.

فأنا أقدم إليك هذا السفر الذي قدرت عليه، ولست أطمع في أن يبلغ منك مكان الرضا، وإنما أرجو أن يقع منك موقع النفع في غير مشقة ولا إملال.

وأظنك تأذن لي في أن أعتذر إليك مما قد تجد في هذا الكتاب من تفاوت واختلاف؛ فقد كنت أريد أن أفرغ لكتابته حينا، ولكن ظروف الحياة أرادت غير هذا فكتبت بعض فصوله في بريطانيا، وكتبت بعض فصوله الأخرى في باريس، وأتممته في القاهرة، وكنت في بعض هذه الأوقات راضيا مطمئنا، مستريحا إلى الحياة والأحياء، فارغ البال إلا مما يلذ ويسر، وكنت في بعضها الآخر ساخطا أو كالساخط، مكدودا، موزع القوة بين أعمال مختلفة من الدرس والكتابة، وغير الدرس والكتابة. ولعلي لا أجاوز الحق إن قلت: إني قد اختلست هذا الكتاب اختلاسا: اختلست بعضه من أوقات راحتي في فرنسا، واختلست بعضه الآخر من أوقات عنائي في مصر، وأنا أتمنى لهذا الكتاب ألا يختلس قراؤه قراءته، كما اختلس كاتبه كتابته، وأن يتيح الله لقرائه ما لم يتح لي من الراحة والنشاط وفراغ البال.

Unknown page