Niswiyya Wa Falsafat Cilm
النسوية وفلسفة العلم
Genres
ونعود إلى الشغل الشاغل في هذا المبحث، العقل الذكوري، عقل الهيمنة والسيطرة، بخصائصه التنظيرية والتجريبية، لقد تجسد وتبلور نهائيا في العقل التنويري الحداثي الذي يرابط في سويدائه الإيمان بالسيطرة على الطبيعة بواسطة العلم وآلياته، مثلت قيم التنوير في الفلسفة الغربية الحديثة منذ القرن الثامن عشر طريق التقدم الواحد والوحيد، والذي قطعه الرجل الأوروبي الأبيض باقتدار، ومن حقه وواجبه أن يفرضه على الشعوب الأخرى المتخلفة طوعا أو كرها، وهذا هو الأساس الأيديولوجي للحركة الاستعمارية البائدة.
إنها مركزية النموذج الذكوري للإنسان التنويري الحداثي العاقل، ولها وجه آخر هو المركزية الأوروبية
Eurocentrism
التي امتدت إلى الشاطئ الآخر من المحيط، وتعني أن الحضارة الأوروبية والثقافة الغربية تتمتع بالسيادة والتفوق المطلق، وبالتالي تمثل معايير الحكم على سائر الحضارات والثقافات الأخرى، ليكون تقدمها تبعا لمدى اقترابها من النموذج الغربي الذي هو المثل الأعلى للجميع.
إنها فردانية الرجل الأبيض ، التي تبلغ حد الأنا وحدية
solipsism ، فهو وحده مركز الوجود، أصبح ناموس كل الأشياء: إما أن تكون الرجل الأبيض وإلا فأنت في منزلة أدنى، الثانية أو الثالثة أو العاشرة ... تبعا لمدى الاقتراب منه في التراتب الهرمي الجامع.
سادت مركزية الحضارة الغربية العالمين بفضل المد الاستعماري، وقهرت ثالوث الأطراف: قهرت المرأة، وقهرت الطبيعة، وقهرت شعوب العالم الثالث، وجاءت الفلسفة النسوية للعلم، ترفض التراتب الهرمي أصلا في العلم وفي الحضارة على السواء، نازعة إلى تقويض مركزية العقل الذكوري، تحريرا للمرأة وقيمها الأنثوية، وبالمثل تحريرا للبيئة، ثم تشعر بأنها مسئولة أكثر من سواها عن مواجهة الوجه الآخر المتضخم للمركزية الذكورية، أي مركزية الحضارة الغربية، هذا لأن أمضى أدوات وأقوى حجج المركزية الغربية كانت نسق العلم الوضعي الواحد والوحيد الذي هو المعرفة المشروعة الوحيدة بالعالم التجريبي الواحد والوحيد الذي نحيا فيه، نسق العلم المحكوم فقط بعلاقاته الداخلية المنطقية والمنهجية، العلم الغربي هو المعيار، تماما كما أن الحضارة الغربية/المركز هي المعيار.
ولما كان توماس كون قد فتح الباب للنظرة إلى العلم من الخارج، أي في ضوء المتغيرات التاريخية والعلاقات الاجتماعية، فقد وجدت النسوية طريقها لتكون فلسفة للمرأة بقدر ما هي فلسفة للبيئة بقدر ما هي فلسفة لتحرر الثقافات والقوميات وشعوب العالم الثالث من نير الاستعمارية والمركزية الغربية، وهي في كل هذا فلسفة بعد حداثية رافضة لقيم الحداثة والتنوير - الاستعمارية - من حيث هي فلسفة بعد استعمارية.
لقد نشأت الموجة النسوية الثانية - كما رأينا - في الستينيات والسبعينيات، في أوان انتهاء الاستعمار
106
Unknown page