Niswiyya Wa Falsafat Cilm
النسوية وفلسفة العلم
Genres
المهم حقا في النسوية الجديدة هو التيار الآخر، النسوية الراديكالية الثقافية أو الحضارية التي هي ذات طابع أكاديمي رصين، وفرضت نفسها على برامج الدراسة في جامعات شتى. الراديكالية الثقافية تعني أن النسوية اكتسبت نضجا فكريا، فهدفت إلى رؤية ثقافية حضارية جامعة، إلى البحث عن إطار نظري أعمق وأشمل من مجرد المطالبة بالمساواة مع الرجال وطبقا للنموذج الذكوري السائد للإنسان-الرجل. فلا بد من استجواب تاريخ العقل البشري والسياق الحضاري، لسبر أعماق التهميش الطويل الذي نال المرأة، وإثبات إلى أي حد كان جائرا، فحص أسسه ومنطلقاته تمهيدا لتغيير أطره الأيديولوجية للقضاء عليه واجتثاثه من جذوره. لا بد من إعادة اكتشاف النساء لأنفسهن كنساء، لذاتهن المقموعة، وإثبات جدوى العمل على إظهارها وإيجابياتها وفعالياتها، ثم صياغة نظرية عن هذه الهوية النسوية؛ أي الأنثوية
Feminine or Femininty ، وتحولاتها الممكنة، فكانت الأنثوية مرحلة متطورة من الدعوى النسوية، هي مرحلة اكتشاف الذات. وبدلا من التماهي مع النموذج الذكوري، لا بد من العمل على إبراز الأنثوية كجانب جوهري للموجود البشري، كان قمعه اعتوارا طال السكوت عليه، ونزفا حضاريا لإمكانيات هائلة يمكن أن تكسب الإنسانية شيئا من التوازن.
وقد أمكن تحقيق هذا بفضل التطور المعرفي وتنامي مناهج البحث وجحافل النساء الأكاديميات القادرات على إخراج بحوث معمقة تعزز الأطروحة، فضلا عن الرجال المنتصرين لها.
هكذا تأتي الراديكالية الحقيقية في نسوية القرن العشرين من هذه التنظيرات الكبرى التي يتسع مداها يوما بعد يوم، وتتوغل من فرع معرفي إلى آخر، لتثبت الرؤية النسوية التي جرى تهميشها طويلا، وفعاليتها وجدواها.
تبدأ التنظيرات من الأصول العميقة للحضارة الإنسانية وصولا إلى استشراف مستقبلها. تستفيد من علم الأعراق والأجناس البشرية لإلقاء الضوء على أوضاع شتى للذكورة والأنوثة وعلاقات النسب والقرابة،
44
والدراسات الأنثروبولوجية لمجتمعات بدائية كثيرة الأم فيها هي المركز، وصولا إلى العصر الأمومي السحيق المهدر من تاريخ البشرية؛ وذلك لإثبات أن تفوق الذكر وسيادة الرجل ليست قانونا شاملا للبشرية. وتبع هذا الدراسة النسوية للفولكلور التي تصوب الأنظار على الأنماط الفولكلورية الخاصة بالمرأة في الثقافات الشتى. برز الاهتمام بوضعية المرأة في الحضارات القديمة وعند الفراعنة واليهود القدامى والحضارة الكلاسيكية الإغريقية والرومانية ... وفي البقاع الأخرى من العالم. وتميزت الحركة بالتحليل العابر للثقافات
cross cultural analysis ، من أجل استكشاف وتقويم المفاهيم المتعلقة بالمرأة عبر الثقافات المختلفة. قد تستخدم أدوات معرفية مأخوذة من الثقافة الغربية، لكن الثقافات تتحاور بعضها مع بعض، لا ثقافة تفوق الأخرى أو تعتبر نفسها الأرقى، فالنسوية قامت أصلا من أجل تقويض كل أشكال التراتب الهرمي (الهيراركية).
وبدأ التاريخ النسوي منذ العام 1960 ليقابل الصورة الأكاديمية النمطية للتاريخ الذكوري التي هي صورة لتاريخ صنعه الرجل وحده، يتجاهل دور المرأة أو يعمل على تهميشه، أي استثناء لهذا يعد حديثا عن شخصية منفردة استثنائية لملكة أو محاربة قامت بدور في السياق الذكوري للتاريخ وليس تأكيدا لوجود المرأة. ولئن كانت المصادر التاريخية القديمة عبر العصور قد كتبها رجال من منظور ذكوري، فإن مناهج القراءة والتأويل والهيرومنيوطيقا المحدثة تمكن من إعادة قراءة الوثائق التاريخية لاستخراج الدور الحقيقي للمرأة. وليس الأمر مواجهة بين الرجال والنساء، بل بحث عن تصور أصح لتاريخ الوضع الإنساني الذي يضم كلا الطرفين، ولا يقتصر على الذكورية فقط.
تسرف النسوية الجديدة في استغلال هيرومنيوطيقية التأويل والتفسير التي تهدف إلى اختراق السطح الخادع لتفصح عن نظرة موحدة قادرة على احتواء الموضوع المعنى بمجامعه، وكشف المستتر والمسكوت عنه؛ وبالتالي يدن بالفضل لجادامر وكتابه الشهير «الحقيقة والمنهج» (1960). التأويل في بعض الأحيان قد يقابله البحث عن أصول الأفكار، عن الجينالوجيا التي دعا إليها نيتشه. النسويات المحدثات يبحثن دائما عن الجينالوجيا والتأويل بغية الطرح المتكامل.
Unknown page