Nashat Huquq Insan
نشأة حقوق الإنسان: لمحة تاريخية
Genres
أثار كتيب برايس بلبلة عظيمة في بريطانيا. وما لبث أن ظهر نحو ثلاثين كتيبا ردا على كتيبه تتهمه بالوطنية الزائفة، وإثارة الانشقاق، وقتل الأصول، والتحريض على الفوضى، والتحريض على الفتنة، بل والخيانة . وضع كتيب برايس «الحقوق الطبيعية للبشرية»، و«حقوق الطبيعة البشرية»، ولا سيما «الحقوق الثابتة للطبيعة البشرية» على أجندة قارة أوروبا. كان التساؤل المهم، كما قال أحد المؤلفين بوضوح هو: «هل توجد حقوق أصيلة في الطبيعة البشرية، وثيقة الارتباط بالإرادة، ولا سبيل إلى المساس بها؟» وادعى هذا المناوئ أنه من السفسطة الادعاء أن «حقوقا معينة للطبيعة البشرية هي التي تعد ثابتة». ولا بد من التخلي عن تلك الحقوق - فعلى المرء أن «يتنازل بمحض إرادته عن توجيه ذاته» - كيما يتسنى دخول حالة المدنية. وتظهر المجادلات العنيفة أن معنى الحقوق الطبيعية، والحرية المدنية، والديمقراطية شغل عقول كثيرين من أفضل الساسة البريطانيين الذين قتلوه بحثا.
14
يذكرنا الفارق بين الحرية الطبيعية والحرية المدنية الذي أثاره معارضو برايس بأن التعبير عن الحقوق الطبيعية أنشأ عرفا مضادا استمر إلى يومنا هذا. وعلى غرار الحقوق الطبيعية، التي نمت في معارضة الحكومات التي رآها الناس حكومات مستبدة، كان العرف المضاد تفاعليا أيضا، مما يؤكد أن الحقوق الطبيعية مصطنعة أو لا يمكن أن تكون ثابتة (ومن ثم هي غير وثيقة الصلة بالموضوع). وكان هوبز قد أكد بالفعل في منتصف القرن السابع عشر أن الحقوق الطبيعية كان لا بد من هجرها (ومن ثم فهي غير ثابتة) حتى يمكن تأسيس مجتمع مدني منضبط. دحض روبرت فيلمر، المؤيد الإنجليزي للسلطة الأبوية، حجة جروشيوس صراحة في عام 1679، واعتبر أن «الحرية الطبيعية» «سخافة». وفي كتابه «بطريركا» (1680)، عارض مرة أخرى فكرتي المساواة والحرية الطبيعيتين للبشرية، مؤكدا أن جميع الناس ولدوا خاضعين لأبويهم؛ فمن وجهة نظر فيلمر، تأصل الحق الطبيعي الوحيد في السلطة الملكية التي تنبثق من النموذج الأصلي للسلطة الأبوية وختم عليه في الوصايا العشر.
15
كان الرأي الأكثر تأثيرا على المدى الطويل من نصيب جيرمي بنتام الذي أكد أن القانون الوضعي (الفعلي وليس المثالي أو الطبيعي) وحده هو الذي يهم. كتب بنتام في عام 1775 - قبل أن يشتهر بأنه رائد «النفعية» بوقت طويل - مقالا نقديا حول مجلد بلاكستون بعنوان «تعليقات على قوانين إنجلترا»، أعرب فيه عن رفضه لمفهوم «القانون الطبيعي» قائلا: «لا توجد أي «وصايا»، أي شيء «يتعين» على الإنسان بموجبه أن يقوم بأي من الأفعال التي يزعم أن قانون الطبيعة الزائف يسمح بالتمتع بها. إذا علم أي إنسان بشأن أي منها فليطرحه أمامنا. وإذا كانت قابلة للطرح، فلا حاجة بنا إذن إلى أن نجهد أنفسنا في محاولة «اكتشافها»، كما يزعم مؤلفنا [بلاكستون] بعد ذلك بقليل بأنه يجب علينا اكتشافها، بالاستعانة بالعقل والمنطق.»
اعترض بنتام على فكرة أن القانون الطبيعي أصيل في الإنسان وقابل للاكتشاف بواسطة العقل. وبذا رفض في المقام الأول عرف القانون الطبيعي برمته، ومن ثم الحقوق الطبيعية معه أيضا. إن مبدأ النفعية (السعادة القصوى لأكبر عدد ممكن من البشر، وهي فكرة اقتبسها من بيكاريا)، الذي سيناقشه فيما بعد، كان بمنزلة أفضل معيار للصواب والخطأ. وحدها الإحصاءات التي عمادها الحقائق وليس الآراء التي عمادها المنطق هي التي يمكن أن تضع أساسا يقوم عليه القانون. وفي ضوء هذا الرأي، فإن رفضه اللاحق للإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن لن يدهشنا بنفس القدر. ففي كتيب يستعرض فيه بنتام كل مادة من مواد الإعلان الفرنسي على حدة، أنكر إنكارا قاطعا وجود الحقوق الطبيعية فقال: «الحقوق الطبيعية هي مجرد هراء: الحقوق الطبيعية التي لا يجوز المساس بها، هراء منمق، وجعجعة فارغة.»
16
وعلى الرغم من الانتقادات الموجهة للحقوق، انتشر الحديث عنها واكتسبت زخما كبيرا بعد ستينيات القرن الثامن عشر. وباتت «الحقوق الطبيعية» التي تممتها الآن «حقوق البشرية»، و«حقوق الإنسانية»، «وحقوق الفرد»، مقبولة لدى الجميع. ولما عززت الصراعات الأمريكية في ستينيات وسبعينيات القرن الثامن عشر الفرصة السياسية لحديث الحقوق تعزيزا شديدا، فإن الحديث عن الحقوق العالمية انتقل عبر الأطلنطي شطر بريطانيا العظمى، والجمهورية الهولندية، وفرنسا. ففي عام 1768 - على سبيل المثال - قدم الاقتصادي الفرنسي المنادي بالإصلاح، بيير صامويل دو بون دي نيمور، تعريفه الخاص ل «حقوق كل إنسان»، واشتملت قائمته على حرية اختيار المهنة، والتجارة الحرة، والتعليم العام، والضرائب النسبية. وفي عام 1776، تطوع دو بون للذهاب إلى المستعمرات الأمريكية وإعداد تقرير للحكومة الفرنسية حول الأحداث هناك (وهو عرض لم يخرج إلى حيز التنفيذ). وفيما بعد صار دو بون صديقا مقربا إلى جيفرسون، وفي عام 1789 انتخب نائبا عن «طبقة العوام».
17
وبالرغم من أن «إعلان الاستقلال» ربما لم يكن «منسيا تقريبا» كما صرحت بولين ماير مؤخرا، فإن التعبير الاصطلاحي العالمي للحقوق عاد إلى موطنه في أوروبا بعد عام 1776. بدأت حكومات الولايات الجديدة في الولايات المتحدة تبني وثائق حقوق منفردة في وقت مبكر نحو عام 1776، غير أن «مواد الاتحاد الفيدرالي» التي صدرت عام 1777 لم تشتمل على أي وثائق حقوق، كما أقر دستور عام 1787 دون وثيقة للحقوق. ولم تظهر وثيقة الحقوق الخاصة بالولايات المتحدة إلى حيز الوجود إلا مع التصديق على التعديلات العشرة الأولى التي أدخلت على الدستور في عام 1791، وكانت وثيقة تميزت بالاقتصار الشديد على فئة بعينها: فقد قامت على حماية المواطنين الأمريكيين ضد انتهاكات حكومتهم الفيدرالية. وبالمقارنة، نجد أن «إعلان الاستقلال الأمريكي» و«إعلان فيرجينيا للحقوق» الصادرين في عام 1776 قد نصا على حقوق أكثر عمومية. وبحلول ثمانينيات القرن الثامن عشر، تراجعت أهمية الحقوق في أمريكا أمام الانشغال ببناء إطار عمل قومي مؤسسي جديد. ونتيجة لذلك، تقدم «الإعلان الفرنسي لحقوق الإنسان والمواطن» الصادر عام 1789 على وثيقة الحقوق الأمريكية، وما لبث أن حاز اهتماما دوليا.
Unknown page