لم تتمتع تلك المعلمة بأي نوع من الحماس أو التخيل أو التعاطف؛ إذ اعتادت عبور الجسر كل يوم من هانراتي حيث كانت تعيش مع زوجها المريض. وقد عادت لمزاولة مهنة التدريس في منتصف العمر؛ ربما لأنها كانت الوظيفة الوحيدة التي تمكنت من الحصول عليها، فوجب عليها المثابرة، وهذا ما فعلته. لم تغط النوافذ بالورق قط، ولم تلصق نجوما ذهبية في دفاتر الطلاب. لم ترسم على السبورة بالطباشير الملون قط، فلم يكن لديها نجوم ذهبية أو طباشير ملون. ولم تظهر أي نوع من الحب لما تدرسه، أو لأي أحد. لعلها تمنت - هذا إن كانت تمنت أي شيء على الإطلاق - أن يخبرها أحد أنه بإمكانها العودة إلى المنزل، وعدم رؤية أولئك الطلاب ثانية، وعدم فتح كتاب التهجية أبدا بعد ذلك.
ومع ذلك، فقد كانت تدرس للطلبة بعض الأشياء، وربما كانت تدرس أيضا لمن كانوا سيخضعون لامتحان القبول بالمدرسة الثانوية؛ لأن بعضهم نجح فيه. ولعلها حاولت تدريس كل من كان يلتحق بالمدرسة القراءة والكتابة وبعض الحساب البسيط. كان الدرابزين الحديدي للسلالم محطما، والمكاتب منزوعة من أماكنها بالأرضية وغير مثبتة، والموقد تنبعث منه الأدخنة، والمواسير مربوطة معا بالأسلاك. لم توجد بالمدرسة أية كتب بالمكتبة أو خرائط، بالإضافة إلى عدم كفاية الطباشير دوما. حتى العصا الياردية كانت دوما متسخة ومتشظية عند أحد طرفيها. الشجارات والجنس والسرقات الصغيرة مثلت أهم الأحداث في المدرسة، ومع ذلك، كانت الحقائق والجداول تشرح للطلاب. وفي مقابل كل تلك الاضطرابات، والقلاقل، والظروف المستعصية، ظلت هناك لمحة من روتين الفصل الدراسي المعتاد؛ الأمر الذي كان أشبه بعطية تمنح للطلاب. فتعلم بعضهم التهجية.
اعتادت تلك المعلمة استنشاق النشوق. لم تر روز أحدا من قبل يفعل ذلك، فكانت ترش بعضا منه على ظهر يدها، ثم ترفعه إلى وجهها، وتصدر صوتا خافتا من أنفها، وتميل برأسها إلى الخلف، فيظهر عنقها، ويبدو عليها الازدراء والتحدي للحظة. فيما عدا ذلك، لم يكن بها أي شيء غريب أو غير معتاد. فكانت سيدة ممتلئة الجسم، كئيبة المنظر رثة الملابس.
كانت فلو تقول إنها ربما تسببت في تشوش ذهنها بسبب النشوق؛ فهو أشبه بإدمان المخدرات. أما السجائر، فهي تثير الأعصاب فقط.
ثمة شيء واحد فقط في المدرسة كان ساحرا وجميلا؛ رسوم الطيور. لا تعرف روز ما إذا كانت المعلمة قد صعدت وثبتت هذه الرسوم فوق السبورة في موضع أعلى مما يسمح بالوصول إليه وتخريبه؟ وما إذا كانت تلك محاولتها الأولى والأخيرة عندما كان يحدوها الأمل في ذلك المكان؟ أم أن هذه الرسوم يعود تاريخها إلى عهد أقدم من ذلك، عهد أكثر رخاء في تاريخ المدرسة؟ من أين أتت تلك الرسوم؟ كيف وصلت إلى ذلك المكان، في الوقت الذي لم يصل فيه أي شيء آخر، لتصير نوعا من الزينة أو الرسم الإيضاحي؟
نقار خشب أحمر الرأس؛ طائر الصافر، أبو زريق أزرق اللون؛ إوزة كندية. ألوان واضحة وثابتة. خلفيات من الثلج النقي، وغصون الأشجار المزهرة، وسماء صيفية مشرقة. ما كانت هذه الرسوم لتبدو غريبة لو وجدت في فصل عادي، لكنها في ذلك الفصل، كانت بارزة وواضحة وتعبر عن شيء ما، إذ تناقضت مع كل شيء آخر حولها؛ لم تمثل تلك الرسوم الطيور نفسها، أو تلك السماوات والثلج، وإنما عكست عالما آخر من البراءة الشديدة، والمعلومات الوافرة، وخلو البال من الهموم على نحو مميز. خلا ذلك العالم من سرقات حقائب الطعام، وتمزيق المعاطف، وخلع البنطلونات، واستخدام العصي المؤلمة، والمضاجعة، ومن فراني. •••
ضم فصل التأهيل للمدرسة الثانوية ثلاث فتيات كبيرات؛ إحداهن تدعى دونا، والأخرى كورا، والثالثة بيرنيس. وقد خلا ذلك الفصل إلا منهن. ثلاث ملكات ، لكن مع تدقيق النظر، ستجدهن ملكة وأميرتين. هكذا رأتهن روز. كن يسرن حول فناء المدرسة وأذرعهن متشابكة أو يحيط بعضهن بخصر بعض. تتوسطهن كورا دوما، وكانت أطولهن. أما دونا وبيرنيس، فكانتا تميلان عليها لدعمها أو تتقدمان أمامها لإفساح الطريق لها.
أحبت روز كورا.
كانت كورا تعيش مع جدها وجدتها، وكانت جدتها تعبر الجسر إلى هانراتي للعمل في أعمال التنظيف والكي. أما جدها، فكان يعمل في تنظيف الحمامات. كانت هذه هي وظيفته.
قبل أن تدخر فلو المال لإقامة دورة مياه حقيقية بالمنزل، كانت قد اشترت مرحاضا كيميائيا لوضعه في أحد أركان السقيفة، وكان ذلك أفضل من المرحاض الخارجي، لا سيما في أوقات الشتاء. لكن جد كورا خالف فلو الرأي بشأن ذلك المرحاض، وقال لها: «إن الكثيرين ممن استخدموا تلك المراحيض دخلت المواد الكيميائية أجسامهم، وودوا لو أنهم لم يفعلوا.» كانت لجد كورا لكنة ريفية غريبة.
Unknown page