الخرطوم
22 / 6 / 2008م
فيزياء اللون: إلى صلاح إبراهيم
1
يلتقط الأصداف بأنامل قلقة لكنها بصيرة ماهرة: ترى، تحس وتقرأ في نفس لحظة اللمس، تغوص قدماه في مياه النهر الدافئة، يسمع أنين الرمل تحتها، تهرب صغار أسماك البلطي والكوار التي تطعم على العوالق في ملتقى الماء بالرمل، كان يستهدف الأصداف الكبيرة ذات النهايات التي تشبه منقار النسر، هي كثيرة تقبع في المياه الضحلة، ولكن العثور عليها يحتاج لوقت وخبرة وصبر، هذا هو يومه الأخير في كلية التربية ببخت الرضا وقد ودع تلاميذه بالأمس بعد أن قاموا بإنجاز جدارية تعليمية ضخمة تطل على نهر النيل، تجلت موهبته في رسم حركة الحشرات، السحالي والطيور الشرسة الجارحة؛ لذا خلده تلاميذه في الجدارية برسم ضب نزق يتسلق الحائط برجليه الخلفيتين وذيله، يقبض بقائمتيه الأماميتين على فرشاة تلوين ماركة بلكان - وهي المحببة لديه - وفي الأفق يلوح نسر ضخم.
يقلب صدفة على بطنها، على ظهرها، يضعها هنا، يضعها هنالك، على الرمل، ينظر إليها بعمق، يفكر بحكمة، بجمال، بجنون، يبتسم، يضعها مع الأخريات برفق في الصندوق الخشبي الصغير الذي أعده لهذا الغرض، الآن عليه الحصول على أكبر عدد ممكن من الصدفات الصغيرات والمتوسطات، يحتاجها لصنع أرياش الأجنحة والزغب الناعم على العنق، القوائم والمخالب، يريد أن يفعل شيئا كله من النهر ولا علاقة له بالنهر، يريد أن يقول إن النهر هو سيد الحياة، كانت الجدارية تحملق فيه من بعيد، يبدو الضب ذو الفرشاة نزقا سعيدا وهو يتسلق الحائط مستخدما ذيله وقائمتيه متناسيا تماما النسر الذي يحلق في السماء مترصدا به، ينظر الضب برشاقة إلى النهر، حمل صندوقه الخشبي المملوء بالصدف وذهب إلى منزله، أكل الفول المصري الذي اشتراه في الطريق بمتعة خاصة، كان جائعا مرهقا سعيدا ومستثارا بصيده النهري، لبس هدوم العمل واشتغل في الصندوق، يسكن وحده في منزل يتكون من حجرتين ومرحاض، يستخدم الحجرة الكبيرة كمحترف له، ويستخدم الأخرى كغرفة نوم، أما البرندة التي تحيط بالغرفتين والحمام كأم رحيمة من الأسمنت والحصى والطوب فيستخدمها مضيفة ومطبخ في آن واحد، سكن معه من قبل صديق سكير أدمن رباعي الفناء : الخمر، الحبيبة، الشعر، والجوع، ذات صباح أدهشه بموت صامت في البرندة، منذ ذلك الحين ظل وحده، وهو دائما ما يرغب في أن يكون وحده، حتى البنيات اللائي يستخدمهن كموديل يعيدهن إلى حيث أتي بهن بعد العمل مباشرة، لا يطيق غير صحبة حبيبته فقط، بينما تدور الأشياء في رأسه تعمل معدته في صمت في هضم الفول وقطع الجبنة الصغيرة والرغيفات مستعينة بقليل البيبسي الذي تناوله بعد الطعام، كانت أنامله تتحرك في خفة وهي تصنع النسر الصدفي الضخم، بدأ بالمنقار الحاد الذي هو شبه معطى من الطبيعة، ثم أخذ يشكل العنق من الصدفات الصغيرات اللامعات الذهبيات الصفراوات الخضراوات البنيات الأكثر خفة وبهجة واحتفاء بالضوء، كان يلصق هذه بتلك، هذه تحت تلك، هذه بين تلك وتلك، هذه فوق تلك، هذه يمينها، يسارها، هذه ضد تلك، نفيها، تأكيدها، محو أثرها، يفعل ذلك مستخدما عشرات الحواس التي أعطاه إياها الله في تلك الأيام، حل المساء تدريجيا، أضاء الكشافتين الكبيرتين اللتين توفران إضاءة أفقية تساعده في دقة الرؤية وتحديد اللون، كان يعرف أن اللون ليس في السطح أو الكتلة، ولكنه في العين ذاتها، وتأخذه العين من الضوء؛ لذا كان يحتاج إلى ضوء كثيف مباشر، عندما دقت ساعته الحائطية معلنة الواحدة صباحا كان النسر الأول قد اكتمل، وأخذت عيناه الحادتان الحمراوان تلمعان في ريبة، مما جعله يحس بتوتر في أعصابه، قال لنفسه: إنه الضوء.
أضاء كشافة صغيرة ترسل ضوءا أزرق خفيفا في زوايا حادة، يختلط مع ضوء الكشافتين المائل إلى الحمرة فيغمر المكان ظلا بنفسجيا ساحرا، أزال تأثير الإضاءة الحرة الأفقية المباشرة في عيني النسر، من ثمة تأثير الخدعة في عينيه، ولكنه شكل خدعة خاصة به يفهم الأستاذ قواعدها بصورة جيدة، ويعرف كيف يتعامل معها، لكن النسر الشرس الذي فرغ من صنعه للتو حرك رأسه في اتجاه مصدر الضوء الأزرق كلية، مما جعل الصدفات الرقيقات البهيات التي صنع منهن الصدر وزغب الرقبة تصدر صريرا باهتا وما يشبه صوت تصدع صدفة كبيرة، قفز مرعوبا في الهواء ثم ضحك على نفسه لمجرد التفكير في أنه خاف من شيء ما، حك شاربه الصغير الذي تدب فيه البيضاوات وحملق في النسر البدى الآن ساكنا صامتا وبريئا جدا، وبرقت في عينيه الحمراوين بعض الأدمع البنية، يعرف أن كل ذلك ليس سوى مداعبة اعتاد عليها من الضوء، الكتلة والفراغ من جهة وعينه ومزاجه النفسي من جهة أخرى، إلا أن إحساسه بالخوف كان حقيقيا وأصيلا، أحس بألم الوحدة، أحس بأنه أرهق نفسه أكثر مما يجب وعليه أن يذهب بعيدا وبأسرع ما يمكن من هنا، ترك الكشافات مضاءة، وضع على جسده فانلة تي شيرت صفراء، حبيبته تعشق اللون الأصفر، أهدته إياها قبل شهرين، خرج دون أن يحدد وجهة ما، ذهب في طرقات باردة كسولة، بعض الرجال يعودون إلى منازلهم في عجلة، دوريات الشرطة في كل هنا وهناك، الكلاب والقطط، الفئران الكبيرة، الوطاويط، بومتان.
2
عندما عاد إلى البيت في الفجر وجد كل شيء كما هو، النسر ما يزال على قاعدته ينتظر في سكون، الأنوار مطفأة؛ حيث إن الكهرباء قد نفدت، الكشافات الكبيرة تستهلك قدرا هائلا من الكهرباء، سيشتري مائة كيلو واط أخرى للمرة الثانية في هذا الشهر، أخذ يتمعن نسره، لقد برع في صنعه، وهو يعرف أعماله جيدا، العظيمة المتقنة وتلك العابرة الهشة، هذا النسر عمل متقن، لولا تواضع الفنان لأطلق عليه صفة الكمال، ابتسم، بدأ في صناعة آخر، وآخر، وآخر، وآخر، بعد أسبوعين من العمل الشاق المتواصل والسهر كان بمرسمه الصغير عشرة نسور عملاقة جميلة شرسة وكاسرة تشع أعينها في قلق، سوف يقوم بعرضها في المركز الثقافي الفرنسي كأول معرض تشكيلي من نسور الأصداف في التاريخ كما يعيه، يريد أن يؤكد فيه جدلية: الماء، الهواء، الضوء، النار، وسوف لا يتحدث لأحد عن هذه الفكرة، على الناس أن يقوموا باكتشاف ذلك بأنفسهم، هو الآن أنجز عملا فنيا كاملا، وإذا كانت الروح في متناول يده لنفخ فيها الروح فطارت، ثم أحس بزهو عظيم، بنشوة كبرى، نشوة أسطورية عارمة، أخذ يضحك، يضحك في هستيرية، يضحك في عمق ، يضحك بالقلب كله.
3
Unknown page