Mushilat Maca Ghuraba
مشكلات مع الغرباء: دراسة في فلسفة الأخلاق
Genres
فالطفل الصغير كما يقول ميرلو-بونتي لا يعرف أي واقع ينقسم بين وجهات نظر، ولا يملك وعيا بأن الذات يجب أن تتقيد بواحدة منها. فالطفل - كما في النظام الخيالي - قد يشغل كل المواقع في الوقت ذاته، متحررا من كل قيود النظام الرمزي. وكما لا يميز الطفل في نموذج لاكان بين ما هو داخلي وما هو خارجي، إلى حد أن تكتسب المشاعر وجودا ملموسا شبه مادي، فكذلك النظرات الإنسانية للطفل الصغير عند ميرلو-بونتي «لها وجود يكاد يكون ماديا، لدرجة أن الطفل يتساءل كيف لا تنكسر هذه النظرات عندما تلتقي ببعضها.»
42
يقترب هتشسون من المعنى الفينومينولوجي للجسد أكثر من آدم سميث؛ إذ تستحوذ عليه فكرة الوجه البشري المتكلم أو ذي الدلالة الذي نستجيب له دونما تفكير، من دون الحاجة إلى «الاستنتاج» أو «الاستدلال على» نوع العاطفة التي تحركه. إن هذه السمة التعبيرية المتأصلة في الجسد - أي أن جسم الإنسان نفسه ذو دلالة - هي ما يبشر بحل لثنائية سميث اليائسة نسبيا، فإن افترض سميث أننا لا يمكننا الوصول إلى الآخرين إلا من خلال ملكة خاصة، فهذا لأنه يتصور أن الحالة الذهنية للآخرين لا يمكن إدراكها في الوضع الطبيعي، حيث تستتر وراء أجسادهم، فشعوري بالغضب مثلا يكمن في أعماقي، أما اللمحات التي يمكنك أن تراها منه فعلا - كإضرامي النار في شعري مثلا تعبيرا عن الغضب الممزوج بالإحباط - ما هي إلا العلامات الظاهرية على حالة داخلية خاصة، فما تراه ليس الواقع. وكذلك كلماتي ما هي إلا إشارات ظاهرية تدل على معان على نفس القدر من خصوصية عواطفي؛ وذلك لأنها صور في ذهني؛ لذا فمن الصعب - بل ربما من المستحيل - معرفة ما إذا كنا نشعر أو نقصد بحق الشيء نفسه، وهي حالة مزمنة من تقاطع الأغراض التي تستخرج منها رواية «تريسترام شاندي» جوهرها الكوميدي الغني. ويقر آدم سميث في عمله «نظرية العواطف الأخلاقية» أنه يستحيل علينا أن نعرف على وجه التحديد ما يشعر به شخص آخر، كما لو كنا بالضرورة سنتعاطف معهم على نحو أكبر إن استطعنا ذلك، فإن تعذر علينا إدراك ما بالآخرين، فمن الصعب إذن إيجاد أساس واع للتناغم الاجتماعي؛ لذا يصبح الميل قويا لتحديد ملكة ما صعبة المنال - كالتقمص العاطفي والحدس والخيال والحس الأخلاقي - تحل محله.
وغني عن القول إن حاجاتنا لتخيل ما يشعر به الآخرون لا تحظى بقبول أكثر من فكرة أن علينا تخيل ما يقصدونه. من المؤكد أن إلين سكاري أخطأت في زعمها أن الخيال ضروري للتعاطف الإنساني؛
43
فالتفهم لا يتعلق بإسقاط أنفسنا من منظور متعاطف في الأغوار الروحية للآخرين، التي يفترض أن محتوياتها تتمتع بالخصوصية في جوهرها؛ فالآخرون يمكنهم بالتأكيد إخفاء مشاعرهم عنا أو تحريف معانيهم عن عمد؛ لكن ذلك يتطلب منهم آليات أكثر تعقيدا بعض الشيء، وهذه الآليات تكتسب دائما في المجال العام؛ فنحن ندرك أنفسنا بنفس الطريقة التي ندرك بها الآخرين؛ فالاستبطان المطلق لا طائل منه هنا؛ إذ لا يمكن بالاستبطان وحده أن أدرك ما إذا كنت أشعر بالحقد أو الخوف مثلا.
يكتب ميرلو-بونتي: «إن إمكانية أن يكون شخص آخر واضحا بذاته تتوقف على أنني لست واضحا أمام نفسي وأن ذاتي تلقي جسدها وراء ظهرها عند استيقاظها ... فالشخص الآخر ليس كائنا شخصيا أبدا، هذا إن كنت أنا كذلك، وإن كنت أرى نفسي بينة واضحة بذاتها.»
44
وسيبدو الآخرون مبهمين حتما إن كنا مضللين بالقدر الكافي لنعتقد أننا واضحون تماما لأنفسنا. •••
لم يشارك ديفيد هيوم فرانسيس هتشسون ثقته في كرم القلب الإنساني الفطري؛ فقد كان على أية حال محافظا متشككا وليس ليبراليا جمهوريا يعتقد أن حب الذات هو القوة الأساسية المحركة للشئون الإنسانية، فإن كانت العدالة ضرورية بأي شكل - حسبما رأى - فهي ما يوازن سعينا الجامح نحو المكاسب والمصلحة الشخصية. إلا أنه تبنى أيضا فكرة أنه رغم أن معظم الناس يحبون أنفسهم أكثر من حبهم للآخرين، فإن عواطفهم الإنسانية في مجملها تغلب أنانيتهم. إن هيوم في مزجه بين الدماثة واللطف من ناحية والدهاء العملي من ناحية أخرى معتدل بكل معاني الكلمة، فهو ليس متشائما كهوبز ولا هو متفائلا كشافتسبري؛ إذ يكتب في مرحلة لم تزل فيها الطبقة الوسطى - التي كانت قد ظهرت حديثا فيما قبل التصنيع - منبهرة ببريق الأرستقراطية بما يكفي لتبحث عن موائمة بين التجارة والتحضر، وهي موائمة سيزداد تحققها صعوبة في العصور الصناعية الرأسمالية اللاحقة.
Unknown page