لم يستطع جيمي أن يحدد مقدار ما يضمره ذلك الحداد. تذكر أن الفتاة كانت قد عرضت أن تبدأ من البداية وتحكي له القصة . لكن هو الذي طلب منها أن تستخدم كلمات قليلة، بهدف توضيح ما تريده ليس إلا. إن كانت دماؤها اسكتلندية مثله، لما أمكنها أن تصدق كلامه سريعا أو مطلقا هكذا. لقد صرحت بالحقائق المحضة، أما هو، تفكر جيمي بابتسامة متبرمة أخرى، فجسد الحقائق. قالت السيدة إنها بحاجة إلى خاتم وعقد زواج واسم، ووقفت بجواره، وسمحت للخاتم بأن يوضع في إصبعها، وحصلت على العقد. وثمة شيء يتذكره تحديدا. لقد وضعت الورقة على صدرها وضمت يديها عليها كما لو كانت أغلى ما لديها في العالم بأسره. أما بالنسبة إلى اسمه. لقد قبلت به في الزواج على الأقل، سواء كانت تنوي استخدامه أم لا.
شعر جيمي أنه أحمق نوعا ما لأنه لم يمد يده حتى لالتقاط السجل الذي سجلت فيه الفتاة اسمها وقراءته. لم يكن تصرفه تصرف رجل بحق، ولم يسير عرسه على هواه تماما كما ظن أنه سيفعل. كل ذلك لأنه قد أعطاها وعدا؛ لأنه قال إنه لن يتطفل، وإنه لن يبذل جهدا في العثور عليها. لقد قال إنه سيسره مجرد تقديم ما يقدر عليه من عون، وقد حدد له حجم العون الذي احتاجت إليه الفتاة، ونوعه بوضوح شديد. وقبل هو الاتفاق. وخاضه. ما عليه فعله الآن هو الخروج إلى الرواق الخلفي، وارتداء معطف النحل القديم الخاص بسيد النحل، ومداهمة أحواض الزنابق والقرنفل، وحيث إن جسده كان خاليا من أثر الضمادات الجراحية، فليتقدم ويواجه النحل الألماني الأسود ويكتشف بنفسه ما إن كان لديه مناعة من النحل حقا. كانت تلك معلومة أراد الحصول عليها قبل أن يظهر الكشافة الصغير مرة أخرى.
من ثم ارتدى جيمي المعطف ووضع على نفسه الزنابق وفرك رأسه بالقرنفل، وببطء، وتأن، واثقا من خطواته بقدر ما استطاع، سار مسافة طويلة في الصف الشرقي، متوقفا أمام قفير تلو الآخر، لينظر إلى الأشياء الصغيرة التي كانت تذهب وتجيء شديدة النشاط بأجنحتها الطنانة، مدركا أنه لا يعرف الذكر من العاملة، ولا الممرضة من الملكة.
كما قرر، بينما يقف أمام إحدى القفائر، أن يسأل الدكتور جرايسون، عندما يتصل به هذا المساء لإبلاغه بتقريره اليومي، حول إمكانية أن يزور سيد النحل لدقائق معدودات، وسيسأله حول المدة التي سيقضيها في المستشفى. ثم أدرك أنه ما دام لم يستدع بعد لزيارة سيد النحل فمن الوارد جدا أنه في حالة شديدة من الضعف والسقم حتى إنه قد يغيب طيلة أسابيع، وربما شهور. علاوة على ذلك، فإن النحل مرتبط ارتباطا وثيقا جدا بالأشجار، وما أشار إليه الكشافة الصغير بشأن عادات النحل كان جذابا للغاية حتى إنه من الوارد أن يتوغل فيه أكثر؛ من الوارد أن يقرأ بعض الكتب المختصة ويرى ما تحويه. فما زال أمامه بعض الوقت قبل أن يتحدد مصيره، وربما ليس هناك في حدود إمكانياته، خلال هذه المدة، شيء أكثر إثارة للاهتمام، شيء أكبر فائدة، ليوجه إليه اهتمامه، سوى النحل وحده.
وهكذا، محسنا الترنم بأغنية «هايلاند ماري»، مضى جيمي ببطء متجولا بين القفائر وحين وصل الممشى الخلفي ولمح قفير النحل الألماني الأسود الكبير تذكر شيئا آخر. بحث عن صنبور المياه الذي ينمو حوله النعناع. اقتلع حفنة منه ودعك بها سرواله وكميه وسحقها في يديه، ثم، مترنما باللحن الموصوف بأفضل ما وسعه، اقترب على مهل من النحل الألماني الأسود. ثم وقف أمام أول قفائره. ظل واقفا هناك كما راق له. وجثا على ركبتيه ونظر من الفتحة. وراح يدرسه بتمعن شديد فلاحظ أنه يفتقر إلى اللون الذهبي الذي لدى النحل الإيطالي. كما أن شكله مختلف. وحين سار مبتعدا عنه على مهل شعر أنه في المرة القادمة حين يسأله أحد الأشخاص عما إذا كانت لديه مناعة من النحل فسيتمكن من أن يجيبه بكل ثقة. واعتقد أنه في المرة القادمة التي تحط فيها نحلة على إحدى الزهور أمامه سيصبح قادرا على الأقل أن يعرف إذا ما كانت إيطالية أم ألمانية سوداء.
كان بغضه للاسم بالغا، حتى إنه قال في نفسه أثناء صعوده الممشى الخلفي إنه لو كان ذلك النحل ملكه فسيلتقط قفائر النحل الألماني الأسود ويحملها هابطا ويلقي بها في المحيط الهادئ. ما كان سيمتلك أي شيء يحمل اسم ألماني أسود، ولا حتى نحلة، ليذكره يوميا بما فعله الألمان السود الحقيقيون بالرجال المنتمين لعرق أبيه وبلده، للرجال الذين جرت في عروقهم الدماء نفسها. كان من الحماقة بالطبع أن ينقل الازدراء البغيض الذي يشعر به حيال عرق من البشر تجاه خلية نحل. لم يكن تصرفا منطقيا بالمرة، لكنه أدرك، وهو يرتقي الممشى على مهل، بينما يأكل ثمرة طماطم حمراء كبيرة قطفها من كرمة مر بها، أن أغلب ما نشعر به من حب وبغض في هذا العالم يفتقر إلى المنطق إلى حد كبير. فإن ما نحبه هو مسألة هوى شخصي بدرجة كبيرة، والهوى يتوقف غالبا على الأسلوب الذي تربينا به، وعلى البيئة، وعلى الذوق الشخصي، ومن ثم لا بد أن يحتل الهوى الشخصي مساحة كبيرة من الشخصية.
مسح جيمي أصابعه ورمى لب الطماطم بعيدا بقدر ما استطاع أسفل جانب الجبل، ودخل المنزل. وفي الرواق الخلفي غير ملابسه وارتدى معطفه، ودخل حجرة المعيشة لانتقاء كتاب معين انتوى قراءته، وقد تصدرت ذهنه فكرتان دون غيرهما. لقد نتج عن توليه مسئولية حديقة سيد النحل ثلاثة أشياء؛ لقد أصبح عروسا، وأصبح يعرف النحل الألماني الأسود من الإيطالي، واكتشف أن الطماطم الكبيرة تامة النضج تتمتع بمقدرة هائلة، وخاصة على الإشباع. سوف يجرب حيلة الطماطم تلك بين الوجبات كل يوم. فقد انزلقت الثمرة في جوفه واستقرت في معدته محدثة أثرا مرطبا منعشا نوعا ما أفضل من أي كأس نبيذ تناوله من قبل. فلم تحدث حموضة، ولا كانت صعبة الهضم. لقد أدت الغرض وكان مذاقها رائعا تاركة لهفة للمزيد.
ثم وقف العروس أمام طاولة الكتابة الصغيرة، وفتح الخزانة التي فوقها، ومر بإصبعه على عناوين العديد من الكتب مستكشفا. ثم اختار أحدها وجلس على المقعد الذي قرر استخدامه كمقعده الخاص، وحاول أن يركز كل ذهنه في موضوع ما هو ضروري للمبتدئين لرعاية النحل. وقد وجد نفسه يقرأ فقرة تلو الأخرى حول الخلايا المناسبة وأقراص العسل ومداخن النحل وسائر اللوازم التي بإمكانه أن يجدها في صندوق كبير في الرواق الخلفي إن فتحه وعرف ما يلزمه البحث عنه. كانت عيناه تقرآن الكلمات وذهنه يركز بعناد عجيب - وإن كان، في نهاية الأمر، ليس عجيبا جدا في شخص ذي أصل اسكتلندي - إذ ظل ذهنه يفكر في اليد المبهوتة التي سحبت ثم مدت لتزين بخاتم زواج، وفي وثيقة الزواج التي احتضنت بحرص فوق صدر بدا مكتملا وغاية في الجاذبية. بعدها راح ذهنه يركز على زوج العيون البنية الحادة التي باحت بتوتر عصبي بالغ. وظل ذهنه يعرض أمام عينيه صورة الشفتين المرتعشتين وعضلات الوجنتين المرتجفة.
إن الشيء الذي أقدم عليه سيظل معه مدة. ولن يستطيع أن يغض طرفه عنه ويركز تفكيره على أي شيء، ولا حتى شيء مثير للاهتمام مثل النحل كما قال الكشافة الصغير عنه. أراد بحق أن يطالع كتابا حقيقيا عن النحل. أما ذلك فكان عن ممرضات النحل. من ذا الذي يدرب نحلة لتصبح ممرضة؟ هل يصاب النحل بالمرض؟ هل يحتاج إلى ممرضات؟ هل يقرص بعضهم الآخر فيصابون بجروح لا تشفى في أجسامهم الصغيرة؟ لا بد أن يتبين ذلك سريعا، لكنه لا يستطيع أن يتبينه في تلك الساعة لأن ثمة أشياء عديدة تحمل على التفكير فيها. وتلك الأشياء، رغم كل شيء، مهمة. فلا يمكن تبديل واقع أن الأحداث قد ساقته ليصبح رجلا متزوجا قانونا، ولا يمكن تغيير واقع أن امرأة جذابة للغاية قد وقفت بجانبه وجعلت نفسها امرأة متزوجة قانونا، ولا يوجد أي سبب يجعله يحاول التهرب من حقيقة أنها أصبحت أكثر نفعا بكثير للعالم، ولأسرتها، ولطفل صغير ما زال في علم الغيب، حين وقفت تلك الوقفة، رغم ردائها الأسود، وهدوئها المكره، عما كان سيحدث لو أصبحت جثة بلا شكل يبددها تيار الماء على بعد فراسخ وتنهشها كلاب البحر الجائعة فلا تبقي فيها شيئا. كان إنقاذ حياة امرأة على ذلك النحو شيئا يستحق التأمل. وقد خطر له الليلة الماضية أنه قد يكون الشيء المفيد الوحيد الذي يستطيع فعله قبل النهاية. وحيث إنه لم يكن لديه شيء آخر ليفعله، وحيث إنه ظل يلاحقه، فلا يمكن لومه البتة على التفكير فيه. من الواضح أن لا أحد غيره سيفكر في الأمر. كان يتوق لسماع أي كلمة. فلم يتلق ولو كلمة «شكرا». لكن لا بأس. فهو لم يطلب أو يتوقع أي شيء.
عندئذ أغلق جيمي الكتاب واضعا إصبعه حيث توقف وذهب ليفتح الباب الأمامي. سلمه صبي مرسال طردا وخطابا واختفى بسرعة عجيبة، فكان الاستنتاج الوحيد أمام جيمي أنه قد طلب منه إتمام مهمة التوصيل وأن يجد أسرع وسيلة يستطيع بها الاختفاء أيضا.
Unknown page