75

Mukhtarat

مختارات من مقالات أمرسن

Genres

هناك طائفة من الناس، يظهر منها أفراد في فترات متباعدة، وهبوا بدرجة عظيمة البصيرة والفضيلة، فأجمع الناس على تلقيبهم ب «المقدسين»، وهم يبدون كأنهم تجمع لهذه القوة التي ذكرناها. إن الأشخاص المقدسين يولدون شخصيات ممتازة، أو إذا استعرنا تعبير نابليون قلنا إنهم النصر المنظم. والناس يستقبلونهم عادة بنية سيئة، لجدتهم، ولأنهم يضعون حدا للمبالغة التي أحاطت بشخصية الرجل المقدس الذي سبقهم. إن الطبيعة لا تخلق أبناءها على غرار واحد، ولا تشابه قط بين رجلين. إننا حينما ننظر إلى رجل عظيم نتصور شبها بينه وبين شخصية تاريخية أخرى، ونتنبأ بما يصدر عن شخصه وما أصابه، بيد أن النتيجة حتما تخيب آمالنا. ولا يستطيع أحد البتة أن يحل مشكلة شخصية وفقا لأهوائنا، إلا بأسلوبه العالي الذي لم يسبقه إليه أحد. إن الشخصية تحتاج إلى فسحة من المكان، ولا ينبغي أن يزاحمها آخرون، أو أن يحكم عليها بنظرات خاطفة نرسلها ونحن تحت تأثير ما نضطرب فيه من أعمال أو في مناسبات قليلة. إنها تحتاج في الحكم عليها إلى الابتعاد عنها، كأنها البناء الشامخ، وهي ربما لا تسارع في إنشاء الصلات بينها وبين غيرها، والأرجح ألا تفعل ذلك. ويجب علينا ألا نتطلب لأعمالها تفسيرا عاجلا، وفقا لمعاييرنا الخلقية، أو للقواعد الخلقية الشائعة.

إنني أنظر إلى التماثيل المنحوتة باعتبارها من التاريخ، ولا أحسب أن تمثال أبولو وجوف يستحيل أن يكونا لحما ودما. كل صفة سجلها الفنان في الحجر سبق له مشاهدتها في الحياة، وهي في الأصل خير منها في محاكاته. رأينا كثيرا من الزيف، ولكنا ولدنا مؤمنين بعظماء الرجال. وما أسهل ما نقرأ في الكتب القديمة - حينما كان الرجال قلائل - عن أدنى أعمال الآباء الأولين. إننا نتطلب في الرجل أن يكون ضخما بارزا في هيئته حتى يستحق أن نذكر عنه أنه نهض وتمنطق وارتفع إلى مكانته. إن أقرب الصور إلى التصديق هي صور الرجال الأجلاء الذين ساروا عند مدخلهم وأشبعوا حواس غيرهم، كما حدث للمجوسي الشرقي الذي بعث لكي يختبر مزايا زرادشت، ولما وصل الحكيم اليوناني إلى بلخ - كما يحدثنا الفرس - عين جشتاسب يوما يجتمع فيه «الموبد» من كل بلد، وقد أعد مقعد ذهبي للحكيم اليوناني، ثم تقدم حبيب يزدام، النبي زرادشت، وسط الاجتماع. ولما رأى الحكيم اليوناني هذا السيد قال: «إن صاحب هذه الصورة وهذه المشية لا يمكن أن يكذب، ولا يمكن أن يصدر عنه إلا الصدق.» وقال أفلاطون: من المستحيل ألا نؤمن بأنباء الآلهة، حتى إن تكلموا بمنطق غير محتمل وغير ضروري. وإني أعد نفسي شقيا جدا بين رفاقي إذا لم أستطع أن أقدر خير ما في التاريخ. يقول ملتن: «إن جون برادشو يبدو كالقنصل الذي لا يتخلى عن عصا الحكم بانقضاء العام؛ ولذا فإنك تنظر إليه وكأنه قائم على حكم الملوك، لا في يوم الحكم وحده، ولكن خلال حياته كلها.» وإنه لأقرب إلى الصدق عندي أن يعرف الرجل الواحد السماء - كما يقول الصينيون - ما دامت هذه المعرفة سابقة، من أن يعرف الدنيا عدد من الرجال عديد. إن الأمير الفاضل يجابه الآلهة دون أن تخامره الشكوك، وهو ينتظر مائة جيل حتى يأتي حكيم، دون أن يشك. ومن يجابه الآلهة دون ارتياب يعرف السماء، ومن ينتظر مائة جيل حتى يأتي حكيم، دون أن يشك، يعرف الناس. ومن ثم فإن الأمير الفاضل يسير، ويدل دولته على الطريق عدة أجيال. ولكن ليست بنا حاجة إلى التماس الأمثلة البعيدة. والرجل الذي لا تعلمه تجاربه حقيقة السحر وقوته كما تعلمه حقيقة الكيمياء وقوتها أعمى البصيرة. إن أشد الحنابلة تزمتا لا يستطيع أن يرحل إلى الخارج دون أن يقابل مؤثرات لا يستطيع تفسيرها؛ فقد يحدق فيه إنسان فتخرج مقابر ذاكرته موتاها، ولا مناص له من أن يفشو الأسرار التي تسبب له الشقاء إما بكتمانها أو إفشائها. ثم يلتقي بآخر، فيرتج عليه، وكأن عظامه تفقد غضاريفها. إن دخول صديق يزيده جلالا وجرأة وفصاحة، ولا يسعه إلا أن يذكر أن هناك أشخاصا وسعوا من فكره سعة لا يتصورها العقل، وأشعلوا في صدره حياة أخرى.

وهل هناك ما يبلغ في الروعة علاقات المودة حينما تصدر عن هذا المنبع العميق؟ إن الإجابة الكافية للمتشكك الذي يرتاب في قدرة الإنسان وإعداده هي في إمكان هذا الاتصال السار مع الناس، وهو ما يخلق الإيمان ومجال العمل عند كل إنسان عاقل. ولست أعرف شيئا مما تمنحه الحياة فيرضي النفس مثل التفاهم الحسن العميق، الذي يمكن أن يقوم بعد كثير من تبادل الخدمات الطيبة، بين رجلين فاضلين، كل منهما واثق من نفسه وواثق من صاحبه. إنها سعادة تفوق كل سبب آخر من أسباب رضى النفس، وتقلل من شأن السياسة والتجارة والكنائس؛ لأن الناس عندما يتقابلون كما ينبغي لهم، كل منهم فاعل خير، وكأنهم ثريات من الفكر والعمل والتهذيب، يكون ذلك عيدا للطبيعة يعلنه كل شيء. والحب الجنسي في مثل هذه الصداقة هو الدليل الأول، كما أن الأشياء الأخرى جميعا دلائل حب، وهذه الصلات بخيار الناس التي حسبناها في وقت ما قصص الشباب الخيالية، تصبح بتطور الشخصية أقوى المتع.

آه لو أمكن أن يعيش المرء على صلات صحيحة بالناس! وآه لو استطعنا أن نمتنع عن أن نطلب أي شيء منهم، أو أن نطلب ثناءهم، أو معونتهم، أو شفقتهم، ونقنع بإرغامهم بفضل ما في أقدم القوانين من مزايا! هلا نستطيع أن نتعامل مع أفراد قلائل - بل مع فرد واحد - طبقا للسنن غير المكتوبة، ونختبر تأثيرهم؟ هلا نستطيع أن نقدم لصاحبنا تحية الصدق والصمت والاحتمال؟ وهل لا بد لنا من التحمس للبحث عنه؟ إذا كانت بيننا صلة فسوف نلتقي. كان من تقاليد العالم القديم أن تطور الظروف لا يمكن أن يخفي إلها عن إله، وهناك بيت من الشعر الإغريقي يقول:

لا يجهل الآلهة بعضهم بعضا .

والأصدقاء يتبعون كذلك قوانين الضرورة الإلهية، يجذب أحدهم الآخر، ولا يسعهم إلا هذا:

إذا اجتنب الناس بعضهم بعضا

استمتع كل امرئ بأخيه.

إن الصلة بين الصديق والصديق لا تخلق، ولكنها تيسر. يجب على الآلهة أن يأخذوا مقاعدهم بغير وسيط فوق الأولمب، وأن يضعوا أنفسهم ما استطاعوا وفقا لدرجاتهم في التقديس. إن المجتمع يفسد إذا تكلفنا أو إذ التقى الرفاق على بعد ميل بينهما. وإذا لم يكن مجتمعا فهو ضجيج خبيث وضيع منحط، حتى إن كان من خيار الناس. إن عظمة كل منهم كلها تحتبس، وتنشط كل نقيصة بدرجة مؤذية، كأن أهل الأولمب يلتقون لتبادل النشوق.

إن الحياة تسير قدما، ونحن نطارد فكرة عابرة، أو يطاردنا خوف أو أمر من ورائنا. أما إذا التقينا فجأة بصديق فإننا نقف، ويبدو لنا سخف حرارتنا وتعجلنا، فالآن نحتاج إلى الوقوف، وإلى التملك، وكذلك إلى القدرة على الإفادة في اللحظة الراهنة مما يكنه القلب من مصادر الثروة. إن اللحظة الراهنة هي كل شيء، في جميع العلاقات النبيلة.

Unknown page