Mujtamac Madani Wa Thaqafat Islah
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية للفكر العربي
Genres
أما المجتمع الذي تسوده فردية قاهرة، بفعل قسر يحطم البنية الحضارية للمجتمع، فردية تقطع علاقات التداخل والتفاعل بين أبنائه، وتحجب فعاليته وترابطه الجمعي بين أبنائه، وبينه وبين المجتمعات الأخرى (شأن مصر بعد انهيارها الحضاري)، مثل هذا المجتمع يفقد قدرته على العطاء الإبداعي الجمعي، أي يفقد إرادة جمعية للبناء والتغيير وإبداع المعرفة، مثال ذلك خبرة المجتمع عن الطقس والفصول والتقويم السنوي وغير ذلك مما أبدعه المصريون القدماء، هذه الخبرة ليست وليدة تأمل فردي، بل تأمل أجيال المجتمع في تعاقب وترابط ومصالح مشتركة تشكل بؤرة اهتمام النشاط الاجتماعي وحياة في جغرافيا مشتركة.
وحين نتحدث عن العمل والمعرفة، حري بنا أن ندرك أنه ليس أي نشاط يفضي إلى فكر ويولد معرفة علمية، بل نشاط منهجي مشترك يعكس مصالح مشتركة، نشاط استقصائي ومجتمعي متفاعل وفق خطوات وقواعد متعارف عليها، النشاط الاستقصائي هو بذرة التجريب، بذرة حوار الذهن مع الواقع لفهم الظاهرة، ومراجعة الواقع في إطار شهادة مجتمعية، حوار الذهن مع نفسه (الذي هو رصيد خبرات مجتمعية) ومع الواقع إزاء الظاهرة، وهو حوار نقدي يلتمس الخطأ والصواب دون تقليد أو انقياد، فالذي أنشأ الحضارة وأقام الثقافة هو جدل الإنسان مع الواقع من جهة، وحواره النقدي مع النص الموروث من جهة أخرى، فإن تفاعل الإنسان من حيث هو مجتمع مع الواقع، وجدله معه - بكل ما ينتظم في هذا الواقع من أبنية اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية - هو الذي ينشئ الحضارة ويدفعها قدما ماديا وروحيا. (6) أثر تجفيف منابع الثقافة المصرية
ومع جفاف منابع الثقافة القومية، وغياب العمل المجتمعي المعبر عن العلاقة الإبداعية بين الإنسان والبيئة في صورة معرفة، ومع تعاقب الغزاة والتسلط غاب الوعي التاريخي أو الوعي بالتاريخ، وتعطلت قدرة المجتمع على صياغة صورة عن ذاته ممتدة من الماضي إلى مستقبل يهدف إليه بجهده علما وعملا عبر الحاضر، فالأمة تفكر لنفسها وبنفسها، أي يكون لها فكرها المستقل، ويتوفر لها ركن من أركان الإرادة الجمعية حين تعي ذاتها التاريخية في استجابة لتحديات مفروضة على هدي مشروع عملي مستقبلي، والوعي بالتاريخ الذي أعنيه هو إطار نسقي للوعي بالذاتية القومية في بعدي الزمان والمكان، أعني تاريخية علاقة المجتمع بالبيئة في امتداد زماني وعلاقته بالآخر، أي بالمجتمعات الأخرى، سلبا وإيجابا في سياق الفاعلية.
لهذا سقطت الحضارة؛ إذ إنها رهن التحرر والانتماء، التحرر في إدارة الأدوات الثقافية إدارة واعية على الصعيد المجتمعي، وبدون التحرر تسقط الإرادة المجتمعية، وينتفي نفوذ المجتمع في تطوير ثقافته وإبداعها، وفي الحوار مع الثقافات الأخرى، لأن الحضارة أيضا تحرر الوعي بالذات أو الانتماء الواعي، وإذا سقط هذا الوعي سقطت مشاعر النحن وحركة النحن، وانتفى الشعور بالأزمة على صعيد المجتمع في شموله وهو أساس الحافز إلى التغيير، وانتفى الشعور بالتحدي المشترك، والفعل المشترك، والصورة المشتركة للجميع، ويبقى للناس الوعي بالتمزق، والوعي بالخواء وتفاهة الحياة، ولا نستطيع أن نقول هناك عقل مصري جمعي يواجه التحدي، ويستجيب بفضل قدراته المجتمعية فكرا وثقافة وإنتاجا، والحضارة استجابة فكرية ومادية منتظمة مجتمعيا ضد أسباب الفوضى والتمزق وضد عوامل الفناء. (7) الانتماء فعل مجتمعي نشط
والانتماء رهن وعي بالذاتية القومية على امتدادها التاريخي الاجتماعي في سياق فعل مجتمعي نشط وهادف تزدهر وتتعزز من خلاله هذه الذاتية، إذ إن هذا الوعي ذروة التلاحم بين الذات الجمعية، وبين الواقع الحي بوصفه عملية تاريخية، أو هو تعبير عن إدراك أبناء المجتمع لخصائصهم بوصفهم شخصية قومية متمايزة لها بعدها التاريخي، ولعناصر ثقافتهم ممثلة في السلوك والقيم والعواطف والآمال والطموحات والمصالح المشتركة وكل ما يشكل قوة ربط وتلاحم، ويمثل عامل تضامن ووحدة على الصعيد القومي، ويسبغ على النشاط العملي الاجتماعي طابع الوحدة والتجانس، وتتحقق من خلاله للمجتمع رؤية مشتركة لحمتها وسداها تاريخه وخصوصيته، وحصاد ذلك مجسد في ثقافته وجهده في تغيير الطبيعة وبناء حضارته ونظرته إلى المستقبل وإلى الحياة بعامة، ثم إدراك المرء لنفسه بوصفه عنصرا متمايزا عن الطبيعة التي يغيرها، وبوصفه وحدة في مجتمع متكامل يشكل نسقا تاريخيا له لغته ورموزه وطقوسه وعقائده وقيمه وسلوكه وأسلوبه في التعامل مع النفس ومع الآخر مجتمعا وطبيعة.
والوعي بالذاتية القومية ليس نسقا سلبيا، بل إنه عنصر نشط إبداعي فعال؛ لأنه وليد التلاحم الإنتاجي بين الذات والمجتمع والطبيعة، والذي يعبر عنه في صورة منتج حضاري ورغبات وحاجات مطردة التغيير تدفع إلى مزيد من الإنتاج الإبداعي المعبر عن خصائص الذات الخالقة، وعن صورة انعكاس العالم الموضوعي في أذهان أبناء المجتمع، وعن ثراء هذا العالم، وبقدر ما يكون الوعي صورة للانتماء الاجتماعي، وبقدر ما يكون استيعابا نقديا لثقافات الماضي وإمكانات الواقع، يكون تعبيرا عن الحاجات والتطلعات الجمعية التي تشكل حافزا مستمرا للبحث العملي والعلمي معا في سياق حركة ممتدة متعددة الأبعاد.
ولعلنا في إطار هذا الفهم ندرك خطر المعزل العنصري الذي فرضه الغزاة المتعاقبون على الشعب المصري، وما أفضى إليه هذا العزل والتسلط من تجفيف لمنابع الثقافة، وقطع كل صلة تربط المصري بجذوره التاريخية، ولم يبق له غير الأسطورة، ولم يعد لشعب مصر حضور فعال على ساحة التفاعل الاجتماعي والبناء والتغيير، ولم تعد له قضية قومية. (8) البحث في الجذور
إن التحرك على طريق النهضة يستلزم، من بين أمور أخرى، إجراء دراسة حالة وصولا إلى تشخيص جيد وفهم سليم للإنسان والمجتمع يكون من خلال فهم البيئة التاريخية ومعرفتها في نشوئها وتطورها، وصراعاتها ومعاناتها، والمواقف المختلفة، والغذاء الفكري وتحولاته ... إلخ، وسياق هذا كله وانعكاسه في الفكر والسلوك، ليس الهدف رواية وقائع، بل دراية بكيف حدثت الوقائع، وماذا فعلت بالإنسان المصري، وما هو طريق الإصلاح، إصلاح بيئة المجتمع، وتصحيح التاريخ، وإيقاظ الوعي على هدي حس تاريخي صادق، ليكون هذا كله مقدمة أساسية لفعل مجتمعي نشط يعبر عن إرادة جمعية وهدف مستقبلي مشترك، إنها قضية قومية لها أولوية قصوى، وهي إشكالية علمية أيضا سوف تتعدد وتتباين، وقد تتصارع بشأنها الآراء إلى حين تصحيح النهج والمسار.
لهذا كله تمثل الدراسات المعاصرة النقدية عن الحضارات دعوة إلى صحوة، أو هي صدمة بكل ما تعنيه كلمة صدمة من مسئوليات وواجبات علينا أن نضطلع بها أفرادا ومؤسسات في مجالات الحياة العامة والسياسية والإعلامية والعلمية والتعليمية وفي التنشئة الاجتماعية، وإنما سوف يتمخض عنه الحوار العلمي والبحث الأكاديمي بشأن موضوع نشأة الحضارات الإنسانية ومسارها وما شاب التاريخ من تزييف، لا بد وأن يكون مؤشرا لمنحى جديد في حياتنا حتى نخطو أولى خطواتنا على طريق النهضة في مواكبة مع التغيير المادي للمجتمع وفعالية أبنائه.
إنني أتوقع - على سبيل المثال - أن تكون هذه القضايا موضوعا لأطروحات علمية في الدراسات العليا في الفلسفة والتاريخ والاجتماع وغير ذلك من علوم وثيقة الصلة، وقد يكون من الملائم أن تتضمن دروس التاريخ، بل والمطالعة، في المدارس مقتطفات من آراء العلماء في حضارة مصر، ومختارات من الأدب المصري القديم أسوة بالأدب في مراحله المختلفة حتى الحديث، وأن تتضمن دراسات عن إنجازات مصر في مجال السبق الحضاري في الفلك والفلسفة والطب والأخلاق والدين ... إلخ، وحري بنا أن نعيد صياغة دروس الرياضيات والفلسفة لنقول كمثال: نظرية فيثاغورس التي تعلمها في مصر، أو نقول: معبد دلفي المصري في اليونان، أو فلاسفة اليونان تلامذة الفلسفة المصرية وليس في هذا خطأ، بل الخطأ هو البقاء أسرى تزييف التاريخ إذا ما ثبتت التهمة، والخطأ أن نظل ضحية مشاعر الدونية وحدود التحريم دون مسوغ موضوعي، والخطأ أن نردد مع خصوم الحضارة المصرية القديمة قولهم إن هي إلا أساطير أولين، أو أن التنقيب في أطلال الماضي مضيعة للوقت أو ردة إلى وثنية مزعومة، وعلينا أن نقطع صلتنا بكل هذا الماضي «الهمجي» واللحاق بالعالم الحديث الذي بات قرية صغيرة بلا حدود قومية، أو أن العلم سوف يحل مشكلاتنا وقد كفانا عناء البحث عن حل لقضايانا الحاضرة وأزمتنا الراهنة، وأن البحث عن الماضي مشكلة محلية وثانوية باتت غير ذات موضوع.
Unknown page