Mujtamac Madani Wa Thaqafat Islah
المجتمع المدني وثقافة الإصلاح: رؤية نقدية للفكر العربي
Genres
ثقافة تطوير لا إصلاح
قضيتنا تطوير وتحول حضاري وليست إصلاحا أو تنمية، فليس في واقع البنية الاجتماعية والثقافية بحالتها الراهنة ما يستحق أن ننميه، وأزمتنا هي أزمة فعل التطوير الاجتماعي الحضاري في إطار من ثقافة الفعل الإنتاجي، لا ثقافة الكلمة والسكون، وثقافة الانتماء لا الاغتراب التاريخي، وليس الهدف البقاء لمجرد البقاء عيالا على الآخر المتقدم المنتج حتى وإن زينا هذا اللغو بقولنا، كما قال فقيه شعبي: «لقد سخر الله لنا الغرب»، وإنما الهدف هو الوجود، والفارق بين الاثنين أن البقاء اطراد عشوائي شأن بقية الحيوانات والقناعة بالميسور، ولكن الوجود مشروع إنجازي إرادي يحققه المجتمع بجهد الفكر والعمل، ويحقق من خلاله ذاتيته أو هويته في تكامل متطور، والوجود صراع وتحد، وتكيف مطرد في استجابة لهذه التحديات المتواترة، ولهذا فإن ثقافة المجمع هي آلية التكيف، ودعامة التطوير والتغيير، وتتصف بالمرونة الدينامية وغرس روح الفعالية والنهم المعرفي باعتبار ذلك قيمة أخلاقية ومثلا أعلى.
وسبق أن قلنا في دراسة لنا (الترجمة في الوطن العربي - الواقع والتحدي، المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 1991) أن المجتمعات، أو لنقل الثقافات الاجتماعية في رأينا صنفان، والتصنيف ليس قدرا أبديا، وإنما السيادة والغلبة لهذا أو ذاك رهن شروط وجودية للنهوض أو الانحسار، أقول صنفان هما: ثقافة الوضع، وثقافة الموقف، ثقافة الوضع قانعة بحالها، راضية برصيدها التاريخ الموروث، والمعرفة عندها، أو قل العلم الأسمى، لا يتجاوز حدود تأمل هذا الرصيد، وأقول السلف والأولين، والأمل عود على بدء، ومن ثم عزوف عن الإبداع والتجديد، والزمان امتداد متجانس فارغ من الأحداث، إلا الحدث الأول والأهم، فهو بداية التاريخ وغايته، وليس غريبا أن تسود هذه الثقافة مقولة: «الشرور في المحدثات، فكل محدث بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.»
هذا بينما ثقافة الموقف إرادة واختيار، والإرادة فعل، والاختيار عزم على التغيير، والتجديد، وفهم مجريات الأحداث والظواهر، وتراكم متجدد متطور لرصيد المعلومات والمعارف، ومن ثم تطور وارتقاء مطرد للهوية الثقافية التي هي عين الفعل الاجتماعي النشط في الزمان، وليس السكون والبحث عن هوية مجهولة في غيابات التاريخ.
ثقافة الوضع تقف على قارعة طريق الحياة، تتأملها تجليات لإرادة من خارجها، وثقافة الموقف تخوض غمار لجج نهر الحياة الصاخب الدافق، تتجدد وتتغير، وتبني وتتحدى وتستجيب تأسيسا على الفهم والوعي والعقل الحر الناقد الفعال، إنها إبداع الحياة وصناعة التاريخ.
وليس غريبا أن علاقة الثقافة بالتطوير باعتبارها أحد المقومات الأساسية تمثل اليوم موضوعا رئيسا في الدراسات الثقافية الاجتماعية، وموضوعا محوريا في الجهود النهضوية سعيا لتأويلها تأويلا جديدا داعما للحراك النهضوي الاجتماعي، وهذا ما فعلته أوروبا النهضة وما فعلته اليابان وتفعله الصين الآن، والثقافة هنا ليست فقط مجرد مشاهد الإنتاج الثقافي من أفلام وندوات وكتب وحفلات وكأنها جزر معزولة عن النسيج الاجتماعي العام، وإنما ينصب الاهتمام على النماذج الذهنية أو المنظومة الثقافية الذهنية المحددة للقيم والأفكار وما ينبغي وما لا ينبغي أن أفعله، أي حاكمة لطريقة النظر والتفكير في الأمور والعلاقات وما يتوجب على المرء من سلوك، إنها بذلك القاعدة الأساسية التي تنتظم حولها أنشطة المجتمع والمصداقية الاجتماعية لهذه الأنشطة وضمان أن تكون ثقافة تغيير ديمقراطية النهج، وثقافة خلق للثروة وليست القناعة بالموجود، وطبيعي أن تأويلا جديدا للثقافة يعني توترا مرحليا بين ثقافة تقليدية وتطوير يستلزم تغييرا في أنماط السلوك.
ولهذا عمدت أكثر هذه الدراسات إلى بيان توزيع المجتمعات بين مجتمعات نزاعة إلى الحركة والتغيير والتقدم أو ناهضة تسودها ثقافات تقدمية داعمة للتقدم، ومجتمعات متخلفة تسودها ثقافة سكونية، وعلى الرغم من أننا لا نؤمن بأن مثل هذا التقسيم هو تقسيم جامد مطلق الصواب، وإنما هو نسبي مشروط بظروف وأن المجتمعات قابلة لظروف بعينها سياسية أو اقتصادية ... إلخ، أن تكون هذا، وقابلة لظروف أخرى أن تكون ذاك، وإنما نرى من المفيد أن نعرض هنا ما أجمله الدارسون من خصائص تميز هذه المجموعة أو تلك:
الثقافات التقدمية
الثقافات السكونية (1) تؤكد على بناء المستقبل والتأثير في المصير بجهد وإرادة الإنسان/المجتمع، وترى الحقيقة والصواب ثمرة بحث علمي لعلماء العصر من أبناء المجتمع. (1) تؤكد على الحاضر أو الماضي وترى الجزاء والحقيقة والصواب من فم رأس الدولة أو التقليد. (2) محورية العمل من أجل حياة جديدة قوامها الإبداع والإنجاز. (2) العمل عبء، وأفضل الثروات ما يأتي مجانا مع قناعة بالموجود. (3) المبادرة الفردية والإبداع أساس للتقدم والتطوير. (3) قمع المبادرة الفردية والإنجاز، وترى الحياة والسلامة داخل النص: نص التقليد ونص إرادة السلطان. (4) الادخار أصل الاستثمار والأمن المالي وضمانة اجتماعية. (4) الادخار - إن وجد - فهو شأن فردي أو ليكن لي يومي الذي أعيش فيه. (5) التعليم مفتاح التقدم وإشباع وتحقيق للذات، وأداة تغذية وصياغة واستكشاف جديد وإثراء معرفي. (5) للتعليم أهمية هامشية وليس طريقا للإبداع والتفوق في الإنجاز وإنما تأكيد للتقليد. (6) الجدارة أساس التقدم والترقي. (6) المحسوبية أساس تسلق النظام الهرمي. (7) الثقة تمتد إلى نطاق المجتمع العام. (7) الثقة قاصرة على الذات أو الأسرة أو الطائفة، والتهرب الضريبي للإفادة الذاتية. (8) القانون أكثر التزاما وأقل فسادا. (8) القانون إرادة السلطة أو رجال الدين. (9) السلطة تميل إلى الانتشار وتكون قسمة مشتركة ومسئولة عامة وموضوعا للمحاسبة. (9) تراث السلطة استبدادي، والسلطة شديدة المركزية، فردية مطلقة. (10) نفوذ السلطة الدينية محصور في نطاق ما يخص الدين وسؤال العامة. (10) نفوذ السلطة الدينية يمتد إلى كل مجالات الحياة متجاوزا خصوصيتها وتخصصها، وتابعة للسلطة السياسية وضمانة لاستمرارها. (11) آليات المجتمع في التنشئة والإعلام والتعليم وممارسات السلطة داعمة للتطوير ولمصداقية القيم الثقافية النهضوية. (11) ثقافة التنشئة داعمة للتقليد والانحياز والتبعية والولاء الأبوي مع تأكيد فضيلة الطاعة والخضوع للسلطة، وأن الفرد رعية والحاكم هو الأب الراعي. (12) الفرد مواطن وفاعلية إيجابية في حرية ومساواة بين الجميع الحاكم والمحكومين ومصدر للتشريع والسلطات. (12) أبناء المجتمع رعايا، والحاكم هو الأب الوصي له البيعة، والفعالية استجابة في طاعة وولاء لأمر الحاكم، هو المرجعية الأعلى ولا راد لمشيئته. (13) ثقافة التجديد والتغيير وتداول السلطة تأسيسا على الاقتراع العام الحر، والزمان حركة مجتمعية مستقبلية مطردة التقدم بفضل الفعالية الإنتاجية لمواطنين أحرار. (13) المحافظة، رفض التغيير، أي رفض دور الزمن كحركة متقدمة ورفض لفعالية الإنسان، وإنما الزمن دوراني الحركة والأمل ردة إلى عصر ذهبي مضى.
وجدير بالإشارة هنا إلى أن بلدان أمريكا الجنوبية التي أخفقت في التقدم بعد أن طبقت النصائح الأمريكية للإصلاح، عادت لتسأل السؤال نفسه الذي اعتدنا نحن أن نسأله: لماذا تخلفنا وتقدم غيرنا؟ واختلف المفكرون هناك زمنا طويلا دون إجابة، وأخيرا بدأ الاهتمام ببحث دور المنظومة الثقافية وكذا مسئولية السياسيين ودور الاثنين في شيوع التخلف والفساد.
Unknown page