Muhawarat Alfred North Whitehead
محاورات ألفرد نورث هوايتهد
Genres
ولذا فإن الاعتقاد بأن العودة إلى الموضوع الواحد في أكثر من مكان تكرار لا فائدة منه اعتقاد ليس له محل. فلم تكن مهمتي أن أبتر أو أقتلع أو أقطع، وإنما كانت مهمتي تسجيل ما قيل.
إذن فماذا قيل؟ وإلى أي حد يعتبر النص هنا موثوقا به؟ عند الاشتغال بتدوين المحاورات من الذاكرة بنصها تقريبا حرفيا بقدر ما يستطيع الكاتب، نجد أن الثلاثين السنة الأولى هي أشق السنوات جميعا، وقد بدأت ممارسة التدوين وأنا تلميذ بالمدرسة في أول يناير من عام 1901م، تابعتها كما يتابع كاتب الاختزال المحاضرات، ثم كما يتابع الصحفي الأخبار (وسرعان ما يدرك الصحفي أنه إذا أخرج القلم والورق على مرأى من شخص لم يتعود المقابلة، فإن هذا الشخص المنكود يكاد يتجمد لتوه). ثم تلت ذلك سنوات اختزنت فيها أحاديثي عن كل أنواع الرجال وكل ظروفهم، المشهور منهم والمغمور. ولما حل عام 1932م، حينما بدأ اجتماعي هذا بهوايتهد، بات تسجيل المحادثات عندي شيئا أكثر من ذلك، وربما يجدر بي هنا أن أضيف أن الذاكرة تكون أقرب إلى الدقة بعد ثمان وأربعين ساعة منها بعد أربع وعشرين ساعة، كأن الفترة الطويلة تكسب المادة من الوقت ما يغرقها إلى الأعماق لكي تطفو مرة أخرى إلى مستوى الوعي. وما أشبه ذلك بتجربة المستمع إلى حفلة موسيقية، فإن الموضوعات بعد العزف مباشرة يشق تذكرها، أما في اليوم التالي، أو الذي يليه، فإنها تعود من تلقاء نفسها، بيد أن هوايتهد توقع الشك في دقة التسجيل (ولا أضمن صحتها مائة في المائة) فقال عما دونت في الأمسيات الأخيرة، حينما كنا معا: «يجدر بك أن تدون ملحوظة بأن هذه المحاورات قد قرأناها معا، وأنها تطابق ما قيل، وألا تشكك الناس فيها، بل أنا نفسي ربما لا أعتقد في صحتها ...»
وما مبلغ اعتقادي في دقتها؟ في الأحاديث العامة التي لا تعدو أن تكون انتهازا للمناسبات ومتابعة للفكر، تكون المحاورات حرفية في أغلب الأحيان، مع التنبه إلى التعابير المميزة خاصة. أما في أحاديث هوايتهد المطولة، فإن استخدامه للغة ينم عن دقة رياضية، وسيطرته على الإنجليزية كاملة، والتفكير ذاته يتركز أحيانا إلى درجة تجعلني أصغي إليه في ذهول خفي: «كيف أستطيع الاحتفاظ بكل هذا؟ وكيف آمل أن أدونه في صورة شبيهة - ولو إلى حد - بالوضوح الذي يتميز به وهو يلقيه شفاهة؟» والجواب أني كثيرا ما أعجز عن ذلك. وفي هذا الصدد أردد ما جاء باللافتة المرفوعة على إحدى قاعات الرقص في معسكر غربي للتعدين: «لا تقتل عازف البيانو،
•••
واستمر الحال على ذلك تسع سنوات، من عام 1932م إلى عام 1941م، وقد دونت نصف الكتاب، دون أن يعلم أحد - دون أن يعلم الكاتب نفسه - أنه سيخرج على صورة كتاب، ولم يعلم آل هوايتهد أني كنت أسجل أحاديثهم، ولم يكن هناك ما يدعو إلى علمهم، «إن ذلك من حسن التدبير يا هوراشيو.» ثم قدمت الأحاديث للصحف، وكنت أرسل صورا مما ينشر إليه في حينه (ولم يذكر اسمه قط في مطبوع) وذلك إنصافا من ناحية، ولكي أتأكد من ناحية أخرى إن كنت قد احتفظت بالمادة صحيحة وفهمتها فهما جيدا.
ثم كانت الحرب الثانية، وكانت زوجه وابنهما في لندن تحت القنابل، وكان حفيدهما في إنجلترا كذلك عرضة لوابلها، كما قالت مسز هوايتهد. وقد طبعت هذه المحاورات حتى خريف عام 1941م، وبعثت بها إليهم من قبيل التسلية، ولم أذكر شيئا عن نشرها حتى ديسمبر من ذلك العام، وسيجد القارئ في حديث ذلك التاريخ رأي الفيلسوف في إمكان الانتفاع بها. هل كان العلم بالاحتفاظ بها يوهن من تلقائيتها؟ إن أحدا لم يفكر في ذلك؛ فقد كان هناك الكثير غير ذلك مما يثير الاهتمام.
وبعدما تقاعد هوايتهد في عام 1937م، كان لا بد من أن يتناقص عدد زائريه. وقد واظب كثير من زائريه على الحضور، وبعضهم من أقاصي أركان المعمورة، ولكن تقدم السن والصمم جعلا المؤانسة على المستوى الأول غير ممكنة التحقيق. ومع هذا، فبالرغم من أن الاجتماعات الكبرى ربما استخلصت أوجها أكثر من أفكاره، وأظهرت جوانب أكثر من شخصيته، فإن مرور الزمن واقتصار المحاورات على أربع أو حتى على ثلاث جعله يوغل في الأفكار التي كان يتميز بها بصفة خاصة؛ فقد كان من قبل لا يحب أن يسأل عما جاء في كتبه المنشورة، ولا يود المساس بموضوعها، فهي مطبوعة يطلع عليها كل قارئ، وقد بذل أقصى جهده في عرضها في صيغة مفهومة، فكان يحب الخوض في شيء جديد.
والآن جاوز الثمانين من عمره، ولم يبد عليه البتة ما يدل على ضعف قواه العقلية، بل لقد أخذ التيار في الصعود. وفي سنواته النهائية، حينما كان يتخذ فندق أمباسادر مسكنا له، لما كانت جلساتنا تبدأ مبكرة في السابعة والنصف مساء، وتستمر حتى منتصف الليل، كان ينتهي من الحديث وهو أوفر نشاطا مما بدأ، وكان اسم الفندق - أمباسادر أو السفير - كثيرا ما يذكرني برواية هنري جيمس «السفراء»؛ لأن هوايتهد كان حقا سفيرا بأروع ما تحمل الكلمة من معنى.
وهو يدين باحتفاظه بقواه لاعتداله في كل أمر من الأمور؛ كان شديد الإمساك، يتعفف فيما يأكل، ويسمح بالنبيذ، ولا يدخن، وكأنه لم يشته المنبهات قط. إن منظر هذا الرجل الذي جاوز الثمانين من عمره ولا يزال متورد الوجه، صافي العينين، نقي البشرة، لا تبدو عليه سمة من سمات الانهماك التي يتميز بها الرجال عامة، هذا المنظر - كلمات تقدمت به السن - لم يكن أوهى عوامل تأثير شخصيته. وعامل آخر من عوامل التأثير أقوى من هذا، رؤيته وهو يعيش في مسكن من أربع حجرات حياة أبعد مدى وأكثر حرية وأوسع أفقا في العقل والروح من حياة الكثيرين في بحبوحة ورغد. إن المرء يعتاد التسامح مع المسنين في ولاء بنوي لما يبدر منهم من انفعال وشذوذ، بيد أن هوايتهد لم يتصف بما يدعو إلى التسامح؛ فقد كان هدوءه وجلاله واتساع أفقه يرد توافه الحياة اليومية إلى قيمتها الحقيقية، ولكن المبادئ العامة عنده كانت ترتفع إلى قضايا هامة ينبغي الدفاع عنها بحرارة شديدة. لم يعل هوايتهد على ميدان المعركة، ولكن ميدان المعركة كان رفيع المستوى؛ ومن أجل هذا كان يتميز بصفات عجيبة؛ فقد قابل مشكلات كثيرة وأوجد لها الحلول، وهي مشكلات لم يدرك وجودها قط أكثر الناس. كنت تحس في حضرته أنك أمام رجل لا يخاف، لا يخاف من أعداء البشرية المألوفة؛ المرض والفقر والشيخوخة وسوء الحظ والموت، بل ولم يخش ما في مصير البشرية من ألغاز عويصة، أو ما في الكون من متاهات. في تلك المجالات المريعة كان مطمئن النفس مرتاح الضمير، وهذا معنى أن يكون المرء فيلسوفا؛ أن يصادق العدو، وأن يروض المجهول في دخيلة نفسه. كان الناس يرون فيه اعتياد النصر، وكل انتصاراته - التي نسيها من أمد بعيد - كانت إلى جانبه تعمل وتجاهد، دون أن يراها أحد، وإذا بالناس يفاجئون عندما يتطلعون إلى قمته بكثرة ما يملك من العربات الحربية والفرسان.
قال مرة إن الكتاب المقدس بدلا من أن ينتهي بسفر الرؤيا للقديس يوحنا، كان ينبغي أن ينتهي برثاء بركليز. وفي هذا الرثاء عبارتان؛ إحداهما تليق بفاتحة هذه المحاورات، والأخرى بنهاية حياته، وهما: «ليس لدينا لجارنا نظرات سوداء أو كلمات ساخطة إذا كان يستمتع بحياته على طريقته الخاصة.»
Unknown page