Mughalatat Lughawiyya
مغالطات لغوية: الطريق الثالث إلى فصحى جديدة
Genres
من الممكن إذن، إذا فشلت الترجمة والتوليد والنحت، أن نعرب المصطلح، أي نجعله عربيا بإخضاعه لمقتضيات العربية الصوتية والصرفية، ومن الممكن حتى إبقاؤه باللغة التي وضع بها حتى يتم (أو لا يتم) الاتفاق على مقابل له بالعربية، فلا حياة للمصطلح بدون استعماله، والمصطلح أيا كانت لغته ليس هو جوهر المشكلة وإنما المشكلة هي اللغة من حيث هي وسيلة الطالب في التلقي والاستيعاب والتعبير، بل وفي التفكير والتصور، والنص العلمي ليس مجموعة من المصطلحات بل هو وصف وشرح وعرض وتحليل تتخللها المصطلحات، ولسنا في هذا الأمر بدعا بين الأمم؛ فإن روسيا تأخذ المصطلحات الغربية وتكتبها بحروف سلافية، والصين تأخذ مصطلحات الفريقين وتكتبها بحروف صينية، ولا ننس أن أسلافنا العرب في العصر العباسي عند بدء تعريبهم العلوم اليونانية القديمة استعلموا الكثير من المصطلحات اليونانية كما هي فقالوا: قاطيغورياس، إيساغوجي، طوبيقا، أنالوطيقا، أريتيميتي، الدوسانتر، المالينخوليا، الديابيطس ... إلخ. لم يكن السلف في صعودهم يعانون عقدة النقاوة اللغوية؛ فأقبلوا بثقة على تعريب المصطلحات التي تعذرت ترجمتها بمقابل عربي دقيق من السريانية والإغريقية والفارسية. ومن المعلوم أن ابن سينا قد عرب ثلث المصطلحات التي استخدمها في الفلسفة والطب.
للأستاذ محمد علي زيد، الرئيس السابق لشعبة الترجمة العربية باليونسكو، خبرة خاصة بهذه المسألة يليق بنا أن نفيد منها. يقول سيادته: «ومن تجربتي في الترجمة على مدى أكثر من أربعين عاما، أسجل هنا أن الترجمة الدقيقة تقتضي من المترجم في أحوال كثرة أن يتبنى اللفظ الأجنبي بحروف عربية، وإلا اضطر إلى مقابلة اللفظ الواحد بعبارة طويلة عديدة الكلمات فيما يمكن تسميته ب «الترجمة التفسيرية» التي يندر أن يسمح بها السياق، في حين أن تبني اللفظ نفسه - مع شرح مدلوله في هامش مرة أو مرتين - يحل المشكلة ويثري اللغة.»
29
ومنذ زمن مبكر (1945) عرض الأستاذ سلامة موسى لمشكلة المصطلح العلمي ورأى فيها رأيا يجمع بين البساطة والعمق: «فالعلم تفكير جديد يحتاج إلى لغة جديدة، وهذا ما حدث في أوروبا، فإن الأوروبيين حين شرعوا يفكرون تفكير المنطق والتجربة، تفكير الذهن واليد، أي التفكير العلمي، وجدوا أن دقة التعبير تحتاج إلى كلمات جديدة ليست لها أية ملابسات قديمة؛ فاخترعوا هذه الكلمات ليس من لغاتهم بل من لغات قديمة لا يعرفها الجمهور، وبذلك أصبح لكل علم لغته الخاصة التي لا يمكن أن يقال: إنها إنجليزية أو فرنسية أو روسية، بل هي لغة العلم، فكلمة «بيولوجية» لا يعرفها رجل الشارع في لندن أو باريس أو نيويورك؛ لأنها كلمة مشتقة من اللاتينية، كي تعبر عن معنى لم يكن الجمهور في حاجة إليه قبل مئتي سنة مثلا. وقس على هذا كلمات كثيرة مثل: المندلية في الوراثة، اليوجينية في إصلاح النسل، السيميائية في المنطق اللغوي، والإسبكتروسكوب، والتلسكوب، والميكروسكوب ... والتلغراف، والهرمونات من الغدد والفيتامينات ... إلخ.»
30
كتب الأستاذ سلامة موسى هذا الكلام منذ ثلثي قرن، فلمس لب المشكلة وقدم حلا لو انتبه إليه الأكاديميون في ذلك الوقت، وقدروه حق قدره، لعربوا العلم دون تردد ووفروا على الجميع سنوات طوالا من التهيب والتوجس والمماحكة، فجميع هذه الكلمات العلمية، وآلاف غيرها «يعرفها الياباني والإنجليزي والهندوكي والأرجنتيني، ولا يحاول واحد منهم أن يترجمها إلى لغته؛ أولا: لأنه يحس أنه إذا اختار كلمة من لغته فإنها تحمل معها ملابسات
31
لا يعرف كيف يتخلص منها، وثانيا: لأنه عندئذ ينعزل بكلمة خاصة ليست في لغة هذا العلم التي يعرفها العلميون في الأقطار الأخرى ... وكلمات العلم أجنبية في جميع اللغات، وليس علينا حرج أن تكون كذلك أجنبية في لغتنا، بل إن رجال العلم الأوروبيين يأخذون كلمات المتوحشين حين تكون لها دلالة في الأنثروبولوجيا مثلا، كما نرى في كلمتي «طبو» و«طوطم».»
32 «والمصري الذي يتخصص في علم ما، يحتاج إلى متابعة الدراسة مدى حياته لهذا العلم، ولا غنى له عن كلمات هذا العلم التي يستعملها جميع المتخصصين فيه في القارات الخمس، وهو يفكر بهذه الكلمات، ومن التكليف المرهق أن نطالبه بترجمة هذه الكلمات إلى لغتنا؛ لأن كل ما نحتاج إليه أن نعرف هذه الكلمات وأن نصوغها في صيغة عربية إذا كنا سنؤلف بها في لغتنا الدارجة، أو لا نصوغها إذا كانت ستبقى مقصورة على المتخصصين.»
33
Unknown page