عدلي يكن
شرفني عدلي باشا بصداقته ومحبته، وكان كسعد باشا يكبرني سنا ومركزا، وقد كان وكيلا معينا للجمعية التشريعية، وكان سعد وكيلا منتخبا، وكان رئيسا للوزارة التي فاوضت اللورد كرزون، وكنت وزيرا في تلك الوزارة، ومع أنه رجل تعلم تعليم أولاد الذوات في القرن التاسع عشر، ولم يكن يحمل شهادات عالية، ولكنه عاش طويلا في فرنسا، ومرت به تجارب كثيرة، وخالط كبار القوم، وكان في مبدأ حياته سكرتيرا لنوبار باشا رئيس الوزارة المصرية في عهد الخديوين، وتقلب في عدة مناصب مما أتاح له أن يشهد حوادث عدة، ويستفيد منها في سداد الرأي وقوة الحكم وبعد النظر.
كان عدلي باشا سياسيا حكيما، بل هو في رأيي من أكبر رجال السياسة، وكان على الرغم من ترفعه ومظهره الذي لا يدل على عزم وهمة، صاحب إرادة قوية، وهمة عالية ... وكانت صفته الكبرى اتزانه وصحة حكمه على الأشياء؛ لأنه كان كثير التفكير يوازن بين كل الاعتبارات إذا شرع في اتخاذ قرار في أي موضوع.
وقد امتاز عدلي - رحمه الله - بالترفع عن الخصومات الحزبية الرخيصة، ومع أنه ترأس حزبا، فلم يكن رجلا حزبيا بل كان رجلا قوميا عاما، ولم تدفعه حزبيته في يوم من الأيام إلى مخاصمة أحد، أو إلى الدخول في جدال شخصي، هذا إلى نزاهته، وقدرته الكبيرة على التوجيه والإرشاد، وكان يؤثر العمل المفيد الهادئ بعيدا عن التأثر بالعواطف، أو الاندفاع مع أهواء الجماهير، ولم تكن وطنيته تسمح بالتفريط في أي حق من حقوق بلاده، وقد رأيت كيف كان موقفه من مفاوضاته مع اللورد كرزون، وكيف رفضها وطلق الوزارة بإباء وشمم.
عبد الخالق ثروت
أما المرحوم ثروت باشا، فماذا أقول فيه، وقد كان زميلا وصديقا لي منذ الصبا، ومنذ كنا تلميذين في مدرسة الحقوق؟! كان يسبقني بسنتين، وقد عشنا صديقين ورفيقين طول الحياة، وكان شعلة متوقدة من الذكاء والنبوغ، ولا أذكر أنني رأيت شخصا في ذكائه وألمعيته، وقد أتاحت له ثقافته العالية وسعة اطلاعه أن يكون على جانب عظيم من الإلمام باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية، وأن يكون كاتبا بليغا، ومشرعا قانونيا من الطبقة الأولى، ودستوريا من الطراز الأول.
ولي أن أقول اليوم: إنه لما قبلت الحكم في سنة 1930، كان قد سبق لي التفاهم معه قبل وفاته في شأن تعديل الدستور، حتى نتفادى ما يسمح به هذا الدستور من طغيان الأكثريات على الأقليات، وقد وافقني على ذلك، وأعتقد أنه لو كان حيا في ذلك الحين لكان أميل إلى التعديل منه إلى الإجراء، الذي قامت به وزارة محمد محمود باشا من وقف الدستور والحياة النيابية لعدة سنوات.
وكان ثروت باشا إلى علمه وفضله جم التواضع، راغبا عن المظاهر، وكان من طبقة أولئك الرجال ذوي الكرامة الذين لا يسعون وراء الحكم، بل إن الحكم هو الذي يبحث عنهم ويسعى إليهم ...
وكانت وطنيته صافية صريحة لا شائبة فيها، بل كان متعصبا في وطنيته، وفي التمسك بحقوق أمته ودستور بلاده، وقد لاقت وزارته الأولى نهايتها في نوفمبر سنة 1922 بسبب موقفه الوطني الحازم أمام العناصر الرجعية، التي كانت تحاول الكيد للدستور، وكادت وزارته الثانية تستقيل بسبب أزمة المفتش العام الإنجليزي للجيش المصري وإصرار ثروت باشا على موقفه من إلغاء منصب هذا المفتش، حتى إن المرحوم سعد زغلول باشا - وكان وقتئذ رئيسا لمجلس النواب أيام الائتلاف - طلب مني أن أسعى لديه بما لي من صداقة معه ليخفف من غلوائه في هذا الظرف الدقيق.
ولصديقي المرحوم ثروت باشا من المواقف الوطنية الأخرى ما يشهد بحرصه الشديد على مصلحة بلاده، وتضحياته في سبيل خدمتها، وأذكر أنه رفض رياسة الوزارة حين عرضت عليه في فجر الثورة الوطنية سنة 1919 بعد استقالة رشدي باشا؛ لعدم سماح الإنجليز للوفد المصري بالسفر إلى مؤتمر الصلح، وذلك على الرغم من صغر سنه، وعلى الرغم مما لهذا المركز من مقام عظيم، وبخاصة في نظر الشباب مما كان محل إعجاب سعد باشا في ذلك الحين.
Unknown page