وليس أدل على أن أبا صالح قد كان معذورا حين فارق امرأته، من أن خديجة قد اضطرت زوجها الثاني إلى أن يطلقها بعد أن وهبت له غلاما أسماه سعيدا، وهو قد فارقها لتلك الأسباب التي فارقها من أجلها زوجها الأول؛ فقد كانت سيئة العشرة، بغيضة الخلق، كثيرة الكلام، مرتفعة الصياح، لا ترضى بشيء، ولا ترضى عن شيء، ولكن حظها في هذا الطلاق الثاني كان حسنا أو سيئا لا أدري! فما أكثر ما تختلط أمور الناس على الأذكياء حتى لا يفرقوا بين الخير والشر، فكيف بمن كان مثلي قليل الحظ من الذكاء لا يفرق بين السعادة والشقاء! والشيء المحقق هو أن خديجة لم تكد تطلق حتى مات زوجها وترك لها سعيدا تربيه كما تشاء أو كما تستطيع، ولم تربه كما شاءت أو كما استطاعت، وإنما ربته الطبيعة كما أحبت. وقد زهد الأزواج في هذه المرأة ذات العشرة السيئة والخلق البغيض، وثقلت الحياة على هذه المرأة ذات الحيلة الضيقة والعقل الكليل، فباعت الفجل حينا، والترمس حينا آخر، ثم اختلط الأمر عليها فجنت جنونا هادئا رفيقا، عطف عليها القلوب، وأخاف منها الناس، فسميت «خديجة المعفرتة»، وعاشت من إحسان المحسنين. وبينما كان ابنها سعيد ينمو في ظل هذا الجنون الهادئ المخيف، كان ابنها صالح ينشأ في ظل هذه الضرة التي أظهرت حبا له وعطفا عليه، ثم رزقت البنين والبنات فأظهرت بغضا له وضيقا به. وكذلك نشأ أحد الأخوين في حماية البغض العاقل، ونشأ الآخر في رعاية الحب المجنون.
حدثني أيها القارئ العزيز أكان من الخير أن أعرض عليك تفصيل هذا كله، في أول هذا الحديث فتضيق بي وبصالح وبأمين، وبالسفر الذي يحمل إليك هذا الحديث، أم كان الخير أن أذهب إلى المذهب اليسير الذي اخترته، وأن أحدثك بكل شيء حين يحين التحدث به إليك؟ أنا أعرف أنك ستعاند وستماري، وستذهب في عنادك ومرائك مذاهب مختلفة، فأنت وما تشاء. أما أنا فقد ذهبت المذهب الذي اخترته، وحدثتك بالأمر على النحو الذي آثرته ، وانتهيت منذ حين إلى أن صالحا قد استحم في القناة، ودخل في ثوبه الجديد، وعاد إلى امرأة أبيه مسرورا بهذا الثوب الذي لبسه، مهديا ثوبه القديم الذي ضمه بين ذراعيه وجنبه.
ولكن امرأة أبيه نظرت إليه من رأسه إلى قدمه، فرأت ثوبه الجديد ورضيت عنه، ورأت ثوبه القديم وضاقت به، ثم أدارت بصرها في الحجرة، فرأت ابنها وبنتها قد اتخذا ثوبين باليين كذلك الثوب القديم، يبديان عن الكتفين كما يبديان عن الظهور والصدور، ثم ردت النظر إلى صالح في ثوبه الجديد، ثم أعادت النظر إلى ابنيها في ثوبيهما القديمين، ثم ارتدت عيناها إليها وقد ارتسمت في نفسها الخطة واضحة جلية، ولكنها بشعة بغيضة؛ فإن هذا الثوب الجديد لم يخلق لصالح، وإنما خلق لابنها محمود. ولم يشرق الصبح من غد حتى كان صالح قد لقي من أبيه ومن امرأة أبيه نكرا، فضرب ضربا مبرحا مرض له أياما، وجرد من ثوبه الجديد الجميل ورد إلى ثوبه القديم البالي، وعجز الفتى عن الذهاب إلى الكتاب من غده، وأقام في الدار ملقى في زاوية من زواياها، يهمل في ازدراء ويمرض في عنف، حتى إذا استطاع أن يمشي على قدميه سعى إلى الكتاب ليشقى فيه ببغض العريف وقسوة سيدنا، ولينعم فيه بعشرة أمين.
كذلك عرف أمين قصة رفيقه البائس، فلم يدر عقله الناشئ كيف يقضي في هذه القصة. لو أنه لم يتحدث إلى أمه عن ذلك الثوب البالي الذي كان صالح يلبسه، لما أهدت أمه إلى صالح ذلك الثوب الجديد، ولمضت أمور صالح على ذلك البؤس الهادئ المطرد. فهو إذن قد أراد أن يحسن إلى رفيقه فأساء إليه. أيلوم نفسه في ذلك أم يلتمس لها المعاذير؟ والحق أنه لم يلم نفسه أو يعذرها، وإنما فرغ لصاحبه يعزيه ويسليه، وحدث نفسه بأن أمه الكريمة الرحيمة قد تجد بين ثيابه ثوبا آخر تكسو به رفيقه المسكين. ولكن القارئ يخطئ أشد الخطأ إن ظن أن الحياة تجري دائما على هذا النحو المألوف من المنطق، وتلائم دائما ما ألف الناس من التفكير والتقدير؛ فليست الحياة أقل مني ثورة على الأصول الموضوعة والقواعد المرسومة والخطط المدبرة، وإنما الحياة تمضي كما تريد هي لا كما يريد الناس. وقد راح صالح وأمين من الكتاب مساء ذلك اليوم، فلم يرعهما حين بلغا ذلك المكان الذي تمتد فيه الخطوط الحديدية من الشمال إلى الجنوب ومن الجنوب إلى الشمال، إلا جماعة مزدحمة تتصايح، ويدعو بعضها بعضا، ولم يبلغا هذه الجماعة حتى رأيا منظرا راعهما وروعهما؛ جثة قد شطرت شطرين وألقى عليها ثوب غليظ يستر بشاعتها عن العيون، وامرأة قائمة تلطم وجهها، وتضرب صدرها، وتسفح دمعها، وتنشر في الفضاء ضحكا عريضا. فأما الجثة فكانت جثة سعيد أكلها القطار، كما كان يقال في تلك الأيام، وأما المرأة فكانت خديجة تدفعها الغريزة إلى الجزع ويدفعها الجنون إلى الضحك، وأما صالح فنظر إلى أخيه ونظر إلى أمه وهم أن يقف، ولكنه آثر أن يمضي مع رفيقه كأنه لم ير شيئا. ولست أدري ما صنع الرفيقان، ولكني أعلم أن أبا أمين راح إلى أهله حين تقدم الليل وهو يقول محزونا: لقد كانت القطر شرهة منذ اليوم، أكل أحدها سعيدا مع الظهر، وأكل الآخر صالحا مع الليل، وفقدت «خديجة المعفرتة» ابنيها في يوم واحد. ثم التفت فرأى ابنه أمينا مذعورا يكاد ينقد من البكاء، فمسح على رأسه وقبل بين عينيه، وقال له في صوت رفيق: لن تغدو على الكتاب إذا كان الصبح؛ لأنك ستذهب إلى المدرسة الابتدائية في عاصمة الإقليم.
قال أمين بعد أن تقدمت به السن وأصبح رجلا ذا خطر: ما زلت أرى تلك الجثة قد ألقي عليها ثوب غليظ، ولكني أنظر إلى وجهها فلا أرى وجه سعيد، وإنما أرى وجه صالح، ومع ذلك فلم أر صالحا حين أكله القطار.
الفصل الثاني
قاسم
كان يسعى في ظلمة الليل القاتمة، قد هدأ من حوله كل شيء، وجثم على الكون سكون رهيب مرهق، ولو قد رفع رأسه إلى السماء لرأى فيها نقطا من النور ضئيلة منتثرة، ولكنه لم يكن يرفع رأسه إلى السماء، ولم يكن يطرق برأسه إلى الأرض، وإنما كان يمضي أمامه يمد بصره كأنما يريد أن يخترق به هذه الحجب الكثيفة من الظلام، بل لم يكن يلتفت عن يمين ولا عن شمال، وإنما كان أشبه شيء بقطعة من الجماد قد صورت في صورة إنسان، ولو قد عدا أو أسرع الخطو لجاز أن يشبه بسهم حي يشق هذه الظلمات المتكاثفة أمامه، ولكنه لم يكن يسرع الخطو، كان يسعى هادئا مطمئنا، يتردد في سعيه كأنما تدفعه إلى أمام قوة خفية رفيقة، فهو يسعى سعيا مستأنيا رفيقا، لا يتعجل شيئا، ولا يقف عند شيء، وإنما يمضي إلى غايته كما يمضي الزمان إلى غايته، في أناة ومهل وحزم.
ولو كان شاعرا أو راوية للشعر أو على حظ من ثقافة، لذكر تلك الأصبع الوردية التي تشير إلى ظلمة الليل بأن تنجلي، أو لتصور سهما ضئيلا من الفضة النقية يمضي في هذه الظلمات المتكاثفة، فتنهزم أمامه هذه الظلمات متهالكة، وتساقط أمامه نجوم السماء في الأفق الغربي كأنما يدعو بعضها بعضا إلى الفرار، ولكنه رأى نور الفجر يمد لسانه الدقيق وراء النهر، وسمع صوتا قد أقبل من ورائه في الجو ضئيلا نحيلا ماضيا أمامه إلى الشرق، كأنما يريد أن يلقي بالتحية والترحيب ذلك الضوء الضئيل. ثم رأى النور يمتد طولا، وينبسط عرضا، حتى أحس كأن الجو كله قد أخذ يمتلئ نورا وغناء؛ فأما النور فكان يوقظ الأشياء وينبئها بمطلع الفجر، وأما الصوت فكان يوقظ الأحياء وينبئهم بأن الصلاة خير من النوم. ولم يذكره شيء من هذا كله بشعر ولا بنثر، ولم يخرج من أعماق ذاكرته أدبا قديما أو حديثا؛ لأنه لم يكن من هذا كله في شيء، ولم يكن يقدر أن شيئا من هذا كله يمكن أن يوجد أو يخطر لأحد على بال، وكل ما في الأمر أن أخاه الشيخ الضرير قد قال له ذات يوم: إنك تسعى في ظلمة الليل فتطيل السعي، وتمتد بك الطريق مخوفة غير آمنة، فاحفظ هذه الآية من القرآن، ورددها في قلبك أو في لسانك، فإنها تؤمنك من خوف، وتؤنسك من وحشة. ثم قرأ الآية الكريمة:
الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب ، فكان لا يخرج من بيته الحقير المتضائل ساعيا إلى النهر في ظلمة الليل، إلا ترددت هذه الآية في صدره ترددا متصلا، فملأت ضميره أمنا وراحة وهدوءا، فإذا أحس نبأة من قريب أو من بعيد، تجاوزت هذه الآية الكريمة قلبه إلى لسانه، واندفع بها صوته إلى الفضاء، فأمن كل كيد، وجنب كل مكروم.
Unknown page