Misr Min Nasir Ila Harb Uktubir
مصر من ناصر إلى حرب
Genres
على أية حال، فقد كان تدين السادات مصطنعا، صحيح أنه كان يحب أن تلتقط له الصور أثناء الصلاة في المسجد أيام الجمعة، وكان كثيرا ما يتردد على قريته خصوصا من أجل ذلك، ولمجرد أن يقول إنه مع الناس. وفي هذه الصور كانت عيناه تظهران وهما ترتجفان في خشوع، أو على العكس فيسجد بحيث تغوص جبهته في الأرض وقد أمسك في يده بالمسبحة. كان هناك بقعة قاتمة اللون في جبهة السادات، وهي علامة تلقى احترام المؤمنين الذين يعتبرون ظهورها أثرا من كثرة الصلاة والسجود. وقد انتشرت طرفة تقول: إنها ليست بقعة «مقدسة»، وإنما جاءت نتيجة أن ناصرا كان كثيرا ما يدفع إصبعه في جبهة السادات قائلا له: «لماذا تدس رأسك في أمور لا تفهمها؟!»
وقد قص علي السادات ذات مرة بنبرة رقيقة كيف يحب الصيام في شهر رمضان، وكيف يكون في «حالة» مدهشة في هذا الشهر. ولكن كيف يمكن الجمع بين هذه الطقوس الدينية المثالية وبين سوء استخدامه للمشروبات الكحولية، المحرمة قطعيا على المسلمين، وكذلك تدخين الحشيش؟!
ليس من المستغرب أن السادات كان يخشى الماركسية وكل ما يرتبط بها بشدة. كان يؤكد دائما أن منطقة الشرق الأوسط ليست «ناضجة» بعد لتقبل الماركسية. كان يشعر بإحساس باطني أن الماركسية هي عدوه القوي؛ ولهذا كانت الماركسية محظورة في مصر. لم يكن لها مكان باعتبارها مذهبا شرعيا، ولكن كان من المستحيل أن تختفي الماركسية في مصر؛ لأنها كانت موجودة على الأرض، ولأنها عقيدة راسخة. كان العمال والطلبة يتطلعون إليها، وكان عدد قليل من الماركسيين يخاطرون بحياتهم ليحملوها إلى جماهير العمال؛ ولهذا فقد كان من الصعب ملاحقتها، ولكن كان من الممكن أن يكونوا علامة تشير إلى أن في مصر أيضا مجتمع مستنير يسمح بعمل الماركسيين.
كان السادات يقول لي أحيانا «ماركسيونا»، وكان يقصد بذلك بعض المثقفين الذين كانوا ينتمون سابقا إلى منظمات ماركسية مصرية. وقد تم حظر هذه المنظمات، وزج ناصر بقاداتها وقتها في السجون، ثم أطلق سراحهم بعدما طرأت على أفكاره بعض التغيرات. لم يصبح ناصر ماركسيا مطلقا، ولكنه أدرك أن الماركسيين ليسوا خصوما للثورة الوطنية التحررية. وقد عمل جزء من هؤلاء الماركسيين في المؤسسات الصحفية، بل إن بعضهم شغل منصب الوزير. لكن هذا لم ينقذهم من ملاحقة السادات؛ فعندما كان يشعر بحاجته لأن يصب جام غضبه على أحد ما نتيجة وقوع اضطرابات دورية في البلاد، أو عندما تكون هناك ضرورة لإيجاد «كبش فداء» للفوضى الاقتصادية في البلاد التي تقودها قوى أخرى ذات نفوذ. وهذا ما حدث فعلا مع فؤاد مرسي، أحد قادة التنظيمات الماركسية والاقتصادي البارز، الذي عينه السادات وزيرا للتموين في الحكومة. لقد بذل مرسي جهدا خارقا، ولكن هل كان باستطاعته أن يحل مشكلة نقص السلع التي خلقها منتجو هذه السلع نفسها، والذين قاموا بإخفائها. هل كان بإمكانه وحده مواجهة التناقض القائم في النظام الاقتصادي الذي وضعه نفس هؤلاء البرجوازيين، مثل عبد العزيز حجازي؟ ولهذا بدا مرسي مناسبا تماما لكي يسقط الرئيس على رأسه، باعتباره وزيرا للتموين، كل خطايا نقص السلع وتوقف آلاف محال القطاع الخاص؛ ولهذا كانت التهمة بالدرجة الأولى هي التقصير في عمل نظام التوزيع.
استشاط السادات غضبا لأن الاضطرابات التي نشبت في أكبر مؤسسة مصرية؛ مصنع الحديد والصلب في حلوان، قد تمت بشكل منظم، وأنه لم ينجح في العثور على محرضين، ولأنه اضطر للانسحاب والتراجع أمام عمال حلوان الماركسيين. كانت اضطرابات حلوان عملا سياسيا منظما قامت به الطبقة العاملة المصرية. من هنا كان خوف السادات من حلوان وخوفه عموما من هذا الفلاح الصناعي غير المفهوم. بالمناسبة، لم يقم السادات مرة واحدة بزيارة هذا الصرح الصناعي الأكبر في البلاد، ولم يحضر افتتاح المجمع الذي تم بناؤه بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي.
على أن السادات كان لديه شعور باطني يدفعه لاستخدام «ماركسييه» في العمل في الوقت المناسب؛ ففي صيف عام 1971م وقعت في السودان المجاور أحداث سياسية ضخمة تعد في جوهرها انقلابا شارك فيه الماركسيون السودانيون أيضا. كنت في ضيافة السادات في مقر إقامته في المعمورة بالقرب من الإسكندرية، كنا نتحدث ونحن جلوس إلى المائدة المقامة في الهواء الطلق على شاطئ البحر، اقترب الياور منه ودس في يده بورقة دون أن ينبس ببنت شفة. أطلق السادات صيحة دهشة قائلا: «يبدو أن انقلابا وقع في السودان.» سألته: «ومن الذي قام بالانقلاب؟» أجاب السادات: «غير معروف تماما حتى الآن، ولكن يبدو أن الماركسيين على مقربة مني.»
عند لقائي بالسادات في اليوم التالي أخبرني أنه اتخذ قرارا أن يرسل إلى السودان «بعضا من ماركسيينا»، على حد تعبيره، بزعم أنهم سيستقبلونهم هناك أفضل من أي شخص آخر، بالإضافة إلى ذلك فسوف يكون باستطاعتهم أن يعرفوا على أي نحو تسير الأمور في السودان. وقد تبين أن إرسال هؤلاء الماركسيين كان نوعا من المناورة؛ فالسادات لم يكن متعاطفا للحظة واحدة مع هؤلاء الذين استولوا مؤقتا على السلطة في السودان، وعلاوة على ذلك فقد توفرت معلومات تشير إلى أن مصر كانت تؤيد هؤلاء الذين جرت الإطاحة بهم. وقد أثبتت الأحداث التالية بشكل واضح بعضا مما يتمتع به السادات من خصائص.
لقد وصلتني أنباء مؤكدة تفيد أن كتيبة من المظليين «الصاعقة» تتجمع في مطار غرب القاهرة. وهي فرقة إنزال خاصة للنقل بسرعة إلى السودان. وقد تلقيت هذه المعلومة عند خروجي من السفارة متجها إلى السيارة لألحق بالسادات في عمل ما عاجل. لم يكن لدي متسع من الوقت للاتصال بموسكو فقررت أن أعالج الأمر بنفسي. كنت أرى أن من الضروري طرح موضوع تدخل مصر بحيث لا يتصور السادات - من ناحية - أن هذا تدخل في الشئون الداخلية، ومن ناحية أخرى بحيث لا يتضح له مصدر المعلومات. رحت أفكر في هاتين المشكلتين حتى وصلت إلى مقر السادات في منطقة القناطر، التي تقع على بعد 35 كيلومترا من القاهرة.
عندما انتهى حديثنا في الموضوع الأساسي الذي جئت من أجله، سألت السادات عن الجديد الذي سمع عنه بشأن الأحداث في السودان، وعن التقرير الذي أحضره «ماركسيوه». تحاشى السادات الإجابة بعد أن قال لي إنه لم يتعرف بعد على التقرير. أبديت ملاحظتي أن الحديث قد اشتد في الأوساط الدبلوماسية حول الزعم بأن مصر تنوي التدخل عسكريا في أحداث السودان، وأن مظليين يتم الإعداد لإنزالهم في السودان وهلم جرا، وأنني أجبت على تساؤلات مشابهة طرحها علي سفراء أجانب بقولي إن هذه مجرد شائعات مغرضة، وإن مصر لن تسمح بالتدخل في الشئون الداخلية لدول أخرى، وإن هذا تحديدا ما أخبرني به الرئيس السادات؛ لأن مصر تدرك أن تدخلها في الشئون الداخلية للسودان سوف ينعكس سلبا على علاقاتها بالدول الأخرى.
نظر لي السادات باهتمام، وبعد أن تريث في الرد قال لي إن السفير السوفييتي على العموم قد لخص موقف مصر على نحو صحيح.
Unknown page