مقدمة
المقدمة
لقاءات مع ناصر
مصر: زمن الفتنة
محمد أنور السادات
ملاحظات على هوامش كتاب
مقدمة
المقدمة
لقاءات مع ناصر
مصر: زمن الفتنة
محمد أنور السادات
ملاحظات على هوامش كتاب
مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر
مصر من ناصر إلى حرب أكتوبر
من أرشيف سفير
تأليف
فلاديمير فينوجرادوف
تقديم
فلاديمير بيلياكوف
ترجمة
أنور إبراهيم
مقدمة
اعتدت منذ أيامي الأولى في البعثة إلى الاتحاد السوفييتي للحصول على درجة الدكتوراه في الآداب من جامعة موسكو الحكومية؛ أن أزور المكتبات لجمع ما تيسر من الكتب في تخصصي؛ «تاريخ الأدب الروسي» (أي الأدب الروسي الكلاسيكي قبيل ثورة 1917م).
كانت ردهات الجامعة أيضا مكانا مميزا للحصول على كافة إصدارات دور النشر السوفييتية، فضلا عن الإصدارات الجامعية وإصدارات أكاديميات العلوم في كافة التخصصات، وقد لفت انتباهي وفرة الكتب التي تتناول دراسة مصر والمنطقة العربية في مجالات التاريخ والفنون والسياسة والأدب، وهنا لم يكن أمامي سوى أن أتخير من بينها ما رأيت أنه على درجة من الأهمية للباحثين والمؤرخين وطلاب العلم.
وقد بدأت فور عودتي في ترجمة عدد من المقالات في المجلات والدوريات، جمعتها لاحقا في كتاب، ثم شرعت في ترجمة كتب في التاريخ والسياسة، وهي كتب تضم بين صفحاتها وثائق مجهولة بالنسبة لنا نظرا لثراء الأرشيف الروسي بهذه المخطوطات. الآن أقدم عبر «مؤسسة هنداوي» المحترمة حصيلة ما أنجزته خلال سنوات طويلة من العمل في ترجمات صدرت عن دور نشر مرموقة، وجدت جميعها صدى جيدا لدى القراء والباحثين وأساتذة الجامعات المهتمين.
أنور إبراهيم
القاهرة 2021م
المقدمة
في العشرين من أكتوبر عام 2011م، احتفلت جمعية الدبلوماسيين الروس بالذكرى التسعين لميلاد واحد من أبرز أعضائها؛ فلاديمير ميخايلوفيتش فينوجرادوف (2 أغسطس 1921م، فينيتسه، 21 يونيو 1997م، موسكو). وفي الكلمة التي ألقاها الابن الأكبر لفينوجرادوف، ألكسندر فلاديميروفيتش، أشار إلى وجود العديد من المخطوطات في أرشيف والده، وهي مخطوطات لم تنشر من قبل، وتتعلق على وجه الخصوص بعمله سفيرا للاتحاد السوفييتي لدى كل من مصر وإيران.
وما إن انتهت الأمسية حتى توجهت إلى ألكسندر فلاديميروفيتش معبرا له عن اهتمامي بهذه المخطوطات. وقد عرض علي قائمة كبيرة من الأعمال ذات الأهمية، نصف دستة منها تخص مصر، حيث عمل فلاديمير ميخايلوفيتش بها بدءا من أكتوبر عام 1970م وحتى أبريل 1974م بوصفه سفيرا مفوضا فوق العادة للاتحاد السوفييتي. وحيث إنني كنت شديد الاهتمام بالأمر، فقد طلبت منه أن يسمح لي بالتعرف على هذه المخطوطات وأنا على يقين أنها تمثل قيمة كبرى لقطاع عريض من الجمهور.
أطلق فلاديمير فينوجرادوف على الفترة التي عمل فيها سفيرا لدى مصر اسم «زمن الفتنة»، وكان محقا في ذلك؛ فقد كان مستقبل مصر آنذاك، والتي فقدت لتوها جمال عبد الناصر، الزعيم البارز لحركة التحرر الوطني، يكتنفه الغموض. وقد بدأ أنور السادات، الذي خلف ناصر في منصب الرئيس، بدأ شيئا فشيئا في تغيير سياسة البلاد. وها هي مصر تتحول أكثر فأكثر من التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفييتي باتجاه التحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. وخلال ذلك كانت النوايا الحقيقية للرئيس تتخفى في كثير من الأوقات وراء التأكيدات على الولاء للنهج الناصري. كانت مصر بحاجة إلى دعم الاتحاد السوفييتي، وقد ترك التعاون مع بلادنا في العديد من المجالات أثره الإيجابي على الجزء الأكبر من السياسيين المصريين وعلى المصريين البسطاء. خلاصة القول، في هذا الوقت تحديدا، تشكل اتجاه التطور القادم لمصر، واستمر، مع القليل من التعديلات، حتى أحداث يناير 2011م.
في غضون ذلك، تناولت المراجع الروسية في مطلع السبعينيات الأحداث التي وقعت في مصر بالدراسة، وإنما على نحو اتسم بالعمومية.
1
والكتاب الوحيد الذي ظهر باللغة الروسية، والذي يعود إلى هذه الفترة كان مكرسا لحرب أكتوبر 1973م، أضف إلى ذلك أن مؤلفه كان مصريا.
2
أما التراث الذي تركه فلاديمير فينوجرادوف فيمثل قيمة أكبر بالنسبة لنا.
إلى القاهرة جاء فلاديمير ميخايلوفيتش يحمل على كتفيه خبرة عظيمة في العمل الدبلوماسي؛ خمس سنوات سفيرا لبلاده لدى طوكيو (1962-1967م)، وثلاث تلتها شغل فيها منصب نائب وزير خارجية الاتحاد السوفييتي. كان مهتما بالدرجة الأولى، بطبيعة الحال، بمشكلات العلاقات السوفييتية المصرية، فضلا عن أنه أولى مستقبل مصر نفسها اهتماما بالغا. كان يتابع الصحافة المحلية يوميا، ويلتقي بسياسيين مصريين وأجانب بانتظام. كان يدرس الوضع «من داخله»، وهو جانب شديد الأهمية.
واصل فلاديمير فينوجرادوف عمله الدبلوماسي بنجاح بعد عودته إلى بلاده بعد أن أنهى خدمته بالقاهرة، ليصبح منذ عام 1977م وحتى 1982م سفيرا للاتحاد السوفييتي لدى إيران. وهناك كان شاهدا على أحداث الثورة الإسلامية التي وقعت في عام 1979م، وهو ما يتحدث عنه في عمله الأساسي الذي يحتفظ به في أرشيفه. ثم، وعلى مدى سنوات، يرأس وزارة خارجية جمهورية روسيا الاتحادية.
ثلاثة من أربعة أعمال يضمها هذا الكتاب؛ «لقاءات مع ناصر»، «محمد أنور السادات: رتوش على صورة»، و«تعليقات على هوامش كتاب محمد حسنين هيكل (الطريق إلى رمضان)»
3
كتبها «في حينه» فلاديمير فينوجرادوف في عام 1975م فور عودته من القاهرة، وهو ما تؤكده التواريخ المسجلة على المخطوطات. وهي تنشر هنا للمرة الأولى عن النص المكتوب بالآلة الكاتبة بتحرير المؤلف. أما فيما يتعلق بالعمل المعنون «مصر: زمن الفتنة. مذكرات سفير الاتحاد السوفييتي»، فقد كتب على الأرجح في منتصف الثمانينيات (لا توجد تواريخ على المخطوطة)، وهو ما تؤكده، على وجه الخصوص، بعض النصوص التي تم الاستشهاد بها مما كتبه عام 1975م، ثم التنويه في الخاتمة إلى أحداث مثل اتفاق كامب ديفيد ووفاة السادات. نشرت «مذكرات سفير الاتحاد السوفييتي» للمرة الأولى في العدد الثاني عشر من مجلة «زناميا» («الراية») عام
4
1988م، ثم نشر جزء منها في كتيب فلاديمير فينوجرادوف «مشاهد من العمل الدبلوماسي».
5
وقد أضيف بالكامل في كتاب مذكرات فلاديمير فينوجرادوف الذي نشر بعد وفاته.
6
وقد رأيت أنه من المناسب إضافة هذا العمل أيضا لهذا الكتاب؛ إذ بدونه تصبح صورة مصر في عام 1970م ناقصة. وهو ينشر هنا استنادا إلى نسخة مكتوبة بالآلة الكاتبة طبق الأصل من مخطوطة المؤلف.
من الجائز أن يختلف قارئ اليوم مع بعض تقديرات المؤلف، لكن أعمال فينوجرادوف هي وثائق زمنه، رؤية شاهد عيان لأحداث حددت لزمن طويل مصير مصر نفسها والصراع العربي الإسرائيلي أيضا . وهنا تكمن بلا شك أهمية هذه التقديرات.
فلاديمير بيلياكوف
لقاءات مع ناصر
رأيت ناصرا للمرة الأولى في ظروف استثنائية؛ ففي فبراير عام 1970م كلفت باستدعاء مراد غالب،
1
سفير مصر لدى موسكو، وقلت له: «الآن، نحن في النصف الأول من اليوم، وأنا أبلغك بناء على طلب الرئيس ناصر أنه سيصل إلى موسكو في زيارة سرية، وسوف نتوجه معا من الوزارة مباشرة إلى المطار لاستقباله.»
لم يبد غالب اندهاشا. كان يعلم أن ناصرا لا يولي ثقة لشفرة جهازه الدبلوماسي، ولعله لم يكن يوليها أيضا لبعض العاملين في الجهاز. وبالفعل لقد طلب ناصر أن نرتب الأمر بحيث لا يعرف بزيارته أحد من المصريين في موسكو عدا السفير وحده. ذهبت مع السفير إلى المطار وهناك شاهدت ناصرا للمرة الأولى.
كانت المباحثات في موسكو ناجحة. تم تسليم مصر أسلحة جديدة للدفاع الجوي، وكان من الضروري إرسال أطقم سوفييتية إلى مصر بصفة مؤقتة.
لم يفكر ناصر بعد عودته إلى القاهرة أن يوقف ما عرف باسم «حرب الاستنزاف». استمر تبادل إطلاق النيران عبر القناة، بينما راح الإسرائيليون يوجهون ضرباتهم الجوية إلى المناطق المصرية في العمق. لم يؤد هذا الوضع إلى نتائج عملية في تغيير عناد إسرائيل، وإنما زادت الموقف توترا. أما الضحايا من الجانب المصري فقد راحوا، بشكل رئيسي، هباء.
في هذا الوقت أدار الاتحاد السوفييتي مباحثات مكثفة مع الأمريكيين بهدف إيجاد حلول سلمية للصراع
Conflict
في الشرق الأوسط. وقد سارت الأمور بشكل سيئ؛ بسبب الموقف المتعنت الذي اتخذته الولايات المتحدة الأمريكية، والذي كان مؤيدا تماما لإسرائيل. وفي الوقت نفسه، فقد أظهر العرب أيضا تطرفا تجاه الموقف المتشدد من جانب إسرائيل، فلم يوافقوا، كما بدا، على الصياغات المعقولة في التسوية السياسية.
لقد تراكم عدد من الأسئلة: إلى أي مدى يمكن للمصريين أن يذهبوا في سبيل تسوية الوضع، الذي ينبغي أن يقوم على انسحاب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية التي احتلتها عام 1967م؟ وهل سيتفق الجانبان على «وقف حالة الحرب»، أم أنهما سيكونان على استعداد للمضي قدما من أجل إقرار «حالة السلام»؟ ومتى يمكن لهذه الحالة أن تسود؟ كان من المفترض أن تتم جدولة خطة التسوية، بحيث يتم الانسحاب على مرحلتين. فمتى يمكن أن تحل، فرضا، حالة السلام عند انسحاب آخر جندي إسرائيلي من الأراضي المصرية، أم، ربما، بعد إتمام المرحلة الأولى من انسحاب هذه القوات؟ ثم ما الالتزامات التي ينبغي على الجانب المصري أن يؤديها بعد الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية، عند صياغة شروط السلام؟ هل يمكن، على سبيل المثال، أن يصل إلى التعهد بعدم السماح بقيام أعمال عدائية من أراضيها ضد إسرائيل؟ وأخيرا، هل كان السؤال مطروحا بشأن مواصلة «حرب الاستنزاف»؛ فهذه «الحرب» كانت تعوق محاولات التسوية، بل كانت تعوق، في الواقع، دخول وحدات الدفاع الجوي السوفييتية. فهل كان من الممكن وقفها ولو لفترة محدودة؟
كل هذه الأسئلة وغيرها كان من المقرر مناقشتها مع ناصر، على الرغم من أن فكرتنا في السابق كانت تتلخص في محاولة التوصل أولا إلى اتفاق مع الأمريكيين، ثم إبلاغ ناصر بعد ذلك للحصول منه على موافقته، أو على إجراء بعض التعديلات. كان ناصر يتعامل مع كل الصياغات التي كان يتصور أن من شأنها إضعاف موقف مصر بشعور من الحسرة والألم. كان وزير خارجيتنا (أندريه جروميكو، المؤلف) يرفض الذهاب إلى مصر، حيث إنه اضطر عدة مرات قبل ذلك للحديث مع ناصر بشأن هذه الموضوعات، ولكنها لم تسر على ما يرام. وقد رشحني للذهاب إليه وهو ما تمت الموافقة عليه.
وهكذا، حصلت على تفويض بمحاولة الاتفاق مع ناصر على عدد من القضايا المهمة والدقيقة. وقبل أن تحلق الطائرة بي قال لي وزير خارجيتي، إنه إذا نجح التفويض ولو بنسبة 10٪ فإن ذلك يعتبر نجاحا. لم تكن الوصية ملهمة كثيرا! وها نحن ننطلق إلى ناصر.
مارس عام 1970م، الزيارة الأولى لي للقاهرة. عندما وصلنا علمنا أن والد ناصر قد توفي، وأن من المنتظر أن يستقبلنا بعد يومين. وقد كرسنا هذين اليومين في محاولة الاتفاق مقدما على جميع القضايا مع وزير الخارجية محمود رياض
2 (ما عدا قضية إمكانية وقف «حرب الاستنزاف» بطبيعة الحال). وقد تباحثنا طويلا معه، وبدا لنا أننا أقنعناه، على الرغم من أنه، كما كان يحدث دائما، كان لديه قدر لا يستهان به من الشك وعدم الثقة في أي حل سوى الحلول العسكرية كوسيلة للتوصل إلى التسوية. وفي نهاية مباحثاتنا كان الشيء الوحيد الذي استطاع رياض أن يعدنا به هو إبلاغ فحوى حوارنا لناصر ولا شيء غير ذلك.
استقبلنا ناصر في بيته في هليوبوليس المقام في منطقة عسكرية. وكان البيت من الداخل غاية في البساطة والتواضع.
استقبلنا ناصر بكل بشاشة وترحاب. أجلسني إلى جواره على أريكة وقال لي إنه قرأ الملف الذي أعطاه إياه رياض بشأن المباحثات التي أجراها معي. وأعرب عن موافقته على طرحنا للقضية وأوضح أننا على حق؛ فإننا إذا تحدثنا عن السلام، فيجب علينا أن نتحدث عنه بصوت مسموع وليس همسا. إنه رجل سلام، ولير الجميع ذلك، ومن ثم فليس لديه مانع أن يعتبر مصر، في حالة إذا ما انسحبت القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة، ليست فقط في حالة إنهاء حالة الحرب، وإنما في «حالة سلام» مع إسرائيل. وكان يعلم أن قراره هذا لن يلقى، على أقل تقدير، قبولا جماهيريا لدى البلاد العربية، فضلا عن مصر نفسها. ربما يظهر هناك رافضون، لكن الرجل كان على يقين من صحة رأيه، فضلا عن صلابة موقفه. وقال إن وضع مصر ومكانة رئيسها يتوقفان على قدرتي على السماح لنفسي باتخاذ حتى هذه القرارات التي قد تبدو غير مفهومة للوهلة الأولى من جانب الشعب، ومن ثم لا تجد لديه قبولا.
وقال ناصر إنه بالنسبة لفرض حالة السلام فإنني أتفهم قلق الأصدقاء السوفييت جراء إحساسهم برغبة مصر في سحب البساط من تحت أقدام خصومنا المشتركين، وطموحها في التسلح ورغبتها في تدمير إسرائيل. في الواقع فإن البعض يمكنه أن يؤكد أن على إسرائيل ألا تسحب قواتها؛ لأنها لن تعرف ما سيكون عليه الوضع بعد انسحابها؛ سلام أم شيء ما آخر. ولكي يزول هذا الشك، فإنه على أتم استعداد للموافقة معنا على أن يحل السلام فورا بعد إنجاز المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية، بشرط ألا تستمر المرحلة الثانية من الانسحاب النهائي لفترة طويلة، عندئذ سيكون بإمكان الإسرائيليين أن يسحبوا، بشكل نهائي، قواتهم في ظروف سلمية بالفعل، وهو تنازل كبير من جانب العرب؛ إذ يعني نظريا أن مصر ستوافق على أن تكون في حالة سلام مع إسرائيل، على الرغم من أن القوات الإسرائيلية سوف تكون موجودة لبعض الوقت على الأراضي المصرية، ولكنها ستكون في حالة انسحاب.
أما بالنسبة لمسألة التزامات الجانبين في حالة قيام السلام، فكان ناصر يدرك أن من الضروري هنا حرمان العدو من استخدام ورقة عدوانية مصر؛ ولذلك فهو يوافق على تسجيل هذه النقطة، من بين نقاط أخرى، تفيد أن البلدين سوف لن يسمحا بأية أعمال عدوانية من أراضي أي منهما ضد أراضي الآخر. وقال ناصر إن من المحتمل أن يهاجمني الفلسطينيون لهذا السبب، ولكني لا أخشى ذلك، ما دام الحديث سوف يدور حول «الشروط النهائية للسلام»، والذي سيتضمن الحديث أيضا عن حل مسألة الفلسطينيين.
أعربت عن امتناني لناصر على قراره وأخبرته أنه سوف يساعدنا في نضالنا المقبل من أجل مصالح البلاد العربية.
بعد ذلك قلت إن لدي تكليفا حساسا آخر، لم يكن بإمكاني مناقشته مع محمود رياض. وهنا، عرضت عليه حججنا وتقديراتنا بشأن «حرب الاستنزاف»، وكانت هذه أصعب لحظة واجهتها. كان ناصر يربط هذه «الحرب» بالعديد من شعاراته السياسية، التي كان يستخدمها لتحقيق أهدافه السياسية سواء داخل البلاد أو خارجها.
أنصت ناصر إلى حججي جميعا باهتمام، وكنت قد أعددتها مسبقا بطبيعة الحال. وفي نهاية حديثي أخبرته أيضا بقرب وصول وحدات عسكرية سوفييتية.
استغرق ناصر في التفكير، تريث ونظر إلي باهتمام مقطبا جبينه على نحو ما لبرهة لم تطل، ثم قال بعدها: «حسنا، موافق على وقف إطلاق النار على ألا يطول الأمر. فإذا لم يتخذ الإسرائيليون والأمريكيون خلال هذه الفترة خطوات عملية في اتجاه التسوية، فسوف نبدأ الحرب من جديد. وبالطبع لا ينبغي أن يعرف الإسرائيليون والأمريكيون بما دار بيننا من حديث. يمكنك أن تقول لهم إنه إذا أوقفت إسرائيل غاراتها في عمق مصر فإنك ترى أن مصر قد تشرع في وقف حرب الاستنزاف. أما إذا سئلت حول ما إذا كنت موافقا على ذلك فسوف أجيب بأننا لم نتحدث في هذا الأمر.» وهنا، انفرجت أسارير ناصر.
تنفست الصعداء (بيني وبين نفسي بالطبع)، فقد نجح التفويض بنسبة 100٪.
وطوال الحديث الذي استمر بيننا بعد ذلك راح ناصر يطور فكرة أن الصراع في الشرق الأوسط لا يعد صراعا بين الدول العربية وإسرائيل، وإنما هو في الواقع صراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وذكر ناصر أن الصراع العربي الإسرائيلي يبدو كما لو كان ناشئا عن هذا الصراع الأساسي العالمي بين السوفييت وأمريكا.
كان من الممكن بالطبع أن يؤدي قبول هذه الفكرة إلى استنتاجات خاطئة على المستوى النظري، فضلا عن المستوى العملي الخالص. وعلى الفور رحت أفكر لماذا طرح ناصر هذه المسألة: ترى هل طرحها لكي يختبر قناعاته الشخصية، وخاصة أن هذه المسألة التي طرحها بنفسه كانت رائجة رواجا كبيرا في الأوساط ذات النزعة القومية في مصر؟
قلت لناصر «إنني لا أتفق معه في أفكاره»، فنظر إلي دهشا، وقال: «هكذا؟!» ثم عرض علي أن أطرح وجهة نظري.
قلت إن الاتحاد السوفييتي ليس شريكا، ولن يكون، في الصراع العربي الإسرائيلي، الذي هو صراع بين قوى التحرر الوطني، القوى التقدمية بقيادة مصر، والقوى الرجعية - إسرائيل - تدعمها الولايات المتحدة. وحيث إن الصراع العربي الإسرائيلي هو صراع بين قوى التقدم والرجعية، فليس من المستغرب أن الاتحاد السوفييتي يدعم القوى التقدمية، بينما تدعم الولايات المتحدة الأمريكية بحكم طبيعتها القوى الرجعية. استمع إلي ناصر بانتباه تام وحاول أن يطرح حججا إضافية، ولكنه في النهاية وافق على ما قلته. وما زلت حتى الآن لا أعرف لماذا طرح ناصر هذه المسألة ليوافق في النهاية. صحيح أنه قال، في نهاية حديثنا، إن أحدا في مصر لم يعارضه حتى الآن، ولعلني الأول الذي فعل ذلك. قال ذلك في سياق الدعابة، ولكن الواضح أن قوله لم يكن على سبيل المزاح.
فيما بعد كانوا يقولون لي إن ناصرا كان راضيا عما دار بيننا من حديث وجدل. كان الرجل نفسه لا يحب أن يعارضه أحد بطبيعة الحال، لكن المحيطين به، وهم يعلمون عنه ذلك، اشتطوا في الأمر، فكانوا يردون دائما بالإيجاب وكان ذلك يثير غضبه.
بانتهاء الحوار، استدعى ناصر المصورين الذين قاموا بالتقاط عدد من الصور للذكرى، ثم رافقني حتى مدخل البيت وودعني بحرارة، ثم وقف معنا مرة أخرى أمام المصور. اقترح ناصر علي البقاء ثلاثة أيام أخرى لزيارة الأقصر وأسوان لمشاهدة آثار البلاد، حيث إني أزور مصر للمرة الأولى، لكني كنت مضطرا للعودة إلى موسكو ووعدته بالحضور مرة أخرى إلى القاهرة.
لم أتوقع بالطبع أن يقول لي محمد حسنين هيكل، بعد مرور ثلاث سنوات ونصف، وهو يتأمل هذه الصورة التذكارية وعليها توقيع ناصر: «لقد قال ناصر عدة مرات بعد سفرك: لا أفهم لماذا قدمت تنازلات كثيرة على هذا النحو لفينوجرادوف.» وأنا أيضا لا أعرف. لقد كانت تنازلات بالفعل، ولكنها كانت لصالح مصر نفسها.
كنت معجبا بناصر بصورة واضحة. كان ثمة قوة ما وثقة تنبعثان منه. لم يكن الأمر هنا مجرد كرم ضيافة نتيجة للتربية أو لكونه رب البيت. كنت أشعر بالحماس يمور بداخله، بل والميل إلى الشجار في الحديث. كان على ما يبدو راغبا في كسب مشاعر الصداقة، وربما اختبار محدثه بأن ينعطف بحدة أثناء الحديث، ثم يرى إن كان محدثه سوف يشعر بالارتباك والحيرة.
في صيف عام 1970م، جاء ناصر إلى موسكو مرة أخرى للعلاج، وعندما استقبلته في مطار فنوكوفو أصابتني هيئته التي تشي بالمرض بالدهشة. كان ناصر عريض المنكبين، طويل القامة، متين البنية، لكن وجهه لم يكن بسمرته، وإنما كان شاحبا بدرجة ما، معتلا، وفي عينيه ألم دفين. كان عليه أن يبتسم وأن يصافح مستقبليه. لا أدري إن كان قد تعرف علي، أظن أنه لم يعرفني. ألقى نظرة علي، صحيح أنه صافحني، ابتسم، لكنه كان يبتسم للجميع.
إبان المباحثات التي جرت في الكرملين، كان ناصر يتصرف كما لو كان بين صحبة حميمة، بحرية وفي غير تكلف. كان يستجيب ببساطة للدعابة. كان يقظا، بل كان شديد اليقظة عندما يستمع إلى ما يقوله القادة السوفييت. أما عندما كان الأمر يتعلق بمطالبه فكان يستخدم المنهج التالي؛ كان يعرض في البداية الموقف الذي يمثل الأساس لأسباب هذه المطالب، وكان في سياق ذلك يتحدث بإخلاص يأسر النفوس، فيقول على سبيل المثال: انتبهوا، ليس لدي أسرار أخفيها عنكم. بعدها يكون الوضع على النحو التالي: لقد أخبرتكم عن الوضع برمته، والآن عليكم اتخاذ القرار. كان أسلوبا مرضيا في كثير من الأحيان، ولكنه كان يؤدي إلى نتائج جيدة. وفي الواقع كان هو الأسلوب الضروري في سياق هذه العلاقات الودية التي سادت بين الاتحاد السوفييتي ومصر في تلك الفترة، الإخلاص الحقيقي، وليس الرغبة في الحصول على أي شيء وبأي وسيلة.
تسنى لي أثناء المباحثات أن أرافقه في السيارة. كان الحوار معه شيقا دائما، حيث يتيح الفرصة للتعرف عليه كإنسان. لقد سر سرورا كبيرا عندما علم أن كلينا كان لديه في فترة الشباب نفس الولع برياضة كرة السلة، وأن لدينا في الوقت الحالي نفس الهواية وهي التصوير السينمائي. وقد اشتكى لي ناصر أنه لم يعد لديه وقت كاف لكي يقوم بتنظيم الأفلام التي التقطها، وهي المشكلة المشتركة التي يعاني منها كل هواة التصوير السينمائي.
ذات مرة، تطرق إلى الحديث عن إذاعتنا. قال: «لماذا تفتقد إذاعتكم المهارة في بث الأخبار الدولية؟ إنها تذيعها متأخرة وغير شيقة، والأهم أنها غير مؤثرة. كم تخسرون بسبب ذلك! إنني أحمل دائما معي راديو ترانزستور موجه دائما على الخدمة الدولية لبي بي سي. الإنجليز يذيعون الأخبار كل ساعة بإيجاز ووضوح لمدة من سبع إلى عشر دقائق؛ ولهذا فإن العالم بأسره يستمع إليهم. لماذا لا تدبرون أمر هذه الإذاعة؟ سيكون الأمر أكثر أهمية لو استمعنا إلى موسكو بدلا من لندن.»
وفي مناسبة أخرى طرح علي سؤالا، قال: «لماذا لا تريدوننا أن نتحدث علنا عن المساعدات العسكرية السوفييتية لمصر؟ إن أعداءنا يعرفون ذلك، فلماذا إذن لا يعرف أصدقاؤنا وأصدقاؤكم بشأنها؟ ما دامت هذه المساعدات معروفة لأعدائنا فمن الضروري أن يعرف أصدقاؤنا بها. أنا على يقين أننا نخسر سياسيا بسبب ذلك.»
أثناء وجوده في موسكو تلقي ناصر نبأ مصرع خمسة طيارين من بينهم طيارون سوفييت في مصر، أسقط الإسرائيليون طائراتهم. كان الأكثر إيلاما بالنسبة له، أن الحادث جاء نتيجة استخدام الطيارين الإسرائيليين لأبسط أشكال المناورات. بعبارة أخرى، فإن طيارينا والطيارين المصريين وقعوا في فخ بدائي. وكانت المسئولية في ذلك تقع على عاتق التوجيه الأرضي. لقد شعر ناصر بالألم الشديد جراء مصرع الطيارين. وكان يقول لي دائما إنه كان يعرفهم جميعا شخصيا، وإن مصر لا تمتلك الكثير من مثل هؤلاء الطيارين الأكفاء.
كان ناصر موجودا في موسكو للعلاج عندما انتهى التحليق القياسي لرائدي الفضاء نيكولايف وسيفوستيانوف في الفضاء الكوني. وقد تمت دعوة ناصر ومرافقيه إلى حفل استقبال كبير في قاعة جيورجيفسكي بقصر الكرملين الكبير. وفي هذا اليوم تلقيت اتصالا هاتفيا يفيد أن ناصرا يود أن ينعم على نيكولايف وسيفوستيانوف بأعلى وسام مصري وهو «قلادة النيل»، وأن يقلدهما هذه الأوسمة أثناء الحفل. وقد طلب مني أن أشرح هذا الموقف. وقد حاولت أن أرتب هذا الأمر مع المعنيين لكنهم جميعا كانوا يقابلونه بالرفض. كانوا يزعمون أن التكريم أمر ممكن أن يكون مقبولا، ولكن لا داعي لمنح الأوسمة في حفل يقام في الكرملين. وقد أبلغنا ناصر بذلك، ولكنه غضب وقال إنه لن يذهب إلى حفل الكرملين لأنه مريض. وهنا اضطررنا لإرسال سفيرنا سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف إلى بارفيخو، حيث يقيم ناصر؛ ليخبره مباشرة أن ذهابه أمر لا بد منه. وقد حضر ناصر حفل الاستقبال، والحقيقة أنه فعل ذلك بعد أن أمر ياوراه أن يحملا معهما الأوسمة على أية حال. وهكذا جاءا يحملان علبتين كبيرتين. حاولت أن أقنع القيادة المنوطة بتنظيم الحفل نفسه، شارحا لهم الموقف؛ إذ إن ناصرا كان يقف متأهبا في انتظار السماح له بتقليد الأوسمة للأبطال، وقد نجحت في ذلك، ولكنهم أخبروني أن الأمر سيتم بطبيعة الحال، ولكن بعد برهة.
منذ هذه اللحظة لم أر ناصرا مطلقا.
كان علي فقط أن أقوم بمهمة حزينة؛ أن أشارك في الوفد الرسمي الذي رأسه ألكسي كوسيجين لحضور جنازة ناصر، وفي نفس توقيت الوفاة تم تعييني سفيرا لدى مصر.
فبراير 1975م، موسكو
مصر: زمن الفتنة
مذكرات سفير الاتحاد السوفييتي
في حياة الدول التي حصلت على استقلالها منذ زمن غير بعيد نسبيا، هناك فترات صعود وهبوط، حركة سريعة على الطريق إلى أهداف مرسومة، ثم توقف، أو حتى خروج عن الطريق المرسوم. وأحيانا، تتحرك الأحداث إلى الخلف بصورة مؤقتة. أمور كثيرة تتوقف على صلابة السياسة الداخلية للنظام، وعلى مدى تأثير القوى الخارجية المختلفة، وفي بعض الأحيان على رجال الدولة الذين يجدون أنفسهم تحت ضغط الظروف أو بنزوة التاريخ على رأس الدولة. هؤلاء يحصلون على حقوق كثيرة في التأثير في سياسة الدولة.
وبسبب ذلك كله يتغير أحيانا منهج السياسة الخارجية تجاه الدول الأخرى.
وبالنسبة لعلاقتنا بمصر، الدولة الأكبر في الشرق العربي، كانت هناك فترات توقفت فيها هذه العلاقة على التغيرات الداخلية في مصر ذاتها.
لقد تسنى لكاتب هذه المذكرات أن يشتغل بقضايا العلاقات مع مصر منذ عام 1967م،
1
منها أربع سنوات تقريبا (1970-1974م) عمل فيها سفيرا لدى هذه الدولة، ثم رئيسا مشاركا في اتفاقية جينيف للسلام في الشرق الأوسط. أما الانطباعات التي تركتها لدي هذه الأحداث فهي كثيرة. كان من الواضح تماما، وبشكل خاص، الدور الذي لا تحسد عليه، الذي قامت به السياسة الأمريكية، باستغلالها للوضع الداخلي لمصر بعد وفاة ناصر لتتغلغل في الشرق الأوسط، وفي مصر بالدرجة الأولى. لقد كشف سلوك السياسيين الأمريكيين في تلك الفترة الأساليب الوقحة التي استخدموها، وبأي قدر من السهولة تخلوا عن التزاماتهم وعن الاتفاقات التي وقعوها. لقد قدم أنور السادات، الذي أصبح رئيسا لمصر بعد الوفاة المفاجئة لجمال عبد الناصر، المساعدة الأكبر للأمريكيين في سياستهم في الشرق الأوسط.
لقد أصبح الشرق الأوسط، كما كان سابقا، واحدا من أكثر «النقاط الساخنة» على كوكبنا، وأصبحت أهم المهام السياسية على الساحة الدولية هي تسوية النزاع في الشرق الأوسط، و«تفكيك التكتلات»، إذا جاز القول، بالطرق السياسية السلمية وضمان حياة سلمية لكل سكان المنطقة.
كانت فكرة حل الصراع بالطرق المنفردة بهدف فرض شروط غير متكافئة على الدول العربية (ومن أجل ذلك كان من الضروري إبعاد الاتحاد السوفييتي عن المشاركة في التسوية)، فكرة غير واقعية رفضها المجتمع الدولي منذ زمن بعيد، حيث إنها لم تكن لتؤدي إلى سلام حقيقي.
لقد اتفقت الجمعية العامة للأمم المتحدة وأكدت من جديد بالإجماع على أن وسيلة حل الصراع في الشرق الأوسط تتمثل في ضرورة عقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط تشارك فيه الدول المعنية في المنطقة؛ الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، إلى جانب مصر وإسرائيل والدول الأعضاء في مجلس الأمن.
1
وصلت إلى بيتي عائدا من وزارة الخارجية ذات مساء بارد موحل يوم التاسع والعشرين من سبتمبر 1970م. قالت زوجتي: لقد اتصلوا بك للتو يطلبون سرعة الاتصال بهم. اتصلت، وتبين لي ضرورة العودة فورا، لماذا؟ غير معروف. آنذاك، كنت أقوم بالإشراف على عمل قسمي الشرق الأوسط والأدنى.
علمت في غرفة النائب فاسيلي فاسيليفيتش كوزنيتسوف، النائب الأول لوزير الخارجية، بالخبر الذي تلقاه على الفور من القائم بأعمال الاتحاد السوفييتي لدى مصر (كانت تسمى آنذاك الجمهورية العربية المتحدة) فلاديمير بروفيرييفيتش بولياكوف. لقد توفي ناصر فجأة، رئيس مصر ورئيس وزرائها، زعيم الأمة المصرية، القائد التقدمي للعالم العربي، الصديق الكبير للاتحاد السوفييتي.
كان نبأ مفاجئا ومحبطا، وقد جرى استدعاء بولياكوف على الفور إلى مقر رئيس الجمهورية. كانت حالة من الهرج تسود المكان، ولدهشة بولياكوف، لم يوله أحد اهتماما تقريبا، ثم أخبروه أنه «لا حاجة لوجوده». وعندما عاد إلى السفارة، علم أن ناصرا قد توفي. في هذا اليوم، ودع ناصر رؤساء الدول العربية بعد مؤتمر ناجح أقامته القاهرة أوقف بفضله الصراع الدموي بين الأشقاء الفلسطينيين والسوريين من جانب، والأردن من جانب آخر. وقد شعر بوعكة صحية في المطار، وبعد أن عاد إلى المنزل، ازدادت حالته سوءا.
لم أصدق ما حدث. أحد الحاضرين في مكتب كوزنيتسوف رأى أن من المحتمل أن يكون الخبر غير صحيح. ولكن، إذا بهم يحضرون لنا برقية تؤكد رسميا أن الأمر قد وقع بالفعل، وأن ناصرا لم يعد بيننا.
تذكرت لقاءاتي مع ناصر في موسكو، وفي القاهرة. كان يفيض قوة وثقة، فضلا عن ذلك حبا للصداقة.
لكن ذلك لم يكن سوى انطباعاتي الشخصية عنه؛ فما تزال هناك تصورات أخرى تحجب الآن، على غير إرادة مني، تصوراتي السياسية عنه. لقد غادر الحياة القائد العظيم لأكبر أمة عربية، الرجل الذي قاد الثورة وقاد شعبه على طريق التقدم المستقل.
إن التحولات التقدمية في مصر، سواء في الريف أو في المدن، ولصالح العمال، ترتبط جميعها باسم ناصر. وهو الذي أنشأ المنظمة الجماهيرية المعروفة باسم الاتحاد الاشتراكي العربي، وكان يفكر في تأسيس حزب أراد أن يسميه «طليعة الاشتراكيين».
لقد قاده منطق النضال المخلص من أجل مصالح شعبه، من أجل الاستقلال الوطني بالدرجة الأولى، قاده إلى الإيمان بضرورة عقد صداقة أخوية متينة بين الشعبين المصري والسوفييتي، وبأهمية بناء علاقات قوية مخلصة بين مصر وبلادنا.
وبتأثير مصر التقدمية، تم طرد الإمبريالية الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط. كان العالم العربي، الذي استيقظ على الاستقلال، مفعما بالعزيمة على تحديد مصيره بنفسه دون مستشارين من الخارج اعتادوا على إدارة شئون الشرق الأوسط. وكان ناصر واحدا من الذين أسسوا ما عرف باسم «حركة عدم الانحياز». باختصار، كان ناصر رجلا يمتلك سمعة عالمية رفيعة.
لقد طرح رحيل ناصر قضايا عديدة، سواء فيما يتعلق بصمود النظام ومواصلة الخطط الداخلية، أو، من ثم، التطوير المستمر للسياسة الخارجية لمصر، والتي كانت قائمة في ظروف إزالة آثار العدوان ضد الشعوب العربية من الفلسطينيين والمصريين والسوريين والأردنيين واللبنانيين وغيرهم.
في الحقيقة، كانت سياسة إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية من ورائها، ضد مصر، وبالتالي ضد ناصر. كان ذلك، إذا جاز لنا القول، «عدوانا خارجيا على الثورة» موجها ضد مصر باعتبارها القوة الأساسية والأكبر والأكثر تأثيرا وتقدمية للشعوب العربية ككل؛ ولذلك فإن أمورا كثيرة في نهاية سبتمبر عام 1970م أصبحت، برحيل ناصر، متوقفة على مواصلة منهج مصر، أو بتعبير أدق، على من سيرأس البلاد بعد رحيل ناصر.
واصلنا العمل طويلا في مكتب ف. ف. كوزنيتسوف، وتفرقنا بعد منتصف الليل بكثير.
في صباح الثلاثين من سبتمبر، غادرت مطار فنوكوفو-2 طائرة خاصة من طراز إيل-68 تحمل على متنها وفدا سوفييتيا لحضور جنازة ناصر، كان على رأس الوفد ألكسي نيكولايفيتش كوسيجين، عضو المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، رئيس مجلس وزراء الاتحاد السوفييتي. وضم الوفد قائد الأركان العامة للاتحاد السوفييتي، مارشال الاتحاد السوفييتي م. ف. زاخاروف وأنا، بصفتي نائبا لوزير خارجية الاتحاد السوفييتي، وكذلك الجنرال ف. ف. أوكونيف، كبير المستشارين العسكريين السوفييت، الذي كان قد عين لتوه في هذا المنصب. وف. ب. بولياكوف القائم بأعمال الاتحاد السوفييتي لدى جمهورية مصر العربية والذي كان موجودا آنذاك في القاهرة. وفي صباح نفس اليوم، تم اتخاذ قرار بطلب موافقة حكومة جمهورية مصر العربية على تعييني سفيرا للاتحاد السوفييتي لدى القاهرة. وكان القائم بالأعمال المؤقت برأس السفارة لمدة تزيد على شهر بعد وفاة سفيرنا الدبلوماسي المحنك سيرجي ألكسندروفيتش فينوجرادوف.
هبطت بنا الطائرة وسرعان ما بدأ الظلام يزداد حلكة. جمهور غفير أحاط بالطائرة، لم يكن باستطاعتنا أن نتبين من هم. هبطنا سلم الطائرة كيفما اتفق نحو ظلام دامس. لم يكن هناك من ضوء سوى شعاع يصدر من هنا أو هناك من أجهزة الإضاءة الخاصة بمصوري السينما والتليفزيون، عندئذ كانت تتراءى لنا ظلال رءوس الجمهور القلق. وعلى الفور انتقلت إلينا مشاعر الاضطراب والعصبية التي اكتنفت ليل القاهرة.
استطعنا ونحن على سلم الطائرة رؤية السادات وهو يستقبل الوفد السوفييتي (كان نائبا للرئيس آنذاك) وبصحبته محمد فوزي وزير الحربية وعلي صبري وشخص آخر. غرق ألكسي كوسيجين في أحضان المصريين الباكين، ثم بدأ الحراس يهرولون إلى الأمام باتجاه ما (لعلهم اتجهوا نحو السيارات). مرة أخرى، وجدنا أنفسنا وسط الزحام في الظلام. رحت أساعد ماتفي فاسيليفيتش زاخاروف على التماسك. دلفنا إلى سيارة ما كبيرة على زجاجها الأمامي أرقام . جلسنا ثم انحشر شخص ما إلى جوارنا. - إلى أين؟ - خلف الآخرين، إلى حيث يذهبون.
شقت السيارات طريقها وسط الزحام، واحدة تلو الأخرى، مغادرة المطار لتتخذ طريقها نحو المدينة.
خيل إلي أن القاهرة خرجت عن بكرة أبيها إلى الشوارع. إلى أين هم ذاهبون. كان الناس يلتصقون بالحافلات وعربات الترام. كانوا يصيحون ويهتفون بقوة معبرين عن مشاعرهم بإشارات ما. العديد منهم كانوا يبكون ويرفعون أيديهم إلى السماء. كان الجو حارا ورطبا وخانقا. كانت كل هذه المشاهد والأصوات معا تخلق انطباعا بأن شيئا ما غير طبيعي يحدث.
أنزلونا، كوسيجين وزاخاروف وأنا في محل إقامة السفير السوفييتي على شاطئ النيل، غير بعيد عن السفارة، بينما نزل باقي الرفاق في فندق «هيلتون» على الضفة الأخرى للنهر.
وفي نفس الليلة التقى ألكسي كوسيجين بالسادات، بعدها توجه لتقديم واجب العزاء لأرملة ناصر. ولدى عودة ألكسي كوسيجين تساءل، وقد استغرق في التفكير، عما يعنيه هتاف الجماهير المتكرر: «ما تسيبناش.» ماذا كانوا يعنون بذلك؛ أسرة الراحل، الدولة، أم الشعب المصري؟ لماذا انفجر هذا الرجاء؟
ذهبت إلى وزير الخارجية محمود رياض، ثم إلى رئيس تحرير جريدة «الأهرام»، وهو في نفس الوقت وزير الإرشاد القومي محمد حسنين هيكل، الصحفي الشهير، وكانت تربطني به علاقة قديمة.
كان رياض يبكي. ماذا سيبقى لنا بعد ناصر؟ تعاليمه، حزبه، رفاقه في الفكر؟ هل سيتحمل الناصريون الخسارة، وهل سننتظر إلى أن يقوم خصوم ناصر ونهجه السياسي بامتلاك زمام الأمور في الداخل والخارج.
قال هيكل وعيناه مغرورقتان بالدموع: «لا أصدق، لا أصدق. أنتم الأصدقاء الأوفياء لناصر ما زلتم هنا، بينما هو توفي لتوه. أمر جيد أن يكون أول من وصل هم أفضل أصدقائه. لقد كان ناصر يفكر منذ فترة قريبة أن يلتقي بك، حتى إنه أعرب عن رغبته في أن يتم تعيينك سفيرا لدى القاهرة.» انتفض جسدي دون رغبة مني. لقد حان الوقت لأن أخبر هيكل بشأن تعييني، كنت أعلم أن كوسيجين موجود الآن لدى السادات وسوف يحدثه في ذلك.
حضر الجنازة رؤساء الدول ورؤساء الوزراء والشخصيات الحكومية البارزة، وقد طلب معظمهم أن يلتقوا برئيس الوفد السوفييتي، وأخبرني ألكسي كوسيجين أن السادات وافق على الفور على تعييني سفيرا، وأنه قد بات علي منذ اللحظة أن أحضر المباحثات جميعا بوصفي السفير السوفييتي الجديد. كانت الفكرة الرئيسية التي راحت تؤرق كل الشخصيات العربية كما قالوا لنا: إن مصر ينبغي ألا تفقد دورها القيادي أيا كان من سيصبح رئيسا لها، وإن مصر يجب أن تظل زعيما للعالم العربي؛ ولهذا فإن على المصريين أن يختاروا رئيسا يمكنه أن يواصل قضية ناصر، وفي هذه الحالة فقط لن تسقط الراية العربية المشتركة من يد مصر. فكرة صائبة، ولكن من بخلاف المصريين أنفسهم بمقدوره أن يحل هذه المسألة؟
تلقينا أنباء تفيد بأن الطامحين لمنصب الرئيس هم السادات في المقام الأول وكذلك حسين الشافعي، وهو واحد من القيادات الموجودة ومن ذوي الميول الإسلامية، وعلي صبري السياسي الشهير الذي تم تصنيفه باعتباره «يساريا». كما تردد الحديث عن مرشحين آخرين مثل الدكتور محمود فوزي، أحد أقدم الدبلوماسيين المصريين وأكثرهم خبرة، وزكريا محيي الدين الذي يعد سياسيا برجوازيا من الجناح اليميني، وآخرون.
كان ناصر قد قام، قبيل وفاته، بإدخال بعض التعديلات في المناصب القيادية، ويقال إنه لم يكن يحب أن يشغل المسئول مقعدا واحدا لمدة طويلة، ومن ثم يكتسب نفوذا فائقا. وقد عين السادات في منصب نائب الرئيس، بعد أن ظل هذا الرجل «غير مرضي عنه» لبعض الوقت. وهكذا شاءت الصدفة أن يكون أنور السادات في هذا المنصب عند وفاة ناصر.
من المعروف أن السادات لم يكن ينتمي إلى السياسيين الذين يتميزون بسعة الفكر. كان عضوا بتنظيم «الضباط الأحرار» الذي كان يرأسه ناصر عند قيام انقلاب عام 1952م، والذي انتهى بإزاحة الملكية، وهو الانقلاب الذي أيده الكادحون المصريون، والذي استحق أن يسمى بحق ثورة. وعلى الجانب الآخر، كان السادات هدفا لسخرية الضباط نتيجة ثقافته المحدودة وتواضع معارفه؛ ولهذا فقد راح يحاول تعويض هذا النقص بالتكلف والاصطناع والتظاهر بالتدين. كان رجل مكائد من قمة رأسه إلى أخمص قدمه، ولم يكن شخصا مستقيما صريحا، وكان يرى الآخرين متآمرين. كان دساسا ولم يكن ثوريا. هكذا رآه المصريون الذين كانوا يعرفونه جيدا.
كان اختيار مرشح للرئاسة الأمر الأكثر مسئولية وخاصة في ظل الظروف التي كانت تمر بها مصر، حيث تلعب شخصية الزعيم دورا كبيرا لا حدود له، وحيث حقوق الرئيس كثيرة وصلاحياته واسعة وفقا للتقاليد، أوسع بكثير مما في الدول الغربية على سبيل المثال. ولهذا فقد استمرت اجتماعات السياسيين المصريين مدة طويلة؛ إذ كان من الضروري التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف. كان الجميع يدركون شيئا واحدا، وهو أنه ليس هناك نظير لناصر، وأن خليفته لا يمكن أن يطاوله. استمر الصدام بين المرشحين، وسرعان ما وصلوا، كما أخبرونا، إلى أن القرار يجب أن يكون في الوقت الحالي قرارا أقل ضررا وأكثر منطقية. وقالوا إن التناول البراجماتي في هذا الأمر قد لعب فيه عزيز صدقي الدور الأكبر، وصدقي هو رجل اقتصاد موهوب يتمتع بالتفكير الواضح، وكان آنذاك هو الوزير الأسبق للصناعة والتجارة. كان أكثر الحلول بساطة، هو ترك الجدل بشأن ترشيح رئيس دائم، وليكن نائب الرئيس، أنور السادات، هو الرئيس ولو مؤقتا، ثم لنبحث الأمر فيما بعد.
وقد أكد لنا السادات أن هذا هو بالفعل القرار الذي اجتمعت عليه القيادة؛ الرئيس هو أنور السادات، على أن يصبح الدكتور محمود فوزي رئيسا للوزراء. كان فوزي قد عمل مع ناصر (وهو يرضي مصالح القطاع البرجوازي في المجتمع)، ويكون نواب الرئيس هم علي صبري (المجموعة اليسارية) وحسين الشافعي (المجموعة الإسلامية). وهكذا تم إرضاء الجميع.
كانت الشمس تصب نارها بلا رحمة من سماء مصر الزرقاء الخالدة. بدأت الحرارة في الازدياد منذ الصباح. الأول من أكتوبر هو يوم الدفن. سوف يتم نقل النعش وبداخله ناصر بطائرة مروحية إلى جزيرة الزمالك، حيث مقر مجلس قيادة الثورة السابق الواقع مباشرة على النيل. كان الأمر رمزيا. سوف تصل إلى هنا الوفود الأجنبية، وسوف يسيرون في موكب يعبر الجسر إلى الجانب الأيمن من النيل وحتي مبنى اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ثم يتجه الموكب إلى الجزء الشرقي من المدينة؛ هليوبوليس، إلى مكان الدفن في مسجد شيد حديثا، ويقع بالقرب من البيت الذي عاش فيه ناصر. على هذا النحو تحددت المراسم.
كانت الظروف المرعبة التي مرت بها القاهرة في الأيام السابقة ماتزال محسوسة وعلى نحو أقوى من ذي قبل. زحام، جماهير غفيرة تملأ الشوارع. كانت المدينة تعج بضجيج لا يهدأ بسبب الملايين من الحناجر الغاضبة. كان تعداد القاهرة وضواحيها يبلغ ثمانية ملايين نسمة، أضيف إليهم مليونان من البشر جاءت بهم قطارات مزدحمة (اعتلى الناس أسطح العربات والجرارات ودرجات السلم).
اصطف في محيط سفارتنا خارج السياج جنود يحملون دروعا من الخشب ويمسكون بعصي في أيديهم (في حالة وقوع هجوم من الجماهير). فكرت، ولماذا يهاجموننا؟ ومن الذي سيهاجمنا؟
كان من المفترض أن يكون الجسر بدءا من ناحيتنا وحتى جزيرة الزمالك معزولا ومفتوحا للمرور للضيوف الأجانب فقط، لكنه كان مكتظا بالناس، الذين كادوا يتدلون من أسوار الجسر. لم يكن من الممكن فعل أي شيء تجاههم، لا صراخ جنود الشرطة ولا التلويح بالعصي. كان البعض يضرب، والبعض الآخر يكتفي بالتهديد. أما الزمالك فكانت تقع على مرمى حجر منا، عبر المجرى الضيق لنهر النيل الذي لا يزيد عرضه هنا على أكثر من 40 إلى 50 مترا.
وصل هيكل ليلتقي بالوفد السوفييتي، وكان مكلفا بمرافقتنا، لكن وفدنا كان معزولا.
كان الجسر الفاصل بيننا وبين الزمالك مقطوعا حتى يبعدوا الجمهور عن الجانب الأيسر للنيل. ظل هيكل والمصريون المرافقون له يواصلون الاتصال تليفونيا دون انقطاع، وفي النهاية، أبلغونا أنهم سيرسلون لنا زورقا وإلا فإننا لن نصل أبدا. قطعنا ما لا يزيد على مائتي متر بواسطة الزورق حتى وصلنا إلى مرسى الزمالك أمام المبنى مباشرة، حيث تقرر أن تبدأ الجنازة منه. خصصوا لنا غرفة مستقلة، ثم جاءنا السادات وعلي صبري وظلوا معنا بالفعل طوال الوقت. ومن حين لآخر كان رؤساء الوفود الأجنبية الأخرى من الرؤساء آنذاك؛ الأتاسي (رئيس سوريا)، مكاريوس (رئيس قبرص)، النميري (رئيس السودان)، بو مدين (رئيس الجزائر)، ديميريل (رئيس وزراء تركيا)، هويدي (رئيس إيران)، إعتمادي (رئيس أفغانستان)، حسين (ملك الأردن)، ريتشاردسون (وزير الصحة في الولايات المتحدة الأمريكية)، عرفات (رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية)، جو مو-جو (ممثل جمهورية الصين الشعبية) وآخرون، كانوا يأتون لتبادل التحية مع ألكسي كوسيجين.
كنا نسمع أزيز المروحية المحلقة فوق رءوسنا، وسرعان ما استدعونا إلى الفناء الداخلي للمبنى، حيث وضع في وسطه نعش خشبي بسيط مغلق وملفوف بعلم الدولة المصرية، وقد أحاط به عدد من الضباط الشبان راحوا يبكون وينشجون بحرقة، وإلى جوارهم عدد من الأفراد في ملابس مدنية. حاول بعض العسكريين إبعادهم بلا جدوى. كان هناك شخص ما يحاول إعادة انضباطهم مصدرا إليهم أوامر ما، لكنهم لم يستجيبوا.
في نهاية الأمر، تلقت الوفود الأجنبية الدعوة للخروج من المبنى إلى الشارع، وهنا سار الجميع فيما يشبه الطابور، لكن أحدا لم يكن بإمكانه أن يلتزم بالنظام، فكان على الوفد أن يجد موطئ قدم. كان وفدنا في المقدمة.
وأخيرا، بدأ موكب الجنازة في السير من يسارنا، مجموعة صغيرة من الجنود يحملون أكاليل الزهور، خلفهم ستة خيول تجر عربة مدفع وضع عليها النعش. كان الجنود السائرون يبكون مثلهم مثل رفاقهم فوق ظهور الخيل. راح الموقف يزداد اضطرابا ومن ثم إثارة للأعصاب حتى أصبح المشهد هستيريا.
كان من المفترض أن تسير الوفود الأجنبية خلف عربة المدفع، ولكن هيهات؛ لقد اندفعت الجماهير العارمة التي لا يعرف أحد من أين جاءت. كان من المستحيل تدارك الأمر. في الواقع، كنا نندمج في الموكب بقوة، وسرعان ما ازداد الزحام. كان الناس يتدافعون وهم يخشون السقوط على الأرض. إن سقوط المرء هنا معناه أن تسحقه الأقدام حتى الموت. حملت الجماهير ألكسي كوسيجين إلى مكان ما في الأمام بعيدا عنا، أما أنا فقد احتواني زحام أشبه ما يكون بالدوامة. وها أنا أرى ثلاثة وجوه شاحبة كساها الرعب أعرفها جيدا هم رؤساء وزراء تركيا وإيران وأفغانستان؛ ديميريل وهويدي وإعتمادي، دفعت بهم الحشود بعيدا تماما، تماسكت موليا ظهري بقوة في مواجهة القادمين من خلفي مفسحا بمرفقي طريقا لنفسي، متشبثا بأقدامي في الأرض بكل قوة. كنت مدفوعا من الخلف، وبفضل دفاعي توفرت أمامي مساحة صغيرة من الأرض اندفع إليها رؤساء الوزراء الثلاثة.
كان موكب الجنازة يتحرك على نحو عشوائي؛ تارة في هذا الاتجاه وتارة في اتجاه آخر، تارة تندفع إلى الأمام، وتارة أخرى تتوقف تماما، وقد تعالى الصراخ والعويل. وفجأة يتوقف الموكب من جديد. صيحات قوية. وإذا بنا أمام مجموعة من الأفراد قادمين من الاتجاه المعاكس. كانوا يلوحون بأيديهم يطلبون أن نفسح لهم الطريق. ومن ورائهم بدا جمع آخر يرفع كرسيا جلس عليه السادات مغمض العينين دون حراك، وقد راحت ذراعاه تتأرجحان في الهواء. كان على الموكب أن يتوقف إذ كان التقدم أمرا لا جدوى من ورائه. ضاع رفاقنا في الزحام. تلفت حولي؛ السادات حملوه إلى البيت. ترى ما الذي حدث للرئيس الجديد؟ في الأمام، راحت الجموع الغفيرة الباكية في التراجع وسط عمود كثيف من التراب، أما خلف الجسر فكان هناك ما يقرب من مليون من البشر لا يزالون يحتشدون.
أبعد الضيوف الأجانب إلى مدخل الجزيرة ونصحوهم بعدم الاستمرار في السير لخطورة الموقف. أبلغت ألكسي كوسيجين بما حدث للسادات، فعبر عن دهشته وأرسل على الفور رئيس قسم المراسم في وزارة خارجيتنا ب. ل. كولوكولوف وكان ضمن الوفد، للاستعلام عما حدث، لكن المصريين تكتموا الأمر، ثم أبلغونا «سرا» أن السادات في حالة سيئة، فضلا عن علي صبري أيضا الذي ساءت حالته قبل ذلك بمجرد وصول النعش وبداخله جثمان ناصر، وأن الأخير تحت الرعاية الطبية، وقد ازدادت حالة السادات سوءا عندما اكتشف غياب نائب الرئيس. وقد أحضروا السادات إلى الغرفة التي يرقد فيها علي صبري. رقد الرجلان في غرفة واحدة وكان كل منهما يختلس النظر إلى رفيقه بين الفينة والأخرى، وتوجها بالشكر إلى الرفاق السوفييت على اهتمامهم.
عدنا بعد ذلك إلى السفارة على متن الزورق البخاري.
في اليوم التالي، الثاني من أكتوبر، عقدت القيادة المصرية لقاءات عمل مع الوفد السوفييتي. أود أن أطرح هنا بعض الملاحظات؛ فقد أكد الجانب السوفييتي من جديد أن خطنا في تطوير التعاون قائم بيننا كما كان في عهد ناصر، قويا مخلصا، وأن يكون قادرا على الاستمرار، بطبيعة الحال، في إطار المصالح المتبادلة. وقد أعرب ألكسي كوسيجين عن إيمانه بأن القيادة الجديدة للبلاد سوف يكون باستطاعتها القضاء على الفكرة التي يروجها أعداء مصر حول إمكانية حدوث فراغ في كل من السلطة والأفكار والحسم في اتخاذ القرار. إن النهج الثابت والمستمر لقضية ناصر، إلى جانب التفاف القيادة بأكملها حول هذا النهج الذي يؤيده الشعب، واحترام العالم أجمع لمصر والعمل المنسجم للقيادة، سوف يساعد بلا شك على تجاوز كل المصاعب بما فيها إزالة آثار العدوان الإسرائيلي عام 1967م.
وفي معرض رده على ألكسي كوسيجين أكد السادات أن ناصرا هو صديقه وأخوه ومعلمه، وأن القيادة المصرية لن تسمح بوقوع أية صراعات، وأن الصداقة مع الاتحاد السوفييتي، وهي ميراث ناصر، سوف تزداد قوة ومنعة. وقد تناولت اللقاءات أيضا عددا من القضايا العملية التي تمس العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي، وقيام بلادنا بالمساعدة في حل عدد من المشكلات.
وفي اليوم التالي غادر الوفد السوفييتي مصر في طريقه إلى موسكو. عدت إلى القاهرة في الثالث عشر من أكتوبر بصحبة زوجتي بصفتي سفيرا مفوضا فوق العادة للاتحاد السوفييتي لدى جمهورية مصر العربية. استقبلني في المطار معارفي القدامي الرفاق؛ المستشار السفير فلاديمير بولياكوف والمستشاران فاديم كيربيتشينكو، ألكسندر أرلوف، بافل أكوبوف، والملحق العسكري بحري نيكولاي إيفلييف. أود أن أذكر هنا أن هؤلاء الرفاق المخلصين كانوا جميعا من المختصين البارزين، وإلى جانبهم كان هناك أيضا عدد من الدبلوماسيين الشباب، ولكنهم كانوا هم أيضا على درجة كبيرة من الكفاءة؛ مثل يوري كابرالوف، فافا جوليزادي، روبرت توردييف، شكلوا جميعا العمود الفقري للسفارة، الذي حمل على عاتقه العبء الأكبر للعمل المضني على مدى السنوات التالية، عندما بات من الواضح تماما أن الرئيس السادات قد انتهج نهجا مخالفا للنهج الذي سار عليه ناصر، سواء في السياسة الداخلية أو الخارجية، فتحول بمصر من معسكر المناضلين النشطاء ضد الإمبريالية إلى داعم لها وخاصة للولايات المتحدة الأمريكية.
لكن إدراك هذا النهج واتخاذ الإجراءات المناسبة تجاهه في الوقت المناسب لم يكن أمرا سهلا. كان على السفارة أن تعاني كثيرا من المواقف الصعبة لاحقا.
2
بعد عشرة أيام من وصولي إلى القاهرة، وبعد عدد من المذكرات، أبلغتنا وزارة الخارجية المصرية أن الرئيس السادات مستعد لقبول أوراق اعتمادي. تمت المراسم آنذاك في جو غاية في البساطة، بل إنه لم يؤخذ في الاعتبار تبادل الكلمات على النحو التقليدي المتبع. على أن الحدث لفت انتباه وسائل الإعلام فامتلأت قاعة الاستقبال في قصر القبة - المقر الرسمي للرئيس المصري - بالمصورين ومصوري السينما والتليفزيون. انتهزت هذه الفرصة لألقي كلمة أوجزت فيها العلاقات الأخوية التي تربط الاتحاد السوفييتي بمصر، وعن تعاطفنا العميق تجاه الشعب المصري، وثقتنا في استمرار العلاقات بين بلدينا على نفس النحو المثمر كما كانت على عهد الرئيس الراحل ناصر، وأكدت في كلمتي على استعداد بلادنا لدعم مصر وقيادتها في المجالات جميعا، ودفع التعاون بين البلدين قدما. وقد رد الرئيس السادات بكلمة مقتضبة أعرب فيها عن تأكيد متانة علاقات الصداقة المصرية السوفييتية.
وفي سياق الحديث الذي أعقب تسليم أوراق الاعتماد عبر الرئيس السادات عن رغبته في استمرار التعاون الوثيق بيننا وعقد لقاءات منتظمة معه.
بعد الانتهاء من تسليم أوراق الاعتماد توجهت بنفس ملابسي الرسمية إلى قبر ناصر في المسجد الجديد الجميل الواقع على مقربة من بيته الذي عاش فيه، وهناك كان بانتظاري طاقم دبلوماسيي السفارة بأكمله وقد أحضروا إكليلا من الزهور عليه شريط كتب عليه باللغتين العربية والروسية: «إلى جمال عبد الناصر من سفارة الاتحاد السوفييتي لدى الجمهورية العربية المتحدة.» وقد أثار قيام السفير السوفييتي بوضع إكليل من الزهور على قبر ناصر على إثر قيامه بتسليم أوراق اعتماده للرئيس الجديد اهتماما كبيرا من جانب الصحافة والتليفزيون، فضلا عن تجمع العديد من سكان الحي في المكان. كنت أود بذلك أن أرسخ تقليدا وأن أؤكد على تواصل العصور.
وعلى الرغم من أن المصريين يعيشون على مساحة لا تتجاوز من 3-4٪ فقط من إجمالي مساحة البلاد، على شريط ضيق يمتد بمحاذاة النيل، فإن دلتا هذا النهر تشغل عدة مئات من الكيلومترات، بالإضافة إلى أراض شاسعة تقع على تخوم البحر المتوسط مباشرة، فإن البلد ذاتها، شعبها ، ماضيها، حاضرها، تترك في النفس، بطبيعة الحال، أثرا هائلا لا ينمحي. لقد بادت إنجازات الحضارتين اليونانية والرومانية على نحو أو آخر، بينما بقيت الحضارة المصرية القديمة ظاهرة في آثارها الخالدة. وعن هذه المعجزات التاريخية خطت مئات الكتب، ولا يزال بالإمكان كتابة مجلدات أخرى. ولهذا، وعلى الرغم من رغبتي في مشاركة الآخرين إعجابي بهذه الحضارة، فإنني لن أفعل ذلك، فهو أمر يدخل في اختصاص أناس آخرين. أشير هنا إلى انطباع لشدة ما أبهرني مفاده أن المصريين المعاصرين لا يشعرون أنهم ورثة هذا الماضي التليد. إن الكثير منهم يفتخر وحسب أنه يعيش في هذا البلد الذي تصادف أن ظهرت فيه في زمن ما أشياء عجيبة من شأنها أن تجذب إليها الناس من شتى أنحاء العالم.
وفي نفس الوقت، كان هناك أمر آخر أثار إعجابي أيضا وهو الإحساس الواضح بشعور المصريين، حتى البسطاء منهم، بأنهم سادة هذا البلد، وكان هذا الشعور يتجلى في الكثير من الأمور، سواء الكبيرة أو الصغيرة، وخاصة في السلوك اليومي وفي الأحاديث العادية والحميمة وفي كرم الضيافة التلقائي البعيد عن التكلف، وكذلك في التفاؤل وعزة النفس، وأخيرا في القدرة على تحمل المصائب بروح ساخرة. ليس من قبيل المصادفة أن شاعت هذه الطرفة الساخرة التي تقول إن نابليون هزم في مصر بفضل النكات التي استهدفه بها المصريون. وفي هذا السياق، راح المصريون يلاحقون السادات بالنكات منذ أن تولى منصب الرئيس. واحدة منها ذات مغزي خفي تقول: إن الرئيس السادات استقل سيارة الرئيس الراحل ناصر، وعند مفترق الطرق سأله السائق: إلى أين نتجه؟ يمينا أم يسارا؟
فسأله السادات باهتمام: وفي أي اتجاه كان يسير ناصر؟
أجاب السائق: «يسارا.»
عندئذ قال السادات: «حسنا، أعط إشارة الدوران إلى اليسار، ثم .. انطلق يمينا.»
كان مما أثار دهشتي أيضا هذه المشاعر الودية الجارفة التي يكنها المصريون للروس ، وخاصة تجاه الخبراء الذين كانوا يشاركونهم العمل في بناء محطة القوى الكهرومائية العملاقة في أسوان، وفي بناء مجمع الحديد والصلب في حلوان بالقرب من القاهرة، وفي المصانع الأخرى والمشروعات الزراعية، وفي الجيش بطبيعة الحال. كان سد أسوان يبدو من الطائرة على هيئة مشط نصف دائري مغروس وسط صحراء صفراء حارة مترامية الأطراف تتدفق المياه منه بلون الصلب الرمادي، ومن خلفه ترامت بحيرة عملاقة هي «بحيرة ناصر»، ومن الناحية الأخرى امتد نهر النيل شريطا قاتم اللون.
في فبراير عام 1971م، تم الاحتفال رسميا بانتهاء العمل في السد ومحطة الكهرباء التي راحت تعطي آنذاك نصف الطاقة الكهربائية التي تنتجها أفريقيا كلها. عزفت الأوركسترا ورفرفت الأعلام وعلقت الملصقات وعقدت اللقاءات الجماهيرية. انتهى بناء المشروع العملاق الذي حاولت الولايات المتحدة الأمريكية وألمانيا الاتحادية إفشاله؛ وذلك بفضل المساعدة النزيهة التي قدمها الاتحاد السوفييتي، الذي كان عليه القيام بحل المشكلات العلمية والفنية. لقد أقدم ناصر في شجاعة على التعاون الوثيق مع الاتحاد السوفييتي، وها هي أسوان وقد أصبحت تمثل قمة هذا التعاون. لقد باتت أسوان رمزا للحكمة الاقتصادية وإصرار ناصر، فضلا عن أنها جسدت رؤيته السياسية.
لقد تسنى للسادات افتتاح السد ومحطة القوى الكهربائية. وعلى اللوحات التذكارية التي أقيمت على السد ومحطة الكهرباء تخليدا لهذا الحدث البارز اختفت أية إشارة للاتحاد السوفييتي ودوره في تشييدها؛ فقد كتب: «بمشيئة الله ومساعدة أصدقائنا قمنا ببناء السد العالي الذي افتتحه الرئيس محمد أنور السادات.» من هؤلاء الأصدقاء؟ لعل أحفاد المصريين يبحثون بأنفسهم. لكننا رأينا مقدار الفرحة الصادقة التي حيا بها البناة المصريون أصدقاءهم الروس أثناء الاحتفال. كان المصريون يعلمون جيدا ما الذي قدمه الاتحاد السوفييتي؛ مصدرا هائلا للطاقة، ضوءا في البيوت، أمانا من الجفاف والفيضانات، وفرة في صيد الأسماك، آلاف الفرص للعمل ...
وبنفس مشاعر الفرح الصادق، قابل المصريون السوفييت لحظة تدشين أول سفينة صيد بنيت في مصر في ترسانة الإسكندرية التي أنشئت بمساعدة الاتحاد السوفييتي، حتى إن المصريين قاموا بتسلق أبراج الأوناش والجلوس على الخطاطيف المتأرجحة.
وأمام الساحة الصغيرة التي جرت فيها مراسم تدشين السفينة ذبح المصريون وفقا لتقاليدهم الشعبية، عجلا، وراح العشرات من العمال يغمسون أكفهم في الدم الطازج ابتهاجا بهذا الحدث الكبير.
لعل المهمة الأولى التي يحرص كل سفير جديد على القيام بها هي إقامة العلاقات والروابط مع الشخصيات القيادية المحلية ورؤساء البعثات الدبلوماسية، وهؤلاء عددهم ليس بالقليل، وهو ما يعني في الواقع زيارات تتلوها زيارات، فضلا عن ضرورة استقبالهم عندما يقومون برد الزيارة. إنه جهد غير عادي، خاصة عندما تقع أحداث أو تنفجر مشكلات لا تحتمل الانتظار، وهذه كانت تزداد يوما بعد الآخر.
لقد نجحت في وقت قصير في التعرف، بالدرجة الأولى، على غالبية الشخصيات القيادية في البلاد، ومن بينهم علي صبري وحسين الشافعي، نائبا الرئيس، والدكتور محمود فوزي رئيس الوزراء (وهو واحد من أقدم السياسيين منذ عهد الملك السابق فاروق)، ومحمود رياض وزير الخارجية، ومحمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة، وشعراوي جمعة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية، وسامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية (وكان في الواقع المنسق لنشاط المخابرات ومكافحة التجسس)، وعدد آخر من الشخصيات. كان هؤلاء هم المقربون من ناصر في سنواته الأخيرة.
كانوا أناسا ودودين للغاية، بعث بهم ناصر عدة مرات إلى موسكو وكانوا يشاركونه في المباحثات، وقد توطدت بيني وبينهم علاقات عمل جيدة.
لم يكن ذلك كافيا، بطبيعة الحال؛ لكي أحيط بالأوضاع في البلاد بشكل تام. لقد كانت معظم الأمور تتوقف على الرئيس نفسه. جدير بالذكر أن السادات أكد لألكسي كوسيجين ولي أيضا أن العلاقات بين بلدينا لن يمسها أي تغيير، بل إنها ستزداد قوة ورسوخا.
على أنه سرعان ما تراكمت السحب في الأفق. وفي لمح البصر اختفت لدى الرئيس الجديد الصراحة والثقة في علاقاته بنا، تلك الصفات التي ميزت ناصر ليحل محلهما الشك والسخط لسبب أو آخر.
كانت ظاهرة غريبة استمرت لفترة ما دون تفسير؛ فالاتحاد السوفييتي آنذاك لم يغير سياسته الودية البناءة تجاه مصر، ولم يكن هناك تصرف واحد ملموس يمكن أن يعكس أي شكل من أشكال التغير.
ترى هل كان ذلك يعني تغيرا في مزاج ونهج وسياسة الرئيس الجديد؟ لم يكن من السهل مطلقا الإجابة آنذاك، بشعور بالمسئولية، على هذا السؤال البالغ الأهمية بل والحاسم إذا جاز التعبير. وتمثلت صعوبة الإجابة أيضا في أن غالبية الشخصيات السياسية ورجال الدولة الذين ظلوا في مناصبهم بعد رحيل ناصر كانوا متمسكين بعلاقاتهم الودية تجاه الاتحاد السوفييتي. على أنه وبعد مرور شهرين أو ثلاثة، بدأ جزء من هؤلاء المسئولين - وهو جزء ضئيل في الواقع - في ترديد أقاويل السادات المتعسفة وافتراءاته على الاتحاد السوفييتي، وهي أقاويل لا تقوم على أساس، وخاصة فيما يتعلق بالمسائل العسكرية. وفجأة، إذا بنا أمام مقال في صحيفة أو في إحدى المجلات، حيث يعمل نفر من أصدقاء السادات أو شركائه في الفكر، يتحدث عن نقص صفقات الأسلحة السوفييتية أو عن تدني المستوى الفني لها، ويخلص «الخبير المجهول» إلى أن أجهزة الكمبيوتر توصلت إلى أن «حالة اللاسلم واللاحرب» القائمة مع إسرائيل لا يستفيد من ورائها سوى الاتحاد السوفييتي. لم تكن هذه الحملات لتهدف إلا إلى بذر روح الهزيمة لدى المصريين وتشكيكهم في قواتهم المسلحة وإهالة التراب على أصدقائهم. كان هذا التوجه الملفق والمصطنع واضحا تمام الوضوح؛ فالمصريون، فضلا عن أعدائهم ذاتهم، كانوا يعلمون جيدا قدر المساعدات الهائلة التي قدمتها بلادنا من أجل رفع القدرة الدفاعية للجيش المصري والمساهمة الحاسمة في دعمه والوصول بها إلى مستوى قتالي رفيع.
على أن البعض لم يدرك على الفور أن هذا التوجه قد بدأ مبكرا للغاية بهدف تبرير تراجع مصر عن نضالها ضد الإمبريالية والقيام بتلك التغييرات في السياسة الداخلية والخارجية التي أضمرها السادات ثم أقدم على تنفيذها مؤخرا.
وفي الوقت نفسه، أصبح الخلاف واضحا بين الرئيس والغالبية الكبرى من القيادات، التي كانت تشغل مناصب بارزة في الحكومة وفي الاتحاد الاشتراكي العربي. وفي الشأن الداخلي، قاد الرئيس اتجاها يهدف إلى التقليص الحاد لنشاط ومهام الاتحاد الاشتراكي العربي، الذي كان هو المنظمة السياسية الجماهيرية الوحيدة في مصر، والتي كانت قائمة على أسس أيديولوجية تقدمية. وإذا كان ناصر يحلم بأن يخرج من رحم هذه المنظمة تنظيما سياسيا باسم «طليعة الاشتراكيين»، فإن السادات قد سعى إلى حله.
أدرك السادات بسرعة أنه لن يستطيع أن يخضع بمفرده اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، فقد تشكلت داخل هذه اللجنة منذ ناصر ما يمكن اعتباره قيادة سياسية جماعية. وعلى سبيل المثال، فقد انتهت واحدة من أفكار السادات الطموحة في اتخاذ خطوات عملية نحو إقامة وحدة فيدرالية تجمع كلا من مصر وسوريا وليبيا (الجمهوريات العربية الفيدرالية) تحت قيادة مصر، بطبيعة الحال، انتهت بالنسبة له في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي بحالة من الفوضى. كانت هذه الفكرة الفجة والتي طرحت، علاوة على ذلك، دون تشاور مع أي من قيادات البلاد، مثارا للسخرية بين أعضاء هذه اللجنة، وهو ما أثار سخط السادات بالطبع الذي رأى أن على الجميع أن يمتثلوا لكل ما يقول.
تسنى لي حضور مؤتمرين عجيبين عقدهما الاتحاد الاشتراكي العربي؛ الأول في نوفمبر عام 1970م، حضره أعضاء اللجنة المركزية للاتحاد الذين تم انتخابهم في عهد ناصر. امتلأت قاعة الاحتفالات الكبرى في جامعة القاهرة، حيث عقد المؤتمر، بجمهور ارتدى غالبيته ملابس بسيطة راحوا يتصرفون بحرية ودون تكلف، بينما تصاعدت في القاعة أعمدة دخان السجائر، وعبر هذا الدخان وعلى نحو فني تسللت أشعة المصابيح المصاحبة للكاميرات التي أخذت في التقاط الأفلام التسجيلية وصور الوجوه والشخصيات الحاضرة في المكان. كان الموقف بأكمله يخلق انطباعا مباشرا بأن الحضور هم بالفعل ممثلو الشعب الذي نال استقلاله غير بعيد، وربما، لم يكونوا يمثلونه بدقة كما كان ينبغي، ولكنهم كانوا أناسا واثقين من أنفسهم بعد أن أصبحوا سادة في بلادهم، وأنهم ما داموا كذلك فسيجدون حتما الطريق الصحيح.
في يوليو من عام 1971م، كان الجمهور الذي حضر مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في قاعة الاحتفالات الكبرى مختلفا تماما. كان أغلبهم من الذين يميلون في الواقع لنهج السادات المعادي لعبد الناصر. نفس القاعة تشهد الآن أناسا يرتدون ملابس فاخرة، معتدين بأنفسهم على نحو ظاهر، على الرغم من حضور شخصيات أخرى في ملابسهم الشعبية، وتعكس ملامحهم روح البساطة، وإن كانوا هنا يمثلون أقلية لا تأثير لها. اتسمت كل الكلمات التي ألقيت بالرتابة والسطحية واتفقت على تمجيد السادات، وبالطبع فقد جاءت خالية من كل مضمون، على الرغم من أن المؤتمر كان مطالبا بتبني برنامج للعمل القومي، قام على إعداد وثيقته عزيز صدقي ومحمد حسن الزيات، وكلاهما كانا من قيادات الاتحاد الاشتراكي العربي.
ألقى السادات الخطاب الرئيسي. كان خطيبا متكلفا، قرأ الجزء الأكبر من خطابه بشكل استعراضي تمثيلي بارع، بينما راح يلقي بكل ورقة جانبا وإن لم يستطع أن يتلاعب بالبرنامج، حتى راحت الأوراق تقع من على المنصة إلى الأرض، ولم يكن السادات يلاحظ ذلك. ساد الصمت، وإذا به ينظر إلى الأوراق نظرة بليدة ويقلبها ذات اليمين وذات اليسار بطريقة توحي بوضوح أنه يسخر من البرنامج. كان من المعروف أن السادات غير راض في قرارة نفسه عن هذا البرنامج الذي كان يستشرف دعم قدرات القطاع العام واتخاذ إجراءات إصلاحية وتقدمية أخرى. وفي النهاية غمغم قائلا: «ما دام مشروع البرنامج موجودا بين يدي الأعضاء فلا حاجة للحديث عنه.» وهكذا لاذ السادات بالصمت ولم يطرح أي رقم.
بالمناسبة، تم استبدال «بالبرنامج» برنامج آخر تماما عضده مساعدوه الجدد بشدة باعتباره الدواء الناجع والشامل، وهو برنامج «الانفتاح» أمام رأس المال الأجنبي والمحلي.
والآن لنعد إلى أحداث نهاية عام 1970م ومطلع عام 1971م.
أشخاص بعينهم هم الذين يصنعون السياسة، وهم الذين يضعونها موضع التنفيذ؛ أي إن السياسة تنعكس من خلال تصرفات أشخاص محددين، وكان من الواضح منذ الأيام الأولى لتولي السادات منصب الرئيس أن جماعة من الذين كانوا يشغلون مناصب قيادية في عهد عبد الناصر قد اتخذوا موقفا مخالفا لنهج السادات. وعلى رأس هؤلاء، علي صبري نائب الرئيس، وشعراوي جمعة وزير الداخلية، وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ومحمد فوزي وزير الحربية، ولبيب شقير رئيس مجلس الأمة، وضياء الدين داود أمين الدعوة والفكر باللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وسامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية ، ومحمد فايق وزير الإعلام، وآخرون من قيادات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي وأمناء التنظيم في القاهرة والمدن الكبرى. وعلى الرغم من التباين والاختلاف تنظيميا بين كل هؤلاء، فإن المجموعة كانت تمثل عقبة أمام طموحات الرئيس الشخصية والتي كان يخفيها حتى عن أقرب المقربين له.
كان علي صبري يمثل الخطر الأكبر بالنسبة للسادات بسبب تفوقه الواضح عليه في الثقافة والتعليم والأفق السياسي. وفي 28 مارس 1971م أصدر السادات قرارا جمهوريا أزاح بموجبه ودون سبب واضح علي صبري من منصبه نائبا للرئيس. وكان السادات قد أبلغني بهذا القرار قبل نشره بيومين في محاولة منه لمعرفة رد فعلي تجاهه. وقد أخبرته أن «من الصعب علي التعليق على قرار اتخذه الرئيس. الأمر الوحيد الذي وددت أن أفعله هو أن أذكركم بالأمنيات الطيبة التي أبداها كوسيجين منذ نصف عام للقيادة المصرية عن ضرورة العمل بألفة وتضافر وتفادي الانشقاق في القيادة.» وعندها أخبرني السادات بلهجة حازمة أن القرار تم اتخاذه بالفعل.
لم يبد السادات أي اهتمام بالقضايا الداخلية، وعلى رأسها التنمية الصناعية والزراعية والنقل ورفاهية السكان وتطوير الثقافة. كانت القضايا الخارجية هي شاغله الشاغل، وأهمها قضية إزالة آثار العدوان الإسرائيلي وكل ما يرتبط بها من قضايا.
كان السادات يرى في نفسه خبيرا عسكريا أيضا، ولكنه كثيرا ما كان يستخدم المعلومات الخاطئة التي كان جنرالاته يمدونه بها.
لم تتوقف حدة الخلافات بين السادات والقيادات الأخرى على القضايا الداخلية بقدر ما احتد حول القضايا الخارجية؛ فعلى أثر توليه منصب الرئاسة طرح السادات شعار «ليكن عام 1971م عاما للحسم». وقد فعل ذلك بصورة منفردة ودون تشاور مع أي من القيادات الأخرى. ويعني الحسم هنا إعادة شبه جزيرة سيناء، التي احتلتها إسرائيل نتيجة لعدوان 1967م، إلى مصر. وحيث إن الإسرائيليين لم ولن يفكروا في إعادة الأراضي التي احتلوها طواعية؛ فقد كان السبيل الوحيد هو إعلان الحرب على إسرائيل.
واقع الأمر أن ذلك كان بمثابة إعلان مسبق من السادات أن مصر ستخوض الحرب ضد إسرائيل عام 1971م. كان السادات يسعى من وراء هذا الشعار إلى ابتزازنا أيضا: «لقد أعلنت هذا الشعار وعلى الاتحاد السوفييتي أن يساعدني في تحقيقه.» وعندما قلنا له: «إن الاتحاد السوفييتي صديق لمصر، ولكننا كنا نود لو أن الرئيس قاسمنا الخطط المحددة المتعلقة (بعام الحسم)، وهل تم وضع كل شيء في الحسبان؟ وما مستوى القدرات القتالية الذي وصلت إليه القوات المسلحة المصرية؟ وما إلى ذلك.» كان السادات يجيب في ضيق وإيجاز: «هذا مجرد شعار سياسي، أما باقي القضايا الأخرى فهي من اختصاص العسكريين المحترفين.» من المستحيل أن نصف هذا التصرف من جانب الرئيس بالتصرف الجاد. وفي هذا السياق، قال لي هيكل في تلك الأيام: لم يحدث مطلقا في التاريخ أن دولة أعلنت أنها ستشن حربا على دولة أخرى في العام الفلاني. إما أن هذا الأمر من قبيل الهزل، وإما أنه جريمة. أما المصريون فقد صموا آذانهم عن الأمر؛ فكم من شعارات أطلقت!
لقد بلغ الخلاف ذروته بين القيادات المصرية عندما تطرق الأمر إلى العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية. لقد تم بالفعل طرد الإمبريالية الأمريكية من منطقة الشرق الأوسط في عهد الرئيس عبد الناصر. أما بعد رحيله، فأصبح معروفا للجميع هذه الاتصالات التي يجريها السادات مع المسئولين الأمريكيين دون أن يطلع بها قيادة البلاد الآخرين. كانت هذه الاتصالات تتم بمساعدة عملاء المخابرات الأمريكية
CIA
المتسترين وراء لافتة «قسم رعاية المصالح الأمريكية» التابع للسفارة الإسبانية. فبعد قطع العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة أوكلت رعاية المصالح الأمريكية إلى السفارة الإسبانية، وتم رفع العلم الإسباني فوق مبنى السفارة الأمريكية، حيث راحت مجموعة من الأمريكيين، محسوبين على كوادر السفارة الإسبانية، تعمل بداخلها. لكن الأسرار لا تختفي طويلا؛ فقد أخبرني بذلك بعض القادة المصريين في سياق لقاءات العمل معهم، وقد اعتراهم إحساس بالخوف عن إمكانية عودة الأمريكيين إلى الشرق الأوسط مجددا. وكان أكثر ما يخيفهم هو خبر الزيارة المرتقبة لروجرز وزير خارجية أمريكا إلى القاهرة. كان من الواضح أنهم يربطون بين هذه «المبادرة» وبين حدوث تحول ما في نهج السادات. وعند لقاءاتي بالرئيس كنت أذكر له ، بطبيعة الحال، ما دار بيني وبين القيادات المصرية الأخرى. وكان السادات يسارع بالقول: «أعلم، أعلم، لقد أحاطوني علما بذلك.» كان علي أن أتوخى الحذر وقد استشعرت وجود خلافات على مستوى القيادة في البلاد. وفي نهاية لقاء جرى بيني وبين السادات في شهر مارس، وربما في شهر أبريل عام 1971م، سألت السادات على نحو يبدو عارضا: «قل لي من فضلك من هم أفضل أصدقائك الذين يمكنني التحدث معهم بصراحة تامة؟» فأجاب السادات قائلا: «محمد فوزي (وزير الحربية)، شعراوي جمعة، سامي شرف» (وكان قبل ذلك يذكر علي صبري أيضا). وقد سألني بدوره: «ولماذا تسألني يا سيادة السفير؟» أجبت: «أردت ببساطة أن أكون على ثقة فيمن أتعامل معهم.» كان السادات - بالمناسبة - يرسل في هذه الفترة إلى موسكو علي صبري ومحمد فوزي وشعراوي جمعة وسامي شرف لإجراء مباحثات مهمة هناك، مقدما إياهم كل مرة للقيادة السوفييتية باعتبارهم أصدقاءه المخلصين.
عندما وصل روجرز إلى القاهرة أصبح من الواضح أن السادات قد تعمد أن يجري معه، على نحو استعراضي، محادثات منفصلة؛ مما اضطر وزير خارجية مصر آنذاك محمود رياض إلى الجلوس ما يقرب من ساعتين في غرفة جانبية. ومن القاهرة توجه روجرز رأسا إلى تل أبيب، بينما وصل منها في نفس الوقت إلى القاهرة سيسكو نائب وزير الخارجية الأمريكية وبصحبته موظف صغير في الخارجية الأمريكية يدعى ستيرز، وقد التقى بهما السادات وعلى انفراد أيضا. وقد نالت صيحة الدهشة التي أطلقها روجرز بعد أن أعلن الرئيس السادات موقفه من قضايا الشرق الأوسط شهرة واسعة والتي قال فيها: «لا أستطيع أن أطلب المزيد من مصر!» وقد حملت هذه العبارة معني ملتبسا.
كان السادات يدرك أن «مغازلته» للأمريكيين لا يمكن أن تمر مرور الكرام؛ فقد طرح علي السادات عدة مرات أثناء أحاديثه معي اقتراحا بعقد اتفاقية صداقة وتعاون بين الاتحاد السوفييتي ومصر، وطلب مني أن أبلغ موسكو بهذا الاقتراح (بالمناسبة فقد ظهرت هذه الفكرة للمرة الأولى في عهد الرئيس عبد الناصر). على أن نبرة الرئيس آنذاك كانت تشي بأنه لا يعقد آمالا كبارا على الإطلاق على قبول اقتراحه، وأنه لا يولي أهمية لقبول اقتراحه في ظل الوضع الراهن آنذاك. كان من الواضح أن الرجل يبني حساباته على الرفض؛ إذ كان الرفض يمثل له - لسبب ما - أهمية ما .
في الحادي عشر من مايو 1971م، كنت في ضيافة السادات في مقر إقامته في الجيزة القائم على ضفة النيل بالقرب من سفارتنا. مكثت هناك لساعة متأخرة من الليل. رحنا نتبادل الحديث، بينما راحت رجال الرئيس المحببة لديه تركض حولنا وتقفز على الأريكة حيث نجلس متلمسة أطراف أقدامنا. كان السادات يقوم بإبعادها بكسل واضح وقد راح يشتكي من المصاعب والإجهاد اللذين يعاني منهما، قائلا لي إنه يحب الجلوس وحيدا في الظلام ليلا بالقرب من المياه مستسلما للتفكير. تطرقنا للحديث إلى موضوعات عديدة. عند نهاية اللقاء، طرحت عليه مرة أخرى سؤالي السابق حول أصدقائه الثقات، فابتسم قائلا: «يمكنك أن تضع ثقتك، مثلي تماما، في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء «دائرتي المقربة».» حدث ذلك في الحادي عشر من مايو.
في الثالث عشر من مايو، وبناء على اتفاق مسبق مع سفير جمهورية ألمانيا الديمقراطية (الشرقية) مارتين بيرباخ، قمنا بتنظيم حفل مشترك تأكيدا على الصداقة بين السفارتين. أقيم الحفل في سفارة ألمانيا الديمقراطية. كان الجو حارا وخانقا، وقد بذل الرفاق الألمان جل اهتمامهم لعمل برنامج جيد يتسم بالمرح. على أن السفير لم يستطع أن يفلت من أفكاره وخاصة أنه كان يستشعر (وكان هناك ما يوحي بذلك) أن أحداثا جساما على وشك الوقوع، ولكن ملامحها لم تتضح كاملة بعد.
في منتصف الحفل، تغيب السفير برهة لاستدعائه لأمر ما، وعندما عاد همس في أذني قائلا: «لقد أخبرني سائقي أنه كان يستمع للراديو، وأنهم أذاعوا نبأ استقالة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي ووزير الداخلية شعراوي جمعة!»
أعدت سؤال السفير: «استقالة؟! وما الأسباب؟ أجاب: غير معروف. لم يعلنوا أكثر من ذلك. إما أنه هو الذي تقدم باستقالته، وإما أنهم عرضوا عليه الرحيل، وربما يكون السائق أخطأ السمع.»
بالطبع كان الخبر يحمل في طياته أمورا فائقة الأهمية.
اضطررت لمغادرة الحفل، كان علي أن أعود إلى البيت وأن أعرج بعد ذلك للأهمية على دار الأوبرا، حيث يعرض باليه «دون كيخوت» من إعداد المخرجين والأساتذة السوفييت. كانوا ينتظرونني هناك، وإذا لم أذهب فربما يتم تأويل الأمر وخاصة في ضوء أحداث هذه الليلة. قررنا الذهاب إلى المسرح مع بداية الحفل لمجرد الظهور إذا جاز التعبير. وبطبيعة الحال، لم نع شيئا من العرض.
تعلمت من خبرتي الطويلة في العمل الدبلوماسي أن الحدس كثيرا ما يؤدي دورا مهما. وهو أمر ليس بمستغرب؛ حيث إن الحدس يعكس على نحو غير واع الخبرة المتراكمة. شعرت أن أمرا جللا سيقع حتما في هذه الليلة. غادرت الحفل مستترا بالظلام.
كان الوقت متأخرا، لكن رفاقي كانوا بانتظاري في السفارة. كانوا قد استمعوا من الإذاعة إلى خبر استقالة شعراوي جمعة. والآن، تبث الإذاعة المارشات والأغاني الوطنية، وهي إشارة على وقوع حدث ما مهم.
وما هي إلا برهة بعد إذاعة خبر قبول الرئيس لاستقالة شعراوي جمعة، حتي توالت أنباء الاستقالات؛ فقد قدم استقالته وزير الحربية محمد فوزي، ورئيس مجلس الأمة لبيب شقير، ووزير الإعلام محمد فائق، وأمناء اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي عبد المحسن أبو النور وضياء الدين داود وغيرهم. وقبل السادات استقالة كل من تقدم ذكره، وقام على الفور بتعيين رئيس الأركان اللواء محمد صادق وزيرا للحربية، كما عين محافظ الإسكندرية ممدوح سالم وزيرا للداخلية.
بدأ الأمر في الوضوح، يبدو أن الاستقالة الجماعية كانت بالفعل محاولة لممارسة الضغط على السادات حتى يعود للسير في خط القيادات المصرية. ويبدو أيضا أن أحدا من هذه القيادات لم يفكر في عواقب الأمور؛ فبعد أن عاد «المتآمرون»، كما أطلق عليهم فيما بعد، إلى منازلهم بعد أن تقدموا باستقالتهم، خلدوا إلى النوم على أسرتهم. لم تكن هذه بالطبع، محاولة انقلاب؛ فالانقلابات لا تتم على هذا النحو مطلقا.
لكن هذا السلوك أدهش السادات. كان كما لو أنه هو الذي قام بنفسه باستثارة كل من تستهويه طريقته في القيادة لتقديم استقالته. وها هو يجد على وجه السرعة بديلا لقيادتين ولقوتين حاكمتين؛ الجيش والشرطة. وهو ما يعني أن هذين المرشحين كانا معدين له سلفا. عندئذ تذكرت الكلمات التي قالها السادات لي منذ أقل من يومين فقط مضيا : «يمكنك أن تضع ثقتك - مثلي تماما - في شعراوي جمعة، ومحمد فوزي وسامي شرف. هؤلاء دائرتي المقربة.» لماذا قال لي ذلك؟ ثم عدت أفكر: ألم يقل لي السادات هذا وهو يضمر في نفسه فكرة محددة؟
هزت الأحداث في مصر العالم العربي بأسره، وشدت إليها انتباه العالم كله. وراحت صحافة الدول الغربية، لسبب ما، تؤكد بشدة على أن ضربة قاصمة أصابت العلاقات بين مصر والاتحاد السوفييتي. هذا ما كانت تتمناه الدول الغربية، وكل من كان استقلال مصر استقلالا حقيقيا على غير هواه.
بعد يوم من اعتقال «المتآمرين» (وهي الصفة التي أطلقت عليهم رسميا) استقبلني السادات في قصر الطاهرة. كان السادات، خلافا لعبد الناصر، يستقبل السفراء عادة في أماكن متعددة. لم يكن الرئيس الجديد يستقر في مكان أكثر من يوم واحد. كان يستقبلني تارة في بيته في القاهرة، وتارة في قصر الطاهرة، وفي المقر الرسمي لرئاسة الجمهورية الذي لا يفصل بينه وبين بيتي سوى شارع (كان السادات قد أصدر أمرا بتحويل أحد المتاحف إلى بيت ضمه إلى بيته)، وفي مقراته المختلفة في هليوبوليس وحلوان والإسكندرية والمعمورة وبرج العرب، وفي بيته في قريته في مسقط رأسه، وفي مقر الاتحاد الاشتراكي العربي، بينما لم يكن ناصر يمتلك مسكنا خاصا به. كان يعيش هو وأسرته في بيت متواضع تابع لإحدى الوحدات العسكرية. أما السادات فقد استغل وضعه واشترى بثمن بخس منزلا على شاطئ النيل وأثثه بأثاث فاخر باهظ الثمن ولكنه يفتقد إلى الذوق، ثم أغلق جزءا كبيرا من الكورنيش أمام عبور المواطنين.
لم تكن التفسيرات التي قدمها السادات مقنعة على الإطلاق، وإنما كشفت النقاب أكثر عن نهجه. كان وجهه يبدو شاحبا ضامرا وقد أحاطت عينيه هالات سوداء، وكان العرق يتصبب من وجهه طوال الوقت فلا يكاد يتمكن من تجفيفه بالورق. كان «تبريره» يتلخص في أن علي صبري والقيادات الأخرى «أساءوا إلى هيبة السلطة، وأنهم تدخلوا بشكل سافر في حقوق الرئيس»، وضرب مثالا على ذلك بقيام الاتحاد الاشتراكي العربي بإحباط فكرة إنشاء اتحاد فيدرالي يضم الدول العربية (مصر، سوريا، ليبيا، السودان). هذا كل ما في الأمر! ثم حكى بعد ذلك القصة الوهمية التي دأبت أجهزة الإعلام على إذاعتها عن أن «شابا مجهولا» حضر ذات يوم إلى بيته يحمل أشرطة تسجيل عليها تسجيلات للسادات وأحاديث لشعراوي جمعة مع علي صبري ومحمد فوزي وآخرين. وقد أدرك السادات من هذه التسجيلات مدى الشعور «العدائي» لديهم تجاهه. يقول السادات: «وعندما أردت أن أخاطب الشعب بعد أن قبلت استقالة هذه المجموعة لم يسمحوا لي بدخول مبنى الإذاعة والتليفزيون.» وأكد السادات على أن الأحداث داخل القيادة المصرية لا يجب أن تنعكس بشكل سلبي على العلاقات مع الاتحاد السوفييتي.
كانت هذه إشارة لتهدئة الاتحاد السوفييتي، والهدف هو تقديم الأمر على أن العلاقات مع الاتحاد السوفييتي تسير سيرا حسنا، وهو ما حرصت على إبرازه الصحف الكبرى في اليوم التالي حول مباحثات السادات مع السفير السوفييتي.
وفي محاولة منه لكسب تعاطف الشعب، جرى الترويج لقضية الشرائط باعتبارها واحدة من الجرائم الأساسية «للمتآمرين» الذين قاموا بالتنصت على «الآلاف» من المصريين. وقد بث التليفزيون مشهدا للسادات وبصحبته وزير الداخلية الجديد ممدوح سالم، وقد بدت الجدية على وجهيهما وهما يقفان في فناء وزارة الداخلية وقد راحا يلقيان في النار بصناديق من أشرطة التسجيل. أما المصريون الذين اشتهروا بميلهم للفكاهة فتساءلوا: ولماذا يتم حرق أشرطة تسجيل مستوردة؟ كان من الممكن مسح التسجيلات التي عليها، فضلا عن ذلك فإن هذه الأشرطة تمثل الأدلة المادية «للجرائم» التي ارتكبت.
وحتى انتهى من قصة التنصت، أذكر هنا واقعة نادرا ما تحدث في عالم الدبلوماسية. بعد شهرين من حرق الشرائط التقيت صدفة على أحد الشواطئ في الإسكندرية بالكاتب الصحفي هيكل. وبطبيعة الحال دار الحديث عن الأحداث التي وقعت مؤخرا. لم يكن هيكل متعاطفا مع «المتآمرين»، وكان يرى في تلك الفترة أن السادات يوليه قدرا من الثقة على نحو أو آخر. وذكر لي هيكل أن السادات حدثه عن اتصالاتي ب «المتآمرين»، وكان أكثر ما أثار فضولي هو أن هيكل لم يكمل حديثه في هذا الأمر حتى النهاية. أخبرت هيكل أنني كنت بالفعل ألتقي بهم في إطار أدائي لمهام عملي بطبيعة الحال، وقد كانوا جميعا يشغلون مناصب حكومية رفيعة، بل إن السادات نفسه طلب مني مناقشة أمور معينة معهم، وهو الذي كان يقوم بتكليفهم بالذهاب إلى موسكو للتفاوض حول بعض القضايا المهمة، فما المدهش في الأمر. أضف إلى ذلك أنني كنت دائما أحيط السادات علما بوجه عام بلقاءات العمل التي أعقدها معهم، وكان دائما ما يسارع بالقول بأنه يعلم بذلك. وبالمناسبة، فقد أخبرت هيكل أنني سألت الرئيس في شهري مارس وأبريل، ثم مؤخرا قبل يومين من واقعة إحراق الشرائط عن أكثر المقربين إليه الذين يمكنني التحدث إليهم بصراحة، وكان الرئيس يذكر لي في كل مرة أسماء هذه الشخصيات التي سرعان ما اتهمها بالتآمر، والذين زج بهم خلف القضبان؛ لماذا أوصاني بهذه الأسماء تحديدا؟
تردد هيكل في الحديث ولم يجب، ولكنه في الوقت نفسه قص علي أن السادات سمح له بالاستماع إلى شريط تسجيل لمحادثة تمت بيني وبين سامي شرف في التاسع من مايو 1971م.
راودني الشك في صحة الأمر، لكن هيكل اقترح علي الذهاب إلى مكتبه حتى يسمعني الشريط. رفضت، بطبيعة الحال، لرغبتي في عدم التورط في هذه القصة، حتى إني لم أبد أي اهتمام بها، على الرغم من أنني كنت على ثقة أن ما دار في تلك الأحاديث المسجلة لا يمكن أن يتضمن ما يمكن اعتباره إدانة للسفير السوفييتي. على أية حال، فقد أردت أن أتحقق من هيكل فسألته: وماذا دار من حديث آنذاك؟ - أكد سامي شرف أن تصرفات السادات لم تعد مفهومة، وأنه ماض في طريقه نحو التفاهم مع الأمريكيين، وأنه ليس من المعروف ما الذي سوف يقدم عليه بعد ساعة أو ساعتين. ثم سأل السفير : ما الذي ينبغي علينا عمله معه الآن؟ - حسنا، وماذا كان رد السفير؟
أجاب هيكل ضاحكا: أجاب السفير أن هذه ليست قضيته، السادات رئيسكم وعليكم الالتفاف حول الرئيس حفاظا على وحدة الإدارة داخل القيادة.
لقد ذكر هيكل ما حدث بالفعل.
ثم إذا بهيكل يضيف قائلا: عند هذه الفقرة من التسجيل الذي كان السادات يستمع إليه باهتمام، ضرب كفا بكف على الطريقة العربية بأسف، ثم صاح قائلا: «يا سلام! أفلت السفير وكان على شفا حفرة!» - ماذا تعني كلمة «أفلت» هنا؟ وعلى أي نحو كان علي أن أجيب عن هذا السؤال؟
راوغ هيكل في الإجابة قائلا: لا أعرف، أظن أن الرئيس كان يعول بشدة على أن يسمع إجابة أخرى.
بعبارة أخرى: كان السادات يود لو استطاع أن يزج بالاتحاد السوفييتي في هذه القصة، وأن يربط بينه وبين «المتآمرين».
لم يحظ السادات، استنادا إلى مظاهر كثيرة، بالتأييد الواسع أو الشعبية الجارفة التي كان عبد الناصر يتمتع بها. لقد حققت ثورة 1952م بقيادة عبد الناصر كثيرا من الإنجازات للكادحين، فقامت بالإصلاح الزراعي، وأتاحت إمكانية التعليم والتأمين الاجتماعي، وسنت قوانين للعمل وما إلى ذلك، لكنها لم تتمكن من القضاء على الفروق الاجتماعية ... كما أن الغالبية العظمى من الشعب المصري بقيت على حالها من الأمية. والأمي - بحسب تعبير لينين - خارج السياسة. ولهذا فإن غياب الجماهير عن المشاركة الفعالة في إعادة بناء البلاد، والسلبية تجاه ما يحدث في الشأن السياسي، كانا يمثلان الخطر الأكبر المحدق بثورة 1952م الوليدة، والتي إن لم يكتمل نموها لانتقلت السلطة بطريقة أو أخرى إلى الأقوى، والأقوى كان ولا يزال هو البرجوازية، وكان السادات هو التعبير الأمثل لمصالحها. لم تتخذ أغلبية الشعب موقفا تجاه التصرفات التي اتخذها السادات ضد أنصار ناصر والتي وصلت إلى حد مطالبة النيابة بإعدامهم. على أن غالبيتهم صدرت ضدهم أحكام بالأشغال الشاقة، بينما حكم على الباقين بالسجن لمدد طويلة.
ظل كثير من المصريين لا يعرفون جوهر الخلافات بين السادات والقيادات السياسية التي تبقت من العصر الناصري، كما لم يعرفوا نياته في التوجه نحو التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية والاتصالات السرية التي جرت بين الأمريكيين والرئيس السادات الذي نجح في إخفائها. وعلى عجل راح الأمريكيون يفسحون المجال لقوى اليمين ويضاعفون من ضغوطهم على السادات. كانت هاتان القوتان - اليمين المصري والأمريكيون - يستهدفان إبعاد مصر عن الصداقة والتعاون مع الاتحاد السوفييتي، ومن هنا ظهرت كل أشكال الشائعات المغرضة والافتراءات في حق بلادنا، كما جرت محاولات تدريجية من أجل خلق مناخ معاد للسوفييت في البلاد. كان من الضروري، بطبيعة الحال، الحيلولة دون ذلك.
أستطيع أن أقول إن الشعب المصري لا يزال يكن مشاعر المودة العميقة للاتحاد السوفييتي وللمواطنين السوفييت. لقد أتيحت لنا العديد من الفرص للاقتناع بأن «رشاش الوحل» العدائي الذي أطلقه السادات أو جزء من الصحافة المصرية على بلادنا لم يجد دعما كبيرا أو حتى انتشارا بين الطبقات العريضة من الشعب المصري. إن أهم ما يميز الشعب المصري هو حبه للعمل والحياة، وعلى الرغم مما يكتنف حياته من مصاعب، وهو دائم الشك والسخرية من كل المسلمات التي تفرض عليه من أعلى؛ فإنه شعب لا يحب البديهيات ولا يؤمن بها وإنما يتناولها بحذر وريبة. إن الغالبية العظمى من الشعب تعاني من الأمية، لكن السواد الأعظم يعلم جيدا أن أصدقاءه السوفييت وأن الدولة السوفييتية وقفا بجانبه في أوقات الشدة.
ولا يزال المثال واضحا بالنسبة للمصري البسيط الذي يتذكر الثري الإنجليزي المتعالي، والذي كان يتصرف في بلادهم تصرف صاحب البيت، وهو الآن يرى الخبير السوفييتي المتواضع وهو يعمل إلى جانبه في المصنع وموقع العمل، أو الضابط المستشار العسكري الرفيق الذي يقاسم الجنود المصريين متاعب الحياة العسكرية. كان على السادات أن يدرك الظرف الموضوعي المتمثل في مزاج المصريين وميولهم، وهو ما يفسر تصريحاته أحيانا وكلماته الطيبة تجاه الاتحاد السوفييتي وإلحاحه بصورة استعراضية على توقيع اتفاق صداقة بين البلدين ودعوة قيادات سوفييتية رفيعة لزيارة القاهرة.
كان توقيع مثل هذا الاتفاق يلبي على نحو موضوعي مصالح دعم العلاقات بين الشعبين المصري والسوفييتي ووقف أعداء هذه العلاقة من توجيه ضربة قاصمة إليها.
وقد رد الاتحاد السوفييتي على اقتراح السادات بشأن توقيع اتفاق الصداقة والتعاون بالموافقة. وتمت إبان المباحثات التي جرت في القاهرة الموافقة على المقترحات جميعا التي تقدم بها الجانب المصري.
وفي السابع والعشرين من مايو 1971م، جرى توقيع الاتفاق في القاهرة، الأمر الذي أثار قلقا واضطرابا لدى الولايات المتحدة الأمريكية. وعلى الفور وصل إلى القاهرة المبعوث الأمريكي ستيرنر قادما من واشنطن. وكان على السادات أن يؤكد لهذا الموظف الصغير أنه لا ينوي إدخال أية تغييرات على علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية.
بالنسبة للظروف التي تم فيها عقد هذا الاتفاق فإنني أذكر هنا بشكل خاص، بصفتي شاهد عيان على الأحداث، أن السادات تحدث أكثر من مرة في خطبه أن الاتفاق كان «مفروضا» عليه من الجانب السوفييتي، وأن نصه لم يراع الملاحظات وما إلى ذلك. والحقيقة أن الأمر لم يجر على هذا النحو إطلاقا.
لقد ظهرت هناك بوادر فتور في العلاقات المصرية الأمريكية، وكان السادات في حاجة إلى مزيد من الوقت ليجد حجة ما يثبت بها للولايات المتحدة الأمريكية وفاءه للعهد الذي قطعه على نفسه. وقد وجد السادات هذه الحجة في مجموعة من الخبراء العسكريين والفنيين السوفييت الذين كانوا يقومون على تدريب العسكريين المصريين وعلى إعداد وحدات الدفاع الجوي التي كانت مهمتها حماية الأجواء المصرية إبان الإعداد العاجل للأطقم المصرية، وهؤلاء جاءوا إلى مصر بناء على طلب من ناصر والقيادة المصرية، التي كان السادات واحدا منها. وهنا ظهرت سلسلة من الممارسات العدائية استهدفت إهالة التراب على النشاط المتفاني للعسكريين السوفييت الذين قاموا بنزاهة وشرف على إنجاز مهامهم العسكرية الأممية في ظروف استثنائية بالغة الشدة.
أورد هنا بعض الأمثلة فحسب. في سبتمبر عام 1971م بدأت المخابرات الأمريكية التي كانت تعمل هي وعملاؤها على نحو سافر للغاية في العمل المكثف ضد القوات المسلحة المصرية، وانتهى الأمر باكتشاف القضية التي عرفت باسم «قضية راندوبولو»، وهو مواطن مصري كان يعمل مقاولا في تشييد بعض المنشآت العسكرية تم تجنيده من قبل الأمريكيين. وفي كتابه «الطريق إلى رمضان »، كتب هيكل يقول إن التي قامت بتجنيده فتاة اسمها «مس سوين»، كانت تعمل ضمن أعضاء بعثة رعاية المصالح الأمريكية التي ترفع العلم الإسباني. وقد ألقت المخابرات المصرية القبض على راندوبولو وسوين. وفي هذا الوقت قام الجانب المصري بإبلاغنا أن راندوبولو يعمل بالتجسس لصالح إسرائيل ، وحاول المصريون اتهام العسكريين السوفييت بافتقاد اليقظة والحذر، ومن ثم، مساعدة الإسرائيليين! من ناحيتنا نفينا وبشكل منطقي هذه الادعاءات المضحكة، وأعلنا أن مكافحة التجسس تقع مسئولية الجانب المصري وحده. فيما بعد قرأت باهتمام بالغ ما ذكره هيكل في كتابه: أن يوجين ثرون رئيس المخابرات المركزية في مصر كتب خطابا صريحا، بعد أن تكشفت أبعاد القضية، إلى رئيس المخابرات المصرية ورئيس جهاز مكافحة التجسس آنذاك الفريق أحمد إسماعيل، يقول فيه: «إن أيا من المعلومات التي حصلنا عليها من هذه الفتاة لم تصل قط إلى يد الإسرائيليين، وإنها كانت لصالح الولايات المتحدة فقط، وبالمناسبة فربما تكون في صالح مصر أيضا؛ إذ يمكن بفضلها للحكومة الأمريكية أن ترد على الحكومة الإسرائيلية التي تبالغ في تقديرها لحجم الأسلحة التي يقدمها الاتحاد السوفييتي لمصر، والتي تتعلل بها لدى الولايات المتحدة الأمريكية لطلب صفقات جديدة من الأسلحة. وأود أن تعلموا أن مصر لم تكن هي الهدف من وراء عملية التجسس هذه؛ فكما تعرفون فإن الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي منغمسون في مواجهة شديدة، ونحن نتجسس عليهم لا عليكم.»
قرر السادات أن يطلق سراح الجاسوسة الأمريكية، وفي هذا السياق، أشار هيكل إلى أن ذلك كان بهدف مواصلة دعم هذه الفتاة للاتصال، والتي أصبحت تمثل له (أي السادات) أمرا غاية في الأهمية؛ السادات - المخابرات المصرية - المخابرات المركزية - المجلس الأمريكي وكيسينجر.
في مطلع عام 1972م، تعرضت مجموعة كبيرة من الضباط السوفييت، كانوا في طريق عودتهم إلى الوطن، لتفتيش مهين في مطار القاهرة. وكان الهدف من وراء ذلك، كما صرح موظفو الجمارك المصريون، إثبات صحة الشائعات السائدة التي تقول إن الروس يقومون بتهريب كميات كبيرة من الذهب. وبالطبع لم يسفر التفتيش عن وجود أي ذهب. كان علينا أن نتخذ إجراءات حاسمة في هذا الشأن بما فيها مخاطبة الرئيس نفسه. وفي مساء نفس اليوم اتصل بي السادات وكنت وقتها في ضيافة رئيس الوزراء عزيز صدقي في بيته للتحدث في بعض الأمور، قال لي السادات عبر الهاتف: إنه يشعر بالخجل أن يقرر شخص ما في مصر «مكافأة» العسكريين السوفييت على هذا النحو غير اللائق على ما بذلوه من جهد مخلص، وطلب اعتبار هذا الحادث منتهيا وكأنه لم يكن؛ أي إنه بهذا قد قدم اعتذاره بالفعل.
وفي حديث صحفي أدلى به السادات لمجلة «نيوزويك» الأمريكية اشتكى من أن عليه أن يدفع مبالغ مالية هائلة بالعملة الصعبة للاتحاد السوفييتي تمثل مرتبات العسكريين السوفييت العاملين في الجيش المصري. ولما كانت هذه المزاعم بعيدة تماما عن الواقع، فقد قلت للسادات مداعبا في أحد لقاءاتي به مستندا إلى هذا الحديث: إن العسكريين السوفييت مندهشون لعدم حصولهم على العملة الصعبة حتى الآن. تجهم وجهه ثم قال في غضب مفتعل: هذه من بنات أفكار الصحفيين.
ومع ذلك، فقد صرح النائب الجديد لوزير الخارجية إسماعيل فهمي للصحافة أن الاتحاد السوفييتي حليف لا يركن إليه، وأنه لن يذهب مع مصر «حتى النهاية» (أي نهاية؟) وقد وصل الاستياء بوزير الخارجية المصري والسفير السابق لدى موسكو مراد غالب إلى حد أنه سعي لعزل إسماعيل فهمي من منصبه نائبا لوزير الخارجية (الذي حدث أن مراد غالب هو الذي تم عزله من منصبه ليصبح إسماعيل فهمي وزيرا للخارجية).
وأخيرا حزم السادات أمره.
في يوليو عام 1972م، تسلم السادات رسالة من نيكسون. وعندما التقيت به بعد عدة أيام بناء على طلبه، طلب مني فجأة، وهو في حالة شديدة من الاضطراب، أن أبلغ موسكو، دون إبداء أسباب، أنه ليس بحاجة إلى خدمات العسكريين السوفييت في مصر. هكذا دون كلمة شكر واحدة على ما قدموه من جهد متفان وإنكار للذات، ودون كلمة عن أسباب هذا القرار المفاجئ، الذي لا يمكن تفسيره بصورة رسمية والذي ستكون له، دون أدنى شك، عواقب سياسية هائلة. لم تكن نبرة الرئيس تشوبها أدنى رغبة في التعاون، وقد شمل «قراره» بملاحظات لاذعة وحادة تمس العسكريين السوفييت، وهي ملاحظات لم أستطع، بطبيعة الحال، أن أرد عليها.
عندما أدركت أن الرئيس، على الرغم من كل محاولاتي، لا يريد أن يتطرق إلى لب الموضوع، كان علي أن أذكره أن العسكريين السوفييت جاءوا إلى مصر نتيجة الإلحاح والطلبات المتكررة من الرئيس عبد الناصر، ومنه هو شخصيا فيما بعد وبأمر من الحكومة السوفييتية وأنهم، وبغض النظر عن المصاعب التي واجهوها، قد أدوا واجبهم الأممي بشرف وهم يضعون نصب أعينهم هدفا واحدا هو أن تكون مصر دولة قوية، وأنهم لا يستحقون هذه الكلمات التي قالها عنهم الرئيس، وإنني لن أفهم هذه الكلمات. ولما وجدت لديه الرغبة في الاستمرار مرة أخرى في إهانة العسكريين السوفييت، قلت له إنه إذا لم يكن لديه شيء آخر يقوله، فسوف أبلغ موسكو بما أعلنه. ودعته بإيماءة من رأسي وأنا أغادر المكان.
بعد خروجي، قام السادات، كما حكى لي هيكل فيما بعد، باستدعائه هو ورئيس الوزراء عزيز صدقي ووزير الحربية محمد صادق وأبلغهم ب «قراره».
صاح هيكل: لماذا فعلت هذا؟ هل فكرت في عواقب ذلك على الجيش؟ على البلد؟ وقال هيكل إنه شعر بطعنة لأن ناصرا هو الذي ألح على القيادة السوفييتية في وجود السادات تحديدا لإرسال عسكريين سوفييت إلى مصر، والآن يأتي السادات ليلغي بمفرده ما عمل ناصر بدأب على تحقيقه. لم أكن على علم آنذاك، بطبيعة الحال، بما كتبه هيكل في كتابه «الطريق إلى رمضان» حول الرسالة السرية التي بعث بها رئيس الولايات المتحدة نيكسون إلى السادات، والتي يقول له فيها: الآن يمكنكم أن تنعموا بالراحة وأن تفعلوا ما يحلو لكم. ولكن عليكم أن تتذكروا أن مفتاح حل مشكلة الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية. ليس عبثا أن كتب كيسينجر في مذكراته حول قرار السادات بإبعاد الخبراء العسكريين السوفييت: «لقد حصلنا منه على كل شيء ولم نعطه شيئا.»
بالطبع فقد غادر المستشارون العسكريون السوفييت ومعهم الفنيون مصر على نحو منظم، أما مشاهد الوداع في الجيش المصري فكانت مؤثرة للغاية. كثير من الضباط والجنود انخرطوا في البكاء واعترفوا بهول الشعور المفاجئ بالوحدة و... الخجل لما أقدم عليه رئيسهم.
فكرت كثيرا في ذلك القرار الذي اتخذه السادات. لا شك أن هذا القرار قد جرى اتخاذه قبل ذلك بكثير. ما الذي دفعه لاتخاذ هذه الخطوة التي أضعفت مصر سياسيا وعسكريا؟ لقد دعم وجود العسكريين السوفييت الجيش المصري حتى وصل به إلى المستوى المطلوب من الإعداد، فضلا عن ردع إسرائيل عن القيام بعمليات عسكرية كبرى ضد مصر. يكفي أن نذكر التوقف الكامل للغارات الجوية التي كان الإسرائيليون يقومون بها على المناطق المأهولة بالسكان بعد أن أصبحت مؤمنة تماما.
بعد عدة أيام من إعلان قرار السادات بإبعاد العسكريين السوفييت أخبرني السفير البريطاني لدى مصر بصراحة مذهلة قائلا: «كنا في السابق نسعى بشكل أو آخر لتسوية أزمة الشرق الأوسط بسبب وجود العسكريين السوفييت في مصر، الذين كنا نرى ضرورة مغادرتهم مصر. أما الآن وقد غادرها عسكريوكم، فلم يعد لدينا الحافز بتسوية المشكلة.» وهكذا تخلى السادات عن ورقة الضغط التي كان العرب يملكونها، والتي كانت ستساعد على تسوية الصراع في الشرق الأوسط.
إذن، فقد كانت لدى السادات خطط ما في علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، وكانت تصرفاته هذه تلويحا له يقول: «أنا معكم!» لكن التقارب بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية، والذي راحت إسرائيل تؤيده بنسبة 100٪ كان بحاجة إلى ما يدعمه ويبرره. لم يكن ذلك ممكنا إلا في حالة ما إذا ظهرت الولايات المتحدة بمظهر مختلف تبدو فيه صانعة للسلام أو - إذا جاز التعبير - «السمسار الشريف». لنتذكر: هنا مكمن الخطورة في تصرفات السادات، وهو ما رآه الناصريون تحديدا.
كان عام 1973م موعدا لحدث ذي مغزى عالمي وقع في الشرق الأوسط ألقى بالضوء على طريق ظهور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط. لقد اشتعلت العمليات العسكرية الضخمة التي كان أطرافها مصر وسوريا وإسرائيل، والتي عرفت باسم حرب أكتوبر أو حرب رمضان.
3
كان التوصل إلى حل الصراع العربي الإسرائيلي، أو بتعبير أدق، استعادة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل، بما فيها الأراضي المصرية، وكذلك ضمان حقوق الشعب العربي الفلسطيني هو القضية الأساسية أمام السياسة الخارجية لمصر، فضلا عن كونها القضية الكبرى التي حددت مسار الوضع السياسي الداخلي للبلاد. لقد كان نفاد صبر الدوائر صاحبة التوجه الوطني الحقيقي تجاه تحقيق العدالة على وجه السرعة أمرا له ما يبرره؛ ولهذا السبب عمل ناصر على دعم الوضع الاقتصادي لمصر وإعادة بناء القوات المسلحة المصرية بمساعدة الاتحاد السوفييتي، واتخاذ خطوات سياسية كبرى على الساحة الدولية، واستطاع أن يكسب لمصر في مجال العلاقات الخارجية العديد من الأصدقاء المخلصين وعلى رأسهم الاتحاد السوفييتي.
بعد وفاة ناصر، كان من الواضح أن قضية إزالة آثار العدوان أصبحت موضوعا للمضاربة السياسية الداخلية، والتي تجلت في صراع السادات مع خصومه. أما فيما يتعلق بالسياسة الخارجية فقد أصبحت وسيلة من وسائل الضغط، إما على الاتحاد السوفييتي (بهدف إلقاء مسئولية عدم التوصل إلى تسوية على عاتقه، وفي نفس الوقت في السعي للمطالبة بالحصول على مساعدات متميزة)، وإما على الولايات المتحدة الأمريكية (بهدف لفت الانتباه إلى نية السادات في تغيير النهج السياسي للبلاد والتلويح باتخاذ حليف له).
كان الرئيس الجديد، شأنه شأن سلفه، يدرك جيدا أن التوصل إلى حل لقضية الصراع في الشرق الأوسط دون مصر، الدولة العربية الكبرى والأكثر تقدما والأقوى من الناحية العسكرية، أمر مستحيل. وأنه ما دامت إسرائيل تحظى بدعم مطلق من الولايات المتحدة الأمريكية، وأن لها اليد الطولى على الأراضي التي تحتلها، فإن التوصل إلى حل سلمي للصراع في الشرق الأوسط بالنسبة للعديد من الدول العربية وحكوماتها هو أمر يجافي الواقع، وأنه لم يبق أمام هذه الدول سوى الاعتماد على القوة، التي يعد استخدامها شرعيا ما دام الحديث يدور عن استرداد ما أخذته إسرائيل بالقوة، وهي التي تعترف بذلك علنا في كل مكان. لم يكن بمقدور الدول العربية الأخرى بطبيعة الحال، أن تخوض غمار الحرب ضد إسرائيل دون مشاركة مصر.
ومما لا شك فيه أن السادات شعر بتفرد وضع مصر، وخاصة أن التوصل إلى عقد اتفاق تعيد إسرائيل بمقتضاه الأراضي المصرية المحتلة في شبه جزيرة سيناء مقابل السلام كان أمرا أكثر سهولة بالنسبة لإسرائيل من إعادة حقوق الفلسطينيين، وإعطاء العرب قطاع غزة وتحرير الضفة الغربية لنهر الأردن وإعادة مرتفعات الجولان إلى سوريا والانسحاب من الأراضي اللبنانية. كان باستطاعة مصر دائما استعادة أراضيها مقابل الصلح المنفرد مع إسرائيل، ولكن هذا كان يعني خيانة المصالح العربية المشتركة وعلى رأسها مصالح الفلسطينيين وسوريا والأردن ولبنان. لم تراود ناصر مطلقا فكرة هذه «الإمكانية»، بينما قرر السادات أن يمضي قدما في طريق الاستفادة من ورائها. فما إن يقف على هذا الطريق، حتى يمكنه الاعتماد على دعم الولايات المتحدة الأمريكية. كان عليه فقط أن يجد الوسيلة لظهور الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ظهورا «منطقيا».
كانت العلاقات المتطورة بين مصر والاتحاد السوفييتي هي التي تقف حجر عثرة أمام دعم العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية. وها هو السادات، كما رأينا، يعمل على إضعاف العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، على الرغم من ذلك أدى إلى إضعاف مصر والصف العربي بأكمله، ومن ثم فإن الاحتفاظ بالعلاقات السوفييتية المصرية ودعمها كانا ضروريين من أجل مساندة القضية العربية العادلة بوجه عام، ولصالح مواجهة ضغوط القوى الإمبريالية العالمية على الدول العربية.
تمثلت صعوبة اتخاذ الإجراءات العملية في علاقتنا بمصر في أنه كان علينا ونحن ننفذ خطنا الثابت في سياستنا الخارجية العامة أن نراعي بلباقة التأثيرات التي كانت تتعرض لها مصر والحكمة تجاه التصرفات السلبية غير اللائقة والعدائية من جانبها تجاه الاتحاد السوفييتي، والتي أصبحت أمرا مميزا لسياستها الخارجية في عهد السادات.
كانت العلاقات بيننا وبين مصر كثيفة للغاية، وهو ما شكل إحدى المهام الصعبة أمام عملنا الدبلوماسي الذي كانت السفارة السوفييتية جزءا مهما فيه. على سبيل المثال، فمنذ نهاية عام 1970م وحتى نهاية عام 1973م، زار الاتحاد السوفييتي ثمانية وفود مصرية رفيعة المستوى (ثلاثة منها كان على رأسها السادات نفسه)، بينما وصلت إلى مصر سبعة وفود سوفييتية رفيعة المستوى. وخلال هذه الفترة القصيرة تسنى لي بالمناسبة السفر من القاهرة إلى موسكو اثنتي عشرة مرة والعودة بطبيعة الحال.
بعد القرار الذي اتخذه السادات بإبعاد العسكريين السوفييت من مصر، وهو ما مثل دليلا على التحدي، سألني كثير من الرفاق فيما بعد، عندما أصبح سقوط السادات أكثر وضوحا: ألم نكن نرى وجهه الحقيقي، ألم يكن توجهه معروفا ؟ بالطبع، لكن كثيرا من التفاصيل، المهم منها تحديدا، تم إخفاؤها بإحكام ولم يتم الكشف عنها إلا مؤخرا. لكن تصوراتنا عن الخط الجديد للقيادة المصرية كانت صائبة، وهو ما أكدته الأحداث التي جرت بعد ذلك. إن سياستنا لا تقف على هذا الشخص أو ذاك، وإنما على القضية الأساسية التي نعمل من أجلها. صحيح أننا نضع في اعتبارنا خصائص الشخصيات وتوجهاتهم عند اتخاذ الإجراءات العملية، لكن هذه الإجراءات تكون موجهة بالدرجة الأولى بحيث نحافظ من خلالها على نهجنا العام، آخذين في الاعتبار الظروف الموضوعية المحددة.
لقد كان نهجنا الذي اتبعناه في الشرق الأوسط وسيبقى هو تحقيق السلام العادل لكل دول المنطقة، وهذا السلام لا يمكن تحقيقه دون عودة الأراضي العربية التي احتلتها إسرائيل، وضمان الحقوق المشروعة للفلسطينيين، بما في ذلك حقهم في إقامة دولتهم المستقلة، وضمان أمن وسلامة شعوب ودول المنطقة جميعا، بما فيها إسرائيل. كل هذا لا يمكن تحقيقه إلا بالتخلص من تأثير القوى الإمبريالية التي تتمثل مصالحها في تحويل الشرق الأوسط إلى رأس جسر لها للاعتداء مستقبلا على استقلال الدول الأخرى؛ لكي تصبح هذه الدول ذاتها رأس جسر ضد الاتحاد السوفييتي وعلى الحدود الجنوبية القريبة من بلادنا. إن نهجنا في الشرق الأوسط قائم من أجل الصداقة مع الدول العربية وغيرها من الدول والشعوب على أساس مبدأ التعاون المشترك معها.
منذ اللحظة الأولى على تقلده سدة الحكم، وكما ذكرنا من قبل، أطلق السادات شعار: عام 1971م هو عام الحسم في الصراع العربي الإسرائيلي! كيف، ومتى، وبأي وسيلة، وعلى أي أساس؟ لم تكن هناك إجابة. «الحسم» وكفى. على الفور بات واضحا أن الأمر مجرد شعار وحسب، ومن ثم فهو غير قابل للتحقيق. فيما بعد اضطر المحيطون بالسادات إلى تقديم تفسير على النحو التالي: إن عام 1971م هو عام «الحسم» بمعني أنه ينبغي فيه اتخاذ القرار، الذي يجب اتخاذه لحسم المشكلة. لم يزد الأمر على أن يكون مراوغة لفظية. ثم جاء عام 1972م ليصبح أيضا عام «الحسم»، وهنا أسقط السادات فشله على الاتحاد السوفييتي مدعيا أنه انشغل بتقديم الدعم ... إلى الهند! ثم حل العام 1973م لتشهد كواليس الاتصالات بين السادات والأمريكيين تصاعدا محموما.
تمثل النهج الأمريكي في زيادة الضغط على مصر، أو بالأحرى على رئيسها وفي الإلحاح المستمر عليه بفكرة أن الولايات المتحدة الأمريكية وحدها هي القادرة على دفع قضية التسوية في الشرق الأوسط نحو التحرك؛ أي ب «التأثير» على إسرائيل. ولكنهم راحوا يؤكدون في الوقت نفسه على أن الولايات المتحدة لن تنفذ ذلك «دون مقابل»، وأن الثمن يتلخص في تقليص، ثم القضاء الكامل على ما يعرف ب «الوجود السوفييتي» في الشرق الأوسط، وفي مصر بالدرجة الأولى، وخاصة الوجود العسكري. كان ذلك، بطبيعة الحال، مضاربة بحتة تأكدت فيما بعد. لكن هذه المضاربة كان لها التأثير الأكبر على شخص الرئيس نفسه.
في نهاية عام 1973م سافر إلى الولايات المتحدة الأمريكية مساعد الرئيس لشئون الأمن القومي حافظ إسماعيل، الذي أجرى عددا من اللقاءات السرية مع نيكسون وكيسينجر، وللتمويه على هذه الزيارة قام حافظ إسماعيل بزيارة لندن وموسكو. وفي زيارته لواشنطن تم الاتفاق على شيء ما.
وبحلول مايو عام 1973م قام السادات بتركيز كل السلطات الممكنة في يديه. لم يكتف بأن يكون رئيسا له كل الصلاحيات، وإنما شغل أيضا مناصب رئيس الوزراء والقائد الأعلى للقوات المسلحة ورئيس الاتحاد الاشتراكي العربي، ولقب آخر هو الحاكم العسكري الأعلى. لا أظن أنه في تاريخ مصر الحديث والقديم كان هناك من تجمعت لديه كل هذه السلطات القوية.
تراجع التعاون بيننا وبين المصريين، كما تراجعت من جانبهم مشاعر الإخلاص والصراحة.
في الثاني والعشرين من سبتمبر عام 1973م، وبعد عودتي من الإجازة، قمت بزيارة السادات. في هذه المرة أخبروني أنه سيستقبلني في برج العرب، وهو مكان يقع في قلب الصحراء غرب الإسكندرية.
كان من اللافت للنظر أن الساحة المحيطة بهذا البيت الصغير الضائع في الصحراء قد امتلأت بعدد من السيارات تحمل لوحات تشير إلى أنها مخصصة للشخصيات الحكومية الأجنبية الرفيعة المستوى. وقد اتضح أن السادات كان يستقبل نيلسون روكفلر وبعض الشخصيات الأمريكية الأخرى. رافقنا بعض الحراس إلى قاعة استقبال جانبية، وفيها كان يتناهى إلى أسماعنا صوت ضحكات الأمريكيين المجلجلة. مضت عشرون دقيقة وأكثر على الموعد المحدد، وعندها أخبرنا الضابط المكلف أنه إذا كان الرئيس مشغولا اليوم إلى هذا الحد، فسوف نغادر المكان وليحدد لنا موعدا آخر. خرج الضابط إلى مكان ما، وبعد أن عاد أخبرنا أن الرئيس مستعد للقائنا الآن.
كان الرئيس لا يزال واقعا تحت تأثير الحديث الذي انتهى منه للتو. كان ينظر باتجاه ما بالقرب منا، وكان من الواضح أنه لم يستعد تركيزه للتحدث معنا بعد. وفي النهاية بدأ حديثه متخيرا كلماته بدقة قائلا: إن الوضع المتعلق بتسوية قضية الشرق الأوسط بات «غير محتمل». ثم ماذا سيحدث لو أنه (السادات) «فجر الموقف»؟ ما الذي يمكن للآخرين أن يفكروا فيه؟
على الفور خطرت على بالي فكرة: هل يمكن أن يكون السادات قد قرر البدء في العمليات العسكرية؟ وأين ذهبت تأكيداته بأنه مرتبط ارتباطا وثيقا في هذا الشأن بالاتحاد السوفييتي، وأنه سوف يتبادل الرأي والمشورة معه؛ فالعمليات العسكرية هي الخطوة الأخيرة في السياسة، وفي الغالب لا يمكن التنبؤ بنتائجها. وفي سباق العمليات العسكرية دائما ما يؤمن كل طرف بأنه هو الذي سيحرز النصر، وفي النهاية ينتصر طرف واحد، بينما يخسر الآخر. وغالبا ما يكون المهزوم هو من بدأ الحرب. لم يقدم لنا الرئيس أية تفسيرات، وإنما ظل، كما يقولون، «يداور ويناور».
دفعني الحديث مع الرئيس دفعا إلى أن أعاود النظر مليا في الموقف في البلاد مرة أخرى. لم تكن هناك أية مؤشرات مباشرة بشأن بدء العمليات العسكرية في القريب العاجل، لكن المؤشرات غير المباشرة كانت محسوسة، لكن ذلك لم يكن كافيا للوصول إلى استنتاجات محددة؛ فذات يوم توقف رتل من السيارات كان يسير في أحد شوارع القاهرة لمدة طويلة، وكانت السيارة التي تقلني واحدة من بين هذه السيارات. كان الهدف فتح الطريق لرتل آخر من سيارات النقل العسكرية تحمل زوارق مخصصة لعبور الموانع المائية. فكرت أنه لو كانت هناك استعدادات تجري لخوض الحرب، فلماذا ينقلون هذه المعدات على هذا النحو الاستعراضي ليعلنوا عن عبور قناة السويس؟ ناهيك عن أن الضباط المصريين بدءوا في الظهور بملابس الميدان. وإذا كانت هناك استعدادات تمت ملاحظتها داخل القوات المسلحة، فإن شيئا من الاستعدادات تجاه وقوع أية عمليات عسكرية لم يلاحظ في العمق.
في الثالث من أكتوبر، كنت في زيارة للسادات في منزله الخاص القريب من السفارة. وفي سياق الحديث الذي دار بيننا، تحدث السادات عن الاستفزازات المستمرة التي تقوم بها إسرائيل، وعن إمكانية قيام المصريين برد عسكري ضد ما أسماه «الاستفزاز الكبير»، وأردف قائلا: «وليكن ما يكون.» وردا على سؤالي حول ما إذا كانت هناك تصورات بشأن موعد ومستويات هذا الرد، أكد السادات أنه سيخبرني حتما عندما تقتضي الحاجة ذلك «في حينه»، ومرة أخرى لم يذكر شيئا محددا، ولكنه طلب مني ألا أغادر القاهرة، وأن أظل في انتظار مكالمة هاتفية منه.
في اليوم التالي أبلغت السادات بأن موسكو اتخذت قرارا بنقل زوجات العاملين السوفييت وأطفالهم، وطلبت منه مساعدة السلطات المصرية في ذلك، وقد وافق السادات.
نجحنا في زمن قصير للغاية في نقل أكثر من 2700 امرأة وطفل، وكذلك حوالي ألف شخص من عائلات العاملين في السفارة وغيرهم من الخبراء من الدول الاشتراكية الأخرى. كان النقل يتم دائما ليلا في حافلات إلى الإسكندرية ثم إلى السفن السوفييتية أو على رحلات جوية خاصة من القاهرة (في حالة ما إذا لم يكن المطار مغلقا). وقد خصصنا في السفارة هيئة خاصة للإخلاء. جدير بالذكر أن المستشار الاقتصادي ن. ل. لوباتين والممثل التجاري أ. إ. لوباتشيف والمستشار ب. س. أكوبوف والسكرتير الأول ف. ن. يودين، قد بذلوا جهودا مضنية في هذا الصدد.
وعلى الرغم من أن السادات تجنب مرة أخرى التصريح لي بأية معلومات محددة، مع أنني حاولت تغيير دفة الحديث إلى موضوعات أكثر تحديدا، فقد أصبح من الواضح تماما أن أعمالا عسكرية سوف تبدأ اليوم. عندئذ خطرت ببالي فكرة: على أي نحو سوف يخبرني الرئيس عند وقوع الحدث الأهم «في حينه» كما أخبرني من قبل! وما هذه «المعلومات »؟ أضف إلى ذلك أنه سيخبرني بها قبل وقوعها بساعات أربع. وأين هو من وعوده بالتشاور؟ وهلم جرا.
2
أسرعت عائدا إلى السفارة حيث وصلتها ظهرا تقريبا. وبعد أن تعاملت مع المعلومات العاجلة، قررت أن أتناول غداء خفيفا متوقعا أن أوقات الطعام والنوم سوف تتضاءل فيما بعد. وفي الثانية ظهرا تقريبا دق جرس الهاتف المنزلي العادي. طلبت من السكرتيرة فافا جوليزادي أن ترد، فإذا بها تعود لتخبرني: «الرئيس يريد التحدث معك.» راودني الشك. الرئيس يطلبني على الهاتف العادي؟ أمسكت بالسماعة فإذا بصوت السادات يأتيني متهللا: «سيادة السفير! .. نحن الآن على الضفة الشرقية للقناة! والعلم المصري يرفرف عاليا على الضفة الشرقية! لقد عبرنا القناة!»
هكذا بدأت حرب أكتوبر 1973م، وهي حرب تستحق وصفا مستقلا وتحليلا تفصيليا وافيا، بما في ذلك تلك الأحداث كما رآها شهود العيان، الذين كنت من بينهم ومعي العاملون بالسفارة السوفييتية في القاهرة. ونظرا لأن ما نشر هنا في الوقت الحالي لا يسمح بذلك، فسوف أكتفي ببعض الجوانب العامة، التي بإمكانها، من وجهة نظري، أن تلقي الضوء على نحو ساطع على ما وقع من أحداث، أو تعرض حقيقة عدد من الظواهر تم تزييفها بعناية فيما بعد على يد الأمريكيين أو على يد السادات نفسه.
على مدى شهر أكتوبر ومطلع شهر نوفمبر، تسنى لي مقابلة الرئيس السادات عمليا مرة كل أسبوع، وأحيانا عدة مرات في الأسبوع الواحد. كما تعددت أحاديثي معه بواسطة هاتف خاص مغلق بيننا، تم تركيبه بأمر من السادات من طراز «بي. بي. إكس». كما استمر الاتصال بيني وبين موسكو عبر خطوط الهاتف والراديو. اتخذت السفارة آنذاك كل إجراءات التعتيم والتمويه الصارمة، وأعدت مخبأ محصنا، كما تم تخزين احتياط كاف من المواد الغذائية ومياه الشرب وبطاريات الإضاءة والشموع والكبريت والأدوات المكتبية والأدوية والمهام الطبية. وبمساعدة من تبقى من النساء تم تنظيم وجبات جماعية في مبنى المدرسة. باختصار، اتخذت حياتنا طابع المعسكرات. كنا ننام من ثلاث إلى أربع ساعات في اليوم.
شهدت الأيام الأولى للحرب، كما هو معروف، نجاحا مطردا لصالح المصريين؛ ففي خلال عدة ساعات تمكنوا من عبور قناة السويس على امتدادها، ليتمركزوا على الضفة الشرقية لها. كانت الخطة الموضوعة تقضي بأن يستغرق هذا الجزء من العملية لا أقل من يوم بأكمله، وتفترض أن تصل خسائر القوات المصرية المشاركة على نحو مباشر في عبور القناة إلى ثلث هذه القوات. على أن الخسائر تراوحت بالفعل ما بين 10 إلى 15٪. باء الهجوم المضاد الذي شنته القوات الإسرائيلية بالفشل، كما أن قوة المقاومة لدى الإسرائيليين لم تكن ذات أهمية. ظهرت منظومة الصواريخ المضادة للطائرات باعتبارها قوة فعالة مثلت حاجزا منيعا تهاوت أمامه الطائرات الإسرائيلية، كما شكلت هذه المنظومة «مظلة» واقية وفرت الحماية للقوات المصرية المقاتلة.
وعلى الأرض أظهرت الصواريخ المضادة للدبابات، المعروفة باسم «ماليوتكا»،
3
كفاءة عالية ودقة متناهية في إصابة الهدف، وهو ما أنزل بالإسرائيليين على الفور خسائر فادحة. كما أثبتت الأسلحة والمعدات الأوتوماتيكية الخفيفة والمعدات ذات الحركة الذاتية التي كانت ضمن تسليح الجيش المصري قدرة فائقة في ظروف القتال في الصحراء المكشوفة.
كان السادات في أوج سعادته من جراء الكفاءة الرفيعة للأسلحة، وكان دائما في أحاديثه معي يوجه الشكر للاتحاد السوفييتي بعبارات جزلة. وقد قال لي ذات مرة وقد أخذه الحماس: «سيأتي اليوم الذي أتحدث فيه عن المساعدة العظيمة التي قدمها لنا الأشقاء السوفييت!» لم يكن الأمر متوقفا على مجرد الكفاءة العالية للمعدات العسكرية السوفييتية التي أثبتت تفوقها على نظيرتها الأمريكية الموجودة في يد الإسرائيليين، وإنما بتأثير الجهد الطويل الدءوب الذي بذله المستشارون العسكريون السوفييت، وإلى جوارهم الخبراء الفنيون المختصون الذين عملوا على النهوض بالجيش المصري من كبوته التي مني بها في عام 1967م، وفي إعادة الثقة له ثم تدريبه تدريبا رفيعا تحت شعار «التدريب الشاق يجعل المعركة سهلة». وهو ما حدث بالفعل دون أدنى شك. لكن أمورا كثيرة كانت مثارا للحيرة. كيف عجز الإسرائيليون، وهم يملكون جهاز استخبارات ذي كفاءة عالية، عن ملاحظة تمركز القوات المصرية عند قناة السويس (لن أتحدث هنا عن المخابرات الأمريكية وما تملكه من أجهزة فنية متطورة)، وهل كانت العمليات العسكرية التي قامت بها القوات المسلحة المصرية والسورية مفاجئة إلى هذا الحد بالنسبة للقوات المسلحة الإسرائيلية؟ لماذا كانت القوات الأساسية الإسرائيلية متمركزة في الشمال بالقرب من الحدود السورية، بينما كانت القوة الرئيسية العربية - القوات المسلحة المصرية - مرابطة عند الجنوب؟ لماذا رفض السادات دخول الملك حسين ملك الأردن المعركة، وكان من الممكن أن تقوم القوات المسلحة الأردنية بتنفيذ مهمة غاية في الأهمية؛ وهي قطع الطريق أمام القوات الإسرائيلية القادمة من الشمال، من الجبهة السورية، متجهة إلى الجنوب، إلى الجبهة المصرية؟ لماذا لم تبد القوات الإسرائيلية المرابطة شرق قناة السويس مقاومة حاسمة في مواجهة الهجوم المصري، بل وصدرت لها الأوامر بعد فترة قصيرة بالانسحاب وبحسب التقديرات التي يراها قادتها؟ كيف يمكن تفسير، على سبيل المثال، ما نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط المصرية في الثاني من أكتوبر عن إعلان حالة التأهب القصوى في الجيشين الثاني والثالث اللذين عبرا قناة السويس؟ ألم تنتبه وسائل الإعلام الإسرائيلية إلى ذلك؟ مثلما لم تنتبه إلى عملية الإخلاء الضخمة للنساء والأطفال الأجانب من مصر؟ إن العديد من الأسئلة المتعلقة بحرب أكتوبر لا تزال بلا إجابة حتى الآن، ومن ثم فإنه ليس من قبيل المصادفة أن كثيرا من الباحثين في شئون حرب أكتوبر قد طرحوا سؤالا يقول: «هل كانت العمليات العسكرية التي جرت بين مصر وإسرائيل «مخططا» لها مسبقا؟» إذا كان الرد بالإيجاب لوجدنا عندئذ كل الإجابات المنطقية للأسئلة التي طرحناها، وأصبحت المحصلة السياسية النهائية للحرب هي ما حدث مؤخرا - إحباط مؤتمر جينيف الدولي للسلام ومعاهدة «كامب ديفيد» وغيرها - أمرا أكثر وضوحا.
لقد تسللت هذه الأفكار، بطبيعة الحال، إلى رأسي . لكن الأمر العاجل في هذا الوقت كان مختلفا تماما. لقد راحت العمليات العسكرية تتصاعد على نحو جاد، وفي لحظات الحرب كان من المهم أن تكون هذه العمليات واضحة أكثر من أي وقت آخر.
لقد شن الجيش السوري هجومه الناجح في نفس الوقت مع الجيش المصري، واستطاع استرداد مرتفعات الجولان من أيدي القوات الإسرائيلية. وبينما كان المصريون يطورون هجومهم إلى الأمام، إذا بهم .. يتوقفون. وهنا ركزت القوات المسلحة الإسرائيلية كل جهودها على الجبهة السورية، وسرعان ما استردت الأراضي التي حررها السوريون لتتقدم باتجاه دمشق، ولتبدأ في شن غارات جوية مكثفة على المدن والموانئ السورية. وهكذا أوقف الجيش المصري عملياته القتالية، على الرغم من أنه بات واضحا أن المناورة الاستراتيجية للإسرائيليين تمثلت في تفتيت خصومها إلى جزءين؛ سوريا أولا، ثم مصر من بعدها. كان من المنطقي - من وجهة النظر العسكرية - أن يواصل المصريون تقدمهم؛ إذ كان من الصعب على إسرائيل أن تعيد الإمساك بزمام الأمور لو أن الحرب جرت بصورة فعلية على الجبهتين المصرية والسورية معا. لو أن .. كل القضية كانت معلقة بهذه ال «لو أن».
وردا على سؤال حول الخطط العامة للعمليات العسكرية، أجاب السادات بعصبية بالغة قائلا إنه «لا ينوي الجري في سيناء»، وإن تكتيكه يتلخص في إنزال أكبر خسائر ممكنة بالإسرائيليين وليس في «الاستيلاء» على الأرض، وإنه سوف ينتظر قدوم قواتهم المسلحة الرئيسية (!) ليطحنها. إنه لمنطق عسكري وتكتيك غريبين بعد أن أوشك المصريون على الاقتراب من ممري «الجدي» و«متلا» في سيناء، وأصبح الطريق مفتوحا وممهدا إليهما. ومن المعروف أن من يمتلك هذين الممرين يمتلك بالفعل سيناء بأكملها.
في التاسع والعاشر من أكتوبر بدأ السوريون في التراجع، بينما توقفت القوات المصرية عن الحركة تماما. كانت هذه هي السياسة، وهي سياسة خلقت انطباعا لا إراديا أن القوات المصرية كما لو كانت قد «نفذت» ما كلفت بفعله، وأن هذه القوات ليس لديها خطط أكثر. في الواقع لم تكن هناك، ربما، أية خطط، ولكن كانت هناك خطط أخرى سياسية.
منذ اندلاع الصراع والنشاط السياسي العاصف يزداد أواره بين جدران الأمم المتحدة وفي عواصم معظم دول العالم. وانشغل مجلس الأمن بهذا الصراع، عندما طرح عليه مشروع القرار الأمريكي، الذي يطالب بسرعة وقف إطلاق النار وانسحاب القوات المتحاربة إلى مواقعها التي كانت عليها قبل السادس من أكتوبر. كان من الواضح أن الولايات المتحدة نفسها كانت تدرك عدم الشرعية السياسية في طلب عودة القوات إلى مواقعها التي كانت عليها قبل نشوب الحرب، يعني موافقة العرب على «شرعية» احتلال إسرائيل لأراضيهم؛ فالعرب إنما قاموا بتحرير أراضيهم ولم يحتلوا أراضي غيرهم. وبطبيعة الحال فقد رفض العرب وأصدقاؤهم المشروع الأمريكي. وقد اتضح أن المشروع قد تم تقديمه على هذا النحو كسبا للوقت اللازم حتى تتمكن الولايات المتحدة من إرسال صفقات كبيرة من الأسلحة إلى إسرائيل. وهو ما تحدث عنه هنري كيسينجر بعد ذلك في مذكراته.
ناقشت الأمم المتحدة اقتراحا بشأن اتخاذ قرار يطلب من الأطراف وقف إطلاق النار مع بقاء القوات المتحاربة في مواقعها الحالية، وفي الوقت نفسه تم النظر في تنفيذ قرارات الأمم المتحدة السابقة بشأن وقف احتلال إسرائيل للأراضي العربية. والآن، إذا ما نظرنا للماضي، يمكن أن نتصور أن قبول هذا القرار في هذه اللحظة - وبعد أن استعادت سوريا بالفعل كل الأراضي التي احتلتها إسرائيل، كما قامت القوات المسلحة المصرية باستعادة 12-15 كيلومترا على الضفة الشرقية بامتداد الجبهة على قناة السويس - أمر في صالح العرب، وخاصة أن وقف العمليات العسكرية في هذا الوقت كان من شأنه أن يوفر فرصا جيدة لتسوية مجمل الصراع العربي الإسرائيلي على أسس عادلة. على أن هذا القرار قوبل بمعارضة شديدة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية و... مصر! لقد بدا «توافق» هذين الموقفين أمرا غريبا؛ فقد توقفت القوات المصرية تماما عن العمليات العسكرية، ولو أنها كانت تواصل تقدمها في تحرير أراضيها، لكان موقف مصر مفهوما.
4
أما موقف الولايات المتحدة الأمريكية فكان مفهوما؛ إذ كانت تنتظر هجوما إسرائيليا ضخما، وكانت تواصل هي إمداداتها لصالح إسرائيل. فلماذا إذن لم توافق مصر على هذا المشروع؟
وقت طويل استغرقناه أنا والسادات في بحث القرار الأفضل لمجلس الأمن بالنسبة لمصر وسوريا. كان الصمت يخيم على الجبهة المصرية في تلك الفترة، بينما راحت إسرائيل مستندة إلى الجسر الجوي الأمريكي وعلى القواعد الأمريكية في أوروبا في الحصول على صفقات عسكرية ضخمة توجه آلتها العسكرية بكل ضراوة نحو سوريا. وكان السادات يرد قائلا: إذا كانت سوريا عاجزة عن الهجوم ، فلتأخذ موقف الدفاع (وكأن اتخاذ موقف الدفاع أمر سهل)، أو فلتشن حربا شعبية فلديها أراض واسعة ... وهلم جرا. لم يكن الوضع على الجبهة السورية يهمه في قليل أو كثير. كان من الواضح أنه كان يمط الزمن منتظرا أمرا ما. ما هذا الأمر؟ ها هم الإسرائيليون يبدءون في قصف المعابر المصرية على القناة.
في السادس عشر من أكتوبر وردت إلينا أخبار مفاجئة تفيد بعبور خمس أو ست دبابات إسرائيلية إلى الضفة الغربية لقناة السويس!
وقبل هذا اليوم بأسبوع تقريبا، وبعدما أصبح خط الجبهة على الضفة الشرقية واضحا، لفتنا انتباه القيادة المصرية على الفور بوجود فاصل كبير بين الجناح الأول للجيش الثاني والجناح الأيسر للجيش الثالث عند البحيرات المرة خلف القناة. كان هذا معناه أن جناحي الجيش عرضة لهجوم الإسرائيليين الذين يستطيعون فصل الجيشين عن القناة. ومن المعروف أنه لم يكن هناك في هذه الفترة مستشارون عسكريون سوفييت في الجيش المصري. وقد أجاب العسكريون المصريون على أسئلتنا بأنها من «متطلبات تنظيم القتال». وهكذا تسللت الدبابات الإسرائيلية تحت جنح الليل لتعبر القناة إلى الشاطئ المصري الأفريقي لتتمركز تحديدا عند هذا الفاصل، عند حلق مدخل القناة في البحيرات المرة.
وقد شرح لنا السادات الموقف بقوله: إن هذه الدبابات ما هي إلا «مجموعة تخريبية»، وإن مصيرها «الهلاك». ثم أردف قائلا لسبب ما أن هذه مناورات «سياسية» (؟) من جانب الإسرائيليين.
وفي مساء السادس عشر من أكتوبر وصل إلى القاهرة ألكسي كوسيجين للتشاور مع السادات. وبينما كنا في انتظار هبوط الطائرة في المطار سألت حافظ إسماعيل مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي عن الدبابات الإسرائيلية التي تسللت إلى غرب القناة ، فأجاب بأنها «حكاية سخيفة» يتعامل معها العسكريون على النحو المطلوب، وأنه لا داعي للقلق. وقد اتضح فيما بعد أن «العسكريين» لم يتخذوا في الواقع أي إجراءات للتخلص من الثغرة بأوامر من «أعلى». وهكذا، أصبح الموقف الآن على الجبهتين لغير صالح العرب. فالمصريون لم يعد باستطاعتهم - حتى وإن أرادوا - تقديم أي دعم للجبهة السورية، حيث تم إيقاف هجوم الإسرائيليين على مقربة من دمشق بصعوبة بالغة.
وعلى الرغم من أن زيارة كوسيجين كانت تعتبر «سرية»، فإن المصريين أعطوا للوفد تصريحا لدخول مطار القاهرة الدولي، الذي تحول إلى قاعدة لل
B.B.C ، كتب عليها «بمناسبة زيارة رئيس وزراء الاتحاد السوفييتي»، كما وضعوا عند مقدمة السيارة المخصصة له العلمين المصري والسوفييتي، ورافقتها الدراجات النارية.
راح ألكسي كوسيجين ينظر باهتمام شديد من خلال نافذة السيارة إلى القاهرة في الليل، والتي من المفترض أنها تعيش، إذا جاز التعبير، «حالة حرب». وقد لاحظ الإهمال في التعتيم على مصادر الإضاءة، كما شاهد عددا كبيرا من الشباب يتسكع، وغيابا كاملا، في رأيي، لما يمكن أن نسميه «حالة حرب». كانت الحرب بالنسبة لكثير من المصريين البسطاء تبدو وكأنها تجري بعيدا في مكان ما بالقرب من القناة، يديرها عسكريون محترفون، أما لماذا تدور وما هي أهدافها، فهو ما لا يعرف عنه المصري البسيط الأمي إلا قليلا. لم تكن أسماء أبطال الحرب معروفة (وهؤلاء لم يكن عددهم بالقليل)، ولم تكن هناك إشارة واحدة في الصحافة أو الإذاعة والتليفزيون حول موقف الاتحاد السوفييتي (أبلغني السادات أن كل ذلك كان متعمدا إخفاؤه «لأسباب أمنية»). يا لها من رحب غريبة!
اجتمع السادات وكوسيجين لتبادل الرأي على انفراد، وأحيانا في حضور السفير السوفييتي ومستشار الرئيس للأمن القومي. وكان السادات يعبر «ظاهريا» عن مشاعر الود، لكنه نفى بعناد حدوث أية تغييرات سلبية في الموقف العسكري وطلب «ضمانات» ما في حالة استمرار العمليات الحربية الإسرائيلية. ومرة أخرى يعود ليصف الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون ووصولهم إلى الضفة الغربية للقناة بأنها أمر تافه لا قيمة له، وأنها مجرد «مناورة سياسية».
وبعد نقاش طويل مستفيض استهدف استيضاح الوضع السياسي المصري بدقة، أعلن السادات أنه قد وافق على وقف إطلاق النار، إذا ما قامت إسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242 الصادر في الثاني والعشرين من نوفمبر 1967م الخاص بانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي العربية المحتلة. وإلى أن يتم الانسحاب الإسرائيلي طلب السادات وضع قوات سوفييتية وأمريكية «عازلة»، من قبيل الضمان، بين القوات الإسرائيلية والمصرية، وأن يتم عقد مؤتمر دولي لتسوية مشكلة الشرق الأوسط (ومشكلة الفلسطينيين ومصير الضفة الغربية لنهر الأردن وقطاع غزة وغيرها من المشكلات).
بعد مغادرة كوسيجين القاهرة تلقينا أخبارا أخرى مزعجة: لقد عبرت ما بين 30 إلى 40 دبابة إسرائيلية إلى الضفة الغربية لقناة السويس، ثم تزايدت أعدادها إلى أن وصلت إلى 150 دبابة احتلوا مطارا عسكريا ميدانيا، وسرعان ما أقاموا رأس جسر وخاصة نحو الجنوب، ودمروا نقطة مهمة من شبكة الدفاع الجوي تغطي الجيش المرابط في الضفة الشرقية للقناة دون مقاومة تذكر. لم يتحرك الجيشان الثاني والثالث على الضفة الشرقية واللذان كان يتمركز في مؤخرتهما على الضفة الغربية الجيش الأول أيضا.
في سياق مباحثاتي مع السادات والتي جرت يومي 19 و20 من أكتوبر سألته بإلحاح عن الثغرة، إذا كان الإسرائيليون قد بدءوا بالفعل في بناء جسر ترابي عبر القناة سرعان ما عبرته وحدات إسرائيلية جديدة إلى مصر، إلى أفريقيا، وهو ما أكدته الصور الجوية التي التقطت. ما الذي ينوي الرئيس اتخاذه من إجراءات عسكرية وسياسية في هذا الصدد؟
تملص السادات من السؤال في ضجر، وقال: إن الثغرة التي فتحها الإسرائيليون لا تساوي شيئا من وجهة النظر العسكرية، وإنما هي ذات مغزى سياسي وحسب (مرة أخرى!) وعلى أصدقائنا السوفييت «ألا يشعروا بالقلق من ذلك، فالقيادة العسكرية المصرية تقوم باتخاذ الإجراءات اللازمة»!
انطلاقا من هذا التصرف الغامض أصبح الأمر برمته أكثر وضوحا؛ فالسادات قد عقد العزم على المضي في أمور لا يفصح عنها، وهي أمور تتناقض مع منطق تصرفاته الغامضة على المستويين السياسي والعسكري؛ أي مع إعلانه أن مصر لا تزال تواصل تمسكها بمواقفها السابقة المناهضة للإمبريالية . وهو ما يعكس حدوث تغييرات جذرية؛ فها هو الرئيس يضحي من أجلها بحياة الآلاف من الجنود والضباط المصريين.
في ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر، وكان الجو حارا مشبعا بالرطوبة، وفي حوالي الساعة الواحدة وخمس وأربعين دقيقة، أيقظني من نومي رنين الهاتف. طلب مني الرئيس سرعة التوجه إليه في قصر الطاهرة.
انطلقت في ليل القاهرة وبصحبتي ف. جوليزادي، وكنا نتبادل الحديث بشأن ما يمكن أن يكون الرئيس قد أعده لنا هذه المرة. صادفنا في الطريق عددا من طوابير السيارات العسكرية دهنت مصابيحها باللون الأزرق، وعلى ضوء القمر كانت سيارات بيضاء تمرق كالأشباح وعلى أسطحها لمبات زرقاء دوارة. كانت سيارات إسعاف قادمة من الجبهة محملة بالجرحى. كثير منهم يلفظون أنفاسهم الأخيرة. من أجل ماذا؟
دلفنا إلى القصر الغارق في الظلام. اصطحبنا بعضهم إلى إحدى قاعات الاستقبال كما جرت العادة، وإنما إلى شرفة في الدور الأول لها درابزين من الرخام على جانبها بعض التماثيل. لم تكن هناك إضاءة في الشرفة على الإطلاق، بينما كان القمر يلقي بضوئه على الجزء الأمامي من الشرفة المطل على حديقة صغيرة لتفرش أشعته الممرات الخالية بين الأشجار. وعلى الأرضية الرخامية شعاع آخر مائل من ضوء أخضر آت من خلال باب مغلق إلا قليلا.
كان السادات يجلس خلف منضدة صغيرة بالقرب من الدرابزين وإلى جواره جلس عبد الله عبد الفتاح وزير الإنتاج الحربي ممسكا كعادته بدفتر كبير، وقد استعد لتسجيل الحديث. أما حافظ إسماعيل فقد وقف إلى جوار الدرابزين يدخن بعصبية وقد أدار ظهره للحديقة.
لم يكن الرئيس مهتما بمظهره، كان يرتدي سترة عسكرية فاتحة اللون مكرمشة، كثيرة الثنيات وقد فتح ياقتها وترك زراريها العلويين مفتوحين، أما ملامحه فكانت تشي بأنه يبذل جهدا ليبدو متماسكا بل وشديد الثقة بنفسه.
بدأ حديثه معي بالإنجليزية قائلا: «عند منتصف الليل دعاني العسكريون إلى مركز القيادة وأبلغوني بالموقف وبعدها قررت استدعاءكم على الفور.»
توقف برهة ثم جذب نفسا من غليونه وواصل حديثه: «أستطيع أن أحارب إسرائيل، ولكني لا أستطيع محاربة الولايات المتحدة الأمريكية . مصر لا تستطيع مواجهة الولايات المتحدة.»
وكعادته عندما يتحدث بالإنجليزية، كان السادات ينطق بالكلمات على نحو واضح مستخدما التراكيب اللغوية السهلة. كان صوته في البداية معتدلا، ثم إذا به يتحدث وقد غلب عليه التأثر الظاهري. «لا أستطيع التغلب على هذا السيل المتدفق من الطائرات والدبابات الأمريكية. إننا نعمل على تدمير هذا الكم الهائل، ولكن، يبدو لي، أن هذا السيل لا ينتهي. بالأمس فقط دمرنا مائتي دبابة، ولكن دبابات أخرى تظهر من جديد. إنني لا أستطيع مواجهة الولايات المتحدة الأمريكية ...»
ومرة أخرى يجذب نفسا من غليونه ويطلق دخانه.
ثم أردف قائلا: «أرجوكم أن تبلغوا موسكو فورا بضرورة العمل على وقف إطلاق النار بأقصى سرعة ممكنة. إن لديكم علاقات مع الأمريكيين. أرجو أن تتصرفوا بأسرع ما يمكن.»
أما حافظ إسماعيل فعاد للتدخين مجددا بعصبية مبتعدا قليلا عن الدرابزين.
قلت للسادات بقدر ما استطعت من هدوء: «مفهوم» (يا لها من نهاية مفاجئة!) «أود أن أكرر: أنتم تطلبون وقفا فوريا لإطلاق النار بأقصى سرعة ممكنة مع بقاء القوات المتحاربة في مواقعها الحالية.»
أومأ السادات برأسه: «نعم.»
عدت أتحدث مدققا: «وكيف ستتصرفون مع المجموعة الإسرائيلية التي تسللت إلى الضفة الغربية للقناة؟ وهل ستبقى في مواقعها هناك؟»
أجاب السادات: «نعم، على الرغم من اعتبارها «متسللة»، فإنه لم يعد هناك خيار آخر.»
أسرعت عائدا إلى السفارة.
في تلك الليلة لم يغمض لي جفن بطبيعة الحال، وسرعان ما اضطررت للانطلاق مرة أخرى بعد ساعتين عائدا إلى الرئيس لتدقيق بعض القضايا حول موقف مصر المقبل، على الرغم من علمي أن الرئيس لا بد وأنه استغرق في النوم (!) أحس الياور بالفزع من جراء إصراري على إيقاظ الرئيس، ولكنه استجاب في النهاية لطلبي. استقبلني السادات مرتديا «روب» فوق البيجامة في غرفة مجاورة لغرفة نومه. جلس متربعا على الأريكة. كان وجهه متوردا يفيض بالصحة، وكانت عيناه متألقتين. ابتسم، ولم يكن هناك ما يشي بإدراكه لخطورة القرار التاريخي الذي اتخذه، ولا بالساعات الحاسمة التي تمر الآن، أو بالذين يستشهدون. كان مظهره وكأنه يقول إن الحرب قد انتهت بالنسبة له.
بعد مباحثات سوفييتية أمريكية معقدة، حاول فيها الأمريكيون أن يطيلوها عن عمد حتى يعطوا الفرصة للقوات الإسرائيلية أن تتوغل أكثر في الأراضي المصرية، ومن ثم وضع مصر في موقف أكثر صعوبة. صدر في الثاني والعشرين من أكتوبر قرار مجلس الأمن رقم 338 بشأن وقف إطلاق النار في خلال مدة لا تتجاوز 12 ساعة (كان كيسينجر يصر أثناء المباحثات على أن يتم إقرار وقف إطلاق النار خلال 48 ساعة، خفضها نتيجة إصرارنا إلى 24 ساعة، ثم وافق في النهاية على أن تكون 12 ساعة). وقد تضمن القرار أيضا الدعوة إلى ضرورة الإسراع الفعلي لتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، وتقرر إجراء مباحثات لإقرار السلام في الشرق الأوسط. وطوال فترة المباحثات كنت على اتصال دائم بالسادات، الذي أعرب عن رضائه التام بنتائجها.
إنني أود هنا أن أذكر بهذه الأحداث من حرب أكتوبر حتى أكشف الأكاذيب التي راح السادات وعدد من المقربين منه في ترويجها في وقت لاحق حول موقف الاتحاد السوفييتي. لقد راح هؤلاء يؤكدون أن الاتحاد السوفييتي لم يقدم أي مساعدة لمصر، وإنه كان «يضغط» عليها ليضطرها لوقف العمليات العسكرية «الناجحة»، و«فرض» موقف إطلاق النار عن طريق اتخاذ مجلس الأمن قرار رقم 338، الذي «أضاع» على مصر انتصارها.
الحقيقة أن الاتحاد السوفييتي وعلى الرغم من أن مصر لم تتشاور معه بشأن بدء العمليات العسكرية، وأنها لم تقم بإبلاغه بموعدها مسبقا، فقد استمر الاتحاد السوفييتي في دعمه لمصر، لإيمانه بأنها كانت تمارس حقوقها في تحرير أراضيها التي احتلت بالقوة. وقد قدم الاتحاد السوفييتي دعما عاجلا متنوعا (لا يزال سكان القاهرة يتذكرون جيدا أزيز طائرات النقل السوفييتية من طراز أنتينوف وهي تحلق في سماء مدينتهم كل نصف ساعة، عندما كان مطار القاهرة مغلقا)؛
5
وأن المشاورات ظلت مستمرة مع الرئيس في الموضوعات السياسية الوثيقة الصلة بالصراع، وعندما بادر الرئيس بنفسه بطلب وقف إطلاق النار بصفة عاجلة، وعلى الرغم من أن الظروف آنذاك كانت أسوأ مما كانت عليه من قبل، فقد استطاع الاتحاد السوفييتي أن يحقق هذا المطلب مستخدما كل إمكاناته ومكانته الدولية.
والآن لنعد إلى لحظة اتخاذ القرار رقم 338، الداعي لوقف إطلاق النار. لقد قرر الإسرائيليون، كما اتضح، بمباركة الأمريكيين أن يضربوا عرض الحائط بهذا القرار، واستمر تدفق قواتهم إلى الضفة الغربية، وخاصة باتجاه الجنوب، حيث نجحوا في اختراق الجيش المصري الثالث الذي يزيد قوامه على أربعين ألف فرد على الضفة الشرقية. وهنا ازداد الوضع العسكري والسياسي تأزما، وأعلنت إسرائيل تحديها للعالم بأسره.
في الثالث والعشرين من أكتوبر اتصل بي السادات تليفونيا مرتين يطلب رسميا سرعة «تدخل القوات السوفييتية عسكريا» حتى يجبر إسرائيل على تنفيذ قرار مجلس الأمن بوقف إطلاق النار.
أدت المباحثات الصعبة بين موسكو وواشنطن إلى قيام مجلس الأمن في الرابع والعشرين من أكتوبر بإصدار القرار رقم 339، والذي يطالب بسرعة وقف إطلاق النار وعودة القوات المتحاربة إلى خطوط 22 أكتوبر. كان قرارا مهما للغاية. ومع ذلك فقد استمر الإسرائيليون في تجاهلهم له حتى وصلت وحداتهم المتقدمة إلى حدود مدينة السويس. ومرة أخرى يعود الرئيس ليؤكد في حديث تليفوني معي أنه يصر رسميا مرة أخرى على أن يقوم الاتحاد السوفييتي هذه الليلة بإرسال قواته أو مراقبيه. كما توجه بنفس الطلب إلى نيكسون. وقد بثت إذاعة القاهرة هذين الطلبين صراحة.
وفي سياق المباحثات المكثفة التي دارت بين موسكو وواشنطن، كما اتضح من المواد المنشورة مؤخرا، تحايل الأمريكيون في إعطاء ردود واضحة مستخدمين في ذلك شتى الحجج، بينما أظهر السادات نفاد صبره ووصف الأمريكيين بالكذابين بعد أن تبين له على نحو واضح أنهم تلاعبوا به، أو راحوا «يعاقبون» مصر على العمليات العسكرية الناجحة للغاية التي قام بها جيشها. ومرة ثالثة وبعد أن حاصرت القوات الإسرائيلية مدينة السويس تماما واتخذت موقعا جنوب هذا الميناء المهم، يتوجه السادات إلى الاتحاد السوفييتي بطلب إرسال قوات سوفييتية أمريكية مشتركة عاجلة لتأمين تنفيذ قرارات مجلس الأمن، وفي حالة رفض الولايات المتحدة الأمريكية التدخل، فإن الرئيس يطلب من الاتحاد السوفييتي العمل منفردا.
كان الوضع حرجا للغاية. وقد أعلن الجانب السوفييتي بشكل واضح وقاطع للإدارة الأمريكية عن استعداد الاتحاد السوفييتي تنفيذ طلب مصر فورا. ومن الواضح أن واشنطن وتل أبيب أدركتا أن الاتحاد السوفييتي لا يهزل في مثل هذه المواقف. وبعد هذا الإعلان الحازم قام الإسرائيليون على الفور بوقف عملياتهم العسكرية. وهكذا قدم الاتحاد السوفييتي مرة أخرى مساعدة لا تقدر بثمن لمصر لتضع الحرب أوزارها.
ولكي تغطي الولايات المتحدة على فشلها أعلنت، بعد فوات الأوان، حالة التأهب القصوى في جميع قواعدها العسكرية في الخارج دون التشاور أو حتى إحاطة حكومات الدول التي أقيمت على أراضيها هذه القواعد علما. وفي لقائي به في الخامس والعشرين من أكتوبر سخر السادات من هذا التصرف الذي قام به الأمريكيون واعتبره نوعا من الابتزاز. قليلون - سواء في مصر أو في غيرها من الدول - هم الذين أخذوا هذا «التأهب» مأخذ الجد. وعلى ضوء الحقائق فإن تأكيدات كيسينجر الدرامية المتكلفة التي قصد بها أن حالة «التأهب القصوى» هذه هي التي أجبرت السوفييت على «التراجع» لم تعن لأحد شيئا. عن أي تراجع يتحدث؟ لا نعرف؛ فنحن، كما هو معروف، لم نتراجع إلى أي مكان. فيما بعد جاء كيسينجر إلى القاهرة عدة مرات، وفي أحد لقاءاتنا سألته: على أي أساس أعلنتم «حالة التأهب» في القواعد الأمريكية في الخارج، بينما لم يكن هناك من يهدد الولايات المتحدة الأمريكية وقد ضحك الناس هنا في القاهرة على هذه الخطوة؟ فأجاب كيسينجر في تثاقل: «لقد فقد نيكسون أعصابه آنذاك.»
في السابع والعشرين من أكتوبر أبلغني حافظ إسماعيل بأن وزير الخارجية الأمريكي كيسينجر بعث إليه برسالة يدعو فيها مصر لزيارة الولايات المتحدة الأمريكية. على هذا النحو بدأت الولايات المتحدة دون مواربة في فرض دورها بوصفها وسيطا. وكان إبلاغي بهذه المعلومات يعني بشكل واضح معرفة رد فعل الاتحاد السوفييتي تجاهها.
قلت لحافظ إسماعيل: إذا كانت مصر ستتخلى في المستقبل عن الاعتماد على الاتفاق السوفييتي-الأمريكي بشأن ضمان وقف إطلاق النار، فإن موقف مصر سيصبح ضعيفا بدرجة كبيرة؛ فالولايات المتحدة ملتزمة أمام الاتحاد السوفييتي وليس أمام مصر. ولسبب ما راح حافظ إسماعيل يؤكد بحرارة على ضرورة منع محاولات الأمريكيين أن يصبحوا وسطاء بين مصر وإسرائيل.
في هذا الوقت تحديدا أرسل السادات إلى واشنطن على وجه السرعة إسماعيل فهمي، الذي جرى تعيينه توا قائما بأعمال وزير الخارجية، ولم يكن وزير الخارجية المصري محمد حسن الزيات، الموجود في الولايات المتحدة آنذاك، قد غادر منصبه بعد! كان من الواضح أن «الدبلوماسية المزدوجة » التي بدأ السادات في انتهاجها قد راحت تتعاظم في هذه الفترة. وبالطبع لم يكن ليفكر في الدخول في العديد من التفاصيل، التي من بينها وجود وزيرين للخارجية في وقت واحد!
في الأيام الأولى من شهر نوفمبر وصل إلى القاهرة ف. كوزنيتسوف، النائب الأول الأسبق لوزير خارجية الاتحاد السوفييتي في زيارة تستهدف التشاور بشأن الدعوة لعقد المؤتمر الدولي للشرق الأوسط. وقد أكد السادات أكثر من مرة على ضرورة قيام مصر بالتنسيق مع الاتحاد السوفييتي في هذا الشأن، وأعرب عن رغبة بلاده في مشاركة ممثلي الدولتين العظميين - الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة - في كل مستويات المباحثات المنتظرة. وهكذا أعلن السادات، قولا، ضرورة وجود الاتحاد السوفييتي في هذه العملية.
أما ما حدث فعلا؛ فقد ظلت مباحثات إسماعيل فهمي في واشنطن طي الكتمان.
وفجأة يذاع الخبر التالي: إلى القاهرة يصل كيسينجر في السابع من نوفمبر! وفي نفس اليوم يلتقي السادات بكيسينجر مرتين على انفراد، وفي المساء تعلن إذاعة القاهرة نبأ التوصل إلى اتفاق بشأن إعادة العلاقات الدبلوماسية بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية. هل هذه إذن محصلة الحرب؟! هل هذا هو ثمن حياة آلاف المصريين والسوريين والإسرائيليين الذين سقطوا في المعارك من أجل المناورات السياسية للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط؟!
وفي نفس اليوم أقام إسماعيل فهمي مأدبة غداء تكريما لكيسينجر حضرها كل أعضاء الحكومة المصرية تقريبا. كما دعا فهمي أيضا سفراء كل من الاتحاد السوفييتي وإسبانيا (التي كانت ترعى مصالح الولايات المتحدة) وبريطانيا وفرنسا ومحمد حسنين هيكل. الحقيقة لم تكن لدي الرغبة في الذهاب إلى هذا الغداء، على الرغم من أن الأمريكيين أبلغوني أن كيسينجر يود التحدث معي؛ فقد تعامل المصريون معنا في الأيام الأخيرة بصلف وعلى نحو عدائي بما فيهم إسماعيل فهمي نفسه.
لهذا السبب كنت آخر من حضر إلى الحفل. وعندما دخلت إلى القاعة الصغيرة في شقة إسماعيل فهمي، رأيت الضيوف واقفين بجوار الجدران وقد علا الملل وجوههم وبأيديهم كئوس الويسكي وقد أصبح دافئا من طول الانتظار. في وسط هذه القاعة الصغيرة وقف كيسينجر وقد راح يتبادل الحديث مع السفير الإسباني في فتور. قدموني إلى كيسينجر فإذا به ينتعش وتدب فيه الحيوية، وبعد عبارات الترحيب أبدى اهتمامه بتقديري للوضع في منطقة الشرق الأوسط.
أجبته بأنه، وعلى الرغم من وقف إطلاق النار، فإن الوضع لا يزال معقدا وقابلا للانفجار، ومن ثم فإن من الضروري اتخاذ إجراءات عاجلة وأخرى على المدى الطويل. أما الآن فمن الحتمي أن تتوقف إسرائيل عن ادعاء «البلاهة»، مؤكدا على أن «أحدا لا يعرف مواقع القوات المتحاربة في الثاني والعشرين من أكتوبر؛ أي إلى أين يجب أن تنسحب القوات الإسرائيلية طبقا لقراري مجلس الأمن رقمي 338 و339. وهذه الحدود يمكن تحديدها بدقة على الخريطة. وعندما يسحب الإسرائيليون قواتهم إلى حيث كانت يوم الثاني والعشرين من أكتوبر، عندئذ تنتهي تلقائيا مشكلة إمداد الجيش الثالث المصري والسويس. وينبغي أن يتم ذلك على وجه السرعة.
أما عن الخطة الطويلة المدى، فالفرصة مهيأة الآن لبذل كل الجهود من أجل تسوية شاملة حقيقية لمشكلة الشرق الأوسط برمتها.»
سألني كيسينجر باهتمام بالغ: «ولماذا تعتبرون أن الآن تحديدا هو الوقت الأنسب لبذل الجهود للتسوية الشاملة في الشرق الأوسط؟»
أجبته أنه وبناء على ملاحظاتي هناك عدد من العوامل: (1)
لقد باتت إسرائيل مقتنعة أن مقولة «جيش إسرائيلي لا يهزم» هي مجرد خرافة، وأنه جيش يمكن هزيمته. ولهذا فإن على القيادة الإسرائيلية أن تغير من نهجها، إذا كانت مهتمة بمصير شعبها ومستقبلها. لقد أصبح واضحا للجميع أن العرب لن يستسلموا مطلقا، وهو ما تقيم إسرائيل حساباتها عليه. قد يفشل العرب ولكنهم لن يستسلموا. وقد بات الأمر واضحا لإسرائيل. (2)
لقد أدرك العرب أنهم أقوياء وهو ما يعطيهم الآن إمكانية الدخول في مفاوضات سياسية، بعد أن كانوا في السابق لا يملكون مبررا. (3)
لقد استعاد العرب وحدتهم، التي لم تكن موجودة من قبل، وأكبر دليل على ذلك هو قرارهم بحظر تصدير النفط إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها. (4)
في الواقع فإن الرأي العام العالمي يقف الآن إلى جانب العرب ولا أحد يتهمهم بالعدوان على إسرائيل، على الرغم من أنهم هم الذين بدءوا بالعمليات الحربية الواسعة. (5)
إن طابع العلاقات الحالي بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة يسمح لنا، على الرغم من وجود خلافات في وجهات النظر، بمناقشة أية قضايا مطروحة والتعاون بدلا من المواجهة.
وفي الختام قلت له: إن كل هذه العوامل المؤثرة إيجابا ذات طابع مؤقت وقد يطرأ عليها، أو على بعضها، بمرور الوقت، تغيير يفقدها أهميتها؛ ولهذا يصبح عنصر الوقت عنصرا حاسما. لا يزال من الممكن تسوية مشكلة الشرق الأوسط على نحو عادل للجميع، إذا ما أخذنا على عاتقنا بشرف حلها، وإلا فسوف تنشب الحرب من جديد.
استمع إلي كيسينجر باهتمام بالغ وأعرب عن موافقته على العديد مما جاء في حديثي، باستثناء ما ذكرته عن حظر تصدير النفط. أما فيما يخص نشوب حرب جديدة في المنطقة، فإنه من الممكن ألا تقع هذه الحرب، إذا ما توقف الاتحاد السوفييتي عن البحث فيها عن مكاسب له ولم ينشغل بإثارة الفتن (
To Make Monkey Business ).
كان علي أن أجيبه هنا بحدة مذكرا إياه بأن ذلك ليس من شيمتنا، وإنما هي الولايات المتحدة الأمريكية تحديدا، التي تؤازر المعتدي، بينما نقوم نحن علنا بمساندة قضية عادلة وهي إعادة أراض احتلها المعتدون.
وعندها أسرع إسماعيل فهمي يدعو الجميع إلى المائدة.
عند افتراقنا بعد انتهاء حفل الغداء قال لي كيسينجر إن أحدا أخبره في وقت سابق أن سفير الاتحاد السوفييتي لدى القاهرة رجل صعب المراس
Tough Guy . ولكنه يرجو على أية حال أن يتم التعاون مع سفير الولايات المتحدة الأمريكية الذي تم تعيينه للتو لدى مصر هيرمان إيلتس (وهو من أصل ألماني مثل كيسينجر، وكان سفيرا قبلها للولايات المتحدة لدى المملكة العربية السعودية، ومستعرب).
فأجبته قائلا: «حسنا. إنني على استعداد للتعاون مع «لورانس العرب» الأمريكي، بشرط ألا تنشب مشكلة بين ال (
Monkey Business ) والجانب الأمريكي». انفجر كيسينجر ضاحكا. لقد كانت المزحة مفحمة.
وفي اليوم التالي نشرت الصحف عددا من عناصر الاتفاق التي تم التوصل إليها بين السادات وكيسينجر، وخاصة ما يتعلق منها بانسحاب القوات الإسرائيلية إلى مواقع الثاني والعشرين من أكتوبر وذلك في إطار «اتفاق شامل» حول «فك الاشتباك» بين القوات المصرية والإسرائيلية. ولم يكن هناك ثمة شيء جديد في ذلك؛ فبدلا من تنفيذ قرار سحب القوات دون قيد أو شرط، تم الاتفاق على مفاوضات في إطار اتفاق ما حول «فك الاشتباك». وبذلك دخلت المفاوضات بل والتسوية أيضا في طريق موحل ملتو، إلى هاوية لا يسبر غورها.
لم يبلغنا المصريون بشيء عن جوهر هذا الاتفاق. وبعد مرور أربعة أيام بعدما نشرته الصحف المصرية لبعض ما تضمنه الاتفاق في هذا الشأن، دعاني إسماعيل فهمي وقدم لي ورقة تحتوي على نفس ما نشرته الصحف. تناولتها وبعد أن قرأتها، قلت له دون اهتمام: إنني علمت بكل ذلك منذ فترة بعيدة من الصحف. وقد استشاط فهمي غضبا من ردي.
بدأت المفاوضات الصعبة الخاصة بالإعداد الفعلي لمؤتمر السلام العالمي، التي دارت حلقاتها بين موسكو وواشنطن ونيويورك والقاهرة ودمشق وتل أبيب. وكان علي في هذه المدة أن أواصل الاتصالات بشكل مستمر، ليس فقط مع إسماعيل فهمي، وإنما مع السفير الأمريكي لدى القاهرة هيومان إيلتس الذي وصل إلى العاصمة المصرية على وجه السرعة. وذات يوم من أيام ديسمبر هاتفني إيلتس قائلا: إن كيسينجر سيصل مرة أخرى إلى القاهرة وهو يود أن يلتقي بكم سواء عند وصوله إلى المطار أو عند مغادرته.
كانت اللعبة مكشوفة؛ فوزير الخارجية الأمريكي يريد أن يخلق انطباعا مفاده أن السفير السوفييتي يستقبل كيسينجر أو يودعه في المطار.
أجبت إيلتس أن «فرصة» لقائي بوزير الخارجية لا تناسبني، لا من حيث المضمون ولا من حيث الشكل. فما الذي يمكن مناقشته بجدية في المطار؟ إن كيسينجر قادم لزيارة الحكومة المصرية، فما علاقة السفير السوفييتي بلقائه أو توديعه. ارتبك إيلتس وأجاب قائلا: إنه هو نفسه قد أدرك مدى ما في هذا الاقتراح من فجاجة، وأنه سوف يسعي للاتصال بكيسينجر مرة أخرى والاتفاق معه على مكان ما آخر. وبعد أربع ساعات أخبرني إيلتس أن كيسينجر يقترح أن نلتقي في مقر إقامته في فندق «هيلتون» على أن يتم اللقاء عند منتصف الليل تقريبا بعد انتهاء مباحثاته مع السادات. أجبت بالموافقة فلا فرق عند الدبلوماسيين بين ساعات الليل أو النهار.
في تلك الفترة، راحت وسائل الإعلام في كل مكان تكيل آيات المديح والثناء لكيسينجر على وساطته الناجحة، بل إنها عقدت مقارنة بينه وبين ميتيرنيخ. ويبدو أن ذلك أعجبه، وأن اللقاء مع السفير الروسي قد تم إعداده لمجرد الاستعراض، وكرسالة للصحافة لخلق انطباع بأن هناك «عملا مشتركا».
في لقائي معه، لم يذكر كيسينجر شيئا عن مباحثاته مع المصريين. لم يقلع «ميتيرنيخ زماننا» عن عادته غير الدبلوماسية في تسليك أسنانه بإصبعه بعد تناول الطعام، وانهمك في التحدث بشكل عام حول ضرورة التعاون السوفييتي الأمريكي في الشرق الأوسط والتنسيق طبقا للاتفاقات، وهلم جرا. انتظرت حتى انتهى من حديثه ليمسح إصبعه ثم سألته: كيف يمكن الجمع بين هذه الأفكار الصحيحة واستبدال «اتفاق الكيلو 101»، الذي أعطى عمليا إسرائيل حل كل القضايا من جانب واحد، بقرارات الأمم المتحدة التي جرى إعدادها بالتشاور بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة خاصة القرارين 338 و339. أين التعاون هنا مع الاتحاد السوفييتي؟ وأين أهميته التي تحدث عنها للتو وزير الخارجية؟ وعموما ما «اتفاق الكيلو 101» هذا؟
توقف كيسينجر عن لعق إصبعه ونظر باهتمام إلي، ثم راح يتبادل النظر مع مساعده سيسكو الذي كان حاضرا اللقاء ثم .. قال مراوغا وهو يشير بيده: «كل هذا من ابتكار سيسكو .. اسأله هو، أما أنا فلا أفقه في هذه الأمور شيئا.» وهنا أغمض سيسكو عينيه من فرط السرور.
كان علي أن أعمل ليل نهار في الأيام التي تلت زيارة كيسينجر في الشرق الأوسط، والذي تقرر أن يشارك فيه ممثلون عن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة، وقد تم اختياري رئيسا لوفد الاتحاد السوفييتي.
4
لم تكن الدعوة لعقد مؤتمر للسلام في الشرق الأوسط بالأمر الهين. وقد اكتسب كل موضوع من موضوعات المؤتمر: المباحثات، المشاركون، جدول أعمال المؤتمر وتوقيتاته مغزي سياسيا مهما ومحددا تماما. وكانت القضايا المزمع مناقشتها في المؤتمر قد تم إعدادها في سياق المفاوضات التي جرت بين موسكو وواشنطن بمشاركة الأمين العام للأمم المتحدة، وبعدها تم عرض الاتفاق الذي تم التوصل إليه على القاهرة للتنسيق مع المصريين. وفي هذا المجال كان على السفيرين السوفييتي والأمريكي أن يعرضا موقفهما المشترك على وزير الخارجية المصري إسماعيل فهمي، وبعدها يدافعان، بطبيعة الحال، عن هذا الموقف المشترك، على الرغم من أنه يعد نتيجة للحل الوسط الذي توصل إليه الجانبان السوفييتي والأمريكي.
كثيرا ما كان الجانب الأمريكي يقوم بإبلاغ الجانب المصري بآراء لم يتم الاتفاق عليها بناء على المفاوضات السوفييتية الأمريكية، وإنما بالصيغة الأولية التي طرحت علينا في موسكو أو واشنطن والتي كنا نرفضها. كان المصريون يوافقون الأمريكيين، عندما كان هؤلاء يطرحون علينا إعادة النظر في الموقف الذي تمت الموافقة عليه بزعم أنها «طلبات» المصريين. كان علينا أن نفضح هذه الألاعيب الأمريكية. لا يطيب لي هنا أن أذكر أن وزير الخارجية الجديد كان يعلق في بيته صورة فوتوغرافية كبيرة له مع نيكسون في البيت الأبيض، ويبدو فيها راضيا عن نفسه كل الرضا، بعد أن تعاون بشكل واضح مع الأمريكيين، وليس معنا، في الإعداد للمؤتمر. وكان خنوعه لهم بلا حدود. كم كان الأمر مختلفا عندما كانت العمليات الحربية لا تزال مشتعلة منذ فترة غير بعيدة!
كان موقف المصريين مدهشا، عندما بدأ الحديث عن مشاركة الفلسطينيين في المؤتمر. ومن المعروف أن مصير الشعب العربي الفلسطيني، الذي فقد وطنه قسرا، هو جوهر الصراع في الشرق الأوسط. وقد سمعت من العرب مقولة تقول: «لا يمكن للعرب أن يحاربوا بدون مصر، ولا يمكن للسلام أن يسود بدون الفلسطينيين.» كان الاتحاد السوفييتي ينطلق دائما من أن الفلسطينيين ينبغي حتما أن يشاركوا في المؤتمر. أما إسرائيل فكانت تتعمد أن تغلق عينيها عن رؤية وجود الشعب العربي الفلسطيني. وبطبيعة الحال كانت تعارض مشاركته في المؤتمر، بينما راحت الولايات المتحدة الأمريكية تؤيدها في هذا الصدد. لم تكن الدول العربية حتى هذا الوقت قد اتخذت قرارا بشأن مشاركة منظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. وقد أشير في الوثيقة التي جاءت نتيجة للمفاوضات إلى ضرورة إشراك ممثلي الشعب الفلسطيني في المؤتمر في الوقت المناسب. كان المصريون يشاركوننا الرأي في الموافقة، إلا أنهم بدءوا، تحت ضغط الولايات المتحدة الأمريكية، في المطالبة بصيغة أخرى اتفقوا بشأنها، كما أخبرونا، مع الأمريكيين: «مسألة وقت. مشاركة الفلسطينيين في المؤتمر سوف يتم دراستها في المرحلة الأولى من أعمال المؤتمر.» وقد قبل الفلسطينيون هذه الصيغة، ومن ثم قبلناها نحن أيضا، وهو ما أثار قلق الأمريكيين.
ذات يوم دعاني إسماعيل فهمي للقائه، وعندما ذهبت إليه وجدت السفير الأمريكي إيلتس قد سبقني إليه. كان أمرا خاليا تماما من اللياقة من جانب إسماعيل فهمي الذي لم يخبرني بذلك، والأهم أنه لم يطلب مني مسبقا موافقتي على هذا اللقاء الثلاثي.
ناولني إسماعيل فهمي ورقة نسخ نصها على آلة كاتبة، كما لاحظت، في السفارة الأمريكية، بعد أن قال لي إن هذه هي الصيغة الجديدة التي وافقت عليها الولايات المتحدة الأمريكية. قرأت الورقة وكانت تتضمن «أن مسألة مشاركة الفلسطينيين سوف يتم مناقشتها في المرحلة الأولى من أعمال المؤتمر.» كانت صيغة مختلفة، محتوى آخر، أغنية أخرى. كانت الصياغات القديمة تتحدث عن مشاركة الفلسطينيين، كحقيقة واقعة لا يتطرق إليها الشك. أما الصيغة الجديدة فكانت مبهمة تماما، لا يعرف منها هل سيكون للفلسطينيين الحق في المشاركة أم لا (فيما بعد ظهرت صيغة أخرى أقل تمييزا، لم يذكر فيها الفلسطينيون عموما: «مسألة مشاركة ممثلين عن بلدان المنطقة سوف تبحث في المرحلة الأولى من أعمال المؤتمر»).
قلت لفهمي إن الصيغة الجديدة تغير جوهر القضية، وإنني لا أستطيع الموافقة عليها. وأكدت له أن من الضروري، أولا وقبل كل شيء، أن أعرف رأي الفلسطينيين فيها.
راح إسماعيل فهمي يؤكد بحماس أنه اتفق شخصيا مع الفلسطينيين بشأنها ومع المشاركين الآخرين في المؤتمر. كانت هذه هي المسألة الأخيرة التي تأخر بسببها إرسال الدعوة الرسمية للدول المشاركة في المؤتمر (فيما بعد أخبرني الفلسطينيون أن المصريين لم يعقدوا معهم أي اتفاق).
كان من المقرر أن يعقد المؤتمر في الحادي والعشرين من ديسمبر عام 1973م في قصر الأمم بجينيف، وقد تمت دعوة الدول المشاركة في الصراع: مصر، سوريا، الأردن، إسرائيل، ورأس المؤتمر كل من الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وعقد تحت رعاية منظمة الأمم المتحدة التي ساعدت في تنظيمه وتمويله.
فوجئت عشية مغادرتي للقاهرة بخبر امتناع سوريا عن المشاركة في المؤتمر، وذلك بعد زيارة كيسينجر مباشرة لدمشق. وقد تعامل إسماعيل فهمي مع هذا الخبر بلا مبالاة. كثيرا ما تراودني فكرة كيف أمكن أن يحدث ذلك، وفي هذا السياق أتساءل لماذا راح كيسينجر يردد مرارا (على مسامع نفس الأشخاص على نحو ساخر)، كيف أن الرئيس الأسد أخبره فجأة أثناء حديثه معه أن سوريا، ودون إبداء الأسباب، لن تشارك في المؤتمر. كما أن كيسينجر نفسه لم يوضح موقفه من هذا الأمر، وإن لم يلق باللوم على أية حال على السوريين، وكان واضحا أنه سعيد بذلك.
في التاسع عشر من ديسمبر سافرنا من القاهرة إلى جينيف على طائرة شركة مصر للطيران بدعوة من إسماعيل فهمي بصحبة الوفد المصري كاملا، بالإضافة إلى مجموعة من المراسلين الأجانب المعتمدين.
شد انتباهنا في مطار جينيف ما رأيناه من إجراءات أمنية صارمة شملت دوريات عسكرية ومئات من أفراد الشرطة مسلحين بالرشاشات، فضلا عن وجود الاستحكامات حول المطار والتصاريح الخاصة. وفي نفس هذا اليوم وصل إلى جينيف وزير خارجية الاتحاد السوفييتي أندريه جروميكو. وبعده وصل الأمين العام للأمم المتحدة كورت فالدهايم، ثم وزير الخارجية الأمريكي هنري كيسينجر ووزير خارجية إسرائيل أبا إيبان ورئيس وزراء الأردن زيد الرفاعي.
في مساء اليوم التالي، التقيت كيسينجر الذي أفاد بأن لديه «خطة» لخصها على النحو التالي: حيث إن انتخابات الكنيست ستجري في إسرائيل في الحادي والثلاثين من ديسمبر، فسيكون من «الصعب» على الإسرائيليين الدخول في مفاوضات قبيل تشكيل الحكومة الجديدة، ومن ثم يمكن افتتاح أعمال المؤتمر في الحادي والعشرين من ديسمبر ثم يتفرق الجميع عائدين إلى بلادهم، على أن يعود رؤساء المؤتمر المشاركون (السفيران فينوجرادوف والأمريكي بانكر) إلى جينيف في السابع من يناير، وعندئذ يمكن العودة لأعمال المؤتمر في الخامس عشر من يناير.
اعترض أندريه جروميكو على كيسينجر قائلا إننا اجتمعنا في جينيف لا للاحتفال وإنما للعمل. ينبغي على المؤتمر ألا يقطع أعماله، وإنما عليه أن يواصلها، فإذا لم يحدث ذلك على مستوى الجلسات العامة، فليكن على مستوى مجموعات العمل. باختصار، على المؤتمر أن يواصل العمل سياسيا وقانونيا. ومع هذا لم يوافق كيسينجر. وقد اتضح فيما بعد أن الأمر كله كان حيلة.
جاء الحادي والعشرون من ديسمبر، موعد افتتاح المؤتمر، يوما تاريخيا. للمرة الأولى يجتمع ممثلو هذه البلاد في مؤتمر واحد، مؤتمر بإمكانه أن يحمل السلام إلى الشرق الأوسط، وهو ما كنا نتمناه بشدة. كان الوضع مبشرا أكثر من أي وقت مضى. ها هم العرب والإسرائيليون يلتقون معا أخيرا خلف طاولة المفاوضات، على الرغم من أن لدى كل منهما وجهة نظر تختلف عن الآخر. لكن هذه الصعوبة يمكن التغلب عليها من ناحية المبدأ إذا وجدت الرغبة في تحقيق السلام، وإذا صدقت النية في تقديم الدعم لتحقيقها، وهي إحدى المهام التي تقع على عاتق الدولتين العظميين، والتي ترتفع إلى مستوى المسئولية التاريخية الكبرى. ترى هل يفكر المشاركون في المؤتمر جميعهم على هذا النحو الذي يفكر به ممثلو الاتحاد السوفييتي؟ هل يريد الجميع الوصول في نهاية المؤتمر إلى سلام عادل؟
وصل كورت فالدهايم قبل افتتاح المؤتمر. تناقشنا معه بخصوص ترتيب جلوس المشاركين حول طاولة المفاوضات في قاعة الاجتماعات، واتفقنا على طريقتين؛ الأولى وتخضع للتسلسل الأبجدي، فيجلس الأمين العام للأمم المتحدة في المنتصف وعلى يمينه الاتحاد السوفييتي، وعلى يساره الولايات المتحدة، ومن عندها في اتجاه عقارب الساعة سوريا، إسرائيل، الأردن، مصر. أما الطريقة الثانية فسياسية وفي اتجاه عقارب الساعة أيضا، فيلي الولايات المتحدة إسرائيل، الأردن، سوريا ثم مصر.
اعتلى الحراس سطح قصر الأمم، بينما ضجت القاعة بأصوات الصحفيين الذين يمثلون كل الدول. كان الإرسال من هنا مباشرا إلى كل أنحاء العالم، حيث يشاهده الناس في القاهرة وتل أبيب، في موسكو وواشنطن، في دمشق وعمان، في بيروت ولندن، في باريس وطوكيو. في كل مكان تقريبا كان الجميع بانتظار لحظة افتتاح المؤتمر.
وفجأة دخل فالدهايم إلى الغرفة المخصصة للوفد السوفييتي. كانت لديه مشكلة في ترتيب جلوس المشاركين؛ فالأردنيون يرفضون الجلوس إلى جانب الإسرائيليين، ومن ناحية أخرى سوف تكون هناك أماكن شاغرة كانت مخصصة للسوريين الذين رفضوا الحضور. وعند تطبيق الطريقة الثانية رفض الإسرائيليون أن تكون الأماكن التي بجوارهم شاغرة. وهنا اقترح فالدهايم «أن تجلس إسرائيل إلى جانب الأمين العام للأمم المتحدة ثم وباتجاه عقارب الساعة، يجلس الاتحاد السوفييتي ثم سوريا والأردن والولايات المتحدة ومصر». كانت هذه في الواقع رغبة الأمريكيين.
أجاب أندريه جروميكو قائلا: «لسنا أطفالا. موافقون. وأضاف ساخرا: على أن نستبدل أماكن الرؤساء المشاركين.»
على هذا الأساس اتخذ المشاركون أماكنهم على النحو التالي؛ الأمين العام للأمم المتحدة، إسرائيل، الولايات المتحدة الأمريكية، سوريا، الأردن، الاتحاد السوفييتي، مصر. وافق فالدهايم بسرور ثم غادر الحجرة مسرعا. لم تمض بضع دقائق وإذا بكيسينجر يدخل إلى غرفتنا مضطربا ممتقع الوجه، وخلفه مباشرة دخل فالدهايم. تقدم كيسينجر ممسكا بورقة توزيع الأماكن متوجها بالحديث إلى أندريه جروميكو بصوت غليظ متهدج قليلا: إن الولايات المتحدة ترجو بشدة من الوفد السوفييتي أن يتبادل مقاعده مع الوفد الأمريكي، وإلا سيصبح هذا الجانب إسرائيليا بحتا (إسرائيل، الولايات المتحدة). كانت عينا وزير الخارجية الأمريكي مليئة بالتوسل وكأن أمرا جللا سوف يقع.
تعمد أندريه جروميكو أن يتحدث بصوت يسمعه الجميع، وإن بدا واضحا أنه يمزح قائلا: «إنني أطلب من الأمين العام للأمم المتحدة تسجيل رفض الولايات المتحدة الأمريكية الجلوس بجانب الإسرائيليين.»
انفجر الجميع في القاعة ضاحكين، ثم أضاف أندريه جروميكو قائلا وقد راح الجميع يصفقون: «الأمر بالنسبة لنا سيان ؛ فقد جئنا إلى هنا للعمل لا للعب.» راح فالدهايم يجفف عرقه، بينما علت الحمرة وجه كيسينجر الذي ابتسم بصعوبة متوجها بالشكر إلى جروميكو.
توجهنا جميعا إلى قاعة الاجتماعات. كان اليوم يوافق بلوغ فالدهايم الخامسة والخمسين من العمر. وفي كلمته قال الأمين العام: «يا لها من مصادفة! هل سيصبح هذا اليوم يوما تاريخيا نبدأ فيه بناء السلام في الشرق الأوسط؟» دخل الجميع إلى القاعة وقد أضاءها هنا وهناك وميض لمبات آلات التصوير والمصابيح المصاحبة لكاميرات السينما والتليفزيون.
اتخذت الوفود أماكنها. كان لكل وفد مائدة تتسع لثلاثة أشخاص ومقعدان في الخلف للمستشارين. أمامنا جلس الوفد الأمريكي وعن يميننا الوفد الإسرائيلي، وعلى يسارنا الوفد السوري.
ألقى فالدهايم كلمة موجزة حيا فيها الحضور، ثم تبعه أندريه جروميكو.
تضمن خطاب وزير الخارجية السوفييتي تقديرا موضوعيا للموقف في الشرق الأوسط دعا فيه إلى إيجاد حل عادل للمشكلات التي تراكمت في المنطقة. كان لخطابه أثر إيجابي؛ حيث أعرب عن استعداد الاتحاد السوفييتي للتعاون بشكل عملي مع جميع الحضور في هذا المؤتمر من أجل إخراج شعوب وبلدان الشرق الأوسط من آتون الصراعات الحربية وإحلال السلام العادل.
لم يستحسن الكثيرون خطاب كيسينجر الذي تحدث فيه عن السلام بشكل عام، مستشهدا بعدد من الأمثلة الشعبية اليهودية والعربية نطقها بعبرية وعربية ركيكتين للغاية.
أما إسماعيل فهمي وأبا إيبان فقد جاءت كلماتهما بمثابة معركة كلامية بينهما. كان فهمي حادا وبدا أنه يحاول اللعب على مشاعر الجماهير في رده على إيبان.
وفي اليوم التالي، في الاجتماع المغلق للمؤتمر تم تشكيل لجنة عمل عسكرية كانت مهمتها العمل على وجه السرعة على فض الاشتباك على الجبهة المصرية الإسرائيلية. بعدها أعلن فالدهايم فترة للراحة.
إلى مقر إقامتنا حضر كيسينجر وبصحبته السفير بانكر، العضو الأمريكي المشارك في المؤتمر. كان بانكر رجلا تخطى الثمانين من العمر، طويل القامة، نحيف، على قدر من الوسامة.
توجه كيسينجر إلى أندريه جروميكو قائلا: «هل تعرفون لماذا اخترنا السفير بانكر عضوا في الوفد؟ لأنه لم يستكمل أية مفاوضات شارك فيها قبل ثمانية أعوام .» ثم ضحك مظهرا قدرا كبيرا من الرضا عن نفسه. كان كيسينجر يقصد بهذه الإشارة ما كان من أمر بانكر الذي كان رئيسا، شكليا، للوفد الأمريكي في المفاوضات الأمريكية البنمية لعدة سنوات حول وضع قناة بنما، ومن ثم حقوق الأمريكيين في هذه الدولة. وقد أدهشني هذا التلميح الذي جاء على لسان كيسينجر في مثل هذه الظروف.
تظاهر كيسينجر بالحزن، ثم أردف قائلا: «إن لإيلسفورت (بانكر) أطفالا وأحفادا وهو يرغب أن يمضي أعياد الميلاد بصحبتهم؛ ولهذا فسوف يطير إلى الولايات المتحدة لمدة يومين»، يعود بعدها في السادس والعشرين، أو السابع والعشرين إلى جينيف. بدا هذا الوعد عمليا، والحقيقة أنني لم أصادف في حياتي أمريكيا يخلف وعده وخاصة إذا ما تعلق الأمر بالتواريخ والمواعيد والوقت؛ ولهذا فقد استقبلت إعلان كيسينجر بهدوء تام.
في اليوم التالي، دعانا بانكر على مائدة الإفطار. آنذاك راح ستيرنر الموظف بوزارة الخارجية الأمريكية، بحذر شديد، في تطوير مفهومة «المبتكر» حول السير المحتمل للمفاوضات. أكد ستيرنر أن المصريين لا يريدون أن يشارك ممثلو الدولتين العظميين في أعمال لجنة العمل العسكرية؛ ولهذا يجب علينا أن نعمل «في الكواليس». وبحذر مماثل طرح بانكر فكرة مفادها أنه قد يكون من الملائم أن تتخلل المفاوضات فترات راحة طويلة تسمح «بترطيب الأجواء» بين الجانبين.
لم يكن من العسير علينا أن ندرك على الفور جوهر أفكار الأمريكيين: هل سنوافق نحن السوفييت على الاستمرار في القضية سنوات وسنوات حتى نصل إلى حلول جزئية (أي ليست ذات طابع شامل) عن طريق المفاوضات الثنائية للدول العربية في جينيف دون مشاركة الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة. وإن شئنا الدقة، دون مشاركة الاتحاد السوفييتي تحديدا، ما دامت الولايات المتحدة سوف تظل موجودة هناك «في الكواليس» خلف إسرائيل، وكما شاهدنا، خلف الوفد المصري أيضا. وبهذا تكون فكرة المؤتمر كلها قد تم تشويهها.
اعترضنا بشدة بعد أن كشفنا خطورة هذا الطريق، الذي لن يؤدي إلى السلام في الشرق الأوسط، بل سوف يضع الدول العربية في وضع أسوأ مقارنة بإسرائيل.
وفي مساء نفس اليوم، التقى أندريه جروميكو بإسماعيل فهمي. واستنادا إلى ما وصل إلينا من معلومات نتيجة المحادثات التي دارت بيننا وبين بانكر وستيرنر، سأل جروميكو فهمي عن رأيه بشأن الأعمال اللاحقة بالمؤتمر، وخاصة حول دور ممثلي الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. لكن إجابات فهمي جاءت لتذكرنا بلعبة الأطفال الشهيرة: «لن أقول لا ولن أقول نعم. لن أقول أسود ولن أقول أبيض»، وهلم جرا. ولمدة نصف ساعة راح فهمي يتملص دون أن يعطينا إجابة واحدة مباشرة، موجها اللوم للمترجمين زاعما أنهم لم ينقلوا أفكاره ب «دقة». وهكذا، راح يتأكد لنا أكثر فأكثر فكرة وجود مؤامرة بين المصريين والأمريكيين.
بعد مرور يوم واحد على مغادرة أندريه جروميكو جينيف، جاءني ستيرنر يحمل دفترا سجل فيه الصيغة الجديدة التي قدمها المصريون ونصها: «لسنا ضد مشاركة الاتحاد السوفييتي.» ثم صاح في عصبية: انظر! إنهم لم يقولوا «نحن مع المشاركة السوفييتية.» كان علي عندئذ أن ألقنه درسا.
سألت مساعد وزير الخارجية المصري محمد رياض عن صحة ما ذكره ستيرنر، فانفجر غاضبا: «الأمريكيون مخادعون، أما ستيرنر فهو رجل مستفز!» في المساء، دعاني فهمي إلى مائدة العشاء مبديا حفاوة مصطنعة، وراح يعاملني بكرم زائد، ثم بدأ يكشف شيئا فشيئا عن أفكاره على نحو أكثر صراحة: إن الاتحاد السوفييتي ليس مضطرا للإصرار على المشاركة في المفاوضات؛ فلن تتم الموافقة على أي من القضايا المطروحة دون موافقته (موافقة فهمي). هذا هو الأمر إذن. وهو نفسه قال لجروميكو بالأمس كلاما منافيا تماما لما يقوله الآن! كان علي عندئذ أن أخبر فهمي بأن لدي قيادتي، وأن لدينا أفكارنا ومفاهيمنا، وأن من المؤسف أن المصريين ينحون منحي مختلفا تماما في كثير من الأمور، التي سبق وأن اتفقنا بشأنها سابقا، وأن هذا المنحى لن يكون في صالح مصر والفلسطينيين والعرب جميعهم.
أكدت الأحداث اللاحقة صدق تقديراتنا؛ فالمباحثات داخل لجنة العمل العسكرية لم تتحرك قيد أنملة، وانتقل المصريون والإسرائيليون والأمريكيون بعيدا عن جينيف، ولم يبق فيها سوى وفدنا.
وقبل مغادرتنا مقر إقامتنا، حضر لزيارتنا الوفد الإسرائيلي برئاسة السفير إيفرون والذي أخبرنا أن اهتمام الإسرائيليين بالمؤتمر كان عظيما منذ اللحظة الأولى لانفتاحه، وأن الجميع في إسرائيل تابعوه باهتمام بالغ على شاشات التليفزيون وقد تأثروا بشدة عندما سمعوا بأنفسهم خطاب وزير الخارجية السوفييتي بعد أن رأوا فيه موقفا عادلا مناهضا للحرب وداعيا لإقامة السلام في المنطقة.
تحدثنا معهم طويلا وبلا كلفة، وحاولنا أن ننقل لهم فكرة ضرورة إقامة سلام حقيقي؛ حيث إن الفرصة مواتية الآن لذلك. أبدى أعضاء الوفد الإسرائيلي موافقتهم، وأكدوا على أنه بدون مشاركة الاتحاد السوفييتي ومساعدته لن تقوم للسلام قائمة في الشرق الأوسط.
وقبيل رحيله أفضى إلي إيفرون بسؤال شخصي حول ما إذا كان المصريون يدركون أن الاتحاد السوفييتي وحده هو الذي أنقذهم من الهزيمة في الأيام الأخيرة من حرب أكتوبر؟
هزني من الأعماق هذا التساؤل، الذي يعني أن الإسرائيليين يقدرون على نحو صحيح الموقف الذي اتخذته بلادنا ودورها الحاسم الذي قامت به في هذه الحرب.
لم يعد بانكر للأسف إلى جينيف في السادس والعشرين من ديسمبر، وإنما عاد .. بعد شهر، في الحادي والعشرين من يناير، وبعد أيام قليلة سافر من جديد معلنا أنه لن يعود قبيل النصف الثاني من فبراير (!) على هذا النحو يفي المسئول الأمريكي بوعده!
فيما بعد وقعت مصر وإسرائيل اتفاقية «فك الاشتباك» الشهيرة بين القوات، وإنما خارج إطار المؤتمر. كانت هذه بداية الصفقات المنفردة بين مصر وإسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية. أدارت مصر ظهرها للقضية العربية المشتركة ولحليفها السابق؛ سوريا، ونفضت يديها تماما عن القضية الفلسطينية. أتذكر جيدا البيان الذي نشره الفلسطينيون في الصحف والذي يقول: «إن المصريين يساعدون الولايات المتحدة الأمريكية في التسلل إلى الشرق الأوسط!» ومن جديد يدهشني توارد الخواطر. •••
لقد بدأ تسلسل هذه الأحداث منذ زمن بعيد؛ منذ وفاة ناصر، ومنذ وصول السادات إلى سدة الحكم. بدأت التغيرات الضخمة في الحياة الداخلية؛ الابتعاد عن الناصرية، وفي السياسة الخارجية عقد العلاقات المكثفة سرا مع الولايات المتحدة الأمريكية بعيدا عن شعبه، واتباع منهج الابتعاد عن التعاون مع الاتحاد السوفييتي وغيرها من بلدان المعسكر الاشتراكي والدول التقدمية. لم يتم الإعداد لحرب أكتوبر 1973م باعتبارها خطوة نحو تحرير الأراضي المحتلة وإقامة السلام العادل في الشرق الأوسط، وإنما وسيلة لنفاذ الولايات المتحدة الأمريكية مرة أخرى إلى المنطقة، وتحت قناع صناع السلام و«وسطاء الخير». لقد مثلت النوعية الجيدة من الأسلحة والتجهيز العالي للقوات المسلحة المصرية وروحها المعنوية المرتفعة مفاجأة حتى للسادات نفسه، وكادت هذه القوات أن تنزل بإسرائيل هزيمة حقيقية، وهو ما لم يكن «مخططا» له، في جميع الأحوال، من قبل. كانت «السيطرة» على هزيمة الإسرائيليين ضرورية للأمريكيين حتى يظهروا في صورة «المنقذين» لإسرائيل، كما كان من الضروري بالنسبة لهم أيضا أن تقع مصر في وضع حرج حتى يقوم الأمريكيون بدور مماثل معها. وقد حقق تسلل القوات الإسرائيلية الغريب عبر قناة السويس إلى الجانب الأفريقي من مصر لتقف على بعد مائة كيلومتر من القاهرة هذا الهدف المزدوج. لقد كانت الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون بمثابة عقاب لمصر للحماس المفرط لقواتها المسلحة، التي قامت على نحو واضح ب «تجاوز تنفيذ»، إذا جاز القول، «مهمتها».
لقد كانت الدعوة لعقد مؤتمر دولي للسلام في الشرق الأوسط انتصارا كبيرا لكل القوى المحبة للسلام، وللدبلوماسية السوفييتية، ودبلوماسية السلام، بالدرجة الأولى، والتي كان من نتائجها أيضا زيادة هيبة الاتحاد السوفييتي على نحو ملحوظ على الساحة الدولية.
لقد هيأت حرب أكتوبر 1973م الظروف الموضوعية الملائمة لتسوية سلمية شاملة في الشرق الأوسط، وأتاحت فرصا واقعية لإقرار سلام حقيقي وعادل ومضمون لكل دول المنطقة. وكان من الممكن أن تتوقف هذه المنطقة عن أن تظل هدفا للحرب والاستغلال السياسي والعسكري من جانب القوى الإمبريالية، لكن هذا السلام لم يكن ليناسب الولايات المتحدة الأمريكية.
سعت الولايات المتحدة الأمريكية بمساعدة السادات وتنكرها لجميع تعهداتها السابقة لإعادة مؤتمر جينيف الدولي وتوظيفه لصالحها وجعله طريقا للتغطية على مخططاتها في الشرق الأوسط، وهي تعلم أن التسوية الشاملة لا يمكن أن تتحقق - بطبيعة الحال - دون مصر. لم يحدث من قبل أن انكشف على هذا النحو من الوضوح نفاق الدبلوماسية الأمريكية التي تكيل بمكيالين.
لقد كشف الاتحاد السوفييتي النقاب عن هذه المحاولات وأظهر أمام العالم كله الوجه الحقيقي للولايات المتحدة وأعوانها.
لقد جاء عقد ما سمي فيما بعد «باتفاقيات كامب ديفيد» تتويجا لسياسة السادات المنفردة التابعة لأمريكا، قد أدت إلى النهاية التراجيدية للسادات نفسه.
إن نهاية أي ظاهرة قديمة إنما يعني ميلاد ظاهرة جديدة، والشعب المصري الذي أحس بشكل تام بالنتائج الوخيمة لسياسة التبعية للأمريكيين، سواء في مجال الاقتصاد الداخلي أو في مجال العلاقات مع الدول الأخرى، وخاصة مع الدول العربية. إن الشعب المصري الطيب الصامد في كل الظروف، لا يزال يجد في نفسه القدرة على العودة إلى الطريق الصحيح، طريق وجوده المستقل الذي يؤدي به إلى التقدم والازدهار، وهو ما يؤمن به أصدقاء مصر المخلصون، الذين يثقون على نحو كامل بمصر المتجددة التي حنكتها هذه التجربة المريرة.
محمد أنور السادات
رتوش على صورة
في وقت ما من أوقات فراغي من العمل، رحت أحسب كم مرة التقيت فيها بالسادات على مدى سنوات عملي في مصر في شتى المناسبات والمواقف. وقد تبين لي أنني قابلته حوالي مائتي مرة. أشار علي أصدقائي أن أضع على الورق حصيلة انطباعاتي عن هذه اللقاءات، لا لكون السادات كان شخصية عظيمة، وإنما لكونه كان على سدة الحكم في أكبر دولة عربية في فترة عصيبة للغاية من تاريخ هذه الدولة، وكذلك لأن علاقتنا بمصر لم تكن علاقات واسعة فحسب، وإنما كانت علاقات هائلة متعددة الجوانب، وخاصة أنه قد وقعت أحداث جسام في مسار هذه العلاقات بين بلدينا في السنوات الأخيرة عقب وفاة ناصر مباشرة. وفي حالة وقوع أحداث مماثلة من هذا النوع يكون للأفراد، كما هو معروف، دور هائل في بلد ذي نظام استبدادي مثل مصر. إن فهم شخصية الحاكم هنا يكشف على نحو محدد ما يقوم عليه من تصرفات، ويكون لهذا الفهم أهمية كبرى في تفسير السياسات الرسمية التي تنتهجها الدولة. وفي الواقع فإن قرارات رئيس الدولة كثيرا ما تتطابق بشكل واضح مع شخصيته، وهذه القرارات تستند بطبيعة الحال على القوانين العامة لتطور البلاد وعلى حركة التاريخ. ومن هنا يكون من المفيد أحيانا، إلى جانب دراسة قوانين التطور العام للمجتمع، وخاصة في التطبيق المحدد على هذا البلد أو ذاك، النظر في أسرار شخصية بعض الحكام، تلك الأسرار التي يتوقف عليها مصير الشعوب في كثير من الأحيان.
وبطبيعة الحال فإن قيمة هذه «الأسرار» المتاحة يتوقف على الملاحظات الشخصية.
1
لن أتناول هنا سيرة حياة الرئيس السادات؛ فهي معروفة بالطبع للجميع. لقد أصبح السادات رئيسا للبلاد على إثر وفاة ناصر في الأيام الأخيرة من شهر سبتمبر 1970م. وكان السادات في الأيام الأخيرة التي سبقت وفاة ناصر نائبا للرئيس - النائب الوحيد - ولعل هذا الأمر من بين الأسباب التي لعبت دورا حاسما في أن يكون هو وليس غيره رئيسا لمصر.
سرعان ما دفع الموت المفاجئ لناصر بالمشكلة الأهم، وهي من الذي سيصبح رئيسا للبلاد. وطبقا للدستور المصري يصبح نائب الرئيس في هذه الحالة هو الرئيس المؤقت للبلاد لمدة ستة أشهر. وفي السياق العادي للأحداث يكون من المنطقي أن يعتلي منصب الرئاسة الشخص الأقرب وفقا لمنصبه الحكومي. وقد كان هذا الشخص هو السادات الذي سرعان ما بدأ الحديث في الدوائر الحاكمة عمن سيصبح رئيسا بعد وفاة عبد الناصر، ذلك أن فكرة أن يصبح السادات هو الرئيس بدت للكثيرين (إن لم يكن للأغلبية) من الشخصيات البارزة أمرا سخيفا. وقد أعرب عن رغبتهم أو استعدادهم لتسليم مقاليد الحكم شخصيات من أمثال: زكريا محيي الدين وهو سياسي بارز ذو توجه رأسمالي، صاحب عقل راجح وأهداف واضحة، كما أن له خبرة في مجال إدارة الدولة. حسين الشافعي، من أوائل أعضاء تنظيم «الضباط الأحرار»، ومن أنصار الرئيس ناصر في الثورة، غير أنه يتميز بفكر سياسي رجعي وأفق محدود. اهتم بالإسلام بالدرجة الأولى، وإن ظلت لديه طموحات كبيرة، ومن بين الذين تطلعوا إلى كرسي الرئاسة علي صبري، أحد المقربين من ناصر، وهو مثقف تقدمي من أسرة ثرية، ولكنه كان يسعى في الوقت نفسه إلى تقدم مصر ودعم علاقاتها بالاتحاد السوفييتي. وبطبيعة الحال كان هناك النائب الوحيد للرئيس، الذي تسلم هذا المنصب منذ فترة غير بعيدة، ويمكن القول: إنه جاء إليه بالصدفة نتيجة نزوة «تغيير الكوادر» دوريا التي كان يطبقها ناصر.
كان من الممكن أن يؤدي الصراع على السلطة إلى عواقب وخيمة على البلاد في تلك الفترة التي كان جثمان ناصر إبانها لا يزال في انتظار مواراته الثرى، وقد احتدم الجدل بين قادة البلاد حول كيفية حل مشكلة الرئاسة. كنت في القاهرة آنذاك ضمن الوفد السوفييتي الذي وصل لحضور مراسم جنازة ناصر. كان سؤال لمن ستئول السلطة في القاهرة يثير اهتمامنا بطبيعة الحال؛ فقد كانت هناك أمور عديدة تتوقف على من بيده اتخاذ هذا القرار، ولعل من أهم تلك الأمور هو مصير مصر في القريب العاجل، ثم النهج السياسي الذي ستتبعه، والعلاقات مع الاتحاد السوفييتي، وكلها كانت تشكل أمورا جوهرية سواء لمصر نفسها، أو للاتحاد السوفييتي.
لم نتدخل بالطبع في الشئون الداخلية لمصر، على أنه نما إلى أسماعنا، إذا جاز القول، أصداء الصراع من أجل السلطة، فعلمنا، حتى من خلال الحديث أحيانا مع رجال دولة أجانب من بين الذين وصلوا إلى القاهرة للمشاركة في الجنازة. لقد تناولت هذا الموضوع - على وجه الخصوص - في حديثي مع ألكسي كوسيجين ومع الأتاسي رئيس سوريا آنذاك، وكذلك مع الرئيس الجزائري بو مدين، ومع رئيس المجلس الثوري للسودان النميري. كان الأخير شديد القلق ألا يصل إلى السلطة في مصر الشخص المناسب، إلى حد أنه - بما كان يتميز به في تلك الفترة من سذاجة وسلامة طوية - راح يلح على ألكسي كوسيجين أن «يجمع كل رجال الدولة في مصر ومعهم النميري ليقترحوا من الذي ينبغي أن يكون هو الرئيس». وإلا، وفقا لمخاوف النميري، تفرق شمل القادة المصريين أو اختاروا، دون تنسيق، رئيسا رجعيا. بالنسبة للسودان، كانت العلاقة مع مصر تمثل أهمية قصوى. وكما علمنا بعد ذلك، فقد اقترح عزيز صدقي، رجل الدولة البارز والمؤيد لتطوير التعاون مع الاتحاد السوفييتي، حلا وسطا. طرح صدقي فكرة أن يشغل منصب الرئيس الذي يبدو تعيينه أكثر منطقية ولو من الناحية الشكلية؛ فهذا الحل ذو الطابع الوسط يمكن أن يهدئ النفوس ولو مؤقتا، ولا يسمح بخلق انطباع بوجود قلاقل سياسية في مصر. وجد هذا المبدأ قبولا، ولم يكن من الصعب أن نخمن أن المرشح المناسب وفقا لهذا المبدأ هو السادات وحده، باعتباره نائب الرئيس، والذي تسلم مقاليد السلطة رسميا، «ولو مؤقتا»، في يديه. وقد أبلغنا السادات بذلك وهو في غاية السرور بالطبع . وفي نفس لحظة تعيينه قام بما لديه من صلاحيات بتعيين كل من حسين الشافعي وعلي صبري نوابا للرئيس. أما الشافعي فلأنه كان يطمح إلى منصب رئيس الوزراء، عوضا عن منصب الرئيس، والذي لم يكن أهلا له على الإطلاق. وأما علي صبري، فاختاره السادات لكي يخفف من حدة التناقضات معه، وهي تناقضات سرعان ما ظهرت على نحو درامي بالنسبة لعلي صبري نفسه. وجاء منصب رئيس الوزراء من نصيب محمود فوزي، أقدم رجال الدولة وأكثرهم خبرة وصاحب التوجهات البرجوازية. على هذا النحو بدت كل القوى، التي كانت طامحة للسلطة في البلاد، كما لو كانت قد ارتضت بالفعل بالوضع باعتباره وضعا مؤقتا، عدا تلك القوى اليمينية صراحة مثل زكريا محيي الدين، ثم الدوائر الدينية اليمينية. وقد قبل الضباط الأحرار القدامى بتعيين الشافعي، وقبلت البرجوازية المصرية الكبيرة بتعيين فوزي، والجزء الأكثر تقدمية من الناصريين بتعيين علي صبري. وقد تم إعلان أن السادات سوف يشغل منصب الرئيس مؤقتا لحين إجراء استفتاء شعبي عام. وهذا القرار كان يعكس في الواقع عدم الثقة في موقف السادات نفسه، وكان - على الأرجح - حلا وسطا وافق عليه كل من كان طامحا إلى هذا المنصب؛ إذ كان من الممكن إعلان السادات تلقائيا رئيسا، باعتباره شاغلا لمنصب نائب الرئيس ليظل في هذا المنصب لمدة طويلة، وليس فقط لسنوات ست كما ينص الدستور على ذلك، وإنما إلى أن يتم حل الصراع مع إسرائيل؛ فقد كان ناصر يمتلك هذه المهلة. تم تعيين السادات رئيسا بصفة مؤقتة، وقد قرر أن يسعى لتصفية حساباته فيما بعد مع الذين أصروا على الأرجح، على تعيينه «مؤقتا» بصوت أعلى من الآخرين.
بعد برهة من الزمن، وفي ديسمبر عام 1970م، وبعدما استطاع السادات أن يتكيف بعض الشيء مع وضعه الجديد، واستطاع أن يجذب إلى جانبه عددا من الناصريين البارزين، الذين شغلوا مناصب مهمة (شعراوي جمعة، محمد فوزي، سامي شرف)، قرر إجراء استفتاء شعبي. وبمساعدة جهاز سياسي كبير يرأسه الأمين العام للاتحاد الاشتراكي العربي شعراوي جمعة، وبمشاركة فعالة من جهاز الشرطة الذي يرأسه شعراوي جمعة أيضا، تم اختيار السادات رئيسا للجمهورية بأغلبية ساحقة لمدة ست سنوات، بينما حصل علي صبري على وعد بأن يحمل صفة «النائب الأول للرئيس»، الأمر الذي سرعان ما أثار حفيظة حسين الشافعي، الذي راح يتشبث بالصفة مدعيا أنه هو النائب الأول للرئيس.
وعلى قمة السلطة، التي كانت ديكتاتورية في جوهرها بحكم التقاليد الممتدة في مصر، ربما من عصور الفراعنة، تربع السادات بمساعدة جماعة محدودة تماما من رجال الدولة والسياسة الذين عينوا في عهد ناصر، والذين كانوا يشغلون كل المناصب المهيمنة على مسيرة الدولة. هؤلاء كانوا: شعراوي جمعة أمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، ونائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية. محمد فوزي وزير الحربية. سامي شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية، وهو الرجل الذي كانت تتجمع في يديه كل المعلومات العسكرية والاستخبارات السياسية. محمد فائق وزير الإعلام، المسيطر على الصحافة والإذاعة. لبيب شقير رئيس مجلس الأمة (السلطة التشريعية في البلاد). عبد المحسن أبو النور الأمين الأول الأسبق للاتحاد الاشتراكي العربي، إلى جانب مناصب أخرى. وقد ظلت اللجنة العليا للاتحاد الاشتراكي العربي، وهي هيئة استشارية تابعة للرئيس أسسها عبد الناصر، تمارس عملها وتضم كل القيادات المذكورة وكذلك قيادات أخرى. ومع ذلك كان السادات يشعر أنه لم يحكم بعد قبضته على السلطة.
كان السادات محقا في ظنه في أن الشافعي لا يمثل منافسا حقيقيا له. كانت مثالب هذا الرجل واضحة أمامه وضوح الشمس، ولم يكن باستطاعته الاعتماد عليه اعتمادا جادا. ومن ناحية أخرى، فإن علي صبري كان يعلق - على سبيل المثال - آمالا كبارا على أن السادات منحه للمرة الأولى لقب النائب «الأول» للرئيس، وهو - على حد قوله - كان له مغزى كبير «لو أن أمرا ما» وقع للسادات. الحس السياسي المحنك لم يخن السادات، وها هو يقرر أن يكون أكثر حذرا.
أثناء جنازة ناصر وقعت حادثة عجيبة؛ فبعدما تم تجهيز الموكب كيفما اتفق، وكان يضم عددا كبيرا من ممثلي الدول الأجنبية؛ رؤساء دول وحكومات، وكذلك قيادات مصرية بارزة، تحركنا جميعا في الطريق تحت شمس حامية الوطيس من باحة مبنى قيادة الثورة في الجزيرة، باتجاه موقع الدفن في المسجد المقام في هليوبوليس، وبعد برهة ظهر «موكب» آخر في مواجهة الصفوف الأولى. كانوا يحملون شخصا على كرسي. تدلى رأسه، بينما راحت ساقاه تتأرجحان. كان الرجال الذين يحملون الكرسي يهرولون وهم يشقون طريقهم عبر الزحام عكس سير الجماهير. كانوا يحملون السادات. بدا الأمر غريبا وغير مألوف لي. شيء ما حدث، ولكن ما هو؟ بعد برهة أخرى، شاهدت كيف راحت الجموع التي سرعان ما ابتلعت الموكب. ولما لم يكن باستطاعتي الخروج بعيدا عن حدود المكان، الذي تقع فيه نقطة الانطلاق، إذا بكوسيجين يسير في ملاقاتي. لقد اختلط كل شيء، ولم يكن الحديث عن أي نظام من أي نوع ممكنا. اضطر جميع الضيوف الأجانب إلى مغادرة الموكب، وحول النعش كانت الجماهير الهادرة تزحف دون أن يستطيع أحد التحكم في اتجاهها.
أخبرت ألكسي كوسيجين أنني شاهدت السادات محمولا على كرسي، وأعربت له عن فكرتي بضرورة ذهابه إليه والإعراب عن اهتمامه بأن يكون شيء ما خطير قد وقع، وعلى أية حال، فمن الواجب أن نعبر عن تعاطفنا.
في البداية أجاب المسئولون المصريون ردا على استفسارنا بأنهم لا يعرفون شيئا، ثم «أسروا» لنا أن السادات في حالة نفسية سيئة، وأنه من غير الممكن مقابلته. راودتني فكرة أن يكون مكروه قد وقع له. وأخيرا، وبعد جدال طويل، سمح المصريون لألكسي كوسيجين فقط ومعه مترجم واحد بالدخول إلى إحدى الغرف في المبنى، وهناك كان يرقد رجلان على سريرين بسيطين؛ السادات وعلي صبري. وقد اتضح أن صبري كانت حالته أسوأ، وقد جيء به إلى هنا قبل السادات بفترة طويلة. وعندما أبلغوا السادات بذلك ازدادت حالته سوءا فأحضروه إلى نفس الغرفة. كلاهما ظل راقدا، وفق شهود العيان، في مظهر لا بأس به، ولكنهما كانا يتأوهان وكأنما يتنافسان فيما بينهما. وقد شرح لنا الأطباء أن ما بهما هو نتيجة لما وقع عليهما من ضغط عصبي. أقولها صراحة، لقد تسرب الشك إلى نفسي من جراء هذا المشهد. فيما بعد راودتني فكرة أخرى أوحت لي بها الأحداث ذاتها التي كان من المحتم أن تحدث في مصر في خضم الصراع على السلطة الذي تجلى فيما بعد.
من الممكن أن يكون السادات قد ذهبت به الظنون، بعد أن سمع ب «مرض» علي صبري، منافسه المحتمل، إلى أن الرجل يدبر شيئا ما بحيث يصبح هو الرئيس بعد دفن جثمان الرئيس وليس هو. وهنا ادعى السادات أن حالته «سيئة»، وأسرع ليكون بجواره حتى لا يغيب علي صبري عن ناظره. على أية حال، فقد دفن ناصر دون حضور الرجلين؛ السادات وعلي صبري، ودون حضور العديد من القيادات الأخرى. كان أبرز من رافقه حتى مثواه الأخير هم زكريا محيي الدين، وحسين الشافعي، والنميري، والمتطرف الشاب الزعيم الليبي العقيد القذافي. هؤلاء استطاعوا الصمود في خضم هذا الزحام الخارق للعادة للآلاف من الناس، وأن يتماسكوا على امتداد طريق يبلغ طوله عدة كيلومترات عبر شوارع القاهرة الملتهبة من شدة الحرارة. ومع ذلك فقد سرت شائعة بين الجماهير تزعم أن ناصرا لم يدفن في هذا المسجد حيث ووري جثمانه أمام الجميع.
استقرت حالة الاضطراب التي صاحبت موت ناصر، وانتخب السادات رئيسا شرعيا للبلاد، وبدا أن كل شيء أصبح على ما يرام. لكن المجموعة التي تبقت منذ عهد ناصر والتي كانت تمسك في الواقع بالسلطة، أحاطت بالسادات وأبدت ولاءها له. وسرعان ما بدا واضحا أن هذه المجموعة من الناصريين أرادت بحصافة تامة أن ينصت إلى رأيها وألا يضع إرادته على أية حال فوق إرادتها. كانوا يتطلعون إلى قيادة جماعية انطلاقا من معرفتهم الجيدة بالدرجة الأولى بالصفات الشخصية. والطموحات السياسية التي لدى السادات. كانوا يفترضون، من حيث المبدأ، أن السادات سوف يأخذ بعين الاعتبار آراءهم، ليس فقط لأنهم جميعا يشغلون مناصب حكومية واجتماعية رفيعة، ولأن كلا منهم يتولى مسئولية كبرى في مجاله، وإنما لأنهم كانوا يريدون أيضا أن يروا السادات شريكا لهم من الناحية الفكرية، وخاصة فيما يتعلق بحل النزاع العربي الإسرائيلي، وفي علاقات مصر بالولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
كانت هذه المجموعة من رجال الدولة تنطلق من أن الولايات المتحدة الأمريكية هي العدو الرئيسي للوطنية المصرية، وأن الهدف الرئيسي للسياسة الأمريكية لا يتوقف عند مجرد مساعدة إسرائيل على الاحتفاظ بالأراضي العربية المحتلة. وإنما في تغيير البنية الداخلية للبلاد العربية التقدمية وتحويلها إلى طريق التطور الرأسمالي البحت، بحيث تصبح مصر وغيرها من الدول العربية مستقلة ظاهريا وإن ظلت في واقع الأمر تابعة للنظام الرأسمالي العالمي؛ أي للولايات المتحدة الأمريكية، من الناحيتين الاقتصادية والسياسية. ومن ثم، تصبح هناك إمكانية تبعيتها أيضا من الناحية العسكرية. كان هذا المستقبل مخالفا بطبيعة الحال للطموحات الأيديولوجية للقوميين المصريين الذين كانوا يحيطون بناصر، فضلا عن أن الانحراف عن الطريق الذي كان ناصر يقود مصر إليه بعد الثورة، كان يعني وصول أشخاص آخرين إلى السلطة الحقيقية والشكلية في مصر، وهو ما كان يشكل تهديدا شخصيا لهم. وكان أكثر ما يخشونه هو تقلبات الرئيس الجديد ومتناقضاته. كانوا يخشون ذلك لأنهم كانوا يعرفونه حق المعرفة.
منذ الأيام الأولى راح هؤلاء الناس جميعا يخدمون بشرف رئيسهم الجديد. كانوا يرون أن مهمتهم تنحصر في أن يكونوا أكثر اقترابا من الرئيس. أن يجذبوه إليهم، ألا يعطوا فرصة لأي تأثير «خارجي» أن ينفذ إليه، أن يربطوه بخطوات جديدة سياسيا في المسار الناصري.
على أنهم سرعان ما اقتنعوا بعدم فعالية هذا النهج. لقد راح السادات يتخذ أكثر فأكثر قرارات منفردة غاية في الأهمية دون أن يتشاور مع من كانوا يبدون أصدقاء مخلصين لنهجه السياسي، بل وصل الأمر إلى حد عدم إبلاغهم بما سوف يقدم على عمله. والذي حدث أن هؤلاء لم يعرفوا بالعديد من القرارات إلا من خلال خطابات الرئيس أمام اجتماعات مجلس الأمة أو من خلال الإذاعة. حدث ذلك على سبيل المثال عندما أعلن السادات عام 1971م «عاما للحسم» في الصراع العربي الإسرائيلي. وقد اتضح بعد ذلك القرار أن شيئا لم يحدث، اللهم إلا طموح فارغ من جانب الرئيس نفسه. وهو ما حدث أيضا مع ما أطلق عليه «مبادرة السادات» في فبراير 1971م، عندما اقترح انسحاب القوات الإسرائيلية لمسافة ما في عمق سيناء «مقابل» فتح قناة السويس أمام الملاحة، أو، على سبيل المثال، الموافقة على قبول اقتراح الأمريكيين المعروف باسم «المفاوضات عن قرب» في نيويورك؛ أي المفاوضات المصرية الإسرائيلية المباشرة بوساطة أمريكية. وأحيانا ما كان بعض المقربين من السادات ينجحون في «الإمساك به» في اللحظة الأخيرة بالفعل، وإرغامه على تصحيح خطابه أو حتى قراره. وعندئذ كان جميع نواب مجلس الأمة المجتمعين ومعهم السفراء الأجانب يعانون من الملل من جراء الانتظار وعدم معرفة ما يحدث. كان الانتظار أحيانا ما يصل إلى أربعين وخمس وأربعين دقيقة، وأثناء ذلك، كما اتضح فيما بعد، كان المقربون من السادات يسعون «لإقناعه» أن يغير خطابه أو قراره. وبطبيعة الحال كانت الشائعات والتخمينات تسري على الفور بين السفراء حول طبيعة ما يحدث. أما أنا، فمن أين لي أن أعرف ما كان يحدث آنذاك (ولو عرفت فلم أكن لأتحدث).
لقد اعتبر الناصريون أن أخطر شيء في تصرفات السادات، هما قضيتا العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية من جانب، ومع الاتحاد السوفييتي من جانب آخر. وفي الحقيقة، فالمسألتان كانتا وثيقتي الصلة كل منهما بالأخرى. كان الناصريون يخشون أن يقدم السادات تنازلات مهينة للولايات المتحدة الأمريكية، لعلمهم بأنه ضعيف أمام التملق والإطراء، وأنه شديد الإعجاب بنفسه، اعتاد أن يثق في القوة، وأن تعليمه وفكره قاصران. كانوا يعلمون أيضا أنه لا يحب الاتحاد السوفييتي، وأنه كان يخشى هذا التناول الصريح الصادق من جانب السوفييت للقضايا السياسية. لم تكن الأيديولوجية السوفييتية مقبولة لديه، وكان كل ما يسعى إليه هو استغلال الاختلاف السياسي بين الدولتين العظميين - الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية - لصالح مصر، على قدر فهمه هو لهذه المصالح. كان السادات أساسا رجلا يمثل الفكر الريفي المتخلف، بينما كان الناصريون يمثلون أفكار «مثقفي الطبقة الوسطى» في مصر. كان السادات هدفا للسخرية والنكات والنوادر الطريفة بسبب محدودية ثقافته بشكل أساسي، أما الناصريون فهم أناس، وإن لم يحصلوا على تعليم رفيع، فهم على أية حال من «مثقفي المدن» الأكثر تعليما؛ إذ تلقى غالبهم تعليما جامعيا.
كان أكثر ما أثار مشاعر الخوف لدى الناصريين هو تلك المراسلات التي جرت على نحو فردي بين السادات والرئيس الأمريكي، والتي لم يحط السادات الاتحاد السوفييتي علما بشأن ما جاء فيها من خطوات اتخذها في مسار علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما رأى فيه الناصريون سببا لأن يشعر الاتحاد السوفييتي حتما بفقدان الثقة في السادات. وفي هذا الصدد تحديدا كان الناصريون يقفون بشكل قاطع مع ضرورة الاعتماد على الاتحاد السوفييتي.
أربكت موافقة السادات على حضور وزير الخارجية الأمريكي روجرز إلى القاهرة في مطلع شهر مايو 1971م حسابات الناصريين، ومن ثم تحولت مخاوفهم بشأن اتخاذ السادات خطوات محتملة تجاه الولايات المتحدة الأمريكية إلى أمر واقع. وفي هذا الوقت اتسمت علاقات معظم رجال الدولة في مصر بالسادات بالكلفة الشديدة والبرود نتيجة الفضيحة الخاصة بالقرار المنفرد الذي اتخذه السادات بشأن إقامة اتحاد فيدرالي بين كل من مصر وسوريا وليبيا، فضلا عن أن شروط هذا الاتحاد قد صيغت على نحو بالغ السوء إلى حد يسمح بأن يكون لمصر رئيس ليبي أو سوري! لقد احتوت هذه الأفكار الضبابية على العديد من الأمور الغامضة غير المدروسة، والتي طرحت على الورق بشكل متعجل على هيئة مشروع الدستور اتحاد مغلق. أتذكر كيف عرض ناصر في فبراير 1970م، إبان ما عرف باسم «الزيارة السرية» لموسكو أفكاره بشأن إقامة وحدة عربية، رأى أنها لا تزال في حاجة إلى النقاش والتشاور. وفي طرحه لهذا الموضوع بشكل ودي على القيادة السوفييتية آنذاك عبر ناصر عن رؤيته لضرورة التعامل مع مثل هذه الأمور بحرص بالغ؛ إذ إنها تمس ليس فقط حياة بعض الناس، وإنما أيضا وجود دول بأكملها، وأن على المرء أن يزن المسألة بدقة، حتى لا تؤدي هذه الخطوة إلى التنافر بدلا من دعم الوحدة. لم يصر ناصر على إقامة الوحدة، وطرح فكرته جانبا ليلتقطها السادات ويقيمها على نحو مفاجئ وعاجل، وقد كان مصيرها على النحو الذي تنبأنا به.
نجح السادات في إخماد فضيحة الوحدة، لكنه تلقى درسا ملهما في الجلسة الختامية للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي؛ حيث وجه له رجال الدولة المحنكون، باستثناء عدد من أذنابه من غير ذوي الثقل، نقدا حادا للوحدة ولشروطها ولمجمل تصرفات الرئيس في هذا الشأن في واقع الأمر. هل كان من الممكن أن يمر الأمر دون أن ينتقم السادات لنفسه، وهو الذي كان يمتلك خصلة بالغة السوء؛ عدم نسيان الإهانة؟
أوقعت زيارة روجرز الناصريين في اضطراب شديد. ومثل كابوس ليلي ثقيل تراءى لهم مستقبل المفاوضات المصرية الإسرائيلية المباشرة بوساطة أمريكية، ومن ثم تنبئوا بشكل واضح بإقصاء الاتحاد السوفييتي كواحد من تبعات هذه الخطوة. لقد توقعوا أيضا أن يستغل الأمريكيون قدرتهم في الضغط على إسرائيل وإرغامها على تقديم بعض التنازلات حتى يستطيع السادات «ابتلاع» ما سوف يقترحونه عليه. أما قضية إعادة الأراضي المصرية المحتلة فسوف تتحرك من سكونها بمساعدة أمريكية، وسوف تعود العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، الأمر الذي قد يؤدي إلى زيادة النفوذ الأمريكي في كل أوجه الحياة في البلاد. وسوف يصعد ممثلو الطبقات والدوائر الرجعية الذين حاربهم ناصر وأنصاره بعناد، وسوف يتم تغيير القيادات الحالية ويتغير نهج البلاد حتما، وتصاب العلاقات بين مصر والدول العربية بأبلغ الضرر، ويتم خيانة الأنظمة التقدمية، ويصبح الرجعيون من أمثال فيصل هم أصدقاء مصر.
في محاولاتهم قطع زيارة روجرز، كان «المتآمرون»، كما باتوا يعرفون بهذا الاسم، مستعدين حتى إلى القيام بعمليات عسكرية دون إذن ضد إسرائيل؛ من أجل أن يضعوا الرئيس أمام الأمر الواقع؛ ففي ظروف الحرب لن يجرؤ روجرز على المجيء لمصر، أما اللجوء للعمليات العسكرية فيمكن لهم تبريره بأنه عمل وطني، والمنتصرون على حق دائما. عموما فقد سعى الناصريون في خططهم لاستخدام الاتحاد السوفييتي بقدر الإمكان، ولو أدى الأمر إلى المواجهة العسكرية المباشرة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية؛ ولهذا راحوا يلحون على «التدخل السوفييتي» على نحو أكبر؛ أي بزيادة عدد المستشارين العسكريين السوفييت، والعاملين العسكريين في مصر بشكل عام.
كيف انتهت محاولة هذه الجماعة من القيادات الحكومية والشخصيات العامة التأثير على السادات والسيطرة عليه أو حتى العمل معه وخاصة عند اتخاذه لقراراته أمر معروف جيدا للجميع؛ لقد زج السادات بهم في السجون لمدد طويلة. في مايو 1971م تم اعتقال علي صبري نائب الرئيس (نصيره الأول كما كان السادات يعتبره)، شعراوي جمعة نائب رئيس الوزراء ووزير الداخلية وأمين اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي (كان جمعة «يستعد» ليقوم بدور رئيس الوزراء ثم الرئيس بعد ذلك)، محمد فوزي وزير الحربية (الوطني المخلص، الإنسان الجدير بالاحترام، الصديق الرائع للاتحاد السوفييتي)، سامي شرف («رئيس» كل أجهزة المخابرات ومحاربة التجسس)، لبيب شقير رئيس مجلس الأمة (اليساري الماركسي)، محمد فائق وزير الإعلام أحد أكبر المثقفين، عبد المحسن أبو النور الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، رئيس المنظمة السياسية الوحيدة في البلاد، وغيرهم من القيادات. كان هؤلاء الرجال يتولون مناصب حساسة، وكانوا في الواقع هم من بيدهم مقادير الدولة، وفي لحظة واحدة إذا بهم خلف القضبان. هل كانت لديهم النية آنذاك في إزاحة السادات؟ لا أظن. ومما يؤكد ذلك أعمالهم التي سبقت اعتقالهم.
لقد قرر السادات أن يبدأ الضربة الأولى، وكانت ضربة استفزازية.
في البداية أقال علي صبري نائب الرئيس من منصبه، وكان قد أبلغ السفير السوفييتي بهذه الخطوة قبل اتخاذها بثلاثة أيام. كانت حساباته في ذلك اختبار رد فعل الاتحاد السوفييتي؛ هل سيبدي اعتراضه أم يكون له موقف آخر؟ هل يقف الاتحاد السوفييتي خلف علي صبري و«أصدقائه» في الداخل كما حاول الأمريكيون بإصرار أن يوحوا له بذلك؟ فإذا ما عبر الاتحاد السوفييتي عن استيائه فهذا هو البرهان. فضلا عن ذلك فقد بدا أن يدي السادات أصبحت طليقة في اتصالاته المقبلة مع الأمريكيين، الذين سيجدون الذريعة إذا ما تصرف الاتحاد السوفييتي بشكل «سيئ». إبان لقائه بي شرح السادات لي نيته في عزل علي صبري؛ لأن العمل معه أصبح صعبا، ولأنه يعارض الرئيس. وأضاف السادات أنه يحيطني علما بقراره مسبقا لأنه يتوقع أن تنتشر الشائعات حتما لتقول إن قراره يعد بمثابة لفتة غير ودية تجاه الاتحاد السوفييتي.
وبعدما اقتنع السادات أنه لن يكون هناك أي اعتراض من الجانب السوفييتي (لم يكن من الممكن أن يحدث ذلك بطبيعة الحال نظرا لأنها قضية مصرية داخلية، وقد اكتفيت بعدها بتقديم النصيحة بضرورة الحفاظ على وحدة القيادة في البلاد). اتخذ السادات خطوته. استدعي شعراوي جمعة وقال له إنه غير راض عنه، واقترح عليه إما أن يقدم استقالته بنفسه وهو الأكثر كرامة، وإما سيضطر لعزله من منصبه. انتهى الحديث بأن قرر شعراوي جمعة أن يقدم استقالته، وبعد أن غادر جمعة مقر الرئيس توجه ليخبر رفاقه بما حدث، وكانت النتيجة أن اتخذوا قرارا بتقديم استقالاتهم جميعا. قرار غبي وسخيف لو أن «المتآمرين» كانوا يرغبون حقا في إزاحة السادات! فما الذي منعهم وقد كان الجيش والشرطة والاتحاد الاشتراكي العربي ومجلس الأمة ومنظمات الشباب والصحافة والإذاعة وهلم جرا رهن إشارتهم. أما كانت لديهم حسابات ساذجة في أن تجبر الاستقالة الجماعية لقيادات الدولة السادات على أن يغير قراره بعزل شعراوي جمعة، أو على إجباره على تغيير النهج الذي اتخذه بأن يحكم منفردا ويوافق على أن «يحكموا معا» (؟). لقد تصرف السادات وفقا لمنطقه هو؛ منطق التآمر الذي مارسه زمنا طويلا إبان عمله السري. لقد أدرك أن تنازله الآن سوف يكون وبالا عليه في المستقبل.
لقد كشفت الاستقالة الجماعية له عن جوهر القضية؛ كانت الاستقالة تعني أن الناصريين كانوا يرون أن طريقهم مختلف عن طريق السادات. وما دام الأمر كذلك، فهذا يعني أن من المستحيل مستقبلا الاعتماد على خضوعهم لطاعته وولائهم لرئيسهم ومن ثم لقراراته. وحتى وهم بعيدون عن السلطة فسوف «يعكرون المياه» لأنهم مشهورون، ولأنهم أذكياء، ولأنهم يتمتعون بالنفوذ والثقة وخاصة من جانب الاتحاد السوفييتي، ولأنهم معروفون في البلاد الأخرى وخاصة في الدول العربية. إذن فهم أعداؤه، إن لم يكن من ناحية الشكل، فمن الناحية النفسية؛ وهو ما يعني أنه إذا كان عليه أن يحكم منفردا، فعليه بالضرورة أن يقوم بعزلهم عن المجتمع وعن الدولة، وأن يفعل ذلك بكل ثبات.
اعتقل السادات كل من أشرنا إليهم من شخصيات، واضطر بالطبع أن يضم إليهم العديد من الأشخاص جرت لهم محاكمة غير علنية صاخبة، وجهت إليهم فيها تهمة الخيانة (!)، وصدر الحكم فيها بإعدامهم شنقا، ثم تم تعديل الحكم بقرار شخصي من الرئيس إلى السجن المؤبد بالنسبة «للمتهمين» الأساسيين. ولا يمكن أن نعزو هذا «الكرم» من الرئيس إلى خصاله الشخصية النفسية بطبيعة الحال. كان من الواضح أن السادات وضع في حسبانه ألا يقطع «شعرة معاوية» مع الاتحاد السوفييتي؛ إذ كان يعلم أن ما جرى من تنكيل لم يكن ليمر مرور الكرام؛ فالاستمرار في المناورة مع الاتحاد السوفييتي ما زال أمرا واردا في مخططات السادات.
وأخيرا، وبداية من منتصف شهر مايو عام 1971م، دانت السلطة بأكملها لمحمد أنور السادات، ليس فقط اسميا وإنما فعليا أيضا. الآن لم يعد أحد يحيطه من الشخصيات ذات النفوذ، الشخصيات صاحبة الرأي، الشخصيات التي ارتبطت بالعمل مع الرئيس الراحل عبد الناصر. لم يبق سوى إصدار الأوامر والنظر إلى كيف ستنفذ التعليمات.
وفي أبريل عام 1973م استخدم السادات «الاحتياطي» الأخير من السلطة؛ فقد أعلن نفسه «الحاكم الأعلى» للبلاد، وبهذا أصبح من ناحية الشكل أيضا فوق السلطة التشريعية، كما استولي لنفسه على منصب رئيس الوزراء، أما منصب رئيس الاتحاد الاشتراكي العربي فكان يشغله بالفعل من قبل. وفي سياق ذلك، قام بحل اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي. وهكذا جمع في يديه كل شيء بما في ذلك لقب القائد الأعلى لاتحاد الجمهوريات العربية والقائد الأعلى للقوات المسلحة المصرية.
ليست بنيتنا أن نستمر في الحديث عن «قائمة الوظائف» التي شغلها السادات؛ فالحياة قد كشفت لنا بعد ذلك أنه كان أحيانا ما يعطي جزءا من سلطاته (من أجل مصالحه الشخصية) لآخرين. يعطيها ليضع هؤلاء الآخرين تحت قبضته، حيث يمكن أن يسقط آثامه في الحكم على رءوسهم. على هذا النحو كان يتصرف؛ قام بترقية الذين ساعدوه لأسباب مختلفة، وأحيانا لدوافع وطنية شريفة، ثم أقالهم بعد ذلك؛ إذ لم يكن ليسمح بأن تكون هناك فرصة أمام أحد ليكتسب شعبية في بلاد لها رئيس قادر مهيمن. وكثيرا ما كان يقيل هذا الشخص أو ذاك ليلقي على رأسه بتبعات كل الأخطاء الممكنة وغير الممكنة. وكثيرا ما دفع للأمام بأناس عديمي الموهبة، مفترضا أن استخدام رجل عديم الكفاءة أفضل من رجل ذكي متمرد. وعندما تنهار الأمور يمكن فصل عديم الموهبة غير مأسوف عليه، بل ويمكن أيضا إلصاق كل النقائص الممكنة به.
إن القصة الموجزة لانطلاق السادات إلى السلطة كانت أمرا ضروريا لكي نفهم على نحو أفضل هذه الشخصية المتعددة الأوجه؛ لأنه لا شيء يمكن أن يحدد ملامح أي شخصية سوى ما تقوم به من أعمال.
2
على أي نحو يبدو الوجه السياسي للسادات؟ من الذين يمثلهم؟ من الذين يعكس مصالحهم؟ من يقف وراءه؟ بالطبع يمكن طرح العديد من مثل هذه الأسئلة وكلها مشروعة تماما، على الرغم من أن إعطاء إجابة واحدة عليها أمر بالغ الصعوبة.
فإذا تحدثنا بشيء من التعميم، ومن ثم إمكانية وقوع أخطاء في هذا الجانب أو ذاك، فإنه يمكن تحديد الوجه السياسي للسادات بوصفه ممثلا لمصالح هذا القطاع من البرجوازية الوطنية التي لا تحوز ممتلكات كبيرة، ولكنها تمتلك شيئا ما على أية حال؛ برجوازية عرفت مذاق الملكية الخاصة، وهي ترى أن علاقات الملكية الخاصة تعني السعي نحو الثراء المالي وليس الروحاني بالضرورة.
هذا القطاع من البرجوازية، سواء أكان صغيرا أم متوسطا، يتصف بضيق الأفق؛ فهو ينظر بحسد إلى جوانب القوة في الدول الغربية، وهو معاد بطبيعته للمثل الاشتراكية، حيث إن المبادئ الاشتراكية تضع حدا واضحا بين طبقات المجتمع، وبالنسبة لهؤلاء البرجوازيين الصغار، مثل السادات، لا توجد طبقات، وعلى أية حال ، فهي غير موجودة في مصر. ربما توجد في مكان ما هناك، حيث توجد الماركسية، ولكن في مصر؟ أين هي الطبقات في مصر؟ هناك مصريون فقط، بل ولا يوجد عرب، مصريون يتميزون بتعدد اللهجات.
كان ناصر يتحدث بإصرار عن شعبه باعتباره شعبا عربيا، أما السادات فكان يشدد في حديثه على المصريين. في عهد ناصر كانت الدولة تسمى الجمهورية العربية المتحدة، وفي عهد السادات أصبحت تسمى جمهورية مصر العربية. في عهد ناصر كان القوميون يسعون «لإثبات » أن العرب جاءوا بثقافتهم إلى مصر، وفي عهد السادات راحوا يثبتون أن الثقافة المصرية كانت حتى لحظة وصول العرب أكثر قوة وعمقا وتطورا، ومن ثم فإن القادمين العرب استوعبوا الثقافة المصرية المحلية.
إن السادات، خصم الرأسمال الضخم والبرجوازية الكبيرة، لا طاقة له من ناحية المبدأ، على مواجهة كل أشكال الملكية الخاصة، التي هي أساس استغلال الإنسان للإنسان؛ لأنه لم يكن ينتمي قط إلى البرجوازيين الكبار، وعلى الرغم من أنه كان يكن لهذه البرجوازية الاحترام في قرارة نفسه و... يخشاها.
نعم يخشاها؛ لأنه كان واثقا أن البرجوازية ليست في حاجة إلى السادات، وأنها ستلقي به في المكان المناسب. إن البرجوازية المصرية بحاجة إلى رجل ذكي مثقف، وإلى زعيم يعرف قضيتها جيدا. والآن؟ الآن سوف يكون عليها أن تتحمله. ليس فقط تتحمله، بل وتساعده وتؤيده. لماذا؟ لأنها ترى السادات، ربما يسير، دون وعي منه، نحو إصلاح سلطة البرجوازية المصرية. وعلى أية حال، فإن مجمل سياساته في الشئون الداخلية والخارجية توفر ظروفا مناسبة في هذا السياق، وهي لا تتعارض مع المصالح الجذرية للبرجوازية المصرية الكبيرة. الأمر الوحيد كيف ينبغي لفت نظره حتى يسرع أكثر للعمل لصالح هذه البرجوازية بالإيقاع الذي تطمح إليه. لكن «الذنب» في ذلك ليس ذنبه؛ لقد مدت الإصلاحات الاجتماعية التي تمت في عهد عبد الناصر جذورا عميقة، ولم يعد الشعب المصري شعبا طيعا لكي ينفذ كل مطالب السادات. لقد ذكرت الاضرابات والمظاهرات الجماهيرية القوية التي قادها العمال بدعم من الحركة الطلابية التقدمية، ذكرته مرارا بضرورة وضع حد لصبره.
كانت النزعة البرجوازية لدى السادات تحمل طابعا ريفيا نتيجة أصوله القروية. وكثيرا ما كان يصور في خطبه العلنية القرية المصرية باعتبارها مثالا لمصر ونموذجا للحياة الريفية الرغدة للمجتمع المصري كله. لم يتحدث السادات مرة واحدة عن أن هذه القرية المصرية تحديدا ذات أوجه متعددة، هو لم ير أن فيها أغنياء وفقراء أصبحوا هكذا تحديدا بسبب الظلم، فهو لم ير الاستغلال في القرية.
إن القرية بتقاليدها الريفية المسترشدة بالإسلام، والتي تعيش حياتها وفقا لتعاليم الإسلام على مستوى الدولة كلها هي - بالنسبة للسادات - المثال «الاشتراكي»، هي الاشتراكية المصرية في فهمه، أو إن شئنا الدقة، على النحو الذي يريده.
إن السادات، بقدر استطاعتي الحكم عليه من خلال خطبه وأحاديثي الشخصية معه، كان لديه تصور مبهم للغاية في القضايا الاقتصادية، وفي هذا الشأن كان باستطاعة أي من رؤساء الوزراء أو من وزراء الاقتصاد أن يخدعه فيها بسهولة. كان السادات يولي ثقته لأي مقولة أو لأي رقم، إذا كان مصدره في ذلك شخصا أهلا للثقة في اللحظة الراهنة. كان باستطاعته، على سبيل المثال، أن يؤكد للأمريكيين بهدوء ودون أن يبدو عليه أي قدر من الارتباك أن رواتب المستشارين العسكريين السوفييت تكلفه مبالغ باهظة، وأن عليه أن يدفع هذه الرواتب بالعملة الصعبة! بالمناسبة، لم تدفع مصر أي رواتب للسوفييت، ناهيك عن أنه لم تكن هناك أي حسابات مع مصر يتم التعامل فيها بالعملة الصعبة.
ذات يوم وإبان حديثي مع الرئيس السادات، وكان في حالة مزاجية رائعة، وهو أمر نادر الحدوث، طرحت عليه سؤالا حول تصوره لتطوير الزراعة المصرية في المرحلة المقبلة؛ ففي مصر لا توجد أراض فائضة، بمعنى احتياطي من الأراضي الزراعية يمكن استغلاله؛ فالسكان يعيشون على شريط ضيق من الأراضي يصل في بعض التقديرات إلى 3٪ من المساحة الإجمالية للبلاد، بينما تمثل باقي الأراضي صحاري قاحلة يمكن استصلاح بعضها. وتشير الإحصاءات أيضا إلى أنه حتى لو جرى ري كل هذه الأراضي القابلة للاستصلاح وجعلها أراضي خصبة، فإن الأراضي المصرية المأهولة والمستخدمة لن تزيد على 4٪ من إجمالي مساحة البلاد.
باختصار، زيادة الإنتاج الزراعي بفضل زيادة الأراضي المستصلحة محدودة بشكل واضح، وعلاوة على ذلك، فإن الزراعة هي التي تمثل الجزء الأكبر في الاقتصاد القومي للبلاد؛ ففي مصر لا توجد ثروات طبيعية، ومن ثم فإن ارتباطها بالاستيراد من الخارج كبير، وهي مضطرة لأن تسوي حساباتها من منتجاتها الزراعية الخام أو المصنعة. من هنا يتضح لنا الدور الهائل للزراعة، التي يعمل فيها بالمناسبة غالبية السكان. إن تنمية الزراعة ليست قضية اقتصادية فحسب ، وإنما هي قضية اجتماعية؛ ولهذا فإن زيادة الإنتاج الزراعي والطرق المستخدمة من أجل ذلك سوف يتوقفان لا على الوضع الاقتصادي للبلاد إجمالا، ولا على رفاهية السكان كلهم فحسب، وإنما على التركيب الطبقي للمجتمع المصري، ومن ثم على الشكل الاجتماعي للبلاد وعلى طابع العلاقات الاجتماعية فيها.
حاولت أن أطرح كل هذه المشكلات على السادات وكنت شديد الاهتمام بالاستماع إلى رأيه. وهنا انعكس على وجهه شعور واضح بالملل، وأجاب بأن علينا أن نفكر في هذه القضايا «بعد النصر».
حاولت مرة أخرى أن أطور فكرتي في اتجاه مختلف بعض الشيء؛ إذ كنت أرى أنه في سياق الطريقة الحالية للإنتاج سرعان ما تصبح المنتجات الزراعية غير كافية لإشباع حاجات الغذاء والتصنيع والتصدير، ناهيك عن أن مساحة الأراضي القابلة للزراعة محدودة أساسا. بالطبع فإن جزءا من الزيادة في الإنتاج الزراعي يمكن الحصول عليه من خلال تكثيف الإنتاج، سواء باستخدام الأسمدة والبذور الجيدة، إلى جانب استخدام الميكنة الزراعية وما إلى ذلك من وسائل. ولكن حتى هذه الأمور لها حدود قصوى. سرعان ما أصبحت قضية زيادة الإنتاج وثيقة الصلة بنظام استغلال الأراضي وخاصة الأراضي الصغيرة نسبيا؛ فمن المعروف أن فعالية الإنتاج تكون أكبر في الأراضي الشاسعة، حيث يمكن استخدام الميكنة الزراعية. إذن كيف يمكن التعامل مع الملكيات الصغيرة؟ ستظهر على الفور مسألة ضم الأراضي، وهنا تختلف الوسيلة؛ فإما يتم زيادة الملكيات الصغيرة الخاصة على حساب شراء أراضي الآخرين؛ أي بإفقار البعض وإثراء البعض الآخر، وإما بضم الأراضي بالإرادة الطوعية للفلاحين في إطار نظام المزارع الجماعية. ما الطريق الذي ستسير فيه القرية المصرية؟
اعترف السادات صراحة أنه لم يفكر من قبل في هذا النوع من القضايا. الأمر الوحيد الذي يؤمن به هو حكمة الفلاحين، الذين هم ملح الأرض، والقادرون على اختيار أفضل الحلول دائما بأنفسهم.
لم يكن إعلان السادات عن بناء الاشتراكية في مصر سوى كلام يستخدمه في المناسبات. وكثيرا ما تحدث السادات في حضوري عن أنه لا يعترف إلا بالاشتراكية العلمية، وأنه لا يوجد هناك ما يسمى ب «الاشتراكية الإسلامية» أو «الاشتراكية العربية». كان السادات يؤكد لأنصاره في خطبه العلنية أن «المجتمع الجديد» (كان يخشى أن يسميه بالاشتراكي) يجب أن يبنى على أساس «العلم والإيمان»، لم يكن يلقي بالا لما في هاتين الكلمتين من تناقض في المعنى. لا توجد في اللغة العربية كلمة «اشتراكية» الأجنبية، التي تحمل مفهوما علميا خالصا، ومن هنا أمميتها. أما العرب فيعلنون أن
Socialism
هي «الاشتراكية»، وأن الكلمة تعني «تكافؤ الفرص» و«المساواة» لا أكثر. ومن هنا فإننا عندما نتحدث عن الاشتراكية نعني شيئا محددا، بينما تعني الكلمة بالنسبة للعرب شيئا آخر. وعندما يتحدث العرب عن مجتمع ما يسود فيه تكافؤ الفرص (والذي يعني بطبيعة الحال الاشتراكية)، فإن علينا عند ترجمتها إلى أي لغة أخرى، سواء الروسية أو الإنجليزية أو غيرها، أن ندرك أن إخواننا العرب يتحدثون عن «الاشتراكية»، ونحن ندرك كل ذلك كما لو كنا نتحدث عن الشيء ذاته وعن المفاهيم ذاتها. وإن كنا في الواقع نتحدث عن شيئين مختلفين. كيف يمكن بناء الاشتراكية إذا كان بنيتهم بناؤها بمساعدة العقيدة الدينية؟ إن الدين هو العدو الأول والأمكر للاشتراكية، وهو يخرج علاقات الملكية بعيدا عن التحليل، ويفصل بين علاقات الناس في سياق عملية الإنتاج. كيف يمكن أن تكون هناك اشتراكية إذا لم تتعامل مع قضية علاقة الملكية الخاصة بوسائل الإنتاج؟
على أية حال، فقد كان تدين السادات مصطنعا، صحيح أنه كان يحب أن تلتقط له الصور أثناء الصلاة في المسجد أيام الجمعة، وكان كثيرا ما يتردد على قريته خصوصا من أجل ذلك، ولمجرد أن يقول إنه مع الناس. وفي هذه الصور كانت عيناه تظهران وهما ترتجفان في خشوع، أو على العكس فيسجد بحيث تغوص جبهته في الأرض وقد أمسك في يده بالمسبحة. كان هناك بقعة قاتمة اللون في جبهة السادات، وهي علامة تلقى احترام المؤمنين الذين يعتبرون ظهورها أثرا من كثرة الصلاة والسجود. وقد انتشرت طرفة تقول: إنها ليست بقعة «مقدسة»، وإنما جاءت نتيجة أن ناصرا كان كثيرا ما يدفع إصبعه في جبهة السادات قائلا له: «لماذا تدس رأسك في أمور لا تفهمها؟!»
وقد قص علي السادات ذات مرة بنبرة رقيقة كيف يحب الصيام في شهر رمضان، وكيف يكون في «حالة» مدهشة في هذا الشهر. ولكن كيف يمكن الجمع بين هذه الطقوس الدينية المثالية وبين سوء استخدامه للمشروبات الكحولية، المحرمة قطعيا على المسلمين، وكذلك تدخين الحشيش؟!
ليس من المستغرب أن السادات كان يخشى الماركسية وكل ما يرتبط بها بشدة. كان يؤكد دائما أن منطقة الشرق الأوسط ليست «ناضجة» بعد لتقبل الماركسية. كان يشعر بإحساس باطني أن الماركسية هي عدوه القوي؛ ولهذا كانت الماركسية محظورة في مصر. لم يكن لها مكان باعتبارها مذهبا شرعيا، ولكن كان من المستحيل أن تختفي الماركسية في مصر؛ لأنها كانت موجودة على الأرض، ولأنها عقيدة راسخة. كان العمال والطلبة يتطلعون إليها، وكان عدد قليل من الماركسيين يخاطرون بحياتهم ليحملوها إلى جماهير العمال؛ ولهذا فقد كان من الصعب ملاحقتها، ولكن كان من الممكن أن يكونوا علامة تشير إلى أن في مصر أيضا مجتمع مستنير يسمح بعمل الماركسيين.
كان السادات يقول لي أحيانا «ماركسيونا»، وكان يقصد بذلك بعض المثقفين الذين كانوا ينتمون سابقا إلى منظمات ماركسية مصرية. وقد تم حظر هذه المنظمات، وزج ناصر بقاداتها وقتها في السجون، ثم أطلق سراحهم بعدما طرأت على أفكاره بعض التغيرات. لم يصبح ناصر ماركسيا مطلقا، ولكنه أدرك أن الماركسيين ليسوا خصوما للثورة الوطنية التحررية. وقد عمل جزء من هؤلاء الماركسيين في المؤسسات الصحفية، بل إن بعضهم شغل منصب الوزير. لكن هذا لم ينقذهم من ملاحقة السادات؛ فعندما كان يشعر بحاجته لأن يصب جام غضبه على أحد ما نتيجة وقوع اضطرابات دورية في البلاد، أو عندما تكون هناك ضرورة لإيجاد «كبش فداء» للفوضى الاقتصادية في البلاد التي تقودها قوى أخرى ذات نفوذ. وهذا ما حدث فعلا مع فؤاد مرسي، أحد قادة التنظيمات الماركسية والاقتصادي البارز، الذي عينه السادات وزيرا للتموين في الحكومة. لقد بذل مرسي جهدا خارقا، ولكن هل كان باستطاعته أن يحل مشكلة نقص السلع التي خلقها منتجو هذه السلع نفسها، والذين قاموا بإخفائها. هل كان بإمكانه وحده مواجهة التناقض القائم في النظام الاقتصادي الذي وضعه نفس هؤلاء البرجوازيين، مثل عبد العزيز حجازي؟ ولهذا بدا مرسي مناسبا تماما لكي يسقط الرئيس على رأسه، باعتباره وزيرا للتموين، كل خطايا نقص السلع وتوقف آلاف محال القطاع الخاص؛ ولهذا كانت التهمة بالدرجة الأولى هي التقصير في عمل نظام التوزيع.
استشاط السادات غضبا لأن الاضطرابات التي نشبت في أكبر مؤسسة مصرية؛ مصنع الحديد والصلب في حلوان، قد تمت بشكل منظم، وأنه لم ينجح في العثور على محرضين، ولأنه اضطر للانسحاب والتراجع أمام عمال حلوان الماركسيين. كانت اضطرابات حلوان عملا سياسيا منظما قامت به الطبقة العاملة المصرية. من هنا كان خوف السادات من حلوان وخوفه عموما من هذا الفلاح الصناعي غير المفهوم. بالمناسبة، لم يقم السادات مرة واحدة بزيارة هذا الصرح الصناعي الأكبر في البلاد، ولم يحضر افتتاح المجمع الذي تم بناؤه بالتعاون مع الاتحاد السوفييتي.
على أن السادات كان لديه شعور باطني يدفعه لاستخدام «ماركسييه» في العمل في الوقت المناسب؛ ففي صيف عام 1971م وقعت في السودان المجاور أحداث سياسية ضخمة تعد في جوهرها انقلابا شارك فيه الماركسيون السودانيون أيضا. كنت في ضيافة السادات في مقر إقامته في المعمورة بالقرب من الإسكندرية، كنا نتحدث ونحن جلوس إلى المائدة المقامة في الهواء الطلق على شاطئ البحر، اقترب الياور منه ودس في يده بورقة دون أن ينبس ببنت شفة. أطلق السادات صيحة دهشة قائلا: «يبدو أن انقلابا وقع في السودان.» سألته: «ومن الذي قام بالانقلاب؟» أجاب السادات: «غير معروف تماما حتى الآن، ولكن يبدو أن الماركسيين على مقربة مني.»
عند لقائي بالسادات في اليوم التالي أخبرني أنه اتخذ قرارا أن يرسل إلى السودان «بعضا من ماركسيينا»، على حد تعبيره، بزعم أنهم سيستقبلونهم هناك أفضل من أي شخص آخر، بالإضافة إلى ذلك فسوف يكون باستطاعتهم أن يعرفوا على أي نحو تسير الأمور في السودان. وقد تبين أن إرسال هؤلاء الماركسيين كان نوعا من المناورة؛ فالسادات لم يكن متعاطفا للحظة واحدة مع هؤلاء الذين استولوا مؤقتا على السلطة في السودان، وعلاوة على ذلك فقد توفرت معلومات تشير إلى أن مصر كانت تؤيد هؤلاء الذين جرت الإطاحة بهم. وقد أثبتت الأحداث التالية بشكل واضح بعضا مما يتمتع به السادات من خصائص.
لقد وصلتني أنباء مؤكدة تفيد أن كتيبة من المظليين «الصاعقة» تتجمع في مطار غرب القاهرة. وهي فرقة إنزال خاصة للنقل بسرعة إلى السودان. وقد تلقيت هذه المعلومة عند خروجي من السفارة متجها إلى السيارة لألحق بالسادات في عمل ما عاجل. لم يكن لدي متسع من الوقت للاتصال بموسكو فقررت أن أعالج الأمر بنفسي. كنت أرى أن من الضروري طرح موضوع تدخل مصر بحيث لا يتصور السادات - من ناحية - أن هذا تدخل في الشئون الداخلية، ومن ناحية أخرى بحيث لا يتضح له مصدر المعلومات. رحت أفكر في هاتين المشكلتين حتى وصلت إلى مقر السادات في منطقة القناطر، التي تقع على بعد 35 كيلومترا من القاهرة.
عندما انتهى حديثنا في الموضوع الأساسي الذي جئت من أجله، سألت السادات عن الجديد الذي سمع عنه بشأن الأحداث في السودان، وعن التقرير الذي أحضره «ماركسيوه». تحاشى السادات الإجابة بعد أن قال لي إنه لم يتعرف بعد على التقرير. أبديت ملاحظتي أن الحديث قد اشتد في الأوساط الدبلوماسية حول الزعم بأن مصر تنوي التدخل عسكريا في أحداث السودان، وأن مظليين يتم الإعداد لإنزالهم في السودان وهلم جرا، وأنني أجبت على تساؤلات مشابهة طرحها علي سفراء أجانب بقولي إن هذه مجرد شائعات مغرضة، وإن مصر لن تسمح بالتدخل في الشئون الداخلية لدول أخرى، وإن هذا تحديدا ما أخبرني به الرئيس السادات؛ لأن مصر تدرك أن تدخلها في الشئون الداخلية للسودان سوف ينعكس سلبا على علاقاتها بالدول الأخرى.
نظر لي السادات باهتمام، وبعد أن تريث في الرد قال لي إن السفير السوفييتي على العموم قد لخص موقف مصر على نحو صحيح.
وفي اليوم التالي أبلغني السادات أن كتيبة «الصاعقة» لن تذهب إلى أي مكان، وأنها ستعود إلى ثكناتها في وقت متأخر مساء.
على أن قوة مناهضة للانقلاب نجحت بمساندة صريحة - كما يزعمون - من العاملين المصريين في المدرسة العسكرية الموجودة في الخرطوم في التغلب على هذا الانقلاب. وبعد يومين اتفق أن التقيت من جديد في حديث مع السادات. كان واضحا أنه في حالة من القلق والإثارة الشديدين، الأمر الذي يؤكده أيضا أنه أمر بإحضار فودكا له. جدير بالذكر أن السادات لسبب ما كان يعتبرني مما لا يعاقرون الخمر مطلقا، وكان يأسف لذلك. راح السادات يحتسي الفودكا وحده دون شعور بالحرج على الرغم من حرارة الجو. كانت درجة حرارة الجو في ظل هذه الشجرة الضخمة، حيث جلسنا، لا تقل عن ثلاثين درجة مئوية. قدموا له زجاجة فودكا وعلبة سردين مفتوحة دون شوكة أو مناديل ورقية. قال عبارته المعتادة التي أعرب فيها عن أسفه أن السفير لا يشرب، ثم شرب كأسا ك «بداية». شعرت بالحرج فطلبت أن يحضروا لي ولو بعضا من الويسكي مع الثلج. فرح السادات على الرغم من أنهم لم يجدوا ويسكي في المنزل. بحثوا هنا وهناك حتى أحضروا زجاجة تبقى بقاعها بعض من الويسكي. شعرت برجفة في أعماقي، ولكن بات علي الآن أن أشربها.
كان السادات طوال الحديث يضع زجاجة الفودكا بالقرب منه، بينما رحت أرتشف الويسكي المقزز. دق جرس التليفون الموضوع جانبا. أنصت السادات ثم قال وقد لمعت عيناه: «لقد أذاعوا نبأ مصرع وفد عراقي خاص كان في طريقه إلى السودان. انفجرت طائرتهم فوق العربية السعودية! لقد علمت بهذا الخبر من قبل!» وعندما لمح الحيرة في عيني بدأ في شرح نظريته القديمة التي تقول: إن «هذه المنطقة»، ويعني بها أفريقيا والشرق الأوسط، «لم تنضج بعد للماركسية»، وأنتم «الماركسيون، تقعون في خطأ وأنتم تحاولون القفز على درجات السلم. أنتم تحاولون أن تزرعوا الماركسية هناك، حيث لا يمكن أن ترسخ. أما ما يمكن أن يرسخ هنا فهو الإسلام فقط، باعتباره العقيدة الاجتماعية الأعلى، وهو أوسع وأعمق من الاشتراكية. الإسلام يحمل قدرا أعلى من العدالة الاجتماعية، وهلم جرا.» كان منتشيا من أثر الخمر ولكن باتزان، وكان الدخول معه في جدل وخاصة وهو في هذه الحالة أمرا لا طائل من ورائه.
بعد مرور يومين تلقيت تعليمات بضرورة زيارة السادات على وجه السرعة، وأن أطلب منه مساعدته في استخدام تأثيره على النميري لوقف هذا الإرهاب السافر الذي تفشى في السودان، والذي أصبح من ضحاياه ليس فقط الذين شاركوا في الانقلاب، وإنما أيضا كل التقدميين في السودان. وقد وردت على وجه الخصوص أسماء عبد الخالق محجوب زعيم الماركسيين السودانيين، والشفيع أحمد الشيخ رئيس نقابة العمال في السودان، وهو واحد من قيادات الاتحاد العالمي لنقابات العمال والحاصل على جائزة لينين الدولية للسلام؛ وكذلك زوجة الشافعي.
استقبلني السادات على سطح اليخت البحري الفاخر للملك فاروق، وكان راسيا على الشاطئ في إحدى قنوات النيل عند القناطر الخيرية، طرحت على السادات مطلب القيادة السوفييتية، فأبدى ملاحظة تفيد أنه يعرف الشافعي جيدا، وذكر أنه سوف يكون أمرا مخزيا لو لقي حتفه. ثم قال مجددا إن المنطقة لم تنضج بعد لقبول الماركسية، وإن علينا أن ندرك ذلك. تحدث السادات على نحو يبدو من خلاله وكأن الاتحاد السوفييتي كان شريكا في كل الأحداث الدراماتيكية التي وقعت في السودان، بالرغم من أن السادات كان يعلم جيدا أننا لم نشارك فيها. وعدني السادات بالتباحث مع النميري، ونادي علي ياوره وأمره بأن يصله هاتفيا بالخرطوم. تأخر الاتصال طويلا فانطلقت عائدا إلى القاهرة. لدى وصولي إلى السفارة أبلغوني أن وزير الخارجية محمود رياض اتصل وطلب سرعة الاتصال به، وهو ما قمت به على الفور. أخبرني رياض أن يبلغني نيابة عن السادات أن طلبنا جاء متأخرا للغاية، وأن محجوب والشافعي قد أعدما. هل حاول السادات أن يفعل شيئا أم لا، لا أعرف، على الرغم من أن هيكل أكد لي فيما بعد أنه تحدث مع نميري بنفسه بناء على طلب السادات.
كانت علاقة السادات أيضا بالمنظمة السياسية الوحيدة في البلاد؛ الاتحاد الاشتراكي العربي، والتي كان على رأسها، علاقة من أجل المظهر السياسي للسادات فقط. وقد ظل الاتحاد الاشتراكي العربي منظمة لا شكل لها على الإطلاق، ويمكن القول إنها كانت منظمة سياسية محلية.
كان الفرق بين علاقة ناصر والسادات بالاتحاد الاشتراكي العربي يتمثل في أن ناصرا أدرك ضرورة وجود منظمة في البلاد تضم أصحاب الفكر الواحد، وحزب يمكن أن يكون حاضنا لفكرة ثورة التحرر الوطني، كما يمكن أن يكون منظما للجماهير تحت شعار القومية التقدمية، وحاملا للأفكار القومية إلى الجماهير. كان الاتحاد الاشتراكي العربي بذرة لهذا الحزب الذي يمكن أن ينمو من خلاله التنظيم الذي أطلق عليه ناصر اسم «طليعة الاشتراكيين».
كان السادات يشعر أن الاتحاد الاشتراكي العربي لن يمثل له نقطة ارتكاز كما أراد ناصر لنفسه، وإنما سيكون منافسا له ومراقبا لتصرفاته باعتباره رئيسا وقائدا لمصر. في الاتحاد الاشتراكي العربي سيصبح بشكل أو بآخر «على نفس الدرجة» مع باقي رجال الدولة، وهو ما لم يكن السادات ليسمح به. كان السادات ينظر دائما بريبة تجاه أي نشاط اجتماعي وأيديولوجي. إنه «رجل الأفعال»، أما الأيديولوجيا فهي للآخرين والمنظمات كذلك.
طوال شهور وجوده في منصب الرئيس زاد إيمان السادات بأن الاتحاد الاشتراكي العربي بالنسبة له هو مجرد عبء. صحيح أن اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي قد عقدت اجتماعها تحت رئاسته، لكن الخطباء فيها تباروا في انتقاد تصرفاته وتحدثوا عن رفضهم لقراراته التي اتخذها، فهل يمكن أن يتكرر ذلك ثانية؟ نفس الشيء تقريبا حدث في اجتماعات اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وإن جاء النقد فيها أقل حدة. على العموم فقد بدا واضحا أن باستطاعة اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي وكل المحافظات والمدن أن يتحولوا بسهولة إلى «مراكز قوى» تقف في مواجهته هو رئيس البلاد. ليس عبثا أن «المتآمرين» الذين استطاع أن يضعهم في السجون لمدة طويلة كانوا يتخذون الاتحاد الاشتراكي العربي ومنظماته بمثابة نقطة ارتكاز قوية لهم.
على أن رفض الاتحاد الاشتراكي العربي رفضا تاما كان أمرا مستحيلا، وهو ما كان السادات يدركه جيدا؛ فمصر سوف تصبح دولة متخلفة أمام العالم أجمع، عندئذ ليبق الاتحاد الاشتراكي العربي قائما، أما اللجنة التنفيذية العليا فلا ضرورة لها. سوف يجري حل هذه اللجنة. كان ناصر يريد أن يحول اللجنة التنفيذية العليا في عهده إلى مكتب سياسي، أن يعطيه وظيفة مماثلة للمكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي، الذي كان معجبا بعمله.
في البداية وضع السادات عزيز صدقي على رأس الاتحاد الاشتراكي العربي، وهو الرجل الذي لم يعمل قبل ذلك مطلقا بالسياسة، ثم جاء بعده عبد السلام الزيات، سكرتيره الأسبق، المثقف صاحب الهوى الماركسي. كانت حسابات السادات في ذلك أن يقول: انظروا جميعا، إن مصر باعتقال الناصريين لم تنحرف يمينا، إنها لا تزال تسير يسارا. وعلى الرغم من حل اللجنة التنفيذية العليا، ظل الأشخاص المعروفون للعالم أجمع بأنهم تقدميون يرأسون الاتحاد الاشتراكي العربي.
بوصولهما إلى الاتحاد الاشتراكي العربي، نجح كل من صدقي والزيات في الحصول على موافقة السادات على جذب الماركسيين المصريين للعمل في هيئات الاتحاد الاشتراكي العربي وفي غيرها من المنظمات الجماهيرية. كان الأمر شاقا آنذاك على السادات الذي قبل الأمر على مضض. اضطلع صدقي والزيات بالعمل في الاتحاد الاشتراكي العربي، ولكن ليس في هذا الاتجاه الذي تصوره السادات، فوضعا «برنامجا للعمل» يربط بشكل جيد بين الشعارات الأيديولوجية التقدمية بأعمال محددة تتمثل في خطط البناء الاقتصادي لمصر. كان برنامجا متقنا في الواقع استهدف إجراء إصلاحات اجتماعية واقتصادية في البلاد. واستند البرنامج لا على النيات الحسنة والأماني الطيبة، وإنما على حسابات اقتصادية رصينة جديرة بالاعتبار.
كان الأمر الواضح هنا هو التعاون بين النظرية التقدمية التي وفرها الزيات والاقتصاديون، كما لوحظ فيها إسهام الاقتصادي العملي الموهوب عزيز صدقي. وقد أسفر الجهد عن وثيقة تتميز بالجمع بين النظرية والتطبيق. وكان من الضروري الموافقة عليها في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي في يوليو 1971م.
تمثلت القيمة الكبرى للبرنامج الذي أعده صدقي والزيات في أن العمال في كل المجالات الاقتصادية للبلاد تسلموا بالفعل ما يمكن أن نعتبره مهمة عملية محددة لعملهم وحياتهم. وقد كشفت هذه المهمة بوضوح أن تحقيق هذا المستوى أو ذاك من الإنتاج في مجال محدد من مجالات الاقتصاد، ومن ثم في مصنع بعينه أو في أي مؤسسة، سوف يؤدي إلى خطوات ملموسة تتعلق بالضمان المادي والثقافي والمعيشي لهؤلاء العمال. وقد رسم البرنامج أيضا خطوات محددة لتحجيم نفوذ القطاع الخاص واستخدامه لصالح العمال جميعا. أتذكر أنه في سياق إعداد برنامج صدقي والزيات كانا كثيرا ما يستفسران مني عن الخطط الخمسية السوفييتية الأولى وعن معناها التنظيمي وعن العمل السياسي الذي توسع في بلادنا في تلك السنوات حول الخطط الخمسية التي أصبحت بمثابة خطط لحياة كل عامل.
تمت الموافقة بطبيعة الحال على البرنامج في مؤتمر الاتحاد الاشتراكي العربي، على الرغم من أنني كنت على يقين أن السادات نفسه لم يقرأه كاملا على الأرجح، فضلا عن أن البرنامج كان كبيرا للغاية من حيث حجمه. على أية حال فقد كنت أثناء لقاءاتي بالسادات أسأله عن الاتجاهات الأساسية في البرنامج، الذي ما زال في مرحلة الإعداد، ولكنه لم يكن باستطاعته أن يعطيني إجابة واضحة، لكنه استمع إلي بمزيد من الاهتمام عندما حدثته عن الإجراءات التي وردت في مشروع البرنامج.
عندما ألقى السادات تقريرا في المؤتمر حول هذا البرنامج، تم إعداد خطاب مناسب ليلقيه في هذه المناسبة. على أنه بدأ لا بالحديث عن القضايا الواردة في البرنامج، وإنما بالحديث في موضوعه المفضل وهو الوضع الدولي والصراع مع إسرائيل. وفي هذا الصدد لم يكن السادات بحاجة إلى ورق مكتوب، وحتى لو كان هناك شيء معد لذلك؛ فإنه لم يكن ليعبأ به. كان من الملاحظ دائما كيف كان من الصعب قراءة شيء ما كتبه له آخرون. شيء لا يعبر عن تركيبة أفكاره ومزاجه، اللذين يتشكلان لحظة إلقائه لخطابه. وقد كان هذا بالنسبة له، كإنسان مزاجي، أمرا حاكما.
كان السادات مولعا بالخروج عن الموضوع الرئيسي، وقد بدا أنه لا يستطيع التوقف عن الحديث في مجال العلاقات الدولية. لقد ظهر لديه الآن مزاج نفسي مختلف. كان من الصعب عليه العودة إلى الجزء العملي في خطابه والخاص ببرنامج العمل. على أية حال فقد توقف ، ثم التزم الصمت طويلا، محدقا في الأوراق الموضوعة أمامه على المنصة، كأنما هو غير مدرك ما الذي جاء بكل هذه الأوراق إلى هنا. وبعد انقضاء فترة الصمت الطويلة، قال إن مشروع البرنامج قد تم توزيعه على الأعضاء جميعا؛ ولهذا فلا حاجة إلى عرضه. واصل السادات النظر في الأوراق ثم راح يقلبها على نحو آلي واضح، متظاهرا بالاهتمام وكأنما يبحث عن شيء ما، ولكنه لا يجد ما يريد أن يركز عليه اهتمامه. جزء من الأوراق سقط على الأرض فلم يعره السادات اهتماما كأنما لم يلحظه مواصلا فحص الأوراق واحدة وراء الأخرى. عندئذ نهض الزيات عن مكانه كرئيس للمؤتمر واقترب من المنصة وراح يلملم الأوراق ويضعها أمام السادات، ثم ابتعد عائدا إلى مكانه. وبدا أن السادات لم يلحظ أي شيء. تفحص جدولا في الوثيقة، حيث كان يقلب الأوراق في الملف ثم قال: هاكم على سبيل المثال ما يجب أن يصل إليه إنتاج الطاقة الكهربائية، ثم ذكر رقما. فترة أخرى من الصمت، ومرة أخرى تتطاير بعض الأوراق من على المنصة إلى الأرض والسادات لا يلاحظ شيئا. ومرة أخرى ينهض الزيات ويقترب ويرفع الورق ويضعه أمام السادات ثم يعود إلى مكانه ليتكرر الأمر مرة أخرى. لم يعد الأمر مفهوما. ترى هل يسخر السادات من الوثيقة، أم تراه ثملا؛ إذ كان يتصرف عند وصوله إلى المنصة تصرف شخص في حالة غير طبيعية. راحت القاعة الغارقة في الصمت والتي تحتوي ثلاثة آلاف عضو ينظرون ويتابعون هذه الحيلة الغريبة للرئيس. كان الجميع يشعرون بحرج شديد.
أنهى السادات خطابه كيفما اتفق بعد أن أعلن أنه ما دام كل شيء مكتوبا في الوثيقة التي تم توزيعها على الأعضاء، إذن فكل شيء واضح. تولد لدي انطباع أن السادات تعمد أن يقوم بتمثيل هذا المشهد. كان يشعر أنه ليس الشخص الرئيسي وراء هذا البرنامج، وأن البرنامج لا يمت إليه بصلة. وبالمناسبة فقد قام السادات فيما بعد بعزل صدقي، ومن بعده الزيات عن منصب الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، وعين فيه سيد مرعي - الإقطاعي - لسان حال المصالح البرجوازية المصرية الكبيرة. لم يكن هناك شيء أكثر إهانة لفكرة وجود منظمة تقدمية في مصر من تعيين مرعي في هذا المنصب. علاوة على ذلك فقد كان مرعي خصما شخصيا لصدقي من الناحية الأيديولوجية. كان صدقي يدافع عن تصنيع البلاد ويسعى لتنمية القطاع الحكومي بكل الوسائل، ويميل للاتحاد السوفييتي، أما مرعي فكان يضع تركيزه على الزراعة وازدهار القطاع الخاص والتوجه ناحية الغرب.
بدأ مرعي بمباركة من السادات في «إعادة تنظيم» الاتحاد الاشتراكي العربي؛ بدأت العديد من اللجان واللجان الفرعية في عقد الاجتماعات، تم نسيان البرنامج الحيوي للإصلاحات الاجتماعية وتوقف العمل السياسي بين الجماهير. لكن صدقي والزيات واصلا العمل بطريقة أخرى؛ في تلك الفترة تم تعيين صدقي رئيسا للوزراء، والزيات نائبا لرئيس الوزراء. بدأ الاثنان في عقد اجتماعات الحكومة خارج العاصمة، في المدن الكبرى والمحافظات. وهناك في القاعات المفتوحة راحوا يتدارسون القضايا المتعلقة بكل محافظة أو مدينة على حدة وبشكل محدد، وأثبتا بشكل واضح أن الحكومة تعكس مصالح الكادحين، وكشفا عن الطاقة الكامنة المخفية لدى المحافظين، وأظهرا النزعة البيروقراطية لدى السلطات المحلية ... إلخ. وجدت هذه الاجتماعات الحكومية شعبية كبيرة في أوساط الكادحين، ولكنها أثارت - بطبيعة الحال - حفيظة وكراهية البيروقراطية المصرية التقليدية التي كان يستند عليها الرئيس نفسه بشكل كبير.
وعلى الفور، أقيل صدقي من منصبه رئيسا للوزراء ومعه الزيات في نفس الوقت، اللذين أصبحت لهما شعبية كبيرة فاقت شعبية الرئيس، وأصبحت إنجازاتهما تقف حجر عثرة أمام مصالح البرجوازية المصرية الكبيرة التي راح السادات يعتمد عليها أكثر فأكثر. وهنا عين السادات حافظ غانم أمينا أول للاتحاد الاشتراكي العربي، وزير التعليم السابق، أحد المخلصين من الحرس القديم، لا عقيدة له، باختصار، الشخص المطيع الذي يفعل ما يؤمر به. بدأ غانم في «إعادة تنظيم» الاتحاد الاشتراكي العربي مرة أخرى والعمل في إعداد ما عرف باسم «وثيقة العمل»، وهي تعد من الناحية العملية نفيا لكل ما تم التأكيد عليه منذ عامين مضيا. كانت هذه الوثيقة تتضمن أحكاما مغلوطة بشأن العلاقات الدولية وتزييفها لسياسة الاتحاد السوفييتي، فضلا عن دعوتها للانفتاح أمام رأس المال الخاص. كان هذا هو الهدف الأساسي لهذه «الوثيقة». تحول الاتحاد الاشتراكي العربي في الخطة التنظيمية له إلى مجرد منظمة «واجهة» تقوم بعقد اجتماعات جماهيرية لتبلغ السلطات بالمزاج السائد في البلاد. كانت هذه بالطبع خطوة إلى الخلف، لكنها كانت تناسب السادات ليصبح الاتحاد الاشتراكي العربي منظمة تعمل لخدمة الرئيس. وبطبيعة الحال تم إغلاق معهد الدراسات الاشتراكية، وهو مركز للدراسات العلمية كان تابعا للاتحاد الاشتراكي العربي؛ إذ لم يعد السادات بحاجة إليه. هكذا أصبحت البلاد مرتعا «للأفكار الحرة».
كان السادات يرى أن كل الوسائل صالحة من أجل تنفيذ سياسته المضمرة. وعدو اليوم يمكن أن يعد غدا أفضل صديق، على الرغم من أن سلوك هذا العدو، أو الصديق الحديث العهد، لم يتغير في جوهره قيد أنملة. وفي هذا السياق تكون المبادئ أمرا غير ذي أهمية.
ولكن هل يمكن، على سبيل المثال، أن يتباهي شخص، أيا كان، لديه ولو قليل من الاحترام لذاته، بأنه كان يتعاون مع النازيين الفاشيين؟ بالطبع لا يوجد، لكن السادات بإمكانه أن يفعل ذلك. لزمن طويل راحت الأحاديث تدور أن السادات عمل في خدمة الألمان أو تعاون معهم إبان الحرب العالمية الثانية. لقد قدم الجيش السوفييتي ومعه جيوش الحلفاء في نضالهم ضد هتلر ملايين الأنفس ثمنا باهظا لإنقاذ العالم من هذا الطاعون الأسود الذي جاء لاستعباد كل شعوب العالم، ومن بينها شعوب أفريقيا والشرق العربي. أي وعي سياسي يمكن أن يكون لدى إنسان يسعى للتعاون في تلك السنوات مع الألمان حتى لو كان المبرر لديه هو النضال ضد الإنجليز، الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك. لقد ظلت هذه الأحاديث مجرد شائعات يمكن أن تصدق ويمكن أن ترفض. وقد كان معروفا على أية حال أن السادات قد زج به في السجن. ويمكن أن يفسر ذلك بأنه كان عقابا له لنشاطه المعادي للاحتلال، وأن اتهامه بالتعاون مع النازيين الفاشيين كان للنيل منه والحط من شأنه.
ولكن، ها هو فيلي برانت المستشار الأسبق لجمهورية ألمانيا الاتحادية يصل في عام 1974م في زيارة للقاهرة. وقد جرى استقباله، بطبيعة الحال، أفضل استقبال، كما اعتادوا في مصر دائما باعتبار الألمان أعداء للإنجليز، ومن ثم اعتبارهم حلفاء لحركة التحرر الوطني في مصر. عقد السادات مؤتمرا صحفيا بدأه بإلقاء خطاب، باللغة الألمانية، بعد أن صرح للصحفيين، الذين أخذتهم الدهشة، أنه يفخر بأنه كان يتعاون مع الألمان إبان الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي دفع الإنجليز إلى اعتقاله، وأنه استطاع أن يتعلم اللغة الألمانية أثناء وجوده في السجن! لا أظن أن صراحة السادات هذه قد لاقت إعجابا من جانب براندت، فالرجل كان عدوا للفاشية، وكان يقف على الجانب الآخر من المتاريس إبان الحرب.
تحول آخر مميز للسادات حدث في علاقته بالأمريكيين؛ فبعد وصوله إلى سدة السلطة راح ينهال على الأمريكيين بالشتائم بحدة وحماس. وأشار - وهو على حق في هذا - أن الولايات المتحدة الأمريكية هي في الواقع شريك لإسرائيل في العدوان على الدول العربية، وأن عليها أن تتحمل مسئولية ما قامت به من أعمال إجرامية.
لم يستوجب الأمر سوى أن يقوم نيكسون بالكتابة إلى السادات وبذل الوعود له وإطرائه على نحو لبق، وغرس بذور الشك عنده تجاه الاتحاد السوفييتي، وسرعان ما بدأ السادات في التغير عن موقفه، في البداية بينه وبين نفسه، ثم بعد ذلك بشكل واضح أمام الجميع. عموما، كان تملقه الذي كان بلا شك يعتبر نفسه واحدا منه. كان السادات يتحدث معي أحيانا بسرور واضح عن تلقيه رسالة دورية من نيكسون ، وعن ردوده بتلك النبرة الحذرة، كما لو كان يريد أن يقول إن هذه المراسلات لا قيمة لها بالنسبة له، وأنه يتحدث معه «ندا لند»، وهلم جرا. من المميز هنا أن السادات لم يطلعني مرة واحدة ولو على نص وحيد من هذه الخطابات، وعادة ما كان يكتفي بذكر بعض عبارات عامة. على أنه فيما بعد وإبان حديثه مع القادة السوفييت كان السادات يشير إلى أنه أطلع السفير السوفييتي على هذه الرسائل، وأنها معروفة بالطبع للقيادة السوفييتية؛ ولهذا فإنه لا يجد ضرورة من أن يكررها ... إلخ.
سرعان ما أحس الأمريكيون بنقطة الضعف هذه لدى رئيس مصر. وإليكم مثالا واحدا. بعد اللقاء الأول بريجينيف ونيكسون في يونيو عام 1972م، أعد رفاقنا في موسكو بيانا باللقاء تم عرضه على السادات. وفي اليوم التالي أرسل نيكسون إلى السادات رسالة خاصة لم تكن تحتوي في حقيقة الأمر على أية معلومات جوهرية. واكتفى نيكسون في رسالته بتعداد القضايا التي جرت مناقشتها في هذا اللقاء، كان ذلك بمثابة نوع من «التقرير الودي» عن اللقاء لا أكثر. والملاحظ في هذه الرسالة أنها لم تأت على ذكر مناقشة الوضع في الشرق الأوسط؛ أي الموضوع الذي كان يهم السادات بالدرجة الأولى، لكنها تضمنت في الوقت نفسه آيات من المديح والإطراء على القادة السوفييت، حتى يتولد انطباع أننا (نحن الأمريكيين) نستطيع، على الأرجح، أن نسوي أمورنا بشكل جيد مع الروس، في الوقت الذي يوحي فيه غياب الحديث عن قضية الشرق الأوسط، أن الروس قد اتفقوا معنا على ألا نعطي اهتماما كبيرا لقضايا الشرق الأوسط. بطبيعة الحال فإن هذه المعلومات كانت تتناقض ووثيقتنا التي جاء فيها أن الجانب السوفييتي يساند المصالح العربية. على أن ذلك خلق لدى السادات انطباعا أضعف؛ لأنها - على أقل تقدير - وصلته متأخرة وفي صورة تقرير معد على نحو جاف، بينما أرسل نيكسون تقريره بنفسه إلى السادات (!) (جدير بالذكر أن سفارتنا كان لديها هاجس تجاه إمكانية أن يتلاعب الأمريكيون بالخصال الشخصية للسادات، الذي كان يولي أهمية كبرى للقاء السوفييتي الأمريكي في مصير منطقة الشرق الأوسط). على الأقل لأنه كان يستشعر بقوة فكرة إمكانية «التآمر» السوفييتي الأمريكي. كان يؤمن بهذه الأكذوبة؛ لأنه كان يرى أن هذا النوع من السلوك الخائن أمر جائز من جانبه، ومن ثم رأى أن هذه الخطوة أمر جائز من جانبنا. ولهذا اقترحت السفارة مجيء أحد ما من الذين شاركوا في المباحثات في موسكو إلى القاهرة، يكون باستطاعته أن يبلغ السادات بما حدث بالضبط بوصفة شاهدا مباشرا، إن جاز القول، ويطلعه ب «تفاصيل» المباحثات، التي لم تول موسكو اهتماما بها.
كان السادات يشعر بالإطراء عندما يتوجه إليه أرنو دي بورتشجيريف رئيس مجلة «نيوزويك» الأمريكية، رجل المخابرات المشهور، والذي لم يكن إطلاقا من المدافعين عن المصالح العربية، يطلب إجراء مقابلة صحفية معه. وقد أجرى السادات العديد من مثل هذه المقابلات مع بورتشجيريف، ولكنه لم يجر مقابلة واحدة مع أي صحفي سوفييتي.
وعندما أقام وليم روجرز وزير الخارجية الأمريكي آنذاك بزيارة للقاهرة في مايو 1971م، أعجب السادات به كثيرا، وفي خطبه التالية، بما فيها تلك التي ألقاها أمام جمع غفير سواء في مجلس الأمة أو أمام اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي، كان كثيرا ما يطلق على روجرز، بنوع من التبسط، اسم بيل تدليلا. «قلت لبيل ...» «قال لي بيل ...» وهلم جرا من العبارات المماثلة التي راح السادات يستخدمها في خطبه.
كان السادات يحب استقبال السيناتورات الأمريكيين حتى أكثرهم رجعية، وأثناء لقاءاته بهم لم يكن بطبيعة الحال يوجه أمامهم سهام النقد الحادة إلى السياسة الأمريكية التي كان يلجأ إليها في خطبه أمام المصريين. وهكذا ظل جميع الأمريكيين راضين عن الحديث مع السادات؛ فقد وجدوا فيه - على حد قولهم - متحدثا «ذكيا». وليت الأمر اقتصر على السيناتورات! فقد دأب السادات على استقبال صغار موظفي الخارجية الأمريكية، في الوقت الذي لم يتسن للعديد من السفراء الأجانب، ومن بينهم سفراء لدول كانت تؤيد مصر تأييدا كاملا، أن يلتقوا على مدى وجودهم لسنوات طويلة في مصر بالسادات، على الرغم من أنه كانت لديهم تكليفات من حكوماتهم. كما كان السادات لا يميل إلى استقبال سفراء الدول الاشتراكية على وجه الخصوص، بل إنه كان يحدد «أوقات» عدم رضاه بالنسبة لي فلا يستقبلني فيها.
من بين الذين جاءوا إلى مصر واستقبلهم السادات شخص نكرة يدعى ستيرنر يعمل رئيسا لقسم الشئون المصرية في وزارة الخارجية الأمريكية، وهو من النوع المستفز الوقح يميل بشدة إلى إسرائيل. وقد شرح السادات أن ستيرنر هو الذي كان يرافقه في زيارته للولايات المتحدة عندما كان رئيسا لمجلس الأمة! زاعما أنه معرفة قديمة لا أكثر. وبالطبع كان آل روكفلر يزورون السادات كثيرا خفية أو جهارا.
أما القفزة المميتة الأكثر غرابة فهي التي أقدم عليها السادات في نهاية عام 1973م بعدما عرف ب «حرب أكتوبر»؛ عندما لجأ إلى الولايات المتحدة سياسيا، ولم يكن قد تم بعد دفن الشهداء المصريين، الذين سقطوا بنيران الأسلحة الأمريكية التي زودت بها الولايات المتحدة إسرائيل بكرم بالغ. وقد ظلت الولايات المتحدة، كسابق عهدها، تقف دائما إلى جانب إسرائيل؛ العدو الرئيسي لمصر، وهو موضوع خاص بطبيعة الحال، لكن سلوك السادات كان ذا دلالة تماما لعلاقته بالأمريكيين.
سرعان ما أصبح كيسينجر ببساطة هو «هنري» بالنسبة للسادات، ولم يكن السادات يناديه بشيء آخر سوى «أفضل أصدقائي». وعندما وصل كيسينجر إلى القاهرة في زيارة من زياراته التي لا تحصى تصحبه زوجته، قال له السادات مرحبا به بلطف مبالغ فيه: «أنت بين أصدقائك يا هنري.» وقد ترك ذلك بالطبع أثرا طيبا على الصحفيين الأمريكيين.
وعندما نشر الاتحاد السوفييتي في ديسمبر عام 1974م خطاب أندريه جروميكو إلى كيسينجر، وكان قد أرسله إليه في أكتوبر عام 1974م، حيث طرح فيه موقف الاتحاد السوفييتي من التدخل الأمريكي في شئون بلادنا، وكشف فيه - أقولها بلطف - الخطأ الذي وقع فيه الأمريكيون تجاه هذا الموقف، أعلن السادات في عناد تصريحاته الصحفية الجديدة أنه مستمر في ثقته في كيسينجر. وهو أمر لا يثير الدهشة؛ فكيسينجر وعد السادات بشيء ما، وقد ظل السادات ينتظر بفارغ الصبر اللحظة التي يتحقق فيها هذا الوعد. لم يشأ السادات نتيجة جهله السياسي أن يرى أن كيسينجر قد حقق بالفعل مهمته الأساسية، وهي ضمان البقاء الآمن لإسرائيل عن طريق التوصل إلى اتفاق يقضي بإقامة منطقة محايدة، منطقة مقيدة من ناحية التسليح وانتشار القوات المسلحة وما إلى ذلك؛ أي عن طريق اتخاذ إجراءات تضمن وقف إطلاق النار واستحالة قيام الحرب بممارسة أية ضغوط عسكرية على إسرائيل.
أما كون السادات قد انتقل إلى جانب الأمريكيين صراحة، بعد أن خان في الواقع، من الناحية السياسية، صديقه المخلص؛ الاتحاد السوفييتي، فإنه لم ير في ذلك غضاضة أو مجافاة للمنطق. لقد رأى السادات أنه من أجل أن ينفذ سياسته فإن كل الوسائل حسنة، وأن المهم هو النتائج التي اعتبرها مقبولة من جانبه، أما ما عدا ذلك فليس له قيمة.
في ربيع عام 1974م أعلن السادات صراحة أن تسوية الصراع في الشرق الأوسط تتوقف على الولايات المتحدة الأمريكية وليس الاتحاد السوفييتي، الأمر الذي أثار ضجة هائلة في الصحافة العالمية. وقد أعد السادات استقبالا حافلا إبان الزيارة التي طال انتظارها لنيكسون، وهو استقبال لم يسبق أن قام بإعداده لأي من الشخصيات الأجنبية التي زارت مصر من قبل، حيث بلغ عدد رجال الشرطة وأعضاء الاتحاد الاشتراكي العربي الذين استقبلوه في الطرقات حوالي مليوني شخص! وتم تقليده أعلى وسام حكومي في الدولة وهو «قلادة النيل» (هل لا تزال لهذه القلادة قيمة بعد ذلك؟ هذه قضية أخرى). وعندما وضع الأمريكيون نيكسون وظهره إلى الحائط وطالبوه بالاستقالة، كان السادات هو الأجنبي الوحيد الذي أعلن أن الإطاحة بنيكسون سوف تشكل مأساة على الولايات المتحدة الأمريكية!
3
بالنسبة لنا فإن علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي كانت تمثل، بطبيعة الحال، مصالح مفهومة. يمكن القول إجمالا، إن هذه العلاقة كانت على طرف النقيض من علاقة ناصر بنا. كان ناصر ينطلق من السعي لاستغلال سياسة الاتحاد السوفييتي المعادية للاستعمار لتحقيق أهداف النضال الوطني التحرري الذي قاده الناصريون، وإلى إدراك ضرورة أن يقف إلى جانب الاتحاد السوفييتي باعتباره حليفا سياسيا. ومن المعروف أن ناصرا كان يفكر في العام الأخير من حياته في إقامة علاقات أكثر اتساعا وعمقا مع بلادنا، والدخول في تحالف معه. وكما هو واضح الآن فإن السادات يتلخص في العودة إلى الخلف، إلى ما بدأ به ناصر؛ أي الابتعاد عن العلاقات العميقة والعودة إلى استخدام الاتحاد السوفييتي لتحقيق أغراضه. ومن ثم تركزت اهتماماته في قضيتين؛ تصدير السلاح والمساعدات الاقتصادية، زد على ذلك أنه كان لديه بعض العلم بشكل أساسي في السلاح، أو كان يظن أن يعلم، أما في الاقتصاد فلم يكن يعلم أي شيء.
وإذا ما افترضنا - مجرد فرض - أن السادات قد وجد في مكان ما مصدرا لتصدير السلاح الحديث بنفس الشروط الميسرة التي يقدمها الاتحاد السوفييتي، وكان لديه اختيار مصدر للتصدير، لم يكن ليتردد في اختيار المصدر الآخر، الذي لا يرتبط بتلك الأيديولوجيا التي يتبناها الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أن المسألة الأيديولوجية لم تظهر في علاقاتنا مطلقا. لقد انحصرت القضية برمتها في أنه وبحكم طبيعة الأشياء، لم يكن من الممكن أن تكون هناك دولة أخرى في العالم باستطاعتها أن تتعامل مع حركة التحرر الوطني على النحو الذي يتعامل معها به الاتحاد السوفييتي. من هنا كانت الإمكانية أمام مصر في الحصول على السلاح والدعم الاقتصادي. وهو ما فهمه السادات بصعوبة. كان السادات يرى في عناد أن مصر هي التي تقدم للاتحاد السوفييتي الدعم الأكبر من أجل أغراضها السياسية والعسكرية!
لم يكن أمرا غريبا أن يبدأ السادات اتصالاته الأولى مع الاتحاد السوفييتي فور تسلمه منصب الرئيس بطرح قضية توريد السلاح. حدث ذلك في اللقاء الأول مع الوفد السوفييتي الذي جاء للمشاركة في جنازة ناصر برئاسة ألكسي كوسيجين. وقد جاء طرح الموضوع على النحو التالي تقريبا؛ إن الاتحاد السوفييتي لا يرغب لأسباب ما في توريد السلاح لمصر، بمعني تسليح مصر لتكون على نفس المستوى مع إسرائيل. بعبارة أخرى، فالولايات المتحدة تمد إسرائيل بالسلاح على نحو جيد، بينما لا يقوم الاتحاد السوفييتي بإمداد مصر بالسلاح على نحو كاف. وفي هذا السياق، لم يتطرق السادات بطبيعة الحال للحديث عن المستوى المنخفض للإعداد الفني للكوادر المصرية، وعن النقص الكبير في عدد الطيارين، وإنما راح يطالب طوال الوقت بالطائرات، الطائرات ثم الطائرات، وخاصة الطائرات المتطورة، بل وحتى طائرات التجارب والتي تحتاج إلى خبرة.
وقد تناول أول لقاء عملي لي مع السادات بعد وصولي إلى القاهرة باعتباري السفير السوفييتي الجديد، تناول أيضا مسألة توريد السلاح. دعاني السادات لمقابلته وسلمني طلبا «عاجلا» بخصوص طلبات التوريد، على الرغم من أن الموقف آنذاك لم يكن يستدعي السرعة.
هكذا بدأت اتصالاتي بالسادات. جدير بالذكر أن الأمر لم يقتصر على مجرد لقاء واحد، وإنما تجاوزه إلى ما لا يقل عن مائتي لقاء بالمعنى الحرفي للكلمة، آنذاك لم يكن السادات يدرك معنى مسألة توريد السلاح. كان يطرح نفس السؤال حتى بعد أن كنا قد انتهينا للتو من عقد اتفاقيات جديدة بشأن شتى الموضوعات. أما مسألة توريد السلاح فقد كانت تسير على أفضل ما يمكن.
لقد اختار السادات التسليح موضوعا رئيسيا في مباحثاته مع القادة السوفييت. وكان هذا الموضوع ضروريا له لأنه كان يستطيع دائما أن يعبر من خلاله عن سخطه على الاتحاد السوفييتي، وما دام هناك سخط فإن هذا يعني أن هناك ما يبرر اتخاذه لأي خطوات عدائية تجاه الاتحاد السوفييتي. وما أكثر هذه الخطوات التي اتخذها في هذا الاتجاه.
أما إذا سارت أمور التوريدات العسكرية على خير ما يرام، فإن السادات كان يبتدع على الفور مبررات جديدة. على سبيل المثال، إذا شاع خبر مفاده أن الاتحاد السوفييتي امتلك سلاحا جديدا، فإن السادات سرعان ما يطلب الحصول على هذا السلاح، مقتبسا الخبر المنشور في أي مجلة أجنبية كانت باعتباره مصدرا لمعلوماته، بل حدث أن طلب السادات ذات مرة .. قنبلة ذرية. ويبدو أنه لم يعد هناك ما يطلبه أكثر من ذلك.
كنت في ضيافة السادات في تلك الليلة. استقبلني في قاعة الاستقبال بالدور الثاني، حيث مسكنه الخاص إذا جاز التعبير. وبعد أن تحدثنا في الموضوع الرئيسي، بدأ السادات في الحديث عن زيارته التي قام بها منذ فترة قريبة إلى ليبيا، وراح يتذكر هذا الأثر المنعش الذي «أعاد إليه شبابه» من جراء اللقاءات التي تمت بينه وبين الزعيم الليبي العقيد القذافي وما إلى ذلك. ذكر السادات أن القذافي لديه الكثير من المال، وأن ليبيا دولة غنية ولديها نفط بكميات هائلة، وأنها على استعداد لمساعدة مصر، وهلم جرا. ثم عاد من جديد للحديث عن صفقات السلاح، ثم سألني بشكل غير مباشر على أي نحو يمكن أن يتعامل الاتحاد السوفييتي مع مطلب مصر إمدادها بالتكنولوجيا اللازمة لإنتاج قنبلة ذرية. لم يطلب السادات أن يبيع له السوفييت قنبلة ، على الرغم من أنه كان على استعداد لشرائها لو عرضت عليه، واقتصر الحديث حول نقل بعض التكنولوجيا فحسب، وليس نقلها كاملة، وإنما جزء منها. وافترض السادات أن ينقل الاتحاد السوفييتي لمصر نفس الحجم الذي نقله في حينه للصين، والذي على أساسه استطاعت الصين أن تصنع قنبلتها الذرية. وفي سياق ذلك راح السادات يؤكد - بالطبع - أنه لن يستخدم هذه القنبلة إلا إذا بدأت إسرائيل باستخدام سلاحها الذري أولا. وأضاف أنه وفقا لمعلومات المخابرات المصرية فإن إسرائيل، كما يبدو، تمتلك إمكانات صناعة قنبلتها الذرية، بل إنها تمتلكها بالفعل. بالطبع فقد رفضت طلب السادات على الفور بعد أن أشرت عليه بألا يطرح هذا الموضوع مرة أخرى.
بعد أربع سنوات، عندما زار نيكسون مصر، جرى الإعلان عن عزم الولايات المتحدة الأمريكية مساعدة مصر في بناء مفاعل ذري ذي قدرة عالية. لم يكن هذا الإعلان بطبيعة الحال سوى خطوة سياسية من جانب نيكسون تهدف إلى مزيد من ربط السادات، الذي كان يحاول باستماتة أن يحصل على قنبلته الذرية، بالولايات المتحدة الأمريكية. كان واضحا للعالم أجمع أن مصر ليست بحاجة إلى هذا المفاعل لأغراض الحصول على الطاقة؛ فطاقة محطة القوى الكهرومائية في أسوان سوف تظل لزمن طويل غير مستخدمة بكاملها. كان السادات يود بالطبع لو أنه «خدع» الأمريكيين وحصل على إمكانية صنع سلاح ذري.
لم يكن السادات يتصور بطبيعة الحال ماذا يعني إنتاج قنبلة ذرية. كان يعلم قليلا للغاية عن أية عمليات إنتاج على وجه العموم. وإذا كان دخول معظم العرب فجأة إلى قرن تكنولوجي جديد يثير لديهم نوعا من الصدمة النفسية، فإن ذلك يصدق أيضا بحق على علاقة السادات بهذا العصر.
لقد جرى التعامل في بلادنا مع التصنيع واستخدام المعدات عبر معاناة ومعايشة طويلة إذا جاز التعبير؛ ولذلك فقد تم استيعابها على نحو صحيح. أما بالنسبة للعرب الذين ظلوا في مستوى منخفض من التطور الثقافي، فقد انهالت على رءوسهم فجأة التقنيات والمعدات الحديثة. ولم يكن باستطاعتهم الاعتياد عليها وفهمها، لماذا وكيف؟ فمعظم السائقين في مصر لا يستطيعون إصلاح الأعطال، كل ما يستطيعون فعله هو الضغط على البدلات فحسب. وهم يستخفون بالآلات استخفافهم بالبشر والحمير. فإذا تعطل شيء في المعدة يرجعونه إلى إرادة الله: «الله أعطى، الله أخذ.» يمكنهم التخلص من هذه المعدة بدلا من البحث في أسباب تعطلها ثم إصلاحها. وفي الجيش - على سبيل المثال - كان هذا الأمر مصيبة حقيقية، كم من الجهد بذله مستشارونا ليعلموا العرب التعامل مع المعدات ويغرسوا فيهم الخبرات الضرورية ل «ثقافة» التعامل مع الآلة. وكما يتعلم الأطفال تنظيف أسنانهم بانتظام، كان البعض يرى أنه يمكن العيش دون تنظيف الأسنان. وفي هذا السياق يمكن أن نحكي هذه الحكاية المعبرة لكي نضع تصورا عن السادات، وهي تتعلق بإنتاج الطائرات في مصر. آنذاك تولى الألمان الغربيون مهمة بناء مصنع لتجميع الطائرات، فأحضروا عددا من المعدات، وأغرقوا المصريين بمختلف الوعود البراقة، وقاموا بتجميع طائرة أو اثنتين، وانتهى الأمر عند ذلك؛ ففي مصر لا توجد قاعدة للمواد الخام لإنتاج مختلف أنواع المعادن المطلوبة للطائرات، كما لا توجد صناعات كيميائية متطورة وأخرى لإنتاج الأجهزة وغيرها، وغياب كثير جدا من المجالات الضرورية للغاية لكي يكون لديك صناعة طائرات خاصة بك. ولما كان السادات دائم التعبير عن سخطه على حالة توريد المعدات العسكرية من الاتحاد السوفييتي، فقد أوحى له بعضهم بفكرة التخلص من التبعية الأجنبية وامتلاك مصنع خاص لإنتاج الطائرات على بقايا المصنع الذي لم يكتمل بناؤه. لم يكن هناك بطبيعة الحال سوى الاتحاد السوفييتي هو من باستطاعته مساعدة مصر في هذا الأمر، سواء لأسباب سياسية، أو لأسباب اقتصادية؛ ومن ثم فقد لجأ السادات إلينا. لقد كان الأمر بالغ الصعوبة، وخاصة أن عددا من المجموعات المؤهلة من الخبراء السوفييت قام بدراسة المسألة بدقة على الطبيعة وأعد المعلومات الضرورية والبراهين من أجل اتخاذ القرار المناسب. كان الأمر يتطلب بالطبع مزيدا من الوقت، لكن السادات أعرب عن استيائه البالغ من عمل الخبراء السوفييت، دون أن يفهم لماذا يعملون على هذا النحو من البطء. كانت إحدى حججه المفضلة عندما يشتكي إلي هي: «لقد قام الاتحاد السوفييتي إبان الحرب العالمية الثانية بتطوير إنتاج الطائرات في العراء تماما - في حقل - خلال بضعة أسابيع. لماذا لا تستطيعون ليس فقط إقامة، وإنما حتى دراسة موضوع إنتاج طائرات خلال أسبوع أو اثنين.» وعندما كنت أشرح له ما يتعلق بمثل هذا العمل من ظروف، وأن من الضروري دراسة الأمر حتى قبل وضع تصور عن الإمكانات، كان السادات يقاطعني نافد الصبر ليقول: «لا، الأمر يتوقف على اتخاذ قرار سياسي، لو أنكم اتخذتم هذا القرار، لقمتم بإنتاج الطائرات هنا.» ببساطة، كان السادات لا يثق في أن هذه الأمور غاية في التعقيد، وأن أي إنتاج جديد يتطلب، حتى في الاتحاد السوفييتي نفسه، جهودا ضخمة، على الرغم من أن لدينا عمليا كل شيء لازم لذلك؛ قاعدة للمواد الخام وصناعة جبارة، وكذلك، وهو أمر على قدر كبير من الأهمية، كوادر جيدة الإعداد، وهو ما لا تمتلك مصر منه شيئا في الواقع.
وفي هذا السياق، طلب السادات الإعداد لإنتاج ذلك الطراز من الطائرات التي كان الاتحاد السوفييتي قد انتهى من استيعابها لتوه، وهي طائرات الميج-23! وقد رد السوفييت على طلبه بأن استيعاب إنتاج الطائرة الميج-21 قد تطلب من الهند على سبيل المثال سبع سنوات. على أن السادات أصر على طلبه، فضلا عن أن عددا من «مستشاريه»، الخبراء على شاكلته في المعدات والاقتصاد، عبئوه ضدنا، أما الإنجليز والأمريكيون اليقظون فقد أوعزوا له بفكرة مفادها أنه يمكن إنتاج هذه الطائرات في مصر بسرعة وبتكاليف غير باهظة نسبيا، بل إنهم دفعوه إلى زيارة المصنع، حيث عرضوا عليه الطائرة التي لم يتم استكمالها، والتي زعموا أنها تستطيع الطيران بضعف سرعة الصوت. بعدها قال السادات لي: «ألم أقل لك إن باستطاعتنا بناء طائرات بهذه السرعة، ولماذا لا يمكننا أن ننتج بمساعدة الاتحاد السوفييتي طائرات يمكنها الطيران أسرع ضعفين أو ثلاثة؟ الأمر يتوقف على السياسة، أنتم لا تريدون مساعدتنا مساعدة حقيقية، دائما ما تكتفون بإمدادنا بشحنات شحيحة. تريدون أن نظل دائما أدنى من إسرائيل بدرجة ... وهلم جرا.»
عقدت اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي اجتماعا مهما شارك فيه عدد من المصممين والمنتجين البارزين، وكنت من بين الحضور أيضا. وفي هذا الاجتماع تم اتخاذ قرار تقديم مساعدة لإقامة صناعة الطائرات مع إعطاء قرض وتدريب الكوادر وما إلى ذلك. وفي هذا الصدد يستطيع المصنع البدء بجمع الطائرات فقط من الأجزاء التي يتم جلبها من الاتحاد السوفييتي. وقد تم إعداد خطة شديدة الصعوبة بالنسبة لنا وضعت في الاعتبار إنتاج أول طائرات مجمعة في مصر من طراز ميج-21 خلال عام (!) من بدء العمل.
وعندما أبلغنا السادات بذلك رفض ورأى أن هذا الطراز لا يناسبه لأنه أصبح قديما، كما لم يعجبه زمن الإنتاج؛ لأن الإنجليز وعدوه ببدء إنتاج طائراتهم خلال ستة أشهر! لم يوافق السادات على مقترحنا، وبالطبع لم تكن هناك إمكانية لقبوله مقترحاتنا الأخرى، ومن ثم ظل المصنع عاطلا عن العمل. ولو أن السادات وافق على اقتراحنا؛ لاستطاعت مصر بحلول حرب أكتوبر 1973م - بعد عامين - امتلاك قاذفاتها الخاصة من طراز ميج-21، ولوضعت أساسا لصناعة حديثة للطائرات، ولأصبح بمقدور هذا المصنع التفكير في الانتقال إلى طراز آخر من الطائرات.
في كثير من هذه الأحوال، التي كان الحديث يدور فيها بيني وبين السادات في أي من القضايا المرتبطة بالاقتصاد أو التكنولوجيا، كان عزيز صدقي ينصحني بألا أحاول أن أشرح للسادات هذه القضايا، وخصوصا إذا كان النقاش سيؤدي إلى نتيجة يرى السادات أنها غير مرضية له، وطلب مني أن أخبره عندئذ بكل ما يتعلق بالأمر، وقال لي إنه سيجد الوسيلة والطريقة المناسبة ليعرض المسألة على السادات بحيث يتجنب إثارة أي رد فعل سلبي سريع من جانبه لسنا بحاجة إليه، وطلب أن أبلغ السادات في هذه الأحوال أن هذه القضايا سوف يتم عرضها على صدقي الذي سيقوم بدراستها.
وحتى في الأمور العسكرية كان كثيرا ما يغلب عليها الارتباك؛ وذلك لأن السادات كان يعتبر نفسه خبيرا في شئونها؛ فعلى سبيل المثال، طلب السادات، إبان حرب أكتوبر، أن يرسل الاتحاد السوفييتي لمصر دبابات من طراز تي-61 الثقيلة بالطائرات، كما طلب إرسال الجسور العائمة بالطائرات!
كثيرا ما راح المقربون إليه يخدعونه ويدسون له معلومات خاطئة حول وضع الإمدادات العسكرية، وكثيرا ما راحوا «يؤكدون» له أن قطع الغيار العسكرية غير كافية لدى مصر، على الرغم من أنها كانت ضخمة إلى حد أنه كان من الصعب أحيانا تخزينها. كانوا يقترحون عليه التقدم بطلبات للحصول على معدات عسكرية تتجاوز الإنتاج السنوي لها في بلادنا؛ أي إنهم كانوا ببساطة جهلة لا يفقهون شيئا. أما السادات فراح، مذعنا لهم، يكرر ما يقولونه في اللقاءات التي كانت تتم على أعلى مستوى، وعندما يقابل بالرفض، يرفض تصديق ما يقدم له من مبررات، معتقدا أن في ذلك إهانة له، وأنهم لا يثقون فيه.
عموما فقد كانت قضية الثقة إلى جانب قضايا توريد المعدات العسكرية تشكل الموضوع الرئيسي في أحاديث السادات معي، ودائما ما كان يتناول في كل لقاء يجمعني به قضية التوريدات العسكرية، وكذلك اتخذ موضوع زعمه أنهم في الاتحاد السوفييتي لا يثقون فيه مكانة بارزة في أحاديثنا. ويصعب القول هنا ما الذي كان يعنيه تماما بذلك؛ فقد كان هو نفسه يعرف تماما أننا نعلم بعض الشيء، إن لم نكن نعلم كثيرا، عما يدور في ذهنه بالنسبة لعلاقته بالاتحاد السوفييتي، وعن خطواته التي يتخذها تجاه الأمريكيين، وأخيرا عن تصرفاته غير اللائقة تجاه الزعماء السوفييت. وكان هو يدرك بالطبع أن أحدا في مثل هذه الظروف لا يمكنه الآن أو في المستقبل أن يوليه ثقته. وعلى أية حال ، إذا كانت هناك أزمة ثقة في هذا النوع من العلاقات، فإنها لم تكن بطبيعة الحال على هذا النحو الدراماتيكي الذي كان السادات يحاول طول الوقت أن يصورها عليه.
كان السادات نفسه يدرك أنه ليس مخلصا في علاقته بالاتحاد السوفييتي، وفي هذا الظرف تحديدا كان دائم الشكوى كونهم في الاتحاد السوفييتي لا يثقون فيه، مستندا إلى أن الاتحاد السوفييتي سوف يرد على طلباته بطبيعة الحال بالرفض، وهو ما كان يسعي إليه فحسب. يرى السادات أنه سوف يتلقى «تأكيدا» أنهم «يثقون» فيه، وهو ما يعني أنه يستطيع مرة أخرى أن يتهمنا بأننا لا نثق فيه. يبدو الأمر غريبا، لكن هذا هو المنطق الخاص بسلوكه الذي يعرف، إذا جاز التعبير، باسم «المنطق الشرقي».
وبالإضافة إلى ذلك، كان هذا الرجل الشكاك متآمرا بطبعه. وقد كان السادات يظهر هذه السمة فيه كاملة تجاه الاتحاد السوفييتي، ولم يكن يتصور أن الاتحاد السوفييتي يمكنه أن يفي بشرف بالتزاماته مهما كانت صعوبتها عليه. لم يكن ليثق أن الاتحاد السوفييتي لن يلجأ «للتآمر» مع الولايات المتحدة الأمريكية، إذا ما وعدته بسرعة حلول عصر عدم المواجهة معه. لم يكن يصدقنا في شيء. لم يكن السادات نفسه يثق في، فضلا عن أن يصدقني، مؤكدا على شكوك الاتحاد السوفييتي تجاهه هو.
كان سعيدا دون شك أن وفدا سوفييتيا جاء لتمثيل بلادنا في جنازة ناصر، وأن الاتحاد السوفييتي فعليا أيده عندما حسمت قضية من هو رئيس مصر. في تلك الأيام كان الرئيس صريحا وأعلن صداقته علنا أمام الجميع. وبالمناسبة فقد أعرب في نفس هذه الفترة عن رضائه التام لتعييني سفيرا لدى القاهرة، وأسرع مؤكدا على رغبته في مقابلتي مرة كل أسبوع على الأقل على نحو منتظم «أيام الإثنين» (!). في تلك المناسبة لم يبتعد السادات دقيقة واحدة عن ألكسي كوسيجين إبان الجنازة، متأبطا ذراعه أثناء سيرهما في الصف الأول للمشاركين في مراسم العزاء.
وها هو يقوم بزيارته الأولى إلى موسكو في مطلع أبريل 1971م، والتي عرفت باسم «الزيارة السرية». وهذه الزيارة تستحق أن نتحدث عنها تفصيلا؛ إذ حددت شكل علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي.
بحلول ربيع عام 1971م، أصبح السادات أكثر إلحاحا في طلب السلاح، فضلا عن أنه كان دائما ما يصف الوضع العسكري للجيش المصري بشكل سلبي، فكان يقول إنه لا يملك كذا وكذا، وإنه ليس لديه قطع غيار، وهلم جرا. كان كل شيء يبدو وكأن ناصرا خلف وراءه جيشا غير مجهز، وهو أمر لا يتفق بالطبع والواقع. لقد جرت المبالغة في هذا الأمر، الذي وجد مناخا مهيأ له بشكل جيد؛ إذ كان السادات قد قرر أن يجعل من هذا الأمر قضيته الأساسية في علاقاته بالاتحاد السوفييتي، ومن أجل أن يمارس ضغطا أكبر، ويضفي على الموقف وضعا دراميا، إذا جاز التعبير. توجه إلينا بطلب استضافته في موسكو في «زيارة سرية». لا أعرف لماذا كان بحاجة إلى زيارة سرية، ربما لتصبح «زيارته السرية» معادلا للزيارة السرية التي قام بها ناصر إلى الاتحاد السوفييتي في فبراير عام 1970م، وهي الزيارة التي أسفرت عن حصول مصر بالفعل على منصات صواريخ مضادة للطائرات. آنذاك نجح ناصر بصعوبة بالغة في الحصول على هذه المنصات، لكن الأكثر صعوبة كان إقناع القيادة السوفييتية بإرسال أطقم سوفييتية لفترة مؤقتة إلى مصر للعمل على منصات الصواريخ المضادة للطائرات، والتي كان من الضرورة بمكان أن تكون موجودة على الجبهة لحين إعداد الصفقات التي تعاقدت عليها مصر مع الاتحاد السوفييتي.
تمت الموافقة على قيام السادات بهذه الرحلة «السرية». ومن جانبنا اتخذت كل الإجراءات لكي تكون الزيارة ذات طابع «سري» بالفعل (على أنه بعد شهر أو شهرين اتضح أن السادات قد أضر الجميع بهذه «الزيارة السرية»).
أرسلنا إلى مصر طائرة من طائرات شركة أيروفلوت السوفييتية بناء على طلب السادات هبطت في مطار غرب القاهرة الحربي. كان موعد الإقلاع محددا له الخامسة صباحا. وقد وصل السادات في سيارة يقودها سامي شرف، وعلى المقعد الخلفي جلس محمد فوزي وزير الحربية وإلى جواره شعراوي جمعة. كانت هيئة السادات هزلية تماما ومزرية. كان يرتدي بالطو خفيفا وقبعة لم يعتد ارتداءها إطلاقا، وكان يضع، علاوة على ذلك، نظارة سوداء. ومثله كان كل من سامي شرف وشعراوي جمعة يضعان نظارات سوداء أيضا حتى لا يعرفا، كما أخبرني بذلك سامي شرف همسا.
جرى قطر الطائرة لتقف في مكان بعيد مخفي عن الأنظار الفضولية وراء تلال ما. وبالطبع لم يفكر أحد في «أمور بسيطة» مثل كيفية الصعود إلى الطائرة في مطار حربي لا توجد به سلالم لصعود الركاب، ومن ثم فقد جرى إعداد ما يشبه السلم من عدد من الصناديق حتى لم يتبق إلى باب الطائرة سوى أربعين سنتيمترا، وهنا اضطروا لمساعدة الرئيس بجذبه إلى الطائرة. كان الوضع بصراحة مضحكا ومؤسفا في الوقت ذاته؛ فما الداعي لكل هذه التصرفات الصبيانية؟
بعدما حلقت الطائرة في الجو طلب السادات إفطارا، وهنا اتضح أن أحدا لم يحضر له جبنه المفضل ولا حتى اللبن، واضطر الحضور لمشاركة طاقم الضيافة كل ما كان لديهم على الطائرة من طعام مثل بالكاد إفطارا لائقا أخلد السادات بعده إلى النوم.
في الثالثة ظهرا وصلت الطائرة إلى موسكو ومنها اتجه الجميع إلى الكرملين دون مراسم استقبال رسمية، وهناك بدأت المباحثات، التي يتطلب الأمر وقتا وجهدا كبيرين لوصف ما جرى خلالها. باختصار، كان السادات منحرف المزاج. لم يكن يستجيب لأي نوع من الدعابة. كان سريع الانفعال لأتفه سبب. لم يكن هناك شيء صالح يقال حول عزمه التمسك بشعاره حول كون عام 1971م سيكون عام «الحسم» في الصراع الدائر في الشرق الأوسط، وعموما عما تعنيه تحديدا عبارة «عام الحسم» هذه. راح يتحدث عن استحالة تحمل الوضع، وطلب إمداده بأحدث الأسلحة لشن ضربات في عمق إسرائيل، ومع هذا لم تكن لديه أي خطط جادة في هذا الصدد. لم يكن لديه سوى التأكيد على أن أي خطط عسكرية هي أمر سهل ما دام قد تم اتخاذ «القرار السياسي»، وهلم جرا. وقد كان على القادة السوفييت أن يديروا الحوار بحذر بالغ والتوجه بدفته نحو الجانب العملي.
وفي النهاية بدا أن الأمر قد تم حسمه. وافق الجانب السوفييتي على إرسال قاذفات تو-16 إلى مصر بأطقم سوفييتية، على أن تكون، بطبيعة الحال، بقيادة سوفييتية. وهذا الشرط، الذي هو منطقي بكل المقاييس، أثار ثورة غضب عارمة لدى السادات لسبب ما، وليرفض بشكل قاطع قبول هذه القاذفات. وقد حاولوا أن يشرحوا له أن كل العسكريين السوفييت في مصر يعملون تحت القيادة السوفييتية وليسوا جنودا مصريين، كما أنهم ليسوا مرتزقة أو متطوعين. لكن السادات سد أذنيه عن كل ذلك، وأعلن أنه سيعود على الفور من الكرملين إلى القاهرة مباشرة، وأنه يرفض قبول الدعوة على طعام الغداء الودي، وسوف يتناول طعامه في الطائرة، وهلم جرا. كان يعلن بشكل واضح عن إحساسه بالإهانة، وهي شيء، أقولها بصراحة، لا مبرر له، وأمر لم يفهم سره أغلبية الحضور. عض السادات غليونه، وبدا أنهم نجحوا على أية حال في إقناعه بالكاد بتناول طعام الغداء بصحبة القادة السوفييت. وقد لطف الطعام بعض الشيء من مزاجه، ولكن ظاهريا فحسب. راح مراد غالب السفير المصري، الذي كان يجلس إلى جواري، يضرب كفا بكف ويسأل: «فلاديمير! ما الذي يحدث؟ وما الذي أغاظه؟ كيف يمكن التصرف على هذا النحو؟» لقد رأى غالب في حياته الكثير، ولكنه لم ير مثل ذلك.
وبالفعل اضطررنا للسفر من الكرملين مباشرة بالفعل عائدين إلى القاهرة. وبعد الفضيحة التي أثرتها ضد أيروفلوت لسوء إعدادها للطعام في الرحلة من القاهرة إلى موسكو، تم إعداد كل شيء إبان رحلة العودة على أعلى مستوى. وبالطبع فقد كنت قد قررت أن أحاول استيضاح ولو قدر ضئيل من الأسباب التي دفعت السادات إلى أن يستشيط غضبا، وما الذي جعله يفسد الخطط الممتازة بالنسبة له لتنتهي المباحثات على هذا النحو وقد كانت مبشرة له.
ما إن دخل السادات إلى صالون الطائرة حتى عاد إلى طبيعته. بعدها اقترب مني كل من شعراوي جمعة ومحمد فوزي وراحا من جديد يتأكدان ما إذا كان السادات قد رفض بالفعل قبول قاذفات القنابل، وعلى الرغم من أن كليهما ألحا أمامي على ضرورة إرسال الاتحاد السوفييتي للقاذفات، فقد حاولا تصوير الأمر كما لو أنه قد انتهى بالاتفاق على إرسالها. كنت مضطرا أن أبدد آمالهما وأن أذكرهما أن الرئيس لن يقبل القاذفات كما أعلن ذلك بنفسه على نحو قاطع.
بعد برهة من الوقت دعا السادات الجميع إليه في صالون الطائرة لكي نتناول معا طعام العشاء. كانت لديه، كما كانت لدي، الرغبة في التحدث من أجل أن يتضح الموقف بعض الشيء. ولما كان الموقف يسوده التوتر فقد اقترحت أن نشرب بعض الفودكا حتى نضفي بعضا من الانتعاش بطبيعة الحال.
بعد طعام طيب صاحبه بعض الخمر نجحنا في إدارة حديث تطرقنا فيه إلى نتائج الزيارة. وهنا عاد السادات من جديد ليؤكد أنه لن يتحول عن رأيه، ولن يوافق إطلاقا على وجود عسكريين سوفييت في مصر لا ينصاعون له، وإذا كان ناصر قد قبل ذلك سابقا، فإن ذلك كان صفحة من الماضي وطويت.
وبعد أن شرب كمية غير قليلة التفت إلي فجأة قائلا كلاما منقطع الصلة بحديثنا، قائلا: «لقد ذهبت إليهم! ذهبت بوصفي رئيسا! ما زلت أذكر جيدا كيف كنت بصحبة ناصر ذات مرة في موسكو، وكنت أشغل آنذاك منصب نائب الرئيس. آنذاك وعلى مائدة الإفطار في الكرملين بدأ زعماؤكم يسألون ناصرا على نحو استعراضي عن الشخص الثاني بعد الرئيس في مصر، وكنت أجلس في هذه اللحظة إلى جانب الرئيس، ولم يستطيعوا معرفة أنني أنا الشخص الثاني. والآن ذهبت إليهم باعتباري الشخص الأول، باعتباري الرئيس!» كم من الإحساس بالضيم في هذه الكلمات! لقد انطلقت الكلمات من أعماقه، الكلمات التي كان يشعر أنه لا بد أن يخبرني بها. ها هو يعلن انتصاره بعد أن أصبح رئيسا، كما يعلن كراهيته أيضا للزعماء السوفييت، ويرد لهم ما توهم آنذاك أنها إهانة اتخذها ذريعة لما فعله إبان المباحثات.
حاولت بكل قوتي بطبيعة الحال أن أقنع السادات أن الأمر لم يكن كذلك، لكن جهودي ذهبت سدي. راح يكرر ويكرر ضاحكا وقد وجه ناظريه إلى نقطة محددة هناك في الفضاء وهو يقول: «ها قد جئت إليكم.» منذ هذه الرحلة تولد لدى السادات إيمان عميق بأنهم في موسكو «لا يثقون فيه».
لقد حددت تصرفات السادات في موسكو بالطبع علاقاته بالناصريين، وخاصة أن هؤلاء كانت توجهاتهم تتركز في جر الاتحاد السوفييتي قدر الإمكان أكثر فأكثر إلى قضية الشرق الأوسط، ولو كان الثمن في ذلك وقوع مواجهة بينه وبين الولايات المتحدة الأمريكية. بينما كان السادات يسير بخطى حثيثة نحو التخلص من الإرث الناصري. وفي عام 1971م وقعت أحداث مايو الشهيرة التي عكست أيضا علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي.
ليس لدي أدنى شك، على سبيل المثال، وإن كنت لا أملك أدلة مباشرة على ذلك، أن إحدى نتائج هذا العمل من جانب السادات كان الإساءة إلى سمعة الاتحاد السوفييتي، بزعم أنه يقف وراء «المتآمرين». ما الذي يمكن قوله في هذا الصدد؟
لم يكن عبثا أن السادات أرسل شعراوي جمعة أيضا إلى موسكو في «زيارة سرية»، كما أرسل وفدا لحضور المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي يضم في عضويته كلا من عبد المحسن أبو النور، الأمين الأول للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي؛ وسامي شرف. وقد أصر على أن يستقبلهما ليونيد بريجنيف في «سرية» تامة. كانت القضايا التي طرحها جمعة وشرف هي نفس القضايا الخاصة بالحصول على قاذفات قنابل بعيدة المدى من أجل توجيه ضربات في عمق إسرائيل. كان الهدف من هذه الزيارات عنده هو خلق انطباع عن وجود صلات دائمة بين موسكو وعدد من المقربين إليه. وكما هو معروف فقد تم اعتقال كل هذه الشخصيات، إلى جانب آخرين، في منتصف شهر مايو، وحكم عليهم بالإعدام شنقا، ثم استبدل بالحكم الأشغال الشاقة لمدة خمسة وعشرين عاما.
لسبب أو لآخر تحضرني هنا واقعة أخرى ينبغي علي أن أذكرها بكل تفاصيلها. بعدما سلمت الرئيس السادات أوراق اعتمادي، وإبان حديثي معه باعتباري سفيرا للاتحاد السوفييتي، ذكرته برغبته في عقد لقاءات أسبوعية معي، وأشرت إلى أن القيادة السوفييتية تشاركه هذه الرغبة، ومن ثم فإنني على استعداد دائما لعقد هذه اللقاءات، وإنني في انتظار تعليمات الرئيس. في الواقع لم أستمع لأي رد من السادات على هذا الحوار. وقد عدت للتطرق إلى هذا الموضوع بصورة أخرى بعد فترة من الزمن لعلمي بأنهم في موسكو ينتظرون هذه اللقاءات بعد أن أبلغ ألكسي كوسيجين المكتب السياسي بهذا الاتفاق الذي تم بيني وبين السادات. لكن السادات لم يرد أيضا في هذه المرة، وعندئذ قررت ألا أزعجه.
بعد عدة أيام دعاني سامي شرف الذي كان آنذاك الرئيس الفعلي للمخابرات العامة والحربية، وأخبرني بأنه على علم بالفكرة التي طرحها علي السادات بشأن اللقاء مع السفير السوفييتي أسبوعيا، ولكن الرئيس فوضه أن يعرفني ببعض القضايا، وأن يحيطني علما ببعض المشكلات ، إذا جاز التعبير، قبل أن تبدأ هذه اللقاءات.
وبعد ذلك ذكر لي سامي شرف أن الرئيس ناصر قبيل وفاته بفترة قصيرة دعا إليه السادات وسامي شرف وشعراوي جمعة ومحمد فوزي، وقال لهم إن هذه المجموعة منوط بها إدارة الدولة في حالة وقوع أي ظروف طارئة، وإنهم جميعا مكلفون بالاهتمام بتوطيد أواصر الصداقة مع الاتحاد السوفييتي باعتباره الحلقة الرئيسية لكل العلاقات السياسية الخارجية للبلاد. وأردف سامي شرف قائلا إن هذه المجموعة تمسك بقوة بزمام السلطة، وراح يحكي عن أن لديه معلومات حصل عليها من التنصت على كثير من المصريين، وأن هناك أياد كثيرة داخل مصر تود لو أطبقت على رقبته (سامي شرف). كل ذلك أثارني. كانت هذه «الصراحة» غير مفهومة في بعض من جوانبها بالنسبة لي، والأمر الأساسي الذي لم أفهمه هو لماذا وجب عليه أن يخبرني بكل ذلك. خيل إلي آنذاك أن هؤلاء الناس يغالون ببساطة في قيمة أنفسهم.
تكررت هذه الأحاديث مع سامي شرف ثلاث أو أربع مرات. كانت نوعا من المحاضرات، إذا جاز التعبير. أما اللقاءات مع السادات فلم تتم على أية حال. وأخيرا، عندما حان موعد اللقاء الأول، نجحت في أن ألفت انتباه السادات أنني مواظب على الاستماع إلى محاضرات سامي شرف بكل اجتهاد، فقال لي إنه يعرف ذلك.
تأزم الوضع في البلاد، وبات واضحا للعيان الخلاف القائم بين السادات وبين من حوله من الناصريين. وقد أثار هذا الوضع قلقي؛ لأن السادات توقف عن أن يلتقي بي من جهة، ولأن شخصيات حكومية أخرى راحت تدعوني لتبادل الحديث معها. لم يكن بوسعي أن أتحاشى هذه اللقاءات لأنها كانت لقاءات عمل. لكن تفاصيلها كلها كانت كما لو أنها تصب في خانة معارضة الرئيس. كان علي أن أبذل جهودا مضنية لكي أحظى بلقاء جديد مع السادات. كان اللقاء يتطلب بطبيعة الحال أن يقع أمر جلل، وفور لقائي به طرحت على الرئيس سؤالا مباشرا حول من هم أفضل أصدقائه الذين باستطاعتي أن أتحدث معهم بصراحة كما أتحدث مع الرئيس؟
نظر إلي السادات باهتمام، وقال إن أفضل أصدقائه هم شعراوي جمعة ومحمد فوزي وسامي شرف.
في الحادي عشر من مايو ولدى مقابلتي مع السادات، عندما كان ثمة شعور بأن أمرا ما، كما يقولون، يلوح في الأفق، وبسبب هذا الأمر الوشيك، عدت من جديد لأطرح على الرئيس سؤالي حول من هم أقرب أصدقائه الذين أستطيع أن أتحدث معهم بصراحة وكأني أتحدث مع الرئيس. عاد السادات ليردد على مسامعي أسماء جمعة وفوزي وسامي شرف، على أن هذه المرة سألني لماذا أكرر عليه هذا السؤال. أجبته أنني أريد أن أكون واثقا وحذرا، فضلا عن أن عدد المقربين من السادات، كما بات معروفا، راح يتناقص، فقال لي السادات إنه لا يخشي من شيء.
وبعد يومين، وفي الثالث عشر من مايو، اعتقل السادات جمعة وفوزي وسامي شرف وغيرهم من الناصريين بتهمة الخيانة!
في صيف ذلك العام، التقيت صدفة بالصحفي الشهير محمد حسنين هيكل، الذي كان يبدو أنه لا يخفى عليه سر من أسرار الدولة. وكانت قد سرت معلومات في هذه الفترة تزعم أن سامي شرف أرسل من السجن خطابات إلى السادات ضمنها اعترافات تؤكد على أن الذي حرضه على الرئيس هم محمود رياض وزير الخارجية والسفير السوفييتي وكبير المستشارين العسكريين السوفييت! أعربت عن استيائي لهيكل وأخبرته عن تصرفاتي عشية هذه الأحداث الدراماتيكية. اهتم هيكل بحديثي، واقترح علي أن أستمع لديه إلى شريط مسجل عليه حديث لي مع سامي شرف في التاسع من مايو، وهو اللقاء الأخير لي مع سامي شرف، وكنت قد أعطيته إبان هذا اللقاء صورا فوتوغرافية التقطت له في المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي عند لقائه بليونيد بريجينيف. ذكرت هيكل بأنني حكيت للسادات عن هذا اللقاء، ولكنني كنت أشك فيما إذا كان هذا اللقاء قد تم تسجيله بالفعل.
تحدث هيكل عن مضمون الحديث الذي دار بيني وبين سامي شرف، وأشار إلى أن الأخير أكد أنه لا يثق في تصرفات الرئيس تجاه الأمريكيين وتجاههم هم أنفسهم، وأن سامي شرف قال: «لم نعد نعرف ما الذي سوف يقدم عليه السادات بعد ساعة أو نصف ساعة.» وقد أكدت لهيكل أن هذا ما قاله سامي شرف بالفعل.
أضاف هيكل قائلا: «وبعد ذلك سألك سامي شرف عما ينبغي عمله مع الرئيس.» وبالفعل كان سامي شرف قد طرح علي هذا السؤال المستفز. أذكر جيدا أنني كنت منتبها تماما. عندئذ سألت هيكل وكلي رغبة أن أتيقن على نحو نهائي إذا كانت حكايته هذه حقيقية من عدمها، وما إذا كانت كل أحاديثي مسجلة على شرائط.
قال هيكل: «قلت له ما يلي: هذا رئيسكم وعليكم الالتفاف حوله وتأييده.»
صحيح. هذا ما قلته بالفعل.
واصل هيكل حديثه قائلا: «عندما استمع السادات إلى هذا المقطع من التسجيل ضرب كفا بكف من الإحباط صائحا: أخ! لقد أفلت السفير وكان على شفا هاوية!»
أدهشني هذا الرد للغاية، فسألت هيكل: «وماذا كان الرئيس يتوقع؟ ما الذي كان يود أن يسمعه؟»
قال هيكل: «لا أعرف. لقد تولد لدي انطباع أنه كان يتوقع أن يستمع منك إلى ما يدعم المتآمرين.»
صحت قائلا: «ولكن هذا لم يكن من الممكن أن يصدر عني.»
أجاب هيكل: «أنت على حق، لكن معرفتك بالسادات قليلة. لقد كان يود أن يرى فيك متآمرا، عندئذ كان الأمر سيبدو له مفهوما، بالإضافة إلى أن خطاب سامي شرف، على الرغم من عبثية ما به من اتهامات، قد ترك أثرا في مكان ما من تفكير الرئيس.»
عندما أذعت فيما بعد هذه القصة بكلمات أخرى، مضيفا إليها، إذا جاز التعبير، بعض التصرف. أدركت أن السادات كان بحاجة ماسة إلى معلومات تسيء إلى سمعة الاتحاد السوفييتي. كان عليه أن يثبت بأي وسيلة من الوسائل أن الاتحاد السوفييتي يقف ضده، بينما يقف وراء «المتآمرين»، بحيث تصبح يداه مطلقة عندئذ للدخول في أي مناورات مع الأمريكيين.
بعد اعتقال «المتآمرين» كان السادات حريصا بشكل واضح على بقاء العلاقات مع الاتحاد السوفييتي فاترة، وكانت هذه الفترة تمثل بداية اتصالاته مع الرئيس الأمريكي، وتقدم الأمريكيين النشط بطلب إبعاد «الوجود السوفييتي» باعتباره «ثمنا» للخطوات الممكنة للولايات المتحدة الأمريكية في مجال تسوية قضية الشرق الأوسط.
على أن الاتحاد السوفييتي كان قد قطع شوطا مهما في مسيرته الدبلوماسية والسياسية الصحيحة. ولم يعد السادات هو قضيته، وإنما مصير مصر - أكبر دولة عربية - ومصير شعبها، وما تم إنجازه من إصلاحات تقدمية. كانت القوى الرجعية الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية تترقب أن يصيب الضعف والوهن الاتحاد السوفييتي بمصر.
بعد أحداث مايو، أكد لي السادات إبان أحاديثه معي على رغبته في التشاور مع أحد الزعماء السوفييت، على أن تجرى المباحثات في القاهرة، ولم يكن ذلك إلا بهدف التمويه على مخططاته. كان السادات يعتمد، بشكل واضح، على أن الزعماء السوفييت، بعد الأحداث التي اعتبرها العالم أعمالا عدائية للاتحاد السوفييتي، سوف يحجمون عن الحضور إلى القاهرة انطلاقا من إحساسهم بالإهانة. لم يكن بمقدوري بالطبع سوى أن أكتفي بأن أعده بنقل رغبته إلى موسكو، وفي هذا السياق نوهت إلى أنه سيكون من الصعوبة بمكان، بطبيعة الحال، اتخاذ قرار سريع في هذه القضية، وأن الأمر سيتطلب بعض الوقت للتفكير. ولما كان السادات يتوقع أن موسكو لن ترد على طلبه على الفور، بدأ في الحديث معي مبديا اقتناعه بصحة حساباتي، ثم قال إنه لا مانع لديه من عقد معاهدة الصداقة التي كان ناصر قد طرحها، وكان ناصر قد طلب آنذاك قبول مصر كما لو كانت إحدى دول معاهدة حلف وارسو، وأن يتعامل الاتحاد السوفييتي مع مصر باعتبارها من الدول الاشتراكية، وهنا أيضا كان السادات يعول على رفضنا.
لكن القرار الذي اتخذته موسكو جاء على عكس ما توقع السادات. لقد جاء إلى القاهرة أندريه جروميكو ليبلغ السادات أن رغباته في عقد معاهدة للصداقة والتعاون قد تمت الاستجابة لها! كانت ضربة للسادات الذي لم يكن يتوقع مثل هذه الخطوة. في البداية بدأ في الحديث عن أن من الأفضل الانتظار بعض الوقت، ولكنه حين أدرك أن مناوراته باتت مكشوفة تظاهر وكأن «شيئا لم يحدث»، وطلب فسحة من الوقت للتشاور مع رفاقه الجدد، ثم وافق. أذكر جيدا عندما رافقته بعد المباحثات هبطنا بالمصعد الصغير أنا وهو بعد المقابلة مع الوفد السوفييتي. كان السادات ممسكا بمشروع المعاهدة الذي تسلمه للتو، وكانت الوثيقة مطوية على هيئة أنبوب. كانت عيناه تنظران إلى بعيد وكأنما تريان شيئا لا نراه. لفت انتباهه إلى الوثيقة إذ كان من الممكن أن يلتقي في الأسفل بالمراسلين، عندئذ سارع السادات على عجل بدسها في جيبه الداخلي.
وعلى الرغم من أن المعاهدة قد تم عقدها بناء على طلب السادات، بل وبإصرار منه في الواقع، فإن ذلك لم يمنعه من أن يعلن فيما بعد أن المعاهدة فرضت عليه مقابل وعده بإرسال قاذفات بعيدة المدى! بل تحدث على نحو مباشر قائلا: إن الروس يزعمون أنهم يخشون أن يلجأ للأمريكيين؛ ولهذا قرروا أن يربطوه بهذه المعاهدة. حسنا، فليفسروا الأمر كما يحلو لهم؛ فالمعاهدة مثلت على أية حال ضربة كبرى للخطط الأمريكية للاستحواذ على مصر في عام 1971م.
قبيل نهاية عام 1971م تبين استحالة تزويد مصر بكل الطائرات من طراز ميج-21 التي تم الاتفاق عليها وذلك لأسباب فنية، وعلى الفور عاد السادات من جديد إلى النغمة القديمة حول عدم الثقة، واشتد أوار الشك لديه، وراح يبحث كسابق عهده عن حجة لإضعاف العلاقات. وهنا جرت وقائع عديدة تحمل طابعا استفزازيا تجاه العسكريين السوفييت، وانتشرت الحملات الإعلامية وازدادت المماحكات فيما يتعلق بقضايا العلاقات الاقتصادية وفي غيرها من القضايا. كانت حياتنا في مصر يكتنفها دائما القلق والمخاوف، مما يتطلب اتخاذ الحيطة واليقظة المستمرين؛ فكما نتوقع دائما استفزازات جديدة، كنا مضطرين طوال الوقت إلى التفكير في كيفية تلافي ما يمكن اتخاذه ذريعة ضدنا، وفي هذا الوقت كان عدد ما يمكن أن نسميهم بالجالية السوفييتية قد بلغ ما يزيد على خمسة عشر ألف نسمة بما فيهم العسكريون.
في صيف عام 1972م، كان قرار السادات بالاستغناء عن خدمات الخبراء العسكريين السوفييت، وقد تم اتخاذ قرار إجلائهم على وجه السرعة بصورة مهينة بالنسبة لنا، وهو ما كان يتفق تماما وشخصية السادات. يمكن التأكيد بشجاعة أن ناصرا لم يكن ليتخذ مثل هذا القرار إطلاقا، وحتى إذا ما رأى في ذلك ضرورة ما، لفعله كما ينبغي بين حليفين وليس بين خصمين. أما السادات فقد تعامل مع الأمر كما لو كنا نحن الذين فرضنا العسكريين السوفييت على مصر قسرا، على الرغم من أن السادات كان يعلم جيدا كم من الجهد بذله ناصر من أجل إقناع الزعماء السوفييت باتخاذ قرار إرسال الخبراء العسكريين السوفييت إلى مصر في فبراير عام 1970م.
حدد السادات أسبوعا واحدا لمغادرة الخبراء السوفييت وعائلاتهم. أما الأمر الأكثر أهمية فتمثل بطبيعة الحال في الظروف التي اتخذ فيها السادات هذا القرار، فضلا عن أن قراره، الذي أبلغني به مباشرة، قد ألحق - بطبيعة الحال - ضررا بالغا بالعلاقات السوفييتية المصرية. لقد أثبت السادات بذلك عمليا أنه لا يمكن الوثوق به بأي حال من الأحوال!
في يونيو من عام 1971م توجه السادات إلى القيادة السوفييتية بعدد من الأسئلة التي تمت صياغتها على نحو اتسم بالغموض والإبهام. على أنه كان من الممكن رؤية المغزى المستفز وراء الضباب الذي اكتنف هذه الأسئلة. كان السؤال تحديدا: كيف ينظر الاتحاد السوفييتي إلى الموقف الذي يمكن أن يحدث بحلول الخريف، وإذا ما اندلعت العمليات العسكرية في الشرق الأوسط، فإلى أي درجة يمكن الاعتماد على الاتحاد السوفييتي، وبالإضافة إلى ذلك تضمنت الأسئلة طلبا ل «تعويض» مصر بالأسلحة، وهلم جرا. لم تكن الأسئلة مصاغة بشكل محدد، ولم تحدد موعدا عاجلا للرد عليها، ولكنها طرحت علينا عشية زيارة نيكسون إلى الاتحاد السوفييتي، والأرجح أنها كانت تعول على إحراج الاتحاد السوفييتي.
بدأ السادات يعبر عن اهتمامه بالأمر، فسألني عدة مرات ما إذا كنت قد تلقيت ردا، وكنت في كل مرة أخبره بأنني سوف أبلغ الرئيس فورا فور تلقي الرد. وقد تسنى لي أن أتأكد على نحو عابر بسبب عجلة الرئيس بعد أن تبينت جوهر هذه الأسئلة. وأخيرا تسلمت ردا على أسئلة الرئيس. بالطبع لم يكن الرد على النحو الذي كان السادات يتوقعه. كان ذلك انطباعي بعد قراءتي الأولى له، وهو ما أخبرت به رفاقي، لكنني كنت مكلفا على أية حال بإنجاز الأمر وإبلاغ الرد.
قمت بزيارة السادات هذه المرة في قصر الطاهرة. كان يبدو مكتئبا. قام المترجم بعرض مضمون الرد على الرئيس. كانت هناك بالطبع جوانب لم يستطع تصورها، مثل ما ورد بشأن الحملة المعادية للسوفييت التي يشنها الإعلام المصري، وعما تقوم به الدوائر الرجعية ضد المنظومة التقدمية في مصر، وعن ضرورة دعم العلاقات عمليا وليس بمجرد الأحاديث وما إلى ذلك.
استمع السادات إلى الرسالة دون أن يصدر عنه أي تعليق. وبعدما انتهى العرض سألني على نحو لاذع: «أهذا كل ما في الأمر؟» شعرت على الفور أن العاصفة تقترب، وحيث إن الرسالة لم تتعرض للنظر في طلباته الخاصة بالتوريدات الجديدة للأسلحة، وإنما تعرضت لكونها رهن الدراسة، فقد قررت أن أحيط الرئيس علما بآخر المعلومات لدي عن التوريدات العسكرية والتي تشير إلى أن جزءا من طلباته قد تم إنجازه، وأن الجزء الآخر في طريقه للإعداد، وأن الأمور تسير على وجه العموم بصورة لا بأس بها في الواقع.
استمع السادات إلى ما قلته، ثم سألني مرة أخرى بنبرة جافة: «أهذا كل ما في الأمر؟» كان هذا بالفعل كل ما في الأمر، وقد رددت بالإيجاب قائلا إن هذا كل ما لدي للرئيس.
بعد فترة وجيزة من الصمت بدأ السادات في التحدث بشكل واضح وصارم. طلب مني أن أبلغ موسكو أنه سوف يواصل نضاله ضد إسرائيل، وأنه سيظل صديقا للاتحاد السوفييتي على الرغم من «تصرفاتنا»، وأنه قد اتخذ قراره بسرعة إنهاء عمل البعثة العسكرية السوفييتية في مصر؛ الخبراء والأفراد العاملين في الوحدات العسكرية.
كان إعلانه بمثابة الرعد على صفحة سماء صافية. كانت الفكرة الأولى التي راودتني عندئذ: أليس في هذا نوع من الابتزاز؟ وإذا لم يكن ابتزازا، وإذا كان يطرح قراره على نحو جاد فمتى اتخذه؛ الآن أم قبل ذلك؟ وإذا لم يستطع أن يدرك مضمون الرسالة التي سلمتها إليه توا، وإذا كان قد اتخذ قراره قبل ذلك، فكيف لم نستطع أن نعرف ذلك أو نخمنه على أي الأحوال؟ وإذا كان القرار قد تم اتخاذه الآن فقط بعد أن تعرف على الرد، فأي زعيم دولة هذا؟ وهل يدرك التبعات التي سوف تترتب على قراره؟ وكيف ستتلقي موسكو هذا القرار؟ وأخيرا، كيف سيستقبله العالم أجمع؟ فالقرار لا يعني فقط إضعاف القوات المسلحة المصرية، وإنما هو ضربة قاصمة موجهة للعلاقات السوفييتية المصرية. إن هذا السلوك الطائش لا يمكن في حقيقة الأمر أن يمر دون حساب. مع من دبر كل ذلك؟ وهل يمكن أن يكون قد فعلها وحده؟
أجبت بأنني سوف أبلغ موسكو اقتراح الرئيس بالطبع، وإن كنت أود أن أنوه إلى أن العسكريين السوفييت موجودون في مصر لا بإرادتهم، وإنما جاءوا تلبية لرغبة ناصر الملحة وبشكل استثنائي ومؤقت.
قاطعني السادات قائلا إنه يقدم اقتراحا للزعماء السوفييت بشأن إنهاء عمل الخبراء السوفييت في مصر، وإنما يبلغني قرار الإنهاء وهو قرار لا يقبل المناقشة. كان واضحا أن الرئيس عاد «للتجاوز» مرة أخرى.
حاولت بطريقة مختلفة أن أنبه السادات إلى فكرة ضرورة إجراء مشاورات تمهيدية مع الزعماء السوفييت دون نفي، بطبيعة الحال، لحق مصر الذي لا ينازع في اتخاذ ما يراه من قرارات تمس استقلالها؛ فقد جاء وجود العسكريين السوفييت نتيجة قرار مشترك بين دولتين، ونتيجة للتنسيق بينهما وما إلى ذلك.
لكن السادات عاد من جديد ليؤكد أنه لا عودة للوضع السابق، وأنه قد أصدر قرارا حاسما، ثم بدأ بعد ذلك في الحديث بلهجة ساخرة عن العسكريين السوفييت في مصر لكي يثير سخطي ويستفزني لاتخاذ رد فعل حاد. شعرت على نحو غريزي أن علي الآن تحديدا أن أكون أكثر هدوءا وألا أبدو شخصا أثيرت مشاعره، وألا أستسلم للسادات في تلك الحالات التي يسخر فيها من بلادي وشعبها.
أجبته بكل أدب أن السوفييت لم يجيئوا إلى مصر بمحض إرادتهم، وإنما أرسلوا إلى هنا وقاموا بواجبهم الأممي في مساعدة الشعب المصري في نضاله ضد عدو مشترك على التراب المصري، وقد فقد الكثير منهم صحته، ومع ذلك فقد أدى السوفييت جميعهم واجبهم بشرف أمام وطنهم وأمام الشعب المصري الشقيق، وبالطبع فهم لا يستحقون هذه الإهانات التي يوجهها الرئيس لهم الآن.
لكن السادات قرر أن يزيد الجو توترا، فراح يتعرض للزعماء السوفييت ولي شخصيا ثم صاح قائلا: «ما الذي كان علي فعله عندما قدمتم لي هذه الورقة التي لا تصلح إلا أن أمسح بها الأرض؟»
أجبت الرئيس قائلا إنني لم أحضر له «ورقة» ليمسح بها الأرض، وإنما رسالة من الزعماء السوفييت، زعماء البلاد التي تمثل حليفا لمصر وشعبها؛ ولذلك فإنني أرجوك ألا تتحدث عن هذه الأشياء التي يمكن اعتبارها إهانة للشعب السوفييتي.
صاح السادات: «ماذا كان ستالين سيفعل برأيك لو أن السفير الإنجليزي أحضر له أثناء الحرب رسالة شبيهة بهذه الرسالة التي أحضرتها إلي؟»
أدركت بالطبع أن أي حديث لن تكون له جدوى، وأن الرئيس قد تجاوز الحدود، وأنه قد يزداد تطاولا في هذا الاتجاه، وأن الحديث بات عبثا، وأن استمراره سيزيد الأمور تعقيدا.
أجبت بقولي: «سيادة الرئيس، لست السفير الإنجليزي، ولم أحضر لك رسالة من الحكومة الإنجليزية. هل لديكم أسئلة نناقشها أو شيء آخر تودون إبلاغه إلى موسكو؟ إن لم يكن هناك شيء من ذلك فإنني أستطيع الذهاب.»
قال السادات إنه ليس لديه شيء. أديت التحية وغادرت المكان.
أثار خبر القرار الذي اتخذه السادات القلق بطبيعة الحال لدى الدائرة المقربة من السادات بما فيها رئيس الوزراء عزيز صدقي. وقد استشعر قادة البلاد، الذين كانوا لا يزالون يقدرون العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، استشعروا على نحو جلي النتائج التي يمكن أن تؤدي إليها هذه الخطوة التي اتخذها السادات. لقد قدم السادات تنازلا صريحا للأمريكيين، الذين كانوا يطالبون بإخراج «الوجود السوفييتي» من الشرق الأوسط، وخاصة الوجود العسكري. وقد قدم السادات ما أرادوا عربونا، وأبلغهم بأنه على استعداد أن يسير إلى أقصى مدى في علاقته بالاتحاد السوفييتي.
فيما بعد، قام عزيز صدقي برحلة عاجلة إلى موسكو حاول فيها التخفيف من أثر الانطباع الذي تركه قرار السادات، كما حاول إقناعنا بأن نعتبر أن قرار إنهاء عمل البعثة العسكرية كما لو أنه جاء نتيجة لاتفاق ثنائي بين البلدين، لكن محاولاته باءت بالفشل. لم يوافق السادات على أن يتم إنهاء عمل العسكريين السوفييت تدريجيا، وقد توصلنا إلى اتفاق يقضي بأن تكون المدة من شهرين إلى ثلاثة أشهر تقريبا. أما حجتنا الأساسية في أن يتم الأمر تدريجيا فكانت أن نترك انطباعا لصالح القرار يتمثل في ألا نترك للأعداء فرصة للشماتة. أما بالنسبة للسادات فكان من الواضح أنه كان يسعى من وراء قراره أن يلوح علنا للأمريكيين أنه مستعد للتعاون معهم.
ما الذي كانت تمثله هذه الخطوة التي اتخذها السادات؛ إظهار عدم توازن شخصيته، أم أفعالا مبنية على حسابات عميقة؟
أعتقد أن العاملين كانا موجودين. في المقام الأول، بالطبع، كان اتخاذ القرار مسبقا بانسحاب العسكريين السوفييت من مصر؛ لأنه بدون ذلك لم يكن الأمريكيون ليعدوا بأي تدخل في قضية الشرق الأوسط. وقد أعلنوا مباشرة، بما فيهم كيسينجر وزير الخارجية الجديد، أن الهدف الأول للولايات المتحدة الأمريكية في الشرق الأوسط ينحصر في «طرد» الروس.
من جانب آخر، أظهرت أفعاله الصفات المميزة لشخصيته. لقد اعتبر السادات أن لحظة استلامه رد القيادة السوفييتية تحديدا، هي اللحظة المناسبة تماما ليقوم بإبلاغنا بقراره الخاص بالعسكريين السوفييت؛ لأن ذلك من شأنه أن يجرح إحساس الزعماء السوفييت، وبالتالي فإن خطوته التي أحكم تدبيرها سوف يكون لها رد فعل بالغ القوة في الاتحاد السوفييتي، حتى إنهم سيحترمونه أكثر على هذه الشجاعة، إذا جاز التعبير.
كان السادات كثيرا ما يستخدم تعبيرات فاحشة للغاية دون خجل في حق الزعماء السوفييت في وجود أناس كانوا يحاولون إبلاغنا بها دون خطأ. أما هو فكان يعلم جيدا أن هذه التعبيرات سوف تصل حتما إلى موسكو.
بعد قراره الخاص بالعسكريين السوفييت، كان على السادات، بطبيعة الحال، أن يشرح على نحو ما تصرفه أمام مختلف فئات المجتمع المصري، لكن خطبه كانت تتضمن دائما شيئا واحدا؛ الاتحاد السوفييتي يتعامل مع مصر على نحو سيئ؛ فهو لا يحافظ، على سبيل المثال، على عهوده ويتآمر مع الأمريكيين، وهلم جرا. باختصار كان يضفي على صورتنا أسوأ الصفات. وفي هذا السياق كان يلجأ إلى الإفصاح عن الرسائل السرية التي كان الزعماء السوفييت يرسلونها إليه! لقد ضاع معنى الحفاظ على سرية هذه الاتصالات، وكأن الرجل يريد أن يقول لنا: إنني لا أريد هذه الرسائل.
وفي تصرف على طريقة ملوك الشرق، أعلن السادات أنه لن يستقبل مجددا السفير السوفييتي، وإذا كان لدى السفير السوفييتي تفويض بتوصيل أية رسائل إلى الرئيس، فإن بإمكان هذا السفير تسليمها إلى رئيس الوزراء أو إلى وزير الخارجية. كان من الواضح أنه يريد أن يعطي انطباعا أنه أهين (ممن؟)، وأنه سوف يتوقف عن تبادل الرسائل السرية مع الزعماء السوفييت.
راحت العلاقات بين البلدين تستقيم من جديد تدريجيا، وإن حدث ذلك ظاهريا فقط. عاد الرئيس من جديد يستقبل السفير السوفييتي ويرسل من خلاله الرسائل ويستقبلها. أما تفسير ذلك الأمر فكان بسيطا للغاية؛ لقد «التهم» الأمريكيون العربون الذي قدمه السادات لهم، والذي تمثل في إبعاد الخبراء السوفييت من مصر، وبدا أن هذا الثمن غير كاف، وكسابق عهدهم لم يقدموا شيئا لحل الصراع العربي الإسرائيلي. كانت المشكلة في الحكومة التقدمية التي كان يرأسها آنذاك عزيز صدقي في مصر.
وفي الوقت نفسه سرعان ما شعرت القيادة العسكرية في البلاد أن خروج العسكريين السوفييت قد أدى إلى تردي الأوضاع داخل القوات المسلحة بشكل واضح. لقد تعرضت كمية كبيرة من السلاح الحديث المعقد للأعطال بسبب عدم اتخاذ إجراءات الصيانة اللازمة. وهنا وافق السادات ، على كره منه، على رأي قادته العسكريين الذين اقترحوا اللجوء مرة أخرى إلى الاتحاد السوفييتي طلبا للمساعدة.
في ربيع عام 1973م أزاح السادات عزيز صدقي من منصب رئيس الوزراء، كما أزيح عبد السلام الزيات من كل المناصب الحكومية التي كان يشغلها، وأصبح السادات هو رئيس الدولة ورئيس الحكومة، بل و«الحاكم الأعلى».
وفي نفس صيف هذا العام، إذا به «يطالب» فجأة، أقول يطالب؛ إذ لا توجد كلمة أخرى تصف تصرفه هذا، بحضور الرفيق أندروبوف رئيس لجنة الأمن القومي (كي. جي. بي) إلى القاهرة. لم يوضح لنا الأسباب، وإنما طالب بحضوره هكذا ببساطة، وكأنما يستدعيه ليقدم له تقريرا، ولما لم يصل رد، بدأ السادات في العصبية. دعاني أحمد إسماعيل علي وزير الحربية للقائه. كان مهتما أيضا بعدم وصول الرد. أجبته بأنني لا أعرف السبب، ولكنني لفت انتباهه إلى أن الدعوة لم ترسل لا عن طريق السفير السوفييتي لدى القاهرة، ولا عن طريق السفير المصري لدى موسكو، وإنما، كما نما إلى علمي، أرسلت بخطاب شخصي من وزير الحربية، وقلت: إنه قد يكون من الضروري ربما إرسال استعجال، وقد يكون من المفيد أيضا إحاطة الرفيق أندروبوف علما بسبب دعوته للحضور إلى القاهرة. قال الوزير إنه يفهم ذلك جيدا، ولكن الرئيس مهتم بشدة بحضوره. وأضاف قائلا إن أمرا ما على جانب كبير من الأهمية سوف يقع قريبا في مصر، وإنكم، أيها الشيوعيون في الاتحاد السوفييتي، لن تفهموه على وجهه الصحيح. وبالإضافة إلى ذلك، هناك عدد من القضايا المتعلقة بالوضع في مصر، وهي ذات صلة بعمل هذه المؤسسة التي يرأسها الرفيق أندروبوف. أبديت دهشتي بالطبع، لكن وزير الحربية أشار بأنه تحدث إلي أكثر مما ينبغي له أن يتحدث في هذا الأمر. وانتهى الحديث.
لقد قرر السادات، بشكل واضح، أن يصل في استفزازه إلى أقصى درجة؛ يدعو زعيما سوفيتيا بارزا، ثم يعلن له عن إقصائه عددا من رجال الدولة التقدميين في مصر من مناصبهم، وفي نفس الوقت يقدم له «ادعاءاته» المختلفة حول زعمه بأن «رجال أندروبوف » هم الذين يقفون وراء العديد من مظاهرات العمال والطلبة والمثقفين التقدميين، كما كان يحلو له أن يسميهم. كانت تصرفات السادات تجاه الفئات التقدمية تبدو كما لو كانت موجهة للاتحاد السوفييتي، وكان باستطاعته دائما أن يستند إلى أنه قد أحاط الاتحاد السوفييتي بها علما.
لم يأت الرفيق أندروبوف بالطبع إلى القاهرة، لكن السادات ظل يذكرني في كل مرة يلتقي بي فيها بأنه كان يريد أن يلتقي بواحد من أعضاء المكتب السياسي للجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي بزعم ضرورة إجراء مشاورات مع الزعماء السوفييت، وأنه متعطش للمقابلة، ولكنهم رفضوا السماح بإجراء المقابلة. وراح السادات يؤكد أن كل ذلك يمثل خطا سياسيا عدوانيا جديدا من جانب الاتحاد السوفييتي في علاقته بمصر، وهلم جرا.
تلقيت بعد عدة أيام تعليمات من موسكو تفيد سفر نيكولاي بودجورني رئيس مجلس السوفييت الأعلى إلى مصر بناء على طلب السادات. ما إن تلقيت هذا الإعلان حتى شعرت لسبب ما أن أمرا غير عادي لا بد وأن يحدث. وبينما أنا في طريقي إلى الرئيس لإبلاغه قلت مازحا لرفاقي إنني أستطيع أن أزعم أن الرئيس سيرفض هذه الزيارة. ضحك الرفاق وبدا لهم أن هذه الفكرة مستحيلة؛ لأنها تخالف اللياقة، فضلا عن خرقها للأعراف السياسية. المسألة أن هذه الزيارة جاءت بالمناسبة عشية زيارة ليونيد بريجينيف إلى واشنطن، وهو أمر من شأنه أن يدعم بقوة موقف مصر والاتحاد السوفييتي في النضال الذي يخوضانه من أجل تسوية الوضع في الشرق الأوسط، كما أن هذه الزيارة كان من شأنها أن تعطي مثالا للتقارب في العلاقات بين الاتحاد السوفييتي ومصر، وهو ما كان يمثل ضرورة سواء لنا أو للمصريين قبيل هذه المقابلة. باختصار فقد كانت هذه الزيارة من الناحية الشكلية بدعوة من السادات، وهي من ناحية الجوهر تأتي عشية لقاء القمة السوفييتي الأمريكي الجديد، وهي زيارة تعبر عن الاحترام (زيارة رئيس دولة) مما لا يدع مجالا للشك، أنها تأتي في وقت حاسم تماما، وأنها مبشرة بالنجاح. على أنني رحت أفكر طوال الطريق إلى القناطر، والذي يستغرق أربعين دقيقة تقريبا فيما لو أن السادات رفض فجأة إتمام هذه الزيارة. أمر مستحيل، لكنني فكرت فيه، وكان حدسي يدعمني في ذلك.
بعد أن أبلغت السادات بالوصول المرتقب للضيف السوفييتي الكبير، راح السادات يتنفس بصعوبة، وبعد أن عرضت عليه مضمون الرسالة أضفت من عندي قائلا: إن هذه الزيارة، من وجهة نظري، سوف تعد ضربة موفقة لكل من يرغب في المماطلة في الوصول إلى حل لمشكلة الشرق الأوسط ولكل خصوم مصر، وخاصة أنها تأتي عشية لقاء القمة السوفييتي الأمريكي.
راح السادات يعبر عن الألم بكل قسمات وجهه، وفي النهاية راح يثرثر، دون أن يعرب عن امتنانه لهذا الخبر أو أن يشيد بقرار حكومتنا، وإنما قال لي دون مواربة إنه يطلب مني أن أبلغ موسكو بأنه لن يستطيع استقبال الضيف السوفييتي الكبير لأنه مريض، ليس مريضا تماما، وإنما يشعر بوعكة، وإنه منهك، وإنه لا بد أن يكون مستعدا تماما لكي يجري مباحثات مع الضيف السوفييتي. ثم أردف قائلا: انظر إلى حالتي (محاولا أن يتشكى، وقد رسم على شفتيه ابتسامة متكلفة).
كنت غير مستعد لهذا الانقلاب؛ فقد كان مفاجأة لي على أية حال، ولكنها مفاجأة ليست من العيار الثقيل.
أعربت عن تعاطفي مع السادات، وقلت له إن عليه أن يعتني بصحته وأن يخضع للعلاج، والراحة وإنه بالنسبة لهذه الحالة من الإجهاد يكون لقاء أصدقاء طيبين أمرا مفيدا للغاية أحيانا؛ فهم يزيحون الهم عن صدره عند تبادل الحديث معهم، أما حل القضايا المعقدة فيمكن الإعداد له تدريجيا مقدما، إذا لزم الأمر بالطبع؛ إذ يمكن عقد اللقاء حتى دون الوصول إلى قرارات جبارة. مرة أخرى أعود إلى أفكاري لأتخيل على أي نحو سوف يكون رد فعل موسكو على رسالتي التي سأخبرهم فيها بأن السادات قد رفض الزيارة! وهل فكر السادات نفسه في هذا الرد مسبقا، أم تراه اتخذه في هذه اللحظة عفو الخاطر؟
مرة أخرى يلتقط السادات أنفاسه في أسى ويقول لي إنه يحس بالضعف إلى حد أنه لن يكون باستطاعته استقبال الضيف الرفيع المقام .
عندئذ خطرت برأسي فكرة أخرى؛ قلت للسادات إن كان من الضروري أن يأتي البروفيسور تشازوف إلى مصر، وهو الطبيب الخبير بحالة الرئيس الصحية، وقد يكون بإمكانه تقديم المساعدة له.
هنا أحس السادات أنه من غير اللائق أن يرفض هذه المرة وخاصة أن الأمر يتعلق بصحته على أية حال. تمتم السادات قائلا: حسنا، سوف أكون ممتنا إذا ما سمحت الحكومة السوفييتية بإرسال البروفيسور تشازوف إلي. وأضاف: إنني مهتم بالأمر وسوف أكون مستعدا للقائه في أي وقت مناسب.
هذا مثال آخر على علاقة السادات بالاتحاد السوفييتي. على أي نحو يمكن حساب هذه العلاقة؟ الرجل لم يكن مريضا بالفعل؛ فها هو يذهب في اليوم التالي على لقائنا سابق الذكر إلى الجبهة مباشرة، حيث دخل إلى الخنادق ثم عقد لقاء مع الجنود والضباط. باختصار فقد أظهر من الصحة والعافية ما يحسد عليهما. بالمناسبة، لم يجد البروفيسور تشازوف، الذي وصل إلى القاهرة، أي أعراض تشير إلى تدهور حاد في صحة الرئيس بالطبع. وحتى هذا اللقاء جرى على نحو أشبه ما يكون بمشهد من مشاهد المسرحيات الهزلية.
لقد طلب السادات أن يحضر إليه تشازوف فور وصوله مباشرة قادما من موسكو، ولم تكن الحالة الصحية للرئيس تستدعي أي عجلة، وإنما كان يريد أن ينتهي ببساطة من تبعات قراره الخاطئ باستدعاء الطبيب. عند وصول تشازوف لم يجد بانتظاره أية تحاليل أجريت للرئيس على الرغم من أنه كان من الطبيعي أن يجري الرئيس ولو رسما للقلب أو تحليلات للدم وما إلى ذلك. قدموا لتشازوف رسما للقلب أجري قبل ستة أشهر، وتحليلا للدم أجري قبل ثلاثة أشهر!
عندما قرر السادات البدء في العمليات العسكرية ضد إسرائيل في أكتوبر 1973م، كان يعول، في رأيي، على أن يتصرف الاتحاد السوفييتي على نحو غير الذي اتخذه الاتحاد السوفييتي فعلا. كان يفترض أن الاتحاد السوفييتي على الأرجح سوف يسعى لدعم مصر بطبيعة الحال، ولكنه سيحاول أن يوقف العمليات العسكرية بأسرع ما يمكن بالطبع، وأن يتجه لعقد «صفقة» مع الولايات المتحدة الأمريكية، وعندئذ تكون يداه مطلقتين في التعامل مع الأمريكيين، لكن الأمور سارت على نحو آخر. لقد كان موقف الاتحاد السوفييتي إبان هذه الحرب هو دعم القضية العادلة للعرب. واتضح، وهو ما أدهش السادات نفسه، أن القوات المسلحة المصرية وصلت إلى أعلى مستويات الإعداد بفضل الخبراء والفنيين، أما المفاجأة الكبرى بالطبع فكانت في الكفاءة الرفيعة والقدرة العالية للمعدات العسكرية السوفييتية التي يتسلح بها الجيش المصري.
عندما بدأت العمليات العسكرية، لم يكن بنية السادات على الإطلاق أن يحاول إنهاء الصراع في الشرق الأوسط، أو أن يجبر إسرائيل على الانسحاب من الأراضي العربية المحتلة. كلا، إنما كان هدفه أقل من ذلك بكثير وأكثر محدودية، وقد أخبرني بهذا الهدف بعد يومين اثنين من نشوب الحرب.
كان هدف العمليات العسكرية من الناحية السياسية يتلخص في، «أقولها مجازا»، مجرد «تحريك الوضع» وجذب الانتباه إلى الصراع الذي طال أمده، وإجبار العالم على أن يتذكر الوضع المستعصي على التسوية في الشرق الأوسط ودفع القوتين العظميين، أولا وقبل كل شيء، إلى التأثير في الأحداث. كانت هذه الخطوة تستهدف أساسا جذب الولايات المتحدة الأمريكية إلى استخدام نفوذها.
كل الدلائل كانت تشير إلى أن السادات لم يكن ليتوقع هذا القدر من النجاح الذي أحرزته قواته في العمليات، والتي استطاعت بسرعة وبأقل الخسائر عبور قناة السويس، ثم لتتوقف دون أن تعرف ما الذي عليها أن تفعله بعد ذلك. وهكذا لم تواصل هذه القوات هجومها على الرغم من أنه لم يكن أمامها، لفترة من الزمن، عدو بالمعنى الحقيقي. كان الأمر يتلخص في أن السادات، كما شرح لي بنفسه، لم تكن لديه النية في استعادة الأراضي المحتلة؛ فالهدف من الناحية العسكرية كان ينحصر في مجرد إنزال ما يمكن إنزاله من خسائر مادية وبشرية بإسرائيل، والتلويح بما تملكه القوات المسلحة المصرية من قدرة اليوم، ومن ثم، إلى ما تستطيع فعله في المستقبل.
أما الهدف من الناحية الإقليمية، إذا جاز القول، فكان الاستيلاء على ممرات سيناء (متلا والجدي)، وهو ما لم يتحقق، فضلا عن أن المصريين في الأيام الأخيرة من العمليات العسكرية سمحوا بحدوث ثغرة نفذت منها القوات الإسرائيلية إلى الضفة الغربية للقناة، وأصبح النصر الذي حققه المصريون معلقا بشعرة. ومثلما أسهمت مساعدات الاتحاد السوفييتي في نجاح القوات المصرية في الأيام الأولى للحرب، أنقذت الخطوات الحاسمة التي اتخذها السوفييت تحديدا مصر من هزيمة وخيمة في تلك الأيام العصيبة التي مرت بها.
لقد تسنى لي أن ألتقي بالسادات إبان الحرب بصفة يومية، بل وكثيرا ما كنت ألتقيه عدة مرات في اليوم الواحد وفي أوقات مختلفة نهارا أو ليلا، فجرا أو في ساعة متأخرة من الليل.
لقد بدأ السادات الحرب، وعلى عكس وعوده المتكررة، دون مشاورة مع الاتحاد السوفييتي، بل وحتى دون إنذار حقيقي، وإنما أخبرني بالأمر في صباح السادس من أكتوبر فقط، عندما أبلغني بأنه يود بشدة أن نلتقي خلال الساعات القليلة المقبلة؛ إذ «ربما تقع أحداث عظام». ولكنه استدرك قائلا: ولكنك للأسف، قد تكون في السفارة على ما يبدو لكي تكون على اتصال بموسكو. بالمناسبة، كان السادات يتحدث معي قبل أيام قليلة عن قيام إسرائيل بعمليات استفزازية، وأنه من المحتمل وقوع أحداث ضخمة. عندئذ سألته إن كان يود أن يبلغ الزعماء السوفييت عن التطورات المتوقعة للأوضاع، وعن تلك الأحداث التي قد تقع. هنا أجابني السادات بقوله: سوف أخبرك بذلك «في حينه». ولكنه، كما رأينا، لم يخبرني بشيء.
في الثالثة من ظهر السادس من أكتوبر اتصل بي السادات على الهاتف العادي المباشر في مقر السفارة. كان أمرا غير معتاد. لم يتصل بي السادات مطلقا من قبل هاتفيا، ناهيك عن أن يتصل على الهاتف العادي، حتى إنني ظننت في البداية أن في الأمر لغزا ما. ولكن الأمر كان صحيحا. كان الصوت الذي أسمعه عبر الهاتف صوتا مألوفا ولكنه كان صوتا مفعما بالفرح والانتصار: «سفير (قالها بالعربية)، قواتنا الآن على الضفة الشرقية للقناة! ورايتنا الآن منصوبة على الضفة الأخرى!» هكذا بدأت الحرب.
كان السادات قد أوصى بوضع هاتف خاص بي في السفارة للاتصال الحكومي من طراز ذي أرقام محدودة خاصة بالمقربين. ولم يكن لدي وزير الخارجية نفسه مثل هذا الهاتف. كان كثيرا ما يتصل بي للتحدث في شئون العمل دون مراعاة للوقت، وأحيانا ما كان يتحدث في الثالثة بعد منتصف الليل. وكنت أبلغه بالأمور العاجلة والطارئة عبر هذا الهاتف. لكن معظم لقاءاتنا كانت ذات طابع شخصي بطبيعة الحال، وخاصة في تلك الأيام التي كانت تتاح له الفرصة أن يلتقيني فيها وجها لوجه دون حاجة للانتظار.
ما إن بدأت العمليات العسكرية حتى انتقل السادات للإقامة في قصر الطاهرة بمنطقة هليوبوليس. وكنت أقطع إليه المسافة بالسيارة في حوالي 25 دقيقة. كان السادات يرتدي آنذاك الزي العسكري، وكان يحاول أن يتحدث بشكل واضح وباقتضاب. عموما كان السادات يتميز بقدرته على صياغة أفكاره على نحو واضح ومعبر، وكثيرا ما كان ينتقل للحديث بالإنجليزية عندما يكون نافد الصبر، على الرغم من أنه كان عادة ما يفضل الحديث معي باللغة العربية من خلال مترجم. وقد كان المترجمون دائما من السوفييت؛ إذ لم يكن من بين المصريين مترجمون ثقات يجيدون اللغة الروسية. لم نكن بحاجة بطبيعة الحال إلى مترجمين عندما كنا نتبادل الحديث بالإنجليزية. كان السادات ينطقها بشكل جيد لا بأس به، وعلى الرغم من أن مخزون الكلمات لديه كان محدودا، إلا أنه كان يوظفه بشكل سليم. كان الحديث بالإنجليزية لمدة نصف ساعة تقريبا كافيا جدا بالنسبة له وإلا يتسلل إليه الملل بسرعة.
في لقاءاتنا الأولى كان لدى السادات قدر كبير من التحفظ تجاهي. وعندما اقتنع بالدعم المخلص النزيه والملموس من جانب الاتحاد السوفييتي، أصبحت علاقته بي جيدة للغاية، وأحيانا ما كانت الأمور تبدو في الواقع وكان عصرا جديدا من العلاقات بين البلدين قد تم تدشينه، وأن الرئيس كما لو كان قد تغير تماما. وقد أخبرني عدة مرات بنفسه أن صفحة جديدة رائعة قد بدأت في العلاقات بين بلدينا، وأن مصر مدينة لأبعد الحدود للاتحاد السوفييتي، وأنه «سيأتي اليوم» الذي سيحكي فيه عن هذه المواقف الشجاعة للاتحاد السوفييتي بملء فيه. الحقيقة أنني لم أتماسك عندئذ وسألته ولماذا لا يحكي الآن للجميع عن هذه المواقف التي اتخذها الاتحاد السوفييتي. لم يجب السادات وإنما نوه قائلا: «لا يزال الوقت مبكرا، ولكنه سيأتي.» من الواضح أن تصرفي كان غير متوقع بدرجة ما، حتى إنني أحسست أنه شوش على أفكاره بشكل أو بآخر، وإن كنت قد رأيت أن تصرفي قد حظي بإعجابه.
إبان العمليات العسكرية أحاطني السادات علما بالاتصالات التي قامت على الفور بينه وبين الأمريكيين. الحقيقة أن ما أمدني به من معلومات لم يكن موثقا، وإنما كان يقدم إلي من وجهة نظره فقط، أو بناء على عرض مساعديه لفحوى هذه الاتصالات، وعلى أي حال فقد كانت هذه المعلومات على قدر كبير من الأهمية. لم يكن السادات يتحدث إلي قبل ذلك بمثل هذه الصراحة، ومن بين المعلومات التي ذكرها أن الأمريكيين تقدموا إليه باقتراح أن يقوموا بخدمات الوساطة، على الرغم من أن الولايات المتحدة الأمريكية، في واقع الأمر، كانت تحارب مصر!
وقد لفت انتباه السادات إلى ذلك ونصحته بأن يقدم للأمريكيين اقتراحا بالتشاور مع الاتحاد السوفييتي، حيث بات واضحا في هذه الفترة إمكانية العمل السوفييتي الأمريكي المشترك فيما يتعلق بالصراع العسكري. لكن السادات لم يجب بشيء.
أصبحت العلاقات مع السادات جيدة إلى حد النجاح في الحصول على بعض المكاسب. بل إن السادات كان يطلب رأيي أحيانا في هذه أو تلك من الخطوات السياسية. وكان عدد من المقربين منه ينقلون إلي أن الرئيس «راض» للغاية عن السفير السوفييتي، وهو ما كان ينقله إلي أيضا بعض الذين كانوا يترددون عليه. كان ذلك في الواقع زمنا طيبا، على الرغم من أنني كنت أحصل على ساعات قليلة من النوم لا تتجاوز ثلاث أو أربع ساعات في اليوم، أما باقي اليوم فكان مليئا بالتوتر الشديد.
واستنادا إلى آراء الجميع، كان السادات يعلم على أية حال القليل عما كان يحدث في الواقع على الجبهة. وكثيرا ما كان يجيبني، عندما كنت أسأله عن آخر المعلومات، بقوله إنه لا يعرف شيئا حتى الآن، حيث إنه لم يتلق مؤخرا معلومات من مركز القيادة. في الواقع إنني كنت أخبره في بعض الأحيان بوقوع بعض الأحداث على الجبهة كان رفاقنا يحصلون عليها من الأركان العامة للجيش قبل أن تصل إلى السادات. لم يكن السادات يهتم أحيانا بأن يكون على علم بكل التفاصيل. كان الاتجاه العام لديه أن الحرب ليست شأنا عاما، وإنما هي، إذا جاز القول، مسألة احترافية، «عمل» يختص به العسكريون، وهؤلاء يعرفون ما يعملون وما الذي ينبغي عليهم عمله. وكثيرا ما كان يرد على أسئلتي بشان تصوراته عن سير الأمور بأن هذا من عمل العسكريين، وأنهم هم الذين يضعون الخطط والذين يعرفون كيف ينبغي عليهم تنفيذها.
وهذا ما حدث تماما عندما أحدث الإسرائيليون الثغرة في نهاية أكتوبر. لفت انتباه الرئيس إلى الثغرة وطلبت منه حرفيا سرعة تدخل قوات كبيرة للقضاء على هذا الوضع الخطير حتى لا يتحول إلى تهديد كبير، واستندت في ذلك إلى رأي الأصدقاء في موسكو. لكن جهودي راحت هباء. راح السادات يهدئ من روعي متحدثا بتلك النبرة الواثقة قائلا: «لا تقلق، قل لهم في موسكو أن يناموا في هدوء، إن عسكريينا يعلمون ما الذي ينبغي عليهم عمله.»
ما زلت أذكر جيدا كيف استدعاني السادات ليلة الحادي والعشرين من أكتوبر وتحدث إلي بالإنجليزية ليطلب مني أن أبلغ ليونيد بريجينيف على الفور ضرورة العمل على وقف إطلاق النار وقال لي: «إنني أستطيع أن أحارب إسرائيل، ولكنني لا أستطيع أن أحارب الولايات المتحدة الأمريكية.» كانت هيئته مثيرة للأسى، وكان زيه العسكري مكرمشا. أين ذهب مظهره الواثق وأقواله الحصيفة ونبرته السلطوية؟ لقد حدث بداخله على الأرجح شيء لا يمكن تصديقه؛ فهو الآن يطلب!
لقد حاولت، بطبيعة الحال، أن أكون شديد الاهتمام، عطوفا ولطيفا تجاه السادات. أسرعت إلى السفارة حتى أستطيع أن أبلغ موسكو على وجه السرعة بهذا الطلب. ومرة أخرى كان علي أن أعود سريعا لمقابلة الرئيس لأشرح له عددا من التفاصيل المهمة. عندما هاتفت الرئيس أجابوني بأنه نائم! كنت متوترا بشدة؛ إنهم مستيقظون الآن في موسكو والرئيس هنا ينام في هدوء! رفض الياور أن يوقظ الرئيس، لكنني كنت مصرا وأخبرتهم أن الأمر عاجل للغاية.
وصلت إليه مع خيوط الشمس الأولى. خرج إلي من غرفة نومه في روب وردي اللون. كان قد أخذ قسطا وفيرا من الراحة. بدا منتعشا لا يبدو على وجهه أي أثر يشي بالكارثة التي تكبدها بالفعل. بل إنه كان مرحا يفيض بحيوية. وافق على كل ما اقترحته عليه وما طلبته منه. كان من الواضح أن الحرب قد انتهت بالنسبة له، وأن على الآخرين أن يصلحوا ما أفسده هو.
والآن، أعود بذاكرتي أيضا إلى العناد الذي أبداه السادات عند لقائه بألكسي كوسيجين عندما حضر إلى القاهرة في السابع عشر من أكتوبر إبان العمليات العسكرية؛ لكي يقنع الرئيس بضرورة العمل على وقف إطلاق النار واستغلال الوضع العسكري والسياسي الجيد الذي تحقق بعد الأيام الأولى من الحرب. لكن السادات بحكم شخصيته، وربما، بناء على حساباته، عارض هذا الاقتراح، بل وقال بلهجة أكثر ثقة إننا نريد أن نحرمه من النصر. باختصار، كان يتصرف كأن الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون غير موجودة، وكأن القوات المصرية تقف عند حوائط القدس! لا شك أن السادات لا يتذكر الآن هذا الحديث الذي ظل خلاله متشبثا بطلب «ضمانات» سوفييتية أمريكية لانسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي المحتلة كافة.
لم ألتق بالسادات بعد ذلك. كانت المرة الأخيرة التي تقابلنا فيها في الحادي عشر من نوفمبر 1973م، عندما راح يحاول أن يستكمل ما بدأه في علاقاته بالأمريكيين وانعطافه الحاد في اتجاه الولايات المتحدة الأمريكية. كان واضحا أنه قد أدرك أنه لن يجد لحظة أكثر مؤاتاة من هذه اللحظة، بعد أن بلغت هيبة الاتحاد السوفييتي في مصر وفي البلاد العربية الأخرى ذروتها، في تلك الظروف التي لم يعلن فيها بعد عن الدور النبيل الذي قام به الاتحاد السوفييتي في الحرب التي خاضتها مصر في أكتوبر! ما الذي كان ينبغي أن يحدث بعد ذلك؟ كان عليه أن يذكر الحقيقة. لكن السادات قرر عمدا أن يهيل التراب على هذه العلاقة. ودون أن يحيط الاتحاد السوفييتي علما، حول دفته باتجاه الولايات المتحدة. أرسل إسماعيل فهمي إلى واشنطن، ثم استقبل كيسينجر بكل حفاوة. وافق على الوساطة الأمريكية وأعاد العلاقات الدبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية. امتنع عن إبلاغنا بالمعلومات الخاصة باتصالاته بالولايات المتحدة ... وفي نفس الوقت راح يغرقنا بطلباته حول سرعة إرسال صفقة ضخمة من الطائرات، بل إنه توجه بهذا الطلب تحديدا بعد أن وضعت الحرب أوزارها. ظل يهاتفني يوميا، دون حاجة ماسة لذلك؛ ليكرر على مسامعي النغمة القديمة أن الاتحاد السوفييتي قد غير سياسته نحو مصر، وهلم جرا. وعندما سألته عن السبب الذي يجعلنا نغير سياستنا وقد تفاقمت علاقتنا بالولايات المتحدة الأمريكية إلى حد أنها أعلنت حالة التأهب القصوى في جميع قواعدها في الخارج، لم يستطع السادات أن يرد. ببساطة، لم ينبس ببنت شفة.
جاءت بعد ذلك مرحلة التعاون بين السادات والولايات المتحدة الأمريكية. مرحلة التعاون العلني دون تحفظ أمام أعين الجميع، لتبدأ منذ هذه اللحظة الرحلات المكوكية لكيسينجر إلى القاهرة، ثم لتتلوها زيارة نيكسون. لم يكن الأمر ليمر بطبيعة الحال دون التشهير بالاتحاد السوفييتي، ودون سيل من الأكاذيب وأنصاف الحقائق اعتمادا على أننا لم نكن لنخوض على الملأ في جدال مع رئيس مصر بشأن هذه القضايا. وفي هذا السياق، جاءت الافتراءات مباشرة في حق السفير الروسي، الذي زعموا أنه كان ينقل للرئيس معلومات مغلوطة حول الوضع في سوريا، وطلبات الرئيس السوري للقيادة السوفييتية. كان السادات يوجه كل هذه الاتهامات معولا على أن الجماهير العريضة لن تخمن أن أي سفير يقدم للرئيس المعلومات بناء على تفويض من حكومته، وأنه لا يمكنه أبدا اختراع المعلومات. وقد وصل الأمر بعد ذلك إلى حد أن السادات أعلن صراحة أن على مصر أن تعتمد على الولايات المتحدة لتسوية الصراع في الشرق الأوسط. وقد أخبرني دبلوماسيون يعملون في القاهرة أن الرئيس قرر «أن يضع البيض كله في سلة واحدة»، وأنه بات يتصرف مثل مقامر متهور، وهو في كل ذلك لا يمتلك أي قدر من اللياقة.
على مدى وجودي في القاهرة لمدة أربعة أعوام، بوصفي سفيرا، صادفت، بطبيعة الحال، مواقف شديدة الحرج. لقد تسنى لي أن أرى الرئيس تارة سعيدا وتارة حزينا، تارة صادقا وتارة يقول بهتانا واضحا. رأيته منضبطا، كما رأيته ثملا. رأيته في أحوال شتي، وكنت شاهد عيان على كل المباحثات التي أجراها مع الزعماء السوفييت، شهدت سياسته في تقريب الناس منه، ثم التنكيل بهم بعد ذلك. كان السادات يعرف أن سفارتنا على علم تام بالوضع في البلاد، وأنها على الأرجح تبلغ موسكو بذلك. كان السادات يرى كفاءة السفارة في التعامل مع مختلف القضايا، السياسية والاقتصادية والعسكرية أيضا بدرجة لا تقل عن غيرها من القضايا. وانطلاقا من ذلك كان من الصعب عليه أن يكذب علي أو على الزعماء السوفييت. ولذلك، وبسبب شخصيته، لم تكن سفارتنا تعجبه.
لم تكن علاقته الشخصية بي سيئة، وما يكتبه الصحفيون الأمريكيون في هذا الصدد عني هو محض افتراء من وحي خيالهم، وباستثناء هذا الحديث، الذي دار بيننا عندما أبلغني بلهجة مهينة عن قراره بطرد العسكريين السوفييت من مصر، واضطررت آنذاك أن أرد على نحو حازم، وإن ظللت محتفظا بقدر كبير من التماسك وضبط النفس. كانت كل أحاديثي معه ودية، وإن لم يكن السادات، على الأرجح، سعيدا بهذه الأحاديث؛ فالسادات لم يكن بإمكانه أن يبلغني بأية أكاذيب عن العلاقات السوفييتية المصرية أو عن أية قضايا أخرى. كان يشعر بذلك غريزيا. أزعم، باختصار، أنني كنت أعرف السادات على نحو جيد. بل أقول على نحو غير مسموح به بالنسبة لسفير. ولو كان الرئيس شخصا آخر مختلفا من ناحية التعليم والثقافة، وربما من ناحية الشخصية، لكان من الممكن أن يكون هذا التوصيف من جانب السفير السوفييتي، على العكس من ذلك، مناسبا، ولكن ليس بالنسبة للسادات.
لم يكن السادات يجب التعامل مع السوفييت. ولم أنجح مطلقا، على سبيل المثال، أن أقنعه أن يستقبل ولو لمرة واحدة كبير المستشارين العسكريين السوفييت ليقدم له تقريره. بينما كان ناصر يستقبل العسكريين السوفييت كثيرا، وكان يقدر عن حق قيمة المعلومات التي يقدمونها بصورة ودية مستقلة عن الوضع داخل القوات المسلحة. لم يدل السادات مرة واحدة بحديث للصحفيين السوفييت، مع أنه كان يستقبل برضا تام الصحفيين والمراسلين الغربيين وخاصة الأمريكيين.
سوف أتعرض فيما يلي بالحديث قليلا عن الصفات الشخصية للرئيس. يتضح من محاولاتنا السابقة لرسم صورة السادات الرئيسية إلى أي حد من الصعوبة يمكن التعامل مع زعيم من هذا الطراز. كان السادات يتعامل مع الأمور بسطحية شديدة عندما يتحدث عن مصالح الشعب، بينما يتغاضى عن الحديث عن أعداء الشعب العمال الممثلين في البرجوازية المصرية. وكان يحاول أن يجمع بين أمرين متناقضين في آن واحد، وهو تصرف غير مأمون العواقب؛ ولذلك كان يسعى لتحقيق أمانه الشخصي قدر استطاعته.
4
إن الصفات الشخصية لأي رجل دولة لها دور كبير، بطبيعة الحال، في تحديد أفعاله وتصرفاته. وهي تضفي عليه ظلالا خاصة ينبغي وضعها أيضا في الاعتبار. وحتى في وجود ديمقراطية برجوازية على نحو أو آخر، حيث نجد ما يشبه اتخاذ القرارات على نحو جماعي، وبهذه الصفات الشخصية لرجل الدولة يكون لها دور كبير عند اتخاذ هذه القرارات، حتى في وجود رجال دولة آخرين يفترض أنهم يشاركون في تحمل جزء من مسئولية اتخاذ هذه القرارات بصورة ما.
وفي دولة ذات مكانة كبيرة مثل مصر الحديثة، يمتلك الرئيس في الواقع سلطات لا حدود لها، وهي سلطات لا يشاركه فيها عمليا أحد. فإذا سارت الأمور على نحو حسن تظهر هنا «حكمة» الرئيس المسئول عن القرارات التي اتخذها، أما إذا كان الخطأ فادحا فسيتم العثور على شخص ما آخر تلقى على كاهله المسئولية. ومن ثم فإن الصفات الشخصية للرئيس المصري في دولة لم تتحول بعد إلى حتى ما يشبه الديمقراطية، يكون لها دور مبالغ فيه، سواء تشاور مع أحد ما أم لم يتشاور، فإذا لم يجد مناصا من التشاور فإنه يختار بنفسه من يتشاور معه.
لا توجد بالطبع رقابة على تصرفات الرئيس سواء من البرلمان أو من الاتحاد الاشتراكي العربي. يكفي أن نتذكر في هذا السياق كيف تعامل السادات مع الناصريين الذين أرادوا تقديم النصح له والتأثير عليه. ووفقا للقواعد المعمول بها في مصر، فإن توجيه النقد لتصرفات الرئيس يعد خيانة للدولة. ذات مرة، عندما أثارت التصرفات القمعية للرئيس تجاه الشباب اضطرابات كبيرة في البلاد، ألقى السادات خطابا تحدث فيه عن وجود .. ديمقراطية في البلاد. وقال، وقد ارتسمت على وجهه مظاهر الجدية دليلا على صواب فكرته، إن التفكير في أي شيء أمر مسموح به في البلاد. وأضاف الرئيس أن أي عمل ينبغي أن يكون مؤيدا للرئيس، أما ما يجري التفكير فيه فينبغي أن يظل في رأس كل من لا يتفق مع السلطة! هذه هي الديمقراطية على الطريقة الساداتية.
لقد تحدثنا آنفا عن العقيدة السياسية عند السادات، وهي الشيء الرئيسي الذي يحكم تصرفاته ومنهجه.
والآن نتحدث عن بعض السمات الشخصية المهمة للرئيس بوصفه رجل دولة.
لقد ترسخ لدي اقتناع عميق أن السادات قد تأثر بشدة من جراء تلك العلاقة التي عايشها مع «رفاقه» الآخرين أعضاء مجلس الثورة، إذا جاز التعبير. ومن المعروف أن معظم هؤلاء الرفاق كانوا يتعاملون معه دائما بشيء من التجاهل والسخرية، ربما في سياق علاقة الصداقة. لكن كثيرا من الناس في مصر أخبروني أن السادات قد عانى بشدة بسبب هذه المعاملة تحديدا. ومن الواضح أن هذا الأمر انعكس في هذه الرغبة النفسية لدى السادات أن يصبح دائما «أعلى من محدثه»، ما دام وضعه الحالي يسمح له بذلك.
لقد تولد لديه بسبب ذلك شعور هائل بالارتياب وعدم الثقة إلى حد الوسواس، حتى إنه يغضب بسرعة وعلى نحو عاصف عندما لا يدرك، على سبيل المثال، المغزى من وراء نكتة من النكت. عموما لم يكن السادات من الذين يحبون النكات أو يحكون الملح والنوادر. أنا نفسي، على سبيل المثال، لم أسمع منه مرة واحدة حكاية مضحكة أو مقارنة ساخرة. ببساطة لم يحك نكتة أمامي، كما أن ذلك لم يحدث أثناء لقاءاته بالزعماء السوفييت. عمليا لم يكن بمقدور السادات أن يضحك، وإنما كان يفتح فمه ويرفع صوته قائلا: «ها، ها، ها!» وعندما يبتسم فإنه يحرك فمه مبتسما ويهز شاربه، أما عيناه فلا تجد فيهما أثرا للضحك أو الابتسام.
من هنا سعى السادات بكل طريقة لتجنب تلك المواقف التي قد يستشعر فيها أنه «ليس على القمة»، إذا جاز القول. وهنا تحديدا ما يفسر خوفه من الأحاديث الصريحة مع الزعماء السوفييت، وخاصة إذا كان هناك نفر آخرون يحضرون اللقاء. كان يتحفظ بشدة، بحيث يدرك المرء على الفور دون إرادة منه أحاسيسه، أحاسيس رجل في مرمى النيران. ولهذا كان السادات يفضل أن يتحدث مع الآخرين في الأمور المهمة على انفراد دون شهود لا حاجة له بهم.
في أحاديثي معه، والتي كان يرتبها لي بالطبع على نحو مختلف عن الأحاديث التي كانت تدور مع الزعماء السوفييت، كنت بالنسبة له مجرد سفير لا أكثر، شخص أقل رتبة. كان الرئيس يحب أن يطرح فكرته من أعلى. أن يفرض رأيه قسرا، وليس عن طريق الإقناع.
ولم يكن الرئيس يميل، على سبيل المثال، أن تساق إليه حجة مضادة، وقد لا تتعارض هذه الحجة كثيرا مع حججه هو نفسه، وإنما تكون قد جاءت في سياق المناقشة على سبيل توضيح فكرته ذاتها على نحو أفضل. لم يكن يرغب إطلاقا في الجدل ولو لتوضيح جوهر الأمر، ناهيك عن الاختلاف؛ ولهذا كان عنيدا.
كان ناصر أيضا لا يحب أن يعارضه أحد، لكنه كان يسمح بالجدل على نحو ودي. في مارس من عام 1970م كلفت بالذهاب لمقابلة ناصر في مهمة شديدة الحساسية؛ أن أحاول إقناعه بوقف إطلاق النار، الذي كان دائرا بعنف من جانب المصريين في الفترة التي عرفت آنذاك ب «حرب الاستنزاف». لم يتكبد الإسرائيليون في الواقع أية خسائر من جراء هذا الإسراف الهائل في قصف القنابل من جانب المصريين، في الوقت الذي كانوا يتعرضون فيه هم أنفسهم لضربات شديدة من الطيران الإسرائيلي في العمق، حيث كان المصريون قد بدءوا لتوهم بفضل الدعم السوفييتي في حمايته. وحتى يستمر العمل في بناء هذه المواقع الدفاعية، وكذلك لصالح الجيش المصري نفسه، كان من الأنسب وقف هذا القصف غير الرشيد. لكن أحدا لم يكن بإمكانه أن يبلغ ناصرا بذلك. كذلك كانت لدي قضية أخرى معقدة للغاية تلخصت في محاولة إقناع ناصر بالموافقة على عدد من الصياغات الخاصة بالشروط النهائية لإحلال السلام عند التوصل إلى تسوية شاملة لمشكلة الشرق الأوسط، التي كنا نتفاوض آنذاك بشأنها مع الأمريكيين، وهي صياغات كان من الصعوبة بمكان أن يقبلها ناصر. لم يكن من السهل على أندريه جروميكو أن يقول لي وهو يوصيني قبل السفر، إنني إذا أنجزت مهمتي ولو بنسبة 10٪ فإن ذلك يعد إنجازا طيبا.
ولقد أنجزت المهمة على نحو تام. وافق ناصر على وقف إطلاق النار، فضلا عن موافقته على الصياغات الخاصة بإحلال السلام عند تحقيق المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية؛ أي بشرط انسحاب القوات الإسرائيلية، بطبيعة الحال، بصفة نهائية خلال مدة زمنية قصيرة نسبيا. وقد تضمنت صياغة الاتفاق النهائي للسلام عدم السماح بقيام مصر بأية عمليات عدوانية ضد إسرائيل في حالة التسوية النهائية مع التزام إسرائيل، بالطبع بنفس الشروط بالنسبة لمصر، وهلم جرا. كانت مباحثاتي مع ناصر على قدر كبير من الأهمية والصعوبة، لكنني لست بصدد الحديث عن هذا الأمر الآن.
إبان محادثاتي مع ناصر اضطررت للدخول معه في جدال. لا أعرف إن كان هو الذي استفزني إلى ذلك أو أنه كان يسعى لعرض أفكاره الحقيقية. ظل يطور فكرته بشأن أن الصراع في الشرق الأوسط ليس صراعا بين العرب وإسرائيل، وإنما هو في واقع الأمر صراع بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، وكأن الصراع العربي الإسرائيلي ما هو إلا نتاج لهذا الصراع الأساسي.
بطبيعة الحال فإن قبول هذه الفكرة كان سينتهي بنا إلى استنتاجات خاطئة، ليس فقط على المستوى النظري، وإنما بشكل مضاعف من الناحية العملية. قلت لناصر إنني لا أتفق معه على هذا الرأي. نظر إلي ناصر بدهشة وقال: «كيف إذن؟!» واقترح علي أن أواصل التعبير عن فكرتي. أنصت باهتمام إلى حججي، وحاول أن يطرح بدوره بعض التصورات الإضافية، ولكنه في نهاية الأمر وافق على أن الصراع العربي الإسرائيلي إنما يعكس الصراع بين التحرر الوطني والقوى الاستعمارية والاحتلال، وأن الاتحاد السوفييتي لا يستطيع إلا أن يقف في هذا الصراع إلى جانب قوي التحرر الوطني، بينما تقف الولايات المتحدة إلى جانب القوى الرجعية؛ إسرائيل.
أذكر أنني عارضت ناصرا ذات مرة في موضوع آخر يتعلق بقيمة «حرب الاستنزاف» التي كانت تشنها مصر آنذاك. وعلى الرغم من أن مثل هذه الموضوعات كانت تجد معارضة جذرية من جانبه، فإنه لم يكن ليرفض الدخول في جدل بشأنها، جدل ودي مع شخصية متواضعة
1
مثلي. فيما بعد أخبرني بعض المقربين من ناصر أنه كان راضيا لكون الحديث بيننا اتخذ طابع الجدل. كان ناصر شخصيا لا يحب، بالطبع، أن يعارضه أحد، وإنما يعضده؛ فالمعارضة كانت تثير استياءه.
كثيرا ما أتذكر وأنا أتعامل مع السادات، كيف كان ناصر ذا طابع مختلف تماما.
هل يمكن اعتبار السادات رجلا صريحا؟ أظن أنه لم يكن كذلك. كان السادات يصوغ موقفه، أو مطالبه، أو آراءه بحيث تبدو صحيحة، ولكي تصبح مقبولة؛ ولهذا كان يولي اهتماما كبيرا لصياغتها لكي تترك الانطباع المطلوب. كان باستطاعته أن يقول بطريقة مميزة: «والآن سأقول لكم ما لا تعرفونه.» وعلى الرغم أن ما سيقوله يمكن أن يكون معلومات سرية، فإنها تكون في الأغلب من النوع الذي يمكن معرفته بسهولة. وفي غالب هذه الحالات كنت على علم بهذه المعلومات، ولكنني لم أكن لأفصح بطبيعة الحال عن ذلك.
ومن الأمور التي كانت تلفت انتباهي أيضا بشدة، أن السادات كان يقيس تصرفاته أحيانا بتصرفات «شخصيات فذة»، من بينها، من وجهة نظر السادات، ستالين وتشرشل. لا أعرف كيف كان يتصور تشرشل، لكن معرفته بستالين كانت مغلوطة ومحدودة. وكثيرا ما كان يقول لي إن ستالين فعل كذا في الموقف الفلاني، ولم يفعل كذا في موقف آخر. كان معجبا بموقف ستالين إبان معركة موسكو. وفي الوقت نفسه وفي اليوم التالي لاعتقاله الناصريين في مايو 1971م كان شاحبا، مضطربا بشكل كبير وهو يقص علي حكاية قالها لي من قبل، لكنه راح لسبب ما يؤكدها لي مرة أخرى محاولا إثبات صحة ما قام به تجاه الناصريين، وهي أن ستالين أعدم، من أجل «القضية»، نصف أعضاء اللجنة المركزية رميا بالرصاص. كنت مضطرا أحيانا لمقاطعة الرئيس وأن أطلب منه، بأسلوب لائق بالطبع، ألا يردد ما سمعه في مكان ما من شخص ما.
ذات مرة أخبرني هيكل على نحو عابر أن محاكاة السادات لستالين ترجع إلى حب السادات لمشاهدة الأفلام السينمائية في منزله ليلا، وأن أكثر ما يثير إعجابه هو أفلام رعاة البقر الأمريكية وقصص الحب الميلودرامية. كان هيكل يقص علي ذلك إبان العمليات العسكرية في أكتوبر متسائلا في دهشة عن السبب الذي يدعو السادات أن يهدر وقته وصحته على مشاهدة الأفلام ليلا ، في الوقت الذي يحتاج فيه إلى جهد وتركيز عظيمين، وخاصة أن الوضع على الجبهة قد بات أكثر تعقيدا. صاح هيكل قائلا: «الإسرائيليون يتسللون هناك، وهو يشاهد السينما! أين يحدث ذلك؟»
في الواقع، فإن كل مقار الرئاسة، على كثرتها، كانت مجهزة بمعدات العرض السينمائي، فإذا ما توقف في أحد المقار التي نادرا ما يزورها، فمن الضروري أن يحضروا له جهاز عرض نقال. وقد رأيت ذلك، على سبيل المثال، عندما استقبلني السادات ذات مرة، لسبب لا أذكره، في استراحة حلوان.
أثناء حواره يحاول السادات التأثير في محدثه، مستعرضا مشاعره، وهو محدث لبق، يصوغ أفكاره بشكل واضح ودقيق، ولكنه قادر في الوقت نفسه أن يقنع من أمامه بشكل مباشر أنه تعرض للإساءة، مثله مثل طفل، وأن الذي أساء إليه يستحق العقاب الفوري.
في شهر أكتوبر وأثناء العمليات العسكرية تلقيت تكليفا بالقيام بدور ما يشبه بالون الاختبار بأن أبلغ السادات وعلى نحو عابر تماما أنني قبيل قدومي مباشرة للقائه استطعت على عجل أن أطلع على برقية لم «أستطع» قراءتها كاملة، وهي برقية وصلت إلي من أحد أقسام وزارة الخارجية وتتضمن أخبارا من نيويورك تفيد بأن ممثلين عن مصر اتصلوا بالأمريكيين، وأنهم ألمحوا إلى إمكانية الوصول إلى حل وسط بخصوص وقف إطلاق النار، الذي اقترحه الأمريكيون (من المعروف أن السادات في الأيام الأولى للحرب رفض رفضا قاطعا أية صياغات بخصوص وقف إطلاق النار، مطالبا بالانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية من جميع الأراضي المحتلة باعتباره شرطا أساسيا، وهو مطلب لم يكن واقعيا بالطبع). أدرك السادات أن حديثي لا يخلو من غرض، وأن الأمر يتعلق هنا بعدم الثقة: هل سيدير المصريون المباحثات مع الأمريكيين من وراء ظهورنا؟ لقد فهم السادات على الفور أنه أيا كانت الحقائق (الآن أرى، على سبيل المثال، أن هذه المعلومات لم تكن بعيدة عن الحقيقة)، فإنه يجب عليه أن ينفيها وبصورة قاطعة. كم كان غضبه عندئذ شديدا! لقد احمر وجهه ولوح بيده تجاهي في غضب، كما لو كان يطرد عنه شيطانا. رحت أعتذر بالطبع لكوني ذكرت له عموما مجرد مدخل الخطاب الذي أرسله فضلا عن ذلك شخص «غير ذي صفة». عندئذ صاح السادات: «كلا، كلا! لست مخطئا. لقد تصرفت على النحو الصحيح بأن تحدثت إلي عن كل ذلك، أما هذا الذي أخبرك بذلك فيستحق العقاب. نعم. نعم، أقسي عقاب.» وقد أبلغت موسكو بذلك كله.
كان السادات رجلا غريب الأطوار، رجلا ذا عادات شرقية تماما، إذا جاز التعبير؛ فهو يعبر عن نفوره من ضيفه بالطريقة التي ينظم بها مجلسه في الغرفة التي يستقبله بها. وعندما تكون علاقتنا على ما يرام، كان يستقبلني عادة في مكتبه الرسمي، في غرفة الاستقبال، أو في غرفة مكتبه في منزله. كان يجلس على كرسيه ويدعوني للجلوس إلى الأريكة المجاورة ويتعامل معي بأدب جم.
ذات مرة تسنى لي زيارته في وقت من تلك الأوقات التي كان الرئيس يعبر فيها عن شعوره بالغضب تجاه الاتحاد السوفييتي. اقتادونا إلى قاعة كبيرة صفت فيها آرائك وكراس إلى الحوائط وأمامها وضعت مناضد صغيرة. وفي وسط هذا المكان الرحب وضع كرسي وحيد متوسط الحجم له ظهر مرتفع، وفي جانب آخر وضع كرسيان عاديان. لم يكن هذا التنسيق يلائم قاعة كبيرة ذات سقف مرتفع. قلت لرفيقي: «هل صحيح أنه سيستقبلنا رسميا على هذا النحو؟ وهل ينبغي علينا أن نخضع لذلك؟»
ثم ها هو الرئيس يدخل إلى القاعة. كان يسير وقد حمل ملفا تحت إبطه. خمنت على الفور من ملامح وجهه أنه سوف يجلسنا في هذه الأماكن التي تم إعدادها خصوصا لنا. وهو ما حدث بالفعل. جلس الرئيس على المقعد ذي الظهر المرتفع إلى جانب إحدى الموائد وقد كساه الوقار (أصدر الكرسي صريرا عند جلوسه، كان كرسيا من طراز قديم للغاية، لم أر مثله في القدم)، وعلى الجانب الآخر للكرسي جلسنا أنا ورفيقي. وإذا بمصور يظهر فجأة من حيث لا ندري، الأمر الذي كان ينذر بشيء لا يبعث على الاطمئنان. التقط لنا صورا ظهرت في الصحف في اليوم التالي. تمدد الرئيس في كرسيه مزهوا بنفسه، عصاه إلى جواره وقد وضع ساقا على ساق، وعلى الجانب الآخر جلس السفير ومستشاره على كرسيين وقد انتصب ظهراهما (لم يكن من طريقة أخرى). كان كل شيء يجري على نحو برجوازي مهيب للغاية.
واقعة مثيرة للفضول. جرى اللقاء التالي مع السادات في نفس المكان، ولكن بعد شهر تقريبا، وعلى مدى هذا الشهر كانت المياه قد عادت لمجراها الطبيعي. استقبلنا السادات في نفس القاعة الكبيرة، على أنها هذه المرة كانت مؤثثة تأثيثا غاية في البساطة. اتخذت مقعدي إلى جوار الحائط، لكن الرئيس دعاني للجلوس على الأريكة. اختفى من وسط القاعة ذلك المقعد الوثير واختفت معه الكراسي والمنضدة التي تم إعدادها في المرة السابقة.
كنت قد لاحظت سابقا أن السادات شخص شديد الريبة، مما يجعل بينه وبين الغدر خطوة واحدة. وعلى مدى السنوات الأربع الماضية التي جمعت بيننا تراكمت لدي أمثلة كثيرة. لم يبعد السادات من حياته دولا فقط، بل إنه ألقى في السجون بكل الذين أحاطوه، وخاصة الذين ساعدوه على أن يصبح رئيسا، كما أبعد أيضا الذين شغلوا مناصب كبري من الناصريين. أقصي عزيز صدقي وعبد السلام الزيات ومحمود رياض ومحمد صادق وحافظ إسماعيل ومراد غالب وحتى هيكل وآخرين. وهؤلاء الذين دعموا السادات بإخلاص رئيسا، لم تكن لديهم أية أفكار للحد من سلطته، بل على العكس تماما، جميعهم كانوا يسعون للعمل معه. لكنهم ظلوا على صراحتهم، وكانت لديهم آراؤهم المستقلة، ببساطة كانوا أناسا أذكياء. يمكننا ألا نشك أن الرئيس، عند الضرورة، لم يكن أيضا ليأخذ بعين الاعتبار أولئك الذين كان يوليهم ثقته في الوقت الراهن ليتولوا مقاليد الأمور في مختلف المجالات، والذين يسيرون الآن على نهجه بكل حماس؛ فالرجل سوف يدير دفة الأمور إلى حيث يشاء، ثم يلقي بالمصيبة على رءوس من ينفذون تعليماته طوال الوقت بمبدأ السمع والطاعة.
هل للسادات أصدقاء؟ إن كان هناك، فمن هم؟
هذا سؤال صعب، لعل أحدا في مصر لا يملك الإجابة عليه. البعض يقول إن أصدقاءه هم الذين أنهوا معه الكلية الحربية، وهم ليسوا ممن أصبحوا من المشاهير ، وإنما الذين بقوا في الظل لسبب أو آخر. ربما، لكن انطباعا تولد لدي مفاده أن السادات كان وحيدا بالمعنى الإنساني. لعل ذلك يرجع، على الأرجح؛ لأنه كان شخصا شديد المراس، ومن ثم يصعب التقرب منه؛ فأمثاله لا يحبون أن يتعاملوا مع الناس ببساطة وحسن طوية، وهو من الذين لا يكترثون بالآخرين ولا يعترفون لهم بحقهم الكامل في أن تكون لهم أفكارهم المستقلة، بقدر ما يخشون أن يقوم أحدهم بالتآمر عليه أو تقويض نفوذه.
كان السادات شكاكا ليس فقط تجاه الناس، وإنما أيضا تجاه صحته. كان كثيرا ما يشكو لي أن صحته ليست على ما يرام بسبب سوء حالة قلبه. وقد قاموا في موسكو بفحصه عدة مرات فلم يجدوا لديه أيا من تلك الأمراض التي من شأنها أن تكون سببا بالفعل لاعتلال صحته.
لكن صحته لم تمنعه من تدخين الحشيش، وهذه المسألة لا تعد في مصر من الرذائل الكبيرة، وفي الوقت نفسه، كان المثقفون المصريون يأخذون موقفا سلبيا تجاه هذه العادة التي يمارسها الرئيس. كان السادات يدخن الحشيش في وجودي دون خجل، فكان يحشو غليونه بشكل دوري بتلك الكرات البيضاء. وعندما جاء ألكسي كوسيجين إلى القاهرة أثناء العمليات العسكرية، كان السادات يدخن غليونه دون انقطاع إبان المباحثات دون أن يخجل من حشوه بالحشيش.
لاحظت أن الرئيس كان ينتابه التعب بسرعة إذا تطرق الحديث إلى موضوعات تثير انفعاله، وخاصة إذا كان الحديث جادا، في الوقت الذي يكون الرئيس قد وضع نصب عينيه أن يخلق انطباعا محددا لدى محدثه وإقناعه بوجهة نظره هو. وبسبب هذا الانفعال يشعر بالإجهاد وتصبح نظرته زائغة، ويصبح الحديث خاملا. عندئذ يخرج السادات غليونه ويحشوه بالحشيش، ثم يجذب بضعة أنفاس عميقة، وما هي إلا برهة حتى تتحول الصورة. يعود الرئيس إلى نشاطه وتتلألأ عيناه ويصبح حديثه حيويا بهيجا. إنه الآن في أفضل حالاته.
ومن المعروف أيضا في مصر أنه كان محبا للشراب. عموما، فقد كان لقائي الأول بالسادات في موسكو، عندما جاء لزيارة الاتحاد السوفييتي باعتباره المبعوث الخاص لناصر ، وذلك في شتاء عام 1970م. كان ثملا للغاية في السفارة المصرية، وكان يتبادل التحية والقبلات مع كل الموجودين تقريبا بما فيهم أنا، مع أنني كنت ألتقي به للمرة الأولى. وإبان زيارته لموسكو في ربيع 1972م، راح الرئيس المنتظر «يسرف» في الشراب على مائدة الإفطار، ومن ثم كان يحاول بصعوبة الحفاظ على توازنه عند إجراء مراسم تقديم السفراء الأجانب، وهنا راح يخلط بين سفيري الهند وباكستان. كان الوضع هزليا وخصوصا أنه في هذه الفترة كانت رحى الحرب دائرة بين الهند وباكستان!
كان الكحول يساعد السادات بشكل واضح على التخلص من الضغط النفسي فيصبح أكثر صراحة وإخلاصا.
في صيف عام 1971م، سافرت في إجازة إلى الاتحاد السوفييتي، وقد صادفت إجازتي وقوع أحداث غير سارة في مصر وفي السودان على وجه الخصوص. في هذه الفترة سرت شائعات عن ظهور «سحابة» في العلاقات السوفييتية المصرية، على الرغم من أنه لم يكن هناك من جانبنا أي شيء يمكن أن يكون مسوغا لتأكيد ذلك. كانت خطوة دورية اتخذها أعداؤنا وأعداء مصر كذلك، لكن الشائعات راحت تتضخم لتبدو للرئيس كأنها هي الحقيقة؛ فتور علاقة الاتحاد السوفييتي تجاه مصر. وعلى الرغم من أن الإجازة هي مسألة روتينية، فإن الرئيس ارتاب في غياب السفير السوفييتي لدى مصر. تم إحاطة سفارتنا علما بأن الرئيس يرغب في مقابلة السفير، وتساءلوا عما يعنيه هذا الغياب الطويل للسفير، وهلم جرا، وسرعان ما تلقيت تعليمات بسرعة عودتي إلى القاهرة.
كان اللقاء الأول فور عودتي مع الرئيس بطبيعة الحال. دعاني لمقابلته في استراحته بالمعمورة بالقرب من الإسكندرية. وصلت إلى هناك في الحادية عشرة صباحا. لم أر مطلقا شخصا أكثر انشراحا منه. وعلى الرغم من ارتفاع حرارة الجو فقد أمر بتقديم الفودكا والسردين، وهنا قال لي للمرة الأولى إنه آسف لأن السفير لا يشرب؛ ولهذا سوف يفعل هو ذلك وحده. لم أشأ أن أغير من رأي الرئيس. كان يوما قائظا، أما هو فقد أكب على الزجاجة وحده. اتسم حديثنا بالصراحة وإن شابه بعض الدهاء والمراوغة التي اعتاد عليهما الرئيس . قال الرئيس إنه مستعد لأن يعطي الاتحاد السوفييتي كل شاطئ البحر المتوسط من أجل تحقيق أهدافنا المشتركة، وإنه مستعد لكذا وكذا وكذا، وهلم جرا. ثم أعرب عن عتابه على الاتحاد السوفييتي لعدم فهمه مصر وما يجري في البلاد العربية، وطرح على نحو واضح فكرته حول ضرورة أن نغير من طريقتنا بمزيد من السماحة والكرم وما إلى ذلك. كثيرا مما قاله آنذاك، خمسون بالمائة منه تقريبا، قاله، من وجهة نظري، بصراحة، عن اقتناع. أما الخمسون بالمائة الأخرى فكان حديثا منمقا بطبيعة الحال لترك انطباع قوي.
ظل الرئيس يشرب وحده حتى شعرت بالحرج وخشيت أن يقع أمر ما، حتى إنني اقترحت عليه أن أشاركه الشراب. أصبح حديثنا أكثر إمتاعا لكلينا؛ لأنه كان صريحا على نحو نادر، حتى إن الحديث امتد بنا إلى ما يزيد على أربع ساعات.
بعدما تسلمت عملي سفيرا لدى القاهرة، كان الرئيس يقول مازحا للزعماء السوفييت إن الجميع معجبون بالسفير الجديد، وإنه لا يستطيع بأي شكل أن يرضي الرئيس ويرسل إليه الفودكا على سبيل الهدية. في البداية تعاملت مع هذا الكلام باعتباره مزاحا، لكن الرئيس ما فتئ يكرر مزاحه المعاتب مرة بعد الأخرى، وعلى الرغم من أنني «حاولت»، فكنت أرسل إليه في الظروف المناسبة من زجاجتين إلى ست، فإنني عرفت من موظفينا القدامى بالسفارة أن السادات، قبل أن يصبح رئيسا، كان ضيفا بصفة غير رسمية على السفير الذي سبقني، وأن السفير كان يضطر في كثير من الأحيان أن يساعده في العودة إلى المنزل. عندئذ قررت أن أرسل له صندوقا من الفودكا، وسرعان ما توقفت «الشكوى»، بل على العكس تماما كان الرئيس يقول لي مازحا إن الأمور على خير ما يرام؛ الغليون يعمل مع الفودكا.
لا أعرف عن الحياة المنزلية للرئيس كثيرا. لم أكن أستقبل في عائلته، على الرغم من أنني كنت معروفا، بطبيعة الحال، لحرمه التي كانت، كما يقولون، ذات تأثير معروف عليه (الأمر الذي لا أصدقه)، كما كنت معروفا لأولاده. كانت بناته يحضرن إلينا في أرتك،
2
وقد زوجهن الرئيس من أنجال أثرياء مصريين. كانت زيجات لها حساباتها بالطبع. كان يحب ابنته الصغرى جيهان بشكل خاص، وهي فتاة تتميز بالجمال والجاذبية، وقد دعوناها إلى السفارة للاحتفال مع الأطفال بمناسبة العام الجديد، وقد رقصت بكل سرور وحماس مع الأطفال العرب والسوفييت وشاركتهم الغناء واللعب. باختصار كانت تتصرف في غير تكلف وعلى سجيتها تماما. ترى أي مصير ينتظرها؟
كان السادات فخورا بجدارة ببناته وأبنائه. كانوا بالفعل قد تلقوا تربية حسنة. كم من مرة استقبلني السادات في بيته عندما كان مزاجه طيبا! كان يصفق بيديه فجأة مستدعيا الأطفال فيهرعون إليه. يؤدون التحية ثم يأمرهم بالغناء فيغنون بالروسية «الأمسيات في ضواحي موسكو».
3
كان الأمر يبعث الرضا في نفوس الضيوف، فضلا عن صاحب البيت.
كان السادات، مثله مثل أي رئيس، لديه بالطبع حشم كثير، يذهبون ويجيئون في البيت، مما كان يجعل البيت مكانا غير مريح، مفتقدا إلى الجو العائلي، فيبدو مسكنا حكوميا على نحو ما.
عموما لم يكن الرئيس يهوى البقاء في مكان واحد. كان كثيرا، بلا انقطاع في الواقع، يغير من مكان إقامته. كان قصر القبة هو المقر الرسمي للرئاسة، وكان نادرا ما ينزل فيه. كان يلتقي فيه برؤساء الدول وبالقرب من هليوبوليس. كان له مقر آخر هو قصر الطاهرة. كان كثيرا ما يقيم فيه عندما يكون مشغولا بأمور الحرب.
وفي الجيزة أقيم له مقر رسمي جديد في مبنى كان يشغله متحف للفنون الجميلة، استخدم ديوانا للرئاسة، وبذلك أوقف العمل بهذا المبنى باعتباره مؤسسة ثقافية. وأمام المبنى تم على وجه السرعة، خلال عدة أشهر، إقامة مخبأ على عمق يعادل خمسة طوابق.
يطل مقر الإقامة هذا على نهر النيل، وقد تم اختياره في هذا المكان حيث يقع بالقرب منه عبر طريق صغير المنزل الخاص للرئيس، وكان قد اشتراه قبل أن يشغل منصبه الرفيع (خطر ببالي دون إرادة مني فكرة أن مقر الإقامة الرسمي يلائم مكان سكنه، وهذا يعني أن الرئيس ينوي شغل منصبه للأبد).
كان هذا الجزء من الكورنيش هو الأفضل والأنظف في الجيزة ، وكان يجتذب الناس للتنزه فيه، والحقيقة أنه كان المكان الوحيد اللائق في القاهرة حيث يمكن للمرء أن يسير فيه. في الأشهر الأولى بعد تولي الرئيس منصبه، كان من الممكن للجمهور أن يتنزه هنا، ولكن بعد مايو من عام 1971م تم إغلاق الكورنيش بالحواجز، كما أغلق الممر بتحصينات قوية، وأمام مقر الرئاسة رسا على شاطئ النهر مركب كبير كان الرئيس يحب أن يجلس فيه منفردا بنفسه في المساء للتأمل.
وعلى بعد 35 دقيقة من القاهرة تقع استراحة الرئيس الأخرى في القناطر عند تفرع نهر النيل. منزل جميل تعود ملكيته إلى إدارة الري، ويقع على جزيرة صغيرة خضراء وله حديقة صغيرة تتوسطها شجرة أثرية ضخمة ذات جذور هوائية تضرب في الأرض لتنمو مكونة أعمدة. وإلى جوار البيت وفوق مجرى النهر يرسو اليخت الملكي للملك السابق فاروق يستخدمه الرئيس صيفا للاستجمام.
وفي الصحراء وعلى بعد مائة كيلومتر تقريبا من الإسكندرية في اتجاه ليبيا تقع برج العرب، وهناك توجد أيضا إحدى استراحات الرئيس. وقد تسنى لي الذهاب إلى هناك أيضا عدة مرات، وهناك يوجد منزل منعزل تماما في الصحراء. المكان يعد واحة صغيرة ليس أكثر. هدوء مطلق وخاصة بالليل.
وإلى الشرق من الإسكندرية يقع منتجع المعمورة، حيث توجد على شاطئ البحر استراحة أخرى للسادات تقع بجوار منزل كان قد بني ذات يوم لناصر . حديقة جميلة من أشجار الدفلي تحيط بمنزل من طابقين.
ويمتلك السادات أيضا منزلا في قريته التي ولد فيها ويقع في دلتا النيل على بعد مسيرة ساعة من القاهرة بالسيارة. وهناك يستقبل السادات ضيوفه المقربين. وقد تسني لي أيضا الذهاب إلى هناك عدة مرات. في المرة الأولى كان المنزل متواضعا مكونا من دورين تحيطه حديقة صغيرة وقد نمت حوله كثير من الأشجار جلبت شتلاتها من الاتحاد السوفييتي. كل شيء كان متواضعا، بل شديد التواضع مع شيء من الإهمال.
بعد عام تقريبا، اضطررت للذهاب إلى هناك مرة أخرى. الآن تبدل الوضع تماما في الداخل؛ لا يوجد هنا سوى بريق الرخام والبرونز والزخارف الجصية والنقوش البارزة من النحاس. ظهرت الأحجار الفخمة الرائعة وإن تميزت بالضخامة، وانتشر الأثاث على الذوق المصري وما إلى ذلك. كل ذلك كان يبدو متناقضا مع الشوارع الريفية القذرة التي ظلت على حالها هي وبيوت الجيران البائسة والماشية الهزيلة الهائمة في الطريق والتي تشبه في مظهرها الفلاحين الكادحين.
استقبلني الرئيس مرتين في هذه الأماكن التي لم أكن لأزورها؛ مرة في استراحة حلوان الخاصة التي تمت مصادرتها، والأخرى في النادي الذي كان مخصصا سابقا للضباط في هليوبوليس.
كان الأثاث في منزله في الجيزة، مثله مثل باقي الأماكن والاستراحات يفتقد، من وجهة نظري، إلى الذوق. كان هناك خلط بين العصور؛ فهذه قطع يعود طرازها إلى منتصف القرن التاسع عشر في فرنسا، وإلى جانبها أثاث آخر من طراز أوائل القرن العشرين في الولايات المتحدة. العديد من الزخارف الجصية والستائر والسجاد والجوبلات والأثاث الثقيل واللوحات مجهولة القيمة، والتي يبدو جليا أنها اختيرت بمحض الصدفة. كل شيء يفتقد إلى الأصالة فيبدو تقليدا لشيء ما «حقيقي»؛ المهم أن يوحي «بالثراء». على أية حال لم أر في مصر عند أي من كبار المسئولين شقة مجهزة بذوق رفيع. دائما ما ترى اندفاع أصحابها لإبهار الضيوف بثرائهم المزعوم الممثل في التماثيل الخزفية وبعض الهدايا الصينية ومن غيرها من بلدان الشرق في كل ركن من الأركان، باختصار كشكل من أشكال الاستعراض، وهو ما يعني أن كل شيء غير حقيقي.
كان السادات يرتدي ملابس تتسم بالبساطة والذوق الرفيع. كان واضحا أنه يحب الملابس المريحة الملائمة التي لا تعوق حركته وتتماشى في الوقت نفسه مع الموضة. كان يراقب وزنه مراقبة دقيقة. كان ممشوق القوام، رشيقا، أدخل عادة السير بالعصا تحت الإبط. لعل ذلك كان محاكاة لسلوك الضباط الإنجليز، الذين كانت أعدادهم كبيرة في مصر. وهؤلاء كانوا يحملون تحت إبطهم سوطا قصيرا، وقد ألغى ناصر هذه العادة.
ومن الفضائل المميزة للسادات قدرته على الخطابة في الاجتماعات واللقاءات الجماهيرية. كان لديه إحساس بالجمهور العربي، المصري إن شئنا الدقة، فيتحدث أمامه بالعامية المصرية وباللهجة المحلية. كان يبني خطبه بمهارة وتركيز. يبدأ فيطرح جوهر الموضوع ولو على نحو موجز، ولكنه يعود إليه مرة أخرى، بل وربما يكرره، ولا عيب في هذا؛ فهو يبدو وكأنه يتبادل الحديث مع الشعب. تجري عملية الإبداع عنده على نحو علني، عملية خلق الخطاب وطرح الفكرة، وهذه الطريقة تؤثر دائما في أي جمهور؛ ولذلك يصل مضمون الخطاب على نحو منطقي. لا يجبر السادات المستمع على التفكير فيما يقوله. يطرح الفكرة باعتبارها حقيقة ثابتة؛ أي موجودة، لا يفعل شيئا سوى أن يجعلها أكثر وضوحا، ملائمة لنقلها إلى المستمع.
لم يقرأ خطبه إطلاقا من ورقة، على الرغم من أنه في كثير من الأحيان، كان لديه نص مكتوب، وما يقرؤه منه، يقرؤه على نحو معبر تماما.
كان السادات يمتلك قدرة ممتازة على الإلقاء، يمكن القول إنها كانت مثالية. ليس من قبيل المصادفة أن «الضباط الأحرار» عندما قاموا بثورة 1952م بقيادة ناصر، كلفوه بإعلان الثورة عبر الإذاعة. كان ذلك، بالمناسبة، تعويضا له على عدم مشاركته في الثورة التي «تأخر» عليها لوجوده في دار السينما مع ابنه، ولم يتلق في الوقت المناسب تحذيرا من ناصر عن بدء الانتفاضة.
على أن الخطب الجماهيرية كانت تنهكه بشدة؛ كان يتصبب عرقا فيضطر طوال الوقت لاستخدام منديل يجفف به عرقه. كان يبدو بعد الانتهاء من إلقاء خطابه متعبا للغاية. لكن الأمر كان ينتهي دائما على نحو رائع لا شك في ذلك. كان خطيبا مفوها بالنسبة للجمهور العربي. •••
إلى هنا كان من الممكن أن نصل إلى الخاتمة، على أنني أود أن أضيف أمرا آخر على جانب كبير من الأهمية.
كان السادات يمتلك حدسا فذا، كأنه يمتلك شعورا باطنيا يرشده في هذه اللحظة أو غيرها انطلاقا من التوجه العام الذي كان ينتهجه إلى ما يراه في مصلحته، وهو الذي يمتلك السلطة في أكبر دولة عربية وأقدمها، في مصر. كان توجهه التكتيكي الرئيسي يتلخص في أن تظل يداه طليقتين سواء في علاقته بأصدقائه أو مع أعداء مصر.
لم يشأ أن يكون مرتبطا بأية التزامات مع أحد، ومن هنا كان سعيه لاستغلال التناقض بين شركائه إلى أقصى درجة ممكنة؛ ولهذا كان يؤمن بأن الآخرين، مثلهم مثله، سوف يتصرفون بنفس الطريقة. والمثال الأعلى هنا هو ذلك الانقلاب الحاد نحو الولايات المتحدة الأمريكية، ومن ثم الابتعاد عن الاتحاد السوفييتي فور انتهاء العمليات العسكرية في عام 1973م، عندما كانت هيبة الاتحاد السوفييتي، على ما بدا، في أوجها. لقد تحول نحو الولايات المتحدة الأمريكية لأنه كان يدرك أيضا، بسبب تركيبه الذهني، أن المواقف الصادقة النزيهة التي اتخذها الاتحاد السوفييتي ستجلب لكل مواطن سوفييتي سمعة رفيعة، أما ما بدا له غير مقبول أن يبدو هو نفسه كما لو سقط في التبعية للاتحاد السوفييتي. لقد شعر السادات أنه سيكون عليه أن يكون إلى جانب الاتحاد السوفييتي. ولما كان منهجه هو سياسة الأيدي الطليقة، فقد عول على التحول الحاد والمفاجئ لكثير من الناس. وهو ما كان يتسق تماما مع شخصيته ويناسب سماته التي جبل عليها بوصفه فردا وباعتباره رئيسا وحاكما ديكتاتورا.
هل باستطاعة السادات أن يقوم بسهولة وعلى نحو مفاجئ بعمل انقلاب عكسي؟ يستطيع بالطبع تبعا للظروف. ولكن ليس هذا هو المهم. بالنسبة لنا المهم أن نعرف دائما لماذا قام بهذا الانقلاب؟ ما هي الحسابات التي تقف وراء هذا الانقلاب؟ فالانقلاب لا يعني أن السادات قد تغير بوصفه إنسانا ورئيسا. سوف يكون انقلابه خطوة تكتيكية أملتها عليه الظروف. وإذا ما أضفت هذه الظروف التي تقوده إلى اتخاذ هذه الخطوة، فينبغي أن ننتظر من الرئيس خطوات أخرى نحو اتجاهات جديدة.
هذا إذا ما استمر السادات رئيسا بالطبع، وإذا ما شعر أنه يستطيع أن يخدعنا كما حدث من قبل.
إذا ...
يناير 1975م
موسكو
ملاحظات على هوامش كتاب
محمد حسنين هيكل: «الطريق إلى رمضان»
لفت كتاب «الطريق إلى رمضان» للصحفي السياسي العربي البارز محمد حسنين هيكل عن الحدث الأكبر الذي وقع مؤخرا في العالم العربي، والذي تمثل في العمليات العسكرية المصرية والسورية ضد إسرائيل في أكتوبر من عام 1973م. لفت الانتباه إليه في العالم العربي وفي خارجه.
1
لقد أتاحت أحداث أكتوبر التي وقعت في الشرق الأوسط عام 1973م الفرصة لظهور الجوانب المختلفة لسياسة الدول العربية، وإسرائيل، والولايات المتحدة الأمريكية، ودول غرب أوروبا. كما ألقت الضوء أيضا على الدور الكبير للاتحاد السوفييتي وعلى سياسته الدولية، وأظهرت دور الانفراج في العلاقات وفضله على قضية السلام والظواهر الجانبية التي نتجت عنه.
استمرت العمليات العسكرية في الشرق الأوسط حوالي عشرين يوما، لكنها أظهرت الكثير وكشفت عن مختلف جوانب حياة وسياسة العديد من الدول. وقد تباينت الآراء حول هذه الأحداث. والإسرائيليون، الذين سلموا بأنهم ارتكبوا «أخطاء» في الفترة الأولى من الحرب، عندما أخذ العرب بزمام المبادرة، راحوا يرفعون عقيرتهم معلنين انتصارهم العسكري في الفترة الأخيرة، مؤكدين على أنه لولا اتخاذ مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة قراره بوقف إطلاق النار، لألحقت إسرائيل بالعرب هزيمة عسكرية ساحقة.
أعلن المصريون افتخارهم بانتصارهم العسكري وبالإعداد العسكري الرائع لقواتهم المسلحة، لكنهم صمتوا في خجل عن أنهم كانوا قاب قوسين أو أدنى من تلقي هزيمة عسكرية كاملة؛ إذ إنهم لم يأخذوا على عاتقهم، بوعي أو لأي سبب آخر، اتخاذ الإجراءات اللازمة للقضاء على الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون ليصلوا منها إلى الشاطئ الغربي لقناة السويس في أفريقيا.
أما السوريون، الذين تكبدوا خسائر أكثر فداحة، فقد أكدوا أن سوريا كانت مستعدة للبدء في هجوم مضاد هائل في اليوم التالي مباشرة لإعلان وقف إطلاق النار، الذي وافق عليه السادات دون تشاور معها.
وهنا راح الأمريكيون يؤكدون في نفاق، كعادتهم، أن اهتمامهم الأول كان منصبا على حقن الدماء وتحقيق السلام والهدوء في الشرق الأوسط، وفضلوا السكوت عن ذكر الصفقات السريعة الهائلة لإمداد إسرائيل بأحدث الأسلحة القادمة مباشرة من مخازن السلاح الأمريكية، بل وبأطقمها باتجاه الأراضي المصرية التي يحتلها الإسرائيليون (في العريش بسيناء)، ناهيك عن الدعم السياسي الصريح لإسرائيل.
أما عن الموقف الحقيقي للاتحاد السوفييتي فيتلخص في أنه قدم المساعدة والدعم للعرب لكي يحققوا ظهورا مؤثرا مهيبا لقدراتهم الكامنة؛ أي الانتصار بالمعنى السياسي العسكري، ولإنقاذ العرب عندما تحولت دفة الحرب لغير صالحهم. وقد سعى الاتحاد السوفييتي بروح الانفراج للتعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية في قضية حل النزاع في الشرق الأوسط، بل إنه لم يخش المخاطرة بالدخول في مواجهة مع الولايات المتحدة عندما بدا أن هناك تهديدا بهزيمة ساحقة للعرب بسبب الإمدادات الهائلة من جانب الولايات المتحدة الأمريكية لإسرائيل.
يحتوي كتاب هيكل على تقديرات وعلى حقائق، ومن ثم فإننا سوف نولي اهتمامنا الأساسي، من خلال تعليقاتنا للحقائق، ومع ذلك سيكون علينا أن نتحدث أيضا عن بعض التقديرات التي أوردها الكاتب في كتابه، وخاصة أن هذه التقديرات تنطلق في كثير من الأحيان إما عن إحاطة بالوقائع، وإما نتيجة لطرحها طرحا غير دقيق (التعليقات مطابقة لترتيب نص الكتاب).
المقدمة
ص8:
يبدأ الكاتب عمله بالتأكيد على حتمية نشوب حرب جديدة في الشرق الأوسط.
الأرجح أن الأمر لم يكن يستحق مثل هذا الحكم القاطع؛ إذ كان من الممكن ألا تقع الحرب في المستقبل المنظور لمدة، لنقل من عشر إلى خمس عشرة سنة. الأمر يتوقف على السياسة التي كانت ستنتهجها كل من إسرائيل ومصر.
كان من الممكن أن يبادر العرب بالحرب، لو أنهم تأكدوا أن مصر ستشارك فيها بحزم؛ فبدون مشاركة مصر لما خاضت الدول العربية الأخرى غمار حرب ضد إسرائيل؛ لأنها كانت ستخشى من الأمر الواقع وهو تلقي الهزيمة على يد إسرائيل. ولهذا فالدول العربية أغلب الظن، كانت ستتعامل بواقعية تجاه إمكانية نشوب أعمال عسكرية دون مشاركة مصر فيها. ومع وجود السادات في الحكم وانتهاجه لسياسة التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية، لم تكن مصر لترغب في المستقبل القريب في الدخول في حرب ضد إسرائيل، حيث إن ذلك يمثل تناقضا مع نهجها في التعاون مع الولايات المتحدة الأمريكية. فضلا عن ذلك فمن الصعب أن نتصور قيام عمليات عسكرية إذا ما عادت قناة السويس للعمل. ليس من قبيل الصدفة أن الإسرائيليين والأمريكيين كانوا كثيرا ما يعلنون أن أفضل خط دفاع لإسرائيل هو قناة السويس في حالة عملها. على أية حال، لا يمكن الحديث الآن عن انتظار إسرائيل لهجوم عربي مفاجئ.
من غير المحتمل في الظروف الحالية أن تظهر إسرائيل أي مبادرة أو أن تبدأ حربا واسعة ضد مصر؛ فإسرائيل يهمها استمرار السادات في تقديم التنازلات للولايات المتحدة الأمريكية. ومن الناحية العسكرية الصرفة فإن هذه «الحملة العسكرية» لن تعود بالنفع على إسرائيل؛ لأن الولايات المتحدة ليست مهتمة بقيام حرب في الشرق الأوسط؛ لأن ذلك يعوق من ممارستها لمنهجها العام في النفاذ إلى الدول العربية.
كان الأرجح هو قيام إسرائيل بمهاجمة سوريا تحت أي مبرر، ولكن على إسرائيل عندئذ ألا تنسى علاقات التضامن التي لا تزال موجودة بين الدول العربية، حتى ولو كانت هذه العلاقات قد أصابها الضعف، وهو ما يعني احتمال دخول دول عربية أخرى في الحرب، ولو ضد إرادتها (مثل مصر على سبيل المثال)، وهو ما يمكن أن يتنافى في نهاية الأمر مع المصالح الحالية للولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل.
ولهذا فمن الصعب، من وجهة نظرنا، القول على هذا النحو القاطع «بحتمية» نشوب حرب جديدة في الشرق الأوسط في المستقبل القريب. ولكن لا يمكن من الناحية التاريخية، بطبيعة الحال، التنبؤ بما سيحدث، كما أن من الجائز أيضا أن تتغير طبائع الدول العربية، بل وإسرائيل نفسها، كما تتغير سياسة الولايات المتحدة الأمريكية. وأخيرا، فمن الممكن أيضا وقوع ما لم يكن في الحسبان.
إن ملاحظة الكاتب بشأن حتمية نشوب حرب جديدة أمر ينبغي النظر إليه باعتباره تعبيرا عن الأسى لأن حرب أكتوبر لم تؤد إلى حل النزاع، بل إنها أرجأته أيضا، وباعتبار أن الشرق الأوسط قد بات في الواقع محلا لتجمع قدر كبير من القضايا القابلة للاشتعال.
عرفان من الكاتب
ص9:
لم يكن الكاتب بحاجة إلى توجيه الشكر إلى المدعو جون باري على «التصحيح النهائي للحقائق والأرقام»؛ إذ إن الكتاب يحتوي على عدد كبير من المعلومات غير الدقيقة، فضلا عن الأخطاء الجسيمة فيما يختص بالوقائع.
الفصل الأول: المفاجأة
ص15:
يبدو إعلان مدير المخابرات الحربية المصرية أن إسرائيل سوف تعرف بموعد العمليات المصرية ضد إسرائيل قبل بدايتها بخمسة عشر يوما؛ أي فور بدء الاستعدادات لها أمرا معقولا. ومن الناحية العملية فإن إخفاء هذه الاستعدادات الجادة في الظروف المصرية أمر مستحيل. ليس فقط بسبب طبيعة الأرض وجسامة هذه الاستعدادات، وإنما أيضا نتيجة لقدرة المخابرات الإسرائيلية والتي تحدث عنها الكاتب نفسه بالمناسبة.
للأسف فإن الكاتب لم يطور فكرته بشأن استحالة قيام المصريين بهجوم «مفاجئ» وليته فعل؛ إذ لو تأكد على نحو صحيح أن الإسرائيليين لم يكونوا ليباغتوا على حين غرة، وأنهم كانوا سيعلمون بموعد قيام الحرب قبلها بخمسة عشر يوما (!)، لكان من الضروري وجود تقييم آخر للأحداث، فضلا عن إلقاء الضوء على الوقائع وعلى طريقة تناولها.
ص16:
إن التأكيد على أنه كان من الممكن خفض فترة خداع الإسرائيليين من خمسة عشر يوما إلى أربعة أو خمسة أيام يبدو ساذجا. وحتى لو افترضنا أن ذلك سينجح، لظل الوضع على ما هو عليه، لو تأكد أن الإسرائيليين كانوا على علم بموعد بدء الهجوم العربي قبلها بأربعة أو خمسة أيام على أقل تقدير! فهذه الفترة كانت كافية لأن يتخذ الإسرائيليون الإجراءات المضادة المناسبة سياسيا وعسكريا، هذا إذا ما أرادوا بالطبع اتخاذ هذه الإجراءات.
ص18:
التصريح بأن الأمريكيين كانوا يعرفون خطة العمليات العسكرية المصرية منذ شهر مايو من عام 1973م أمر جدير بالاعتبار. وفي معرض طرحه للمعلومات الخاصة بخطط العمليات العسكرية للعرب، بما في ذلك توقيت بدء هذه العمليات، وأنه كان معروفا من قبل الأمريكيين، ومن ثم الإسرائيليين. يختلط الأمر على هيكل على نحو ما عندما يقدم استنتاجاته. لماذا؟ لو أن هيكل التزم التفكير المنطقي لما فاتته الاستنتاجات المنطقية أيضا حول أن الأمور لم تكن جميعها على هذا النحو من الشفافية من الناحية السياسية لهذه القضية. هنا حاول هيكل بشكل ساذج تماما أن يجد مخرجا من هذا الموقف استنادا إلى تأكيدات الأمريكيين، على حد قوله، أنهم لا يصدقون خطط المصريين! هل صحيح أنهم لم يكونوا يصدقونها؟ أين هي إذن تلك الاتصالات الدائمة المزعومة بين أجهزة المخابرات المصرية والأمريكية التي تحدث عنها الكاتب مرارا، والتي لم تتوقف مطلقا حتى في وقت الحرب؟ إنه لأمر غريب ألا يكون الأمريكيون متأكدين آنذاك عبر هذه القنوات (وغيرها) من صحة «خطة بدر»؟
مما سبق نصل إلى ما يلي: كانت الولايات المتحدة الأمريكية على علم بخطة العمليات العسكرية المحتملة، وأنها، على الأرجح، قد أبلغت إسرائيل بها على أقل تقدير.
ص22:
كان هيكل على صواب من الناحية الشكلية؛ فقد أعلن السادات، بالفعل وبكل الوسائل، أن هذه «الحرب» هي، على حد قوله، عمل احترافي يختص به العسكريون، مثل كل عمل يمارسه أناس ملائمون للمهنة. وراء ذلك تواري مكر السادات البدائي؛ يتم إلقاء المسئولية على العسكريين في حالة فشل العملية، وقد كان مؤمنا بالفشل، ولم يكن السادات يتوقع مثل هذا النجاح العسكري الذي تم بالفعل، والذي كان مفاجأة للسادات أكثر من أي شخص آخر. كل الشواهد تؤكد ذلك. أما النتائج الإيجابية، فالرئيس دائما لديه القدرة على أن ينسبها لنفسه، وهو ما حدث في واقع الأمر. كان السادات حريصا على أن تنسب إليه كل الإيجابيات التي أدت إليها العمليات العسكرية، وأن يتم إبراز هذه المآثر العسكرية التي اجترحت لتضاف إلى حسابه. أما الفشل والأخطاء، وعلى وجه الدقة تلك الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون لينفذوا منها إلى الضفة الغربية للقناة، فقد نسبت إلى .. رئيس الأركان الشاذلي. والسبب، على ما يبدو، أنه لم يكن مطلعا على دهاليز خطط السادات الفاسدة سياسيا ؛ ولذلك فقد قدم تقديرا بالوضع الحقيقي فيما يخص الاختراق الذي قام به الإسرائيليون. لقد كان هذا الرجل ببساطة هو الذي نقل خبر المصيبة؛ ولهذا كان من الطبيعي، من وجهة نظر السادات، أن يجعل الشاذلي «كبش فداء»، وهو ما تم بالفعل. فيما بعد تم تعيين الشاذلي .. سفيرا لمصر لدى إنجلترا.
ص24:
حجج السادات الغريبة (كما صورها هيكل): هل يبلغ السادات الاتحاد السوفييتي بموعد بدء العمليات العسكرية أم لا؟ لماذا لم يأت هيكل هنا على ذكر أمر آخر ولو مرة واحدة، تلك التأكيدات العديدة التي أعلنها السادات للزعماء السوفييت بأن مصر لن تبدأ الحرب دون تشاور مع الاتحاد السوفييتي (ناهيك عن الالتزام بإبلاغه بذلك بموجب معاهدة الصداقة والتعاون الموقعة بين البلدين). يرجع قرار السادات بعدم إبلاغ الاتحاد السوفييتي لأسباب بعيدة كل البعد عن السياسة النزيهة تجاه الاتحاد السوفييتي. يمكن أن نفترض أن السادات كان يدرك أنه بعدم إبلاغه الاتحاد السوفييتي فهو لن يحسن، على أية حال، من علاقاته به، بل على العكس من ذلك، كان يعرف أن هذه الخطوة لن تجد ترحيبا من جانب الاتحاد السوفييتي، ومن الواضح أن السادات لم يكن ليعبأ برد الفعل السلبي للاتحاد السوفييتي (مخالفة شروط معاهدة الصداقة، العواقب المجهولة بالنسبة للعالم العربي، التسوية الشاملة، قضية الانفراج في العلاقات السوفييتية الأمريكية، وهلم جرا).
ينبغي أيضا أن نفترض أن السادات كان يعول على رد الفعل السلبي من جانب الاتحاد السوفييتي، ومن ثم فقد كان السادات بحاجة إلى هذا الأمر. لماذا؟ بالطبع ليس من أجل التقارب مع الاتحاد السوفييتي، الذي كان على مصر أن تعتمد عليه إبان العمليات العسكرية. إن هذه اللفتة العدائية تجاه الاتحاد السوفييتي كانت، في الوقت نفسه، بمثابة لفتة ودية تجاه الولايات المتحدة الأمريكية (لنتذكر الاتصالات المصرية الأمريكية المستمرة، وأن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على علم بخطة العمليات العسكرية المصرية).
من هنا كان قرار السادات عدم إبلاغ الاتحاد السوفييتي بموعد بدء العمليات العسكرية استعراضا وديا تجاه الولايات المتحدة الأمريكية التي «قدرت» في حينه هذا النوع من «حسن السلوك».
كان على هيكل أن يكتب تحديدا عن هذا الأمر، بدلا من الحديث عن المبررات التي لا وزن لها، والتي زعم أن السادات عكف عليها وهو يبحث مسألة هل عليه أن يخبر الاتحاد السوفييتي أم لا يخبره.
ومن غير المستبعد أن يكون السادات قد فعل ذلك أمام هيكل خصوصا ليدفع به إلى نوع من الضلال لعلمه ببعض أفكار هيكل المؤيدة للصداقة مع الاتحاد السوفييتي، وهي أفكار كانت تقف آنذاك على النقيض من نيات السادات نفسه.
ص24:
انقطع حديث السفير السوفييتي مع السادات عشية الحرب، وانقطعت معه على وجه الخصوص، آراؤه التي لم يسجلها بالمناسبة أحد من المصريين في تلك الأمسية.
إن أي سفير سوفييتي لم يكن بإمكانه إطلاقا أن يقول إنه كان يعرف مسبقا أي جواب سيعطيه القادة السوفييت على هذا الطلب أو ذاك من جانب رئيس دولة أجنبية. جدير بالذكر أيضا أن السادات في هذا اللقاء لم يذكر أي كلمة «تنبؤية» حول أن الأيام القادمة سوف تكون «اختبارا حقيقيا وعمليا للمعاهدة السوفييتية المصرية». كل ذلك يقودنا إلى فكرة أن قصة هذا الحديث (الذي أورده هيكل في كتابه، المترجم)
2
قد أوحى بها السادات إلى هيكل، أو أن هيكل قد اختلقها جزئيا.
في هذا الحديث اكتفى السادات بالحديث مغمغما حول عدم قدرة مصر «تحمل» مثل هذا الوضع، وأنه لا يستبعد «انفجاره».
ص26:
في اجتماع مجلس الأمن القومي في الثاني من أكتوبر عام 1973م، ألقى السادات تصريحا مثيرا للانتباه حول أن الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية مستعدان، على ما يبدو، للتوصل إلى اتفاق حول كل القضايا، بما في ذلك قضية الشرق الأوسط؛ ولهذا فإن لدى مصر، على حد قوله، فرصة أخيرة للقيام بأعمال مؤثرة.
كان السادات يعلم جيدا أن الاتحاد السوفييتي لا تربطه بالولايات المتحدة الأمريكية أية معاهدات بشأن الشرق الأوسط، لكنه كان بحاجة إلى أن يخلق انطباعا فحسب بوجود مثل هذا الاتفاق في حالة إذا ما اعتزم الانتقال إلى انتهاج سياسة موالية للأمريكيين.
ليس هناك أي شيء مخالف لسياق الأمور في زيارة الجنرال جونين إلى المواقع الإسرائيلية في سيناء، والمصريون لم يلحظوا أية تغييرات في توزيع القوات الإسرائيلية هناك بعد هذه الزيارة. والإسرائيليون كانوا على استعداد، لو افترضنا أنهم عرفوا بهجوم مصري متوقع، للتضحية بمقاتليهم على خط بارليف من أجل التوصل إلى «أهداف سياسية عليا». وبالمناسبة، فقد تبين لسبب ما، أن عددهم هناك كان قليلا للغاية؛ فقد تركزت القوات المسلحة الإسرائيلية في الشمال مستهدفة اجتياح السوريين على حدة، ما دامت مصر، بحسب توقعاتهم، لا نية لديها لمساعدتهم.
ص27:
اعتراف صيغ على نحو بليغ يفيد أن إسرائيل كانت، على أقل تقدير، على علم بالاستعدادات الواضحة للقوات المسلحة المصرية على الأرض. وقد وصف هيكل سلوك الإسرائيليين بأنه سلوك «غريب»، لم يكن هناك شيء «غريب»، إذا ما افترضنا أن الإسرائيليين لم يريدوا ما كان ظاهرا للعيان، بما أن كل شيء كان يسير حتى الآن وفقا لخطة معدة سلفا. باختصار، لا ينبغي أن نعتبر أن الإسرائيليين هم أناس حمقى، بينما المصريون إلى هذا الحد من العبقرية والدهاء.
ص28:
مرة أخرى يعود هيكل ليفسر على نحو ساذج سلوك الإسرائيليين الذين «ألغوا التعبئة دفعة واحدة، ثم أولوا اهتماما أقل بما يجري من تطورات على الجانب الآخر من القناة.» هذا «التفسير» السطحي يمكن أن يكون مناسبا للقراء قليلي الخبرة في العالم العربي، الذين يطالعون مقالات هيكل. هؤلاء الذين غرقوا في موجة «تحيا الوطنية».
إن الحقائق تقول إن إسرائيل لم توقف نشاطها الاستخباراتي في مصر مطلقا، وقد تحدث هيكل بنفسه عن ذلك مرارا.
ص28:
لم يكن ما نشرته وكالة أنباء الشرق الأوسط في الثاني من أكتوبر عام 1973م بشان أن الجيشين الثاني والثالث قد وضعا في حالة تأهب من قبيل «الصدفة» بطبيعة الحال، ولم يكن من الممكن ألا تلاحظ إسرائيل هذا الخبر. فإذا كانت إسرائيل لم تتخذ أية إجراءات حيال هذا الخبر، فإن ذلك يعني أن ذلك كان قرارا واعيا من جانب القيادة الإسرائيلية.
ص29:
من المثير للانتباه هذه التفاصيل التي أوردها هيكل بشأن البرنامج المعد مسبقا لتهيئة الرأي العام لبدء العمليات العسكرية بمبادرة من مصر؛ إذ تم إعداد الأمر بحيث يتم التذرع بأن إسرائيل هي التي بادرت بالقيام بعمليات عسكرية!
ص30:
اعتراض السوريين على الحل المنفرد من جانب المصريين، الذين لم يراعوا مصالحهم، المهمة تماما، كان اعتراضا منطقيا. فيما بعد، وبعد مرور نصف عام صرح الزعماء السوريون في أحاديثهم الشخصية علانية أن مصر «استغلت» سوريا لتحقيق مصالحها أكثر من مرة. إن كون المصريين لم يولوا اهتماما إلى طلب السوريين أن يمنحوهم فسحة من الوقت لتفريغ خزانات الوقود في حمص، يعد مثالا على مثل هذا السلوك. وبالفعل فقد أشعل الإسرائيليون النيران في مصنع لتكرير النفط وفي الاحتياطات في أحد الأيام الأولى للعمليات العسكرية. وفي الوقت نفسه، بالمناسبة، لم تقم القوات الجوية الإسرائيلية بشن أي غارة على أي من المنشآت الصناعية المصرية، على الرغم من أن مركز الصناعة الحربية العربية موجود في القاهرة تحديدا. أليس أمرا غريبا؟!
ص30:
لو أن المصريين قاموا بالفعل إقناع السوريين بشأن موعد بدء العمليات العسكرية على النحو الذي أورده هيكل، فإن حججه في هذا الشأن تكون ساذجة تماما. آنذاك كان هناك أمر واحد شديد الوضوح؛ لم يكن المصريون على اتفاق حتى في هذا الأمر المهم مع السوريين، بل إنهم أصروا على موقفهم، الذي من شأنه إيقاع الضرر بالقرار السوري، هذا على الرغم من أن المصريين كانوا يعلمون أن الجيش الإسرائيلي كله متمركز ضد سوريا، وأنه كان على السوريين تحديدا أن يحملوا عبء الاتفاقات الإسرائيلية، ولو في بداية الحرب.
ص32:
إن التأكيد على أن الإسرائيليين في الثالث من أكتوبر استبعدوا إمكانية شن حرب من جانب المصريين والسوريين يتناقض مع تأكيد مضاد آخر لهيكل. ينبغي ألا ننسى أيضا أنه بحلول تلك الفترة كان الأمريكيون يملكون بين أيديهم، كما يؤكد الكتاب، الخطة المصرية. وعلاوة على ذلك، فقد كانت القوات المسلحة المصرية قد أجرت بالفعل «مناورات»، وحتى الضباط في أركان الحرب أصبحوا يرتدون ملابس الميدان وأغلقت الكليات العسكرية في مصر، كما تم رفع كباري العبور من مواقع التدريب في النيل. وهناك حقيقة أخرى بالغة الأهمية وهي البدء في الإخلاء الجماعي لأفراد عائلات العاملين السوفييت في كل من مصر وسوريا. كما ينبغي ألا ننسى التصريحات الواردة في الكتاب، والتي أدلى بها العسكريون المصريون بشأن أن إسرائيل سوف تعرف حتما بموعد بدء العمليات العسكرية قبلها بأربعة أو خمسة أيام! الحديث هنا يدور عما جرى من أحداث وقعت في الثالث من أكتوبر؛ أي قبيل بدء الهجوم بثلاثة أيام. وعليه فالإسرائيليون إما تظاهروا بأنهم لا يعرفون شيئا عن استعدادات المصريين الواضحة والملموسة، وإما أن تقرير لجنة أجرانات ببساطة أخفى الحقائق؛ أي إنه كان تقريرا مزيفا.
ص33:
أمر غريب: يورد هيكل العديد من الحقائق تؤدي مباشرة إلى وجود استعدادات ملموسة من جانب المصريين لبدء العمليات العسكرية، كما يتحدث في الوقت نفسه عن فعالية المخابرات الإسرائيلية.
3
كل ذلك يتناقض مع تأكيده بشأن مفاجأة الهجوم المصري. ومع ذلك فإن الكاتب يعزو تقاعس الإسرائيليين (ومن ثم الأمريكيين) إلى غطرسة الإسرائيليين، بزعم أنهم لم يكونوا راغبين في رؤية وتصديق ما رأوه وما سمعوه! هل يمكن أن يكون هذا أمرا جادا؟
قلت لنفسي: أليست هذه اللغة التي يستخدمها الكاتب هي ذاتها لغة «إيزوب»؛
4
يتحدث عن حقائق ولكنه يفسرها (يؤولها) على نحو آخر أو، ببساطة، لا يفسرها (لا يؤولها)؟
ص34:
الواضح أن السادات لم يحط هيكل علما برسالة القيادة السوفييتية المؤرخة الرابع من أكتوبر. لم تطلب هذه الرسالة على وجه الخصوص، السماح بإجلاء «المستشارين المدنيين السوفييت وعائلاتهم» من مصر، وإنما تضمنت أنه نظرا لصعوبة الوضع فقد قررنا السماح بمغادرة أفراد عائلات العاملين السوفييت في مصر. تناول الحديث فقط أفراد عائلات العاملين؛ أي الزوجات والأطفال وليس الخبراء. وبالمناسبة فقد بلغ عدد الزوجات والأطفال الذين تم إخلاؤهم خلال عدة أيام من مصر ما يزيد على 2700 فرد.
ص35:
مرة أخرى يعود هيكل للحديث عن استدعاء المستشارين المدنيين السوفييت، وهو ما لم يحدث في الواقع. من هنا يصبح واضحا «المعاناة» المصطنعة للسادات تجاه ما يمكن أن يعنيه ذلك بالنسبة لموقف الاتحاد السوفييتي. وهذه من بنات أفكار هيكل. تضمنت رسالتنا ليس فقط الحديث عن دعم مصر، وإنما أيضا الإسراع بتوريد المعدات العسكرية! حتى إن السادات لم يكن بحاجة إلى أن يشغل فكره بما إذا كان سيتلقى مساعدات أم لا.
يمكن تفسير هذه التناقضات العديدة مع الحقائق بجهل الكاتب بالوضع الحقيقي للأمور، ومن هنا خياله ذو الطابع الأدبي حول ما عاناه السادات من «عذاب الشك». وإما أن السادات أوعز لهيكل برواية الرسالة بهذه الصيغة وعن إجلاء المستشارين، وليس أفراد عائلاتهم وعن «شكوكه»، بعد أن صمت، بالطبع، عن استعداد الاتحاد السوفييتي لتقديم الدعم، وهو ما تم التعبير عنه في الرسالة السوفييتية.
ص36:
حسنا. ها هو إثبات آخر يأتي على نحو عفوي أن الإسرائيليين لاحظوا تمركز معدات العبور المصرية ليس فقط في التاسعة والنصف من صباح السادس من أكتوبر، وإنما أيضا في الخامس من أكتوبر. وهل كان من الممكن ألا يلاحظ ذلك الأمر؟ وكيف يمكن الحديث عندئذ عن «مفاجأة» الهجوم المصري؟ كم مرة يقع الكاتب في تناقض مع نفسه!
ص36:
دليل آخر يتمثل في أن الإسرائيليين كان عليهم أن ينتبهوا على الأقل. هيكل الوحيد الذي لم تكن لديه معلومات دقيقة؛ فالمستشارون السوفييت لم يجر إجلاؤهم، وإنما أفراد عائلاتهم الذين وصلت لنقلهم طائرات إيليوشن، وليست طائرات توبيلوف.
5
ص36:
مرة أخرى يقدم هيكل تأكيدا بعيدا عن الحقيقة مفاده أن القيادة الإسرائيلية لم تستطع أن تصدق هذا السيل المتدفق من المعلومات الواردة عن تحرك القوات المصرية. هكذا صور هيكل الإسرائيليين باعتبارهم أناسا شديدي الحمق!
ص38:
لم يأت السادات في لقائه الذي تم معي في السادس من أكتوبر على ذكر إجلاء المدنيين السوفييت، ولم يعبر عن استيائه بشأن توريد المعدات السوفييتية (يبدو أن ذلك، مرة أخرى، نتيجة لمعلومات موجهة صدرت عن السادات).
على العكس من ذلك، فقد بالغ السادات في هذا اللقاء في المجاملة، بل إنه قال لي إن «أحداثا» ستقع في الساعة الثانية ظهرا. ما هي هذه الأحداث؟ لم يقل، لكنه أعرب عن أمانيه أن يكون السفير السوفييتي قريبا منها، لكنه «استدرك» قائلا إنه ينبغي على السفير السوفييتي أن يبلغ موسكو عن حديثنا، ومن ثم فإن عليه أن يذهب إلى السفارة. باختصار، فالسادات ظل «يناور» حتى اللحظة الأخيرة.
ص39:
لم يجر السفير السوفييتي في هذا اليوم أي حديث مع حافظ إسماعيل؛ ولهذا لم يكن على الكاتب أن يستخرج هذا الاستنتاج المتعدد المعاني حول «سرعة الاتصال» بين واشنطن والقاهرة والقدس وموسكو. كان هذا «فرقعة» صحفية!
ص40:
اتصل السادات بالسفير السوفييتي في الساعة الثانية والنصف ظهرا، وليس في الثالثة والنصف، وقد التقط سماعة التليفون السكرتير وفاء جوليزادي، وليس «خادم» السفير، حيث إن السفير ليس لديه خدم.
ص41:
لم يبلغ أحمد إسماعيل السفير السوفييتي بأية معلومات حول سير عملية عبور القناة، وإنما اكتفى (وعلى نحو كئيب) بتكرار ما قاله السادات للسفير السوفييتي بفرح وحماس بأن القوات المصرية قد عبرت القناة. وقد أجاب أحمد إسماعيل بحزن بالغ على تمنيات السفير المهذبة النمطية بقوله: «إن شاء الله!»
ص41:
عبثا تحدث هيكل باستخفاف عن حذر المستشارين العسكريين السوفييت بشأن صعوبات عبور الحاجز المائي، القناة. وهو حذر في واقع الأمر صحيح تماما، وقد بذل الخبراء العسكريون السوفييت جهودا فائقة في تدريب المصريين على تجاوز الحواجز المائية.
لماذا عبر المصريون القناة بمثل هذه السهولة وبأقل قدر من الخسائر (يقال إن الخسائر إجمالا بلغت حوالي مائة وخمسين فردا، وهو ما يستطيع رامي رشاش واحد أن يحصد به عددا أكبر بكثير من الجنود). يمكن أن نجد إجابات كثيرة على هذا السؤال. هنا يمكن أن نتحدث عن التدريب العسكري الذي تحقق على يد المستشارين العسكريين السوفييت، وعن النوعية الجيدة للسلاح السوفييتي والذي لم يكن كثير من الناس في مصر يثقون فيه، وكذلك التعبئة النفسية الرفيعة للقوات المصرية التي كان لديها هدف واضح انتظرت طويلا لتحققه، وربما لكل هذه الأسباب معا.
ص41:
لم يعقد السفير السوفييتي أية اجتماعات، ناهيك عن أن تكون «عاجلة» مع «اثنين من الجنرالات» من أعضاء السفارة لمعاونته في إعداد تقرير يبعث به إلى موسكو. هذه ترهة محضة، قصة ابتدعها الكاتب.
ص42:
لو أن كيسينجر أبلغ المصريين بعد نشوب العمليات العسكرية أن عليهم أن ينتظروا هجوما إسرائيليا مضادا ومكثفا، لكان ذلك معناه أن الأمريكيين كانوا على ثقة من انتصار إسرائيل، لكنهم أعلنوا أنهم لن يسمحوا باحتلال إسرائيل لأراض جديدة، فما الذي يعنيه ذلك؟ لو أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت على يقين من أن مصر تتخذ موقفا معاديا للأمريكيين، مهما كان شكل هذا الموقف ولو ظاهريا، فهل كان باستطاعة الأمريكيين أن يخرجوا بهذا التصريح، في الوقت الذي كانت «صديقتها وحليفتها» أو، إن شئنا الدقة، صنيعتها إسرائيل، تعاني من الهزيمة (حتي حينه)؟! إن تصريح كيسينجر يمكن أن يكون تأكيدا على أنه كانت هناك «قواعد للعبة» مخطط لها سلفا في هذه الحرب، لا يسمح للمشاركين فيها - مصر وإسرائيل - بتخطيها. كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي قائد الأوركسترا، وهي المخرج لهذه اللعبة المخططة، ومن هنا كانت شرعية هذا التصريح العجيب الذي قاله كيسينجر للمصريين من أن إسرائيل سوف تنزل بمصر ضربة بقوة محسوبة مسبقا؛ أي إن الولايات المتحدة الأمريكية لن تسمح لإسرائيل باحتلال أراض جديدة.
ص43:
عبارة كيسينجر التي وجهها للمصريين: «آمل ألا تتصرفوا على هذا النحو حتى لا تخرج الأمور من أيديكم.» قيلت بعد بدء العمليات العسكرية، ولو أنها قيلت قبلها لكانت تحمل ربما معنى آخر. وكونها قيلت بعد أن اندفع آلاف الجنود المصريين ومعهم أسلحتهم ودباباتهم إلى الضفة الشرقية لا يعني سوى التذكير بالقواعد التي وضعت سلفا ودعوتهم إلى الالتزام بها. باختصار فقد طلب كيسينجر السيطرة على العمليات العسكرية. إن هذه العبارة التي أوردها هيكل في كتابه تؤكد أفضل من أي شيء آخر تداول فكرة الاتفاق الذي عقد سلفا بين الجانبين المتحاربين والولايات المتحدة الأمريكية كحقيقة في حد ذاتها، فضلا عن أنها تؤكد على طابع العمليات العسكرية التي جرت في أكتوبر 1973م.
ص43:
يطرح هيكل هنا سؤالا منطقيا: كيف حدث على أية حال أن الإسرائيليين فوجئوا تماما سواء من الناحية الاستراتيجية أو التكتيكية؟ على أنه يعطينا إجابة ساذجة: إن الإسرائيليين، على حد قوله ، أساءوا فهم مسيرة التاريخ. إجابة سطحية، لا تليق به، أم تراه، ربما لم يشأ أن يذكر الإجابة الصحيحة؟
ص44:
غير صحيح ما أكده هيكل أن الإسرائيليين كانوا مستعدين لإغراق قناة السويس .. بالنابالم! لقد سرت شائعات حول إمكانية صب مازوت أو وقود الديزل أو أي نوع آخر من المشتقات البترولية، التي يمكنها أن تشعل القناة. على أنه قد تبين أن هذه المعلومات غير مؤكدة.
الفصل الثاني «الأيام الأخيرة لناصر»
ص48:
قام هيكل بتشويه طابع المباحثات التي دارت مع ناصر على نحو فظ؛ فالاتحاد السوفييتي لم يطلب مطلقا أية تسهيلات في مصر، بما فيها الأراضي. أما ما ورد بشأن طلب السوفييت رفع «الراية الحمراء»، فمن الواضح تماما أنه قيل من قبيل الاستظراف.
لسبب ما يخشى هيكل أن يذكر الحقيقة حول موقف الاتحاد السوفييتي، وأحيانا يتظاهر عن قصد بالشجاعة؛ انظروا إنني لا أدافع عن الاتحاد السوفييتي. إنه يستخدم هذا الأسلوب وكأنه يسعى ليضفي الاحترام على صحة ما يقول .
ص49:
حسنا فعل هيكل عندما لم يخش أن يذكر مآثر محمد فوزي وزير الحربية الأسبق، الذي أدانه السادات بتهمة سخيفة هي «خيانة الدولة»، وفي حقيقة الأمر فالذين جاءوا بعده هم الذين حصدوا نتاج غرسه.
ص50:
عبثا ألصق هيكل بالمارشال زاخاروف خصالا ليست فيه، وخاصة القسوة الشديدة. وها هو يعود بعد ذلك ليقيمه تقييما جيدا وعادلا على هذا العمل الذي أداره لإعادة بناء الجيش المصري بناء كاملا تقريبا بعد هزيمة مادية ومعنوية مني بها في عام 1967م.
ص54:
عبارة سيسكو حول أن مصر لا يمكنها أن تعول على عودة كل الأراضي المحتلة وإقامة السلام، هي من العبارات المميزة لسيسكو. والأفضل الحديث عن موقف الولايات المتحدة المدافع المخلص عن المصالح الإسرائيلية، حتى إن السادات قال ذات مرة للسفير السوفييتي إن المصريين لن يسمحوا بدخول سيسكو إلى الأراضي المصرية. على أن ذلك لم يمنع السادات فيما بعد من أن يعتبر سيسكو «صديقه».
ص54:
لا يزال هيكل مولعا بأساليب البلاغة الأنيقة في كتابته، والتي لا يكون لها مغزى أحيانا ؛ فنجده يضع على لسان ناصر عبارات تبدو جميلة، لكنها في الواقع كانت تسيء للرجل في كل الأحوال، بل كانت تصور ناصر نفسه في صورة غير جادة. كيف لناصر أن يقول إنه طلب من الاتحاد السوفييتي معدات للعبور مع ضرورة إعادتها على الفور بعد عبور قناة السويس إلى الضفة الغربية حتى لا يتمكن من عبر إلى الضفة الشرقية من العودة مرة أخرى؟
إذا افترضنا أن ناصرا استطاع أن يقول ذلك في فورة حماسه باعتبارها جملة بليغة، فلم يكن على هيكل أن يقتبس هذه الجملة بالضرورة من ناصر على هذا النحو من الجدية. من المدهش أن نجد هيكل يوائم كثيرا بين الذوق الرديء والموهبة في وصف الأحداث.
ص56:
يرى هيكل، وهو على حق في ذلك، أن هدف ناصر تمثل في جر الاتحاد السوفييتي أكثر فأكثر بقدر الإمكان إلى قضية الصراع في الشرق الأوسط. وفي حديثه معي، على سبيل المثال، في مارس 1970م، حاول ناصر أن يطور فكرة أن الصراع يعد في جوهره صراعا سوفيتيا أمريكيا، بل هو بمثابة مواجهة بين الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. وقد بينت له، بطبيعة الحال، خطأ هذا المدخل.
ص65:
يعطي هيكل انطباعا خاطئا كما لو أن الاتحاد السوفييتي قد أخرج يارنج من حساباته، غير عابئ به. كان الأمر على النقيض من ذلك؛ فالاتحاد السوفييتي كان الدولة الوحيدة، ربما، التي أيدت وبشدة مهمة يارنج، مراهنة عليها، محاولة بكل الوسائل دعم هذه المهمة. بالطبع، فقد كان من الواضح في هذه الفترة أيضا ما يقوم به أعداء مهمة يارنج الأشداء، وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية التي كانت تريد أن تقوم بدور الوسيط بنفسها وعلى نحو منفرد.
ص65:
مرة أخرى يكرر هيكل أكذوبة السادات التي يزعم من خلالها أن مصر تدفع مرتبات المستشارين العسكريين السوفييت بالعملة الصعبة. هذه الشائعة المستفزة، التي انتشرت بهدف إثارة السخط على قرار ناصر بدعوة المستشارين السوفييت.
ص65:
ترهة هيكل الدورية التي تزعم أن قسطنطين مازوروف كان مسئولا عن قضايا حركة التحرر الوطني.
ص88:
آنذاك (1977م) لم يكن من الممكن أيضا الحديث عن توريد طائرات الاستطلاع م-500. هذا الموضوع لم يطرح إلا بعد وفاة ناصر (1971م).
ص90:
كثيرا ما يقوم هيكل «بتنظير» أمور غاية في البساطة؛ فالطيارون الروس لم يكن بمقدورهم تبادل الحديث سوى باللغة الروسية.
6
ص90:
من الواضح أن هيكل يختلق هنا موضوع استعراض الاتحاد السوفييتي لوصول العسكريين السوفييت إلى مصر. الأمر على العكس تماما، لقد تم بذل أقصى جهد وعلى نحو عقلاني قدر الإمكان لتجنب انتشار أية معلومات عن وجود عسكريين سوفييت في مصر. وفي الوقت نفسه عبر ناصر وهيكل عن رغبتهما في أن يكون وصول العسكريين السوفييت لافتا للنظر. كان ذلك من شأنه أن يساعد توجههما في جذب الاتحاد السوفييتي إلى أقصى حد إلى قضية الشرق الأوسط؛ ولهذا فنحن لسنا مضطرين للحديث عن مشاركة الاتحاد السوفييتي فيما يسمى «لعبة الأمم الكبرى» في الشرق الأوسط؛ فالاتحاد السوفييتي لم يشارك إطلاقا في هذا النوع من «اللعب»، وكان دائما يتعامل مع الحروب بحذر ومسئولية كبيرين.
ص94:
لا أتذكر الموقف الذي وصفه هيكل بخصوص «الورقة» التي تم تبادلها في الكرملين. فإذا كان هذا الموقف قد حدث فعلا، فإن ذلك يعني أن ذكرها جاء بمثابة تحذير للسادات الذي كان يستعد لعمل انقلاب، وهل الانقلاب عمل فارغ، كما وصفه هيكل، مجرد «ورقة صغيرة»؟ مستحيل أن يكون ناصر قد رأى في هذا العمل «بيروقراطية زائدة عن حدها».
7
ص95:
يخطئ هيكل هنا؛ فقد أشار الجانب السوفييتي آنذاك على ناصر بقبول ما عرف ب «مبادرة» روجرز؛ إذ رأى أنها يمكن أن تكون مفيدة للمصريين في تلك الظروف؛ فالمصريون لن يخسروا في الواقع شيئا، بينما كان على الإسرائيليين الالتزام بالقيام بمشاركة فعالة في «مهمة» يارنج، الأمر الذي لم يكونوا يرغبون في عمله. الواضح أن هيكل يخلط بين «المبادرة» وبين ما عرف باسم «خطة روجرز»، التي ظهرت بعد ذلك، والتي كانت تنظر في انسحاب القوات الإسرائيلية من الضفة الشرقية للقناة حتى الممرات الجبلية ثم فتح قناة السويس أمام الملاحة لكل الدول بما فيها إسرائيل، وبدء المفاوضات المصرية الإسرائيلية. وقد رفض المصريون هذه الخطة التي طرحت عام 1971م، بينما قبلوا في عام 1974م الطبعة الأسوأ كثيرا منها (حدث ذلك بعد النجاح العسكري في أكتوبر).
ص96:
يحاول هيكل دون لباقة أن يسوغ مبررا لخطئه الفاحش الذي ارتكبه هو تحديدا عندما تولى المسئولية باعتباره وزيرا للخارجية بالنيابة. ما معنى «قيل لنا إن كل شيء (وقف إطلاق النار(المترجم)) يجب أن يتم خلال ساعات؟» من الذي قال؟ وماذا عن هذا الفرض؟ وفي الوقت نفسه، فقد اعترف هيكل في حديثه مع السفير السوفييتي أنه، وهو الذي لا يملك صلاحيات كافية، راح «يدرس» ما ذكره الأمريكيون في نص اقتراحهم «وقف إطلاق النار مع بقاء القوات في المواقع التي يشغلونها» (
Standstill Ceasefire ). في الواقع فإن هذا المصطلح، كما هو معروف، لم يرد من قبل في القضايا الدولية. عموما فإن هذا الشرط يعد شرطا استفزازيا لأنه لا معنى له. ما الذي يعنيه إذن هذا الشرط بصفة عامة عند التطبيق الدقيق له؟ هل يعني أن على كل الجنود أن يلزموا أماكنهم وألا يتحركوا إلى الأمام أو إلى الخلف؟ يبدو أن الأمريكيين قد أوقعوا المصريين في الفخ.
ص104:
من جماع المشهد الذي جرى وصفه على نحو درامي لموت ناصر يظل هناك شيء غامض؛ من الذي استدعى ف. ب. بولياكوف، القائم بالأعمال، السوفييتي لدى مصر في الساعة السادسة مساء إلى منزل الرئيس؟ ولماذا؟ لقد وصل بولياكوف إلى هناك وظل فترة طويلة دون أن يهتم به أحد، لم يتحدث إليه بكلمة إلى أن غادر منزل الرئيس دون أن يلحظه أحد.
أمر آخر يبقى غامضا في وصف هيكل. هل وصل هيكل عندما كان ناصر لا يزال على قيد الحياة، أم أنه دخل إلى غرفة نوم ناصر بعد أن أسلم الروح؟ ليت الأمر كان واضحا هنا.
ص107:
تصريح غريب تماما أعلنه السادات فور وفاة ناصر عن ضرورة مناقشة موضوع مد وقف إطلاق النار، الذي ينتهي في التاسع من نوفمبر. توفي ناصر في الثامن والعشرين من سبتمبر؛ أي قبيل التاسع من نوفمبر بشهر ونصف تقريبا. ألم تكن في رأس السادات أفكار أخرى فور وفاة ناصر؟
بالمناسبة، لماذا يذكرنا هيكل بذلك؟ وأي خصلة من خصال السادات يود هيكل أن يبرزها؟
ص112:
تم هذا الحوار
8
بالفعل بين السفير السوفييتي وهيكل على النحو الذي وصفه الأخير تقريبا، فيما عدا استشهاد السفير السوفييتي، بطبيعة الحال، بما حدث في المكتب السياسي. لماذا قرر هيكل أن يضمن كتابه هذا المقطع؟
ص112:
شارك هيكل في الاجتماعات التي جرت بين ألكسي كوسيجين والقيادات المصرية فور الانتهاء من دفن ناصر. والحقيقة أن هيكل يخلط هنا بين الأمور كثيرا؛ فهو ينسب ما قاله علي صبري إلى محمد فوزي، أما ما قاله كوسيجين فينسبه إلى زخاروف.
9
يصف هيكل مضمون الاجتماع على نحو دقيق تقريبا، الأمر الأهم أنه أورد بدقة دعوة القيادة السوفييتية للقيادة المصرية إلى ضرورة الحفاظ على الوحدة.
ص113:
صحيح أن ألكسي كوسيجين تحدث كثيرا عن ضرورة الحفاظ على الوحدة بين زعماء البلاد.
ص113:
ينهي هيكل هذا الفصل من كتابه على نحو صائب ورائع عندما تحدث عن ناصر منصفا علاقاته مع الزعماء السوفييت، التي اتسمت بالقوة والصراحة. وهي كلمات تأتي على النقيض تماما من الطريقة التي تصرف بها أنور السادات، خليفة ناصر، في علاقاته بالزعماء السوفييت.
الفصل الثالث: السادات يسير عكس الريح
ص115:
يبرر هيكل اتصالاته مع الأمريكيين، وحتي انجذابه نحوهم، بأنها محاولات واعية ل «تحييد» الولايات المتحدة الأمريكية، باعتبار أن ذلك يمثل ضرورة أساسية للمعركة القادمة مع إسرائيل.
يتحدث هيكل كما لو كان يؤيد «مغازلة» مصر للأمريكيين، وإنما إلى حد معلوم (وهو يعترف بذلك، على سبيل المثال، للسفير السوفييتي). فهل كان من الممكن الاعتماد بهذه الطريقة على «تحييد» الولايات المتحدة الأمريكية؛ أي إلزامها بوقف دعم إسرائيل (ناهيك عن عدم وقوفها أيضا إلى جانب العرب) أو حتى حثها على تخفيض هذا الدعم؟ إن التفكير على هذا النحو والمناداة به كان يعني دخول الكاتب، فضلا عن شعبه نفسه في متاهة.
ما وجه الاختلاف إذن بين وجهات نظر هيكل ووجهات نظر السادات بشأن العلاقة مع الولايات المتحدة الأمريكية؟ يبدو أن الاختلاف، إذا جاز القول، خلاف في الكم لا في النوع وحسب. لقد ذهب السادات بعيدا للغاية للقاء الولايات المتحدة الأمريكية، كما ابتعد كثيرا للغاية عن الاتحاد السوفييتي. على أية حال، كان هيكل يعول على إمكانية حدوث هذا الوضع، عندما تذهب مصر للقاء الولايات المتحدة الأمريكية، ولكنه كان يرى ضرورة تحسين العلاقات مع الاتحاد السوفييتي، أو ألا تسوء هذه العلاقة على الأقل. كل هذا حساب باطل؛ لأن الولايات المتحدة الأمريكية كان بإمكانها تحسين علاقاتها مع مصر فقط عند تنفيذ الشرط الجازم المطروح مقدما، وهو تقليص علاقات مصر مع الاتحاد السوفييتي. وقد صرح كيسينجر بذلك مباشرة، وبما تميز به من صلف لهيكل وعلى نحو صريح.
يحكي هيكل أن كيسينجر طرح عليه صراحة خلال زيارته الأولى للقاهرة في السادس من نوفمبر 1973م ثلاثة شروط للتدخل الأمريكي في النزاع العربي الإسرائيلي: (1)
لا تستطيع الولايات المتحدة الأمريكية أن تضمن قيام إسرائيل بسحب قواتها من كل الأراضي التي احتلتها في عام 1967م. (2)
يجب ألا يعود الحظر مرة أخرى على تصدير البترول العربي إلى الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها الآخرين. (3)
يجب أن تتخلص مصر من «الوجود » السوفييتي؛ أي أن تقلص بشدة علاقاتها بالاتحاد السوفييتي.
إذا كان هيكل صادقا فيما كتبه، فإنه يمكن القول، على الأقل، إلى أي نتائج سخيفة قد أدت الأيديولوجيا القومية «غير الطبقية».
ص115:
إن الملاحظة التي أبداها هيكل بشأن رفض ناصر لأي شكل من أشكال «المغازلة» مع الولايات المتحدة الأمريكية لأمر مثير للفضول، وكذلك ما أشار إليه الكاتب مرتين بأن السادات، وبعد أن أصبح رئيسا، لم يكن مرتبطا ب «ميراث معاد للأمريكيين»، ومن ثم فقد استطاع المضي قدما نحو تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية، ثم القيام بانقلاب في السياسة الخارجية للبلاد. ومن المميز، ونحن نتحدث عن تغيير طابع العلاقات المصرية الأمريكية بعد وفاة ناصر، أن الكاتب لم يأت مطلقا على ذكر ما الذي تغير في موقف الولايات المتحدة الأمريكية في علاقاتها بمصر وإسرائيل؛ فلا يوجد ما يقال بشأنها هنا؛ فالولايات المتحدة الأمريكية لم تعد إلى مصر، وإنما مصر هي التي عادت إلى الولايات المتحدة مقدمة كل التنازلات الضرورية من أجل ذلك.
ص116:
هكذا قام السادات بعد مرور ما يقرب من شهرين أو ثلاثة على توليه منصب الرئيس بممارسة لعبة سياسية نشيطة من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي. ولعل من الضروري أن نلقي بالضوء هنا على هذا الظرف؛ إذ إن السادات ظل على مدى ما يزيد على ثلاث سنوات منذ توليه الحكم يؤكد في تصريحاته للزعماء السوفييت (وللسفير السوفييتي أيضا) أنه لن يجري أي اتصالات مطلقا مع الولايات المتحدة الأمريكية من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي دون أن يبلغه بها.
إن الواقعة التي وصفها هيكل، عندما فوضه السادات في إبلاغ الأمريكيين على نحو سري أن مبادرة السادات في الرابع من فبراير
10
1971م لم تكن مطلقا بإيعاز من الاتحاد السوفييتي، تمثل النموذج الأول من بين النماذج التي أصبحت معروفة فيما بعد، على تعاون السادات مع الأمريكيين؛ فالسادات لم يذكر كلمة واحدة للجانب السوفييتي حول هذه الاتصالات.
ص117:
لم يبلغ السادات الجانب السوفييتي بفحوى الرسالة المهمة التي أرسلها إليه نيكسون. أتذكر في هذا السياق المشاهد العاصفة التي أعدها السادات للسفير السوفييتي ، عندما قمت من جانبي بالتلميح وعلى نحو مهذب بضرورة أن تكون هناك اتصالات سوفييتية مصرية مستمرة، وأن يتم تبادل المعلومات والتنسيق في العمل. لقد اشتعل السادات غضبا وتحدث صائحا عن أنهم في الكرملين لا يثقون فيه وما إلى ذلك. إن كتاب هيكل، بالمناسبة، يمثل أهمية كبرى حيث يسمح بكشف أكاذيب السادات في علاقته غير المخلصة تجاه القيادة السوفييتية، وفي كل صراخه حول عدم الثقة فيه كان (والأرجح أنه سيكون دائما) أمرا مصطنعا. إن هيكل، أقولها ببساطة، يفضح السادات، ربما دون قصد منه.
ص118:
أصاب هيكل عندما قال إن السادات كان مختلفا تماما عن ناصر، وأنه لم يكن بإمكانه منافسته بأي مقياس من المقاييس. والدليل الساطع على ذلك أن السادات كان «مطلق اليدين» في علاقته بالغرب. ما العجيب إذن في أن يتولد لدى الجانب الروسي آنذاك الشك في علاقته به؟
ص118:
يخلط (هيكل) الأمور عندما يلقي بالضوء على الزيارة «السرية» التي قام بها السادات إلى موسكو في أوائل شهر مارس عام 1971م. من الواضح أن أحدا لم يوفر لهيكل أي معلومات موثوق بها. كان الوفد المصري يضم آنذاك، فضلا عن السادات، الفريق محمد فوزي وشعراوي جمعة، وكلاهما وجهت إليه بعد شهرين فقط تهمة «خيانة الدولة»، ناهيك عن أنهما لم يكونا، من الواضح، يشعران بالود تجاه هيكل، بل ويعتبرانه صديقا للأمريكيين وعدوا للنمو التقدمي لمصر. وهؤلاء لم يكن باستطاعتهما أن يقدما معلومات لهيكل، أما السادات فلم يكن بحاجة إلى إذاعة أية تفاصيل عن هذه الزيارة؛ فهو الذي أفشلها بنفسه؛ إذ اتسمت تصرفاته خلالها بالحمق وغياب الرصانة، الأمر الذي جعله يخفي الحقيقة عن أي شخص بطبيعة الحال.
لم يقدم هيكل في هذا الشأن سوى بقايا معلومات حصل عليها من «مائدة غيره».
إن الجانب الشكلي المهم في هذا الأمر، والذي قدمه هيكل، واستغله السادات بهدف إفشال المباحثات، يتمثل في الواقع فيما إذا كان باستطاعة السادات أن يتولى قيادة الطائرات السوفييتية الموجودة في مصر بأطقمها السوفييتية، والتي تعد جزءا من القوات الجوية السوفييتية!
هذا الأمر كانت له مقدماته ، عندما طلب ناصر في حينه (وليس علي صبري كما كتب هيكل) نشر طائرات قاذفة للصواريخ في مصر (عليها علامات مصرية بطبيعة الحال)، بينما تقودها 4 أطقم سوفييتية، مع الأخذ في الاعتبار أن الإسرائيليين كانوا على علم بوجود إمكانات لدى مصر بتوجيه ضربة في عمق إسرائيل إذا لزم الأمر؛ أي في حالة قيام الإسرائيليين أولا بتوجيه ضربة في العمق المصري. كان هذا هو، إذا جاز القول، «سلاح الردع». لم يتطرق الحديث مطلقا حول تسليم هذه الطائرات للمصريين ولا بقيام الطيارين السوفييت بالخدمة لدى المصريين. ومن الضروري أن السادات يعلم ذلك. كما أن الأطقم المصرية لم تكن مدربة على هذه الطائرات. باختصار، فإن الأمر كان واضحا دائما وضوح الشمس أمام الجميع، على أن السادات استغله عمدا بقصد إثارة الخلاف مع الزعماء السوفييت .
أسفرت المباحثات التي جرت في موسكو عن الموافقة على إعطاء السادات طائرات من طراز تو-16، وذلك بناء على الشروط التي تم الاتفاق عليها قبل ذلك مع ناصر بطبيعة الحال، وعلى الرغم من أنه قد تبين أن السادات لم تكن لديه أية تصورات واضحة عن تحركات مصر بشأن ما عرف باسم مسألة «الاستراتيجية المشتركة». كل ما هنالك أن السادات اكتفى بالتأكيد على «ضرورة حل» أزمة الشرق الأوسط وطلب أسلحة ثم المزيد من الأسلحة، وقد اتضح أنه لم تكن لديه أية خطط محددة، بما في ذلك الخطط العسكرية.
وعندما وصل الأمر إلى مسألة الطائرات تو-16، أظهر السادات «تعاليه»، وراح يعترض على أن تتلقى الأطقم السوفييتية لهذه الطائرات أوامرها من القيادة السوفييتية. بدأ في الغضب ثم ازداد غضبه (أو تظاهر بأنه فقد أعصابه)، وفي النهاية أعلن عن رفضه استلام هذه الطائرات، وهو ما أثار دهشة فوزي وجمعة.
إن كل الحوارات التي تتعلق بهذا اللقاء والتي أوردها هيكل بما فيها تلك التي وضعها بين أقواس، لم تحدث في الواقع.
ص119:
إنه لأمر عجيب أن يكون السادات قد أكد لهيكل أنه كان مضطرا أن يمثل دور الغاضب حتى يحصل في النهاية على ما يريد.
11
في الواقع أن السادات لم يحصل على شيء نتيجة تصرفه، على الرغم من أن طابع اللقاء إجمالا، بطبيعة الحال، كان مثيرا لاهتمام الجانب السوفييتي. على أن مقولة السادات حول كونه اتخذ موقف الغضب، لافتة للانتباه من زاوية أخرى؛ فالسادات «غضب» (دعنا نقل ذلك) بعد أن تلقى الموافقة على توريد طائرات تو-16! لعله شعر بالفزع بعد أن وجد أن طلبه الذي ظل طوال الوقت يطرحه، والذي كان يبدو بمثابة حجر عثرة (ألقاه هو بنفسه) في طريق علاقته بالاتحاد السوفييتي وقد تحقق؟ أو لعله كان يعول بالمناسبة على أن طلبه سوف يرفض مرة أخرى، وعندئذ انهارت لعبته، عندما رأى أن تسلم هذه الطائرات سوف يلزمه بشيء ما أمام الإتحاد السوفييتي.
ص120:
إن التأكيد الذي أعطاه السادات للأمريكيين في مطلع نوفمبر عام 1970م بأنه سوف «يبعد الروس عن مصر» بعد إنجاز المرحلة الأولى من انسحاب القوات الإسرائيلية الموجودة في سيناء هو، ربما، أكثر الاعترافات أهمية والذي يكشف عن خيانة السادات للاتحاد السوفييتي؛ إذ يجيء هذا التأكيد بعد شهر ونصف فقط على رحيل ناصر والوعود المنمقة التي قطعها السادات على نفسه بالإخلاص للاتحاد السوفييتي واستمرار الصداقة معه. شيء ما آنذاك كان معروفا حول مساعي السعوديين التي كانت موجهة لقطع العلاقات بين الاتحاد السوفييتي ومصر، وتقريب الأخيرة من الولايات المتحدة الأمريكية، وعن محاولات السعوديين القيام بدور الوسيط المباشر بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية. لكن أحدا لم يكن على الأرجح يتصور أن يكون حجم خيانة السادات بهذا القدر.
ص122:
إن اعتراف هيكل بأنه لو تم قيام اتحاد الجمهوريات العربية (مصر، سوريا، ليبيا)، لما وجد السادات تأييدا له من غالبية الأعضاء سواء في البرلمان الاتحادي أو في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي، لهو اعتراف له دلالة كبرى! على أن هيكل لم يذكر الأسباب، وإن كان الأمر واضحا. إنه نهج السادات في التعاون مع الأمريكيين وغياب الهيبة التي ينبغي أن يتحلى بها القائد التقدمي، ولأنه شخصية مخاتلة وغدار.
ص123:
لقد ذاق هيكل هذا الشعور الشخصي بالكراهية تجاه من أطلق عليهم «المتآمرون» (كان هذا الإحساس رد فعل عكسي بدرجة معلومة؛ فالناصريون كانوا ينظرون بقدر من الشك تجاه مغازلة هيكل للأمريكيين ومحاولاته أداء دور المفسر الوحيد لوجهات نظر الراحل ناصر)، وكانت واحدة من التهم التي وجهها هيكل إليهم تتلخص في أنهم ... «كانوا يرددون مبادئ وأقوال عبد الناصر كالعميان»، وأنهم كانوا «يبجلونه دون تفكير». لماذا كان حتما أن يقودهم ذلك إلى «المؤامرة»؛ أمر لا زال غامضا. وحتى إذا افترضنا أن هؤلاء الذين أحاطوا بناصر قبل ذلك، والذين ساروا وراءه «كالعميان» وتآمروا بعد موته لنفس السبب، فإن سؤالا يطرح نفسه: ضد من كان «التآمر» آنئذ. من الواضح أن المؤامرة كانت ضد هؤلاء الذين وقفوا ضد ناصر وأرادوا أن يقضوا على الناصرية! لكن «المؤامرة» كانت ضد السادات. وهل يعني هذا أنها كانت محاولة لمنع الخروج على الناصرية؟
إن هيكل يثير ببعض صياغاته أفكارا مباغتة تماما.
ص126:
إذن كان السادات يشعر بالشك الذي اعتمل في نفوس الناصريين تجاهه فور وفاة ناصر! إن تأكيد هيكل على ذلك أمر، على ما يبدو، صحيح. غير أن هذا التأكيد يكشف لنا مرة أخرى إلى أي حد كان السادات ماكرا غدارا؛ إذ ظل يؤكد دائما على ثقته في الناصريين المحيطين به حتى قبيل اعتقالهم بيومين في الثالث عشر من مايو 1971م!
ص128:
إن تأكيد الكاتب على أن السادات كان يريد إقامة الوحدة مع سوريا وليبيا، ومع ما يترتب على ذلك من تشكيل مؤسسات سلطوية جديدة وإجراء انتخابات جديدة (يمكنه عن طريقها التخلص من الناصريين) لأمر ذو دلالة. على أن ذلك التأكيد يتناقض مع ما ذكره الكاتب قبل ذلك في صفحة 122، حيث أكد على أمر مختلف تماما.
ص129:
يورد هيكل هنا قصة لا يمكن تصديقها تتعلق بالجلسات الروحية، التي يزعم أن الناصريين كانوا يقيمونها للتحدث مع روح «ناصر». وقد نشر هيكل هذا الأمر في صحيفة «الأهرام» في حينه، وتجدر الإشارة هنا إلى أن كثيرا من المصريين شككوا في صحتها. ومن ثم فإن المشهد كله يناسب ذهنية السادات، الذي كان يسعى للنيل من خصومه السياسيين بأي وسيلة.
ص131:
لم يأت ظهور هيكل في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي العربي محض صدفة. لقد جاء (أو دعي للحضور) لمساعدة السادات ومحمد فوزي، الذي كان يلقى دعما من هيكل آنذاك، والذي كان يرتبط به هيكل بعلاقة صداقة دائمة. ويزعم هيكل في كتابه أن ناصرا أبلغ الزعماء السوفييت في حينه بالوحدة المقترحة مع سوريا وليبيا، وكان من المفترض، على ما يبدو، أن توهن هذه الحجة من عزيمة خصوم الوحدة؛ فموسكو أيدت هذه الخطوة.
إذا كان هيكل قد قال فعلا ما كتبه، فقد تصرف إذن على نحو يفتقد إلى الأمانة. صحيح أن ناصرا تحدث بالفعل إلى الزعماء السوفييت في يونيو 1970م عن وحدة مرتقبة، على أنه تلقى ردا على ذلك اتسم بالموضوعية، مدعوما بالحجج حول أهمية التأني في اتخاذ مثل هذه الخطوة ودراساتها دراسة عميقة وما إلى ذلك. باختصار، لم يجد ناصر تشجيعا على الوحدة، بل على العكس من ذلك، فقد تلقى النصح بعدم التسرع في التعامل مع هذه الفكرة، وعلى هيكل أن يتذكر هذه الحقيقة.
ص132:
هكذا بدأ السادات بالفعل المباحثات مع الأمريكيين باعتبارهم وسطاء حول «الحل الوسط» مع إسرائيل، وذلك في مطلع عام 1971م! وكان السادات قد أبلغ الاتحاد السوفييتي أنه لن يجري أية مباحثات مع الأمريكيين.
ص132:
لم تجر مباحثات المصريين في مطلع شهر مايو 1971م على النحو الذي وصفها به هيكل. وإذا كان هيكل على علم بالحقائق فإن عليه أن يصف هذا المشهد السخيف عندما راح السادات يتحدث على انفراد مع روجرز، بينما جلس وزير خارجيته محمود رياض في غرفة الاستقبال المجاورة، ومثله مثل أي شخص آخر، لم يكن رياض على علم بالحديث الدائر بين روجرز والسادات. وقد ذكر رياض نفسه أنه شارك في المباحثات شكليا فحسب.
من الواضح أن السادات بدأ بالفعل منذ هذه اللحظة في بذل الوعود البعيدة المدى التي تتلاءم وأماني الأمريكيين.
12
ص133:
لا يأتي هيكل على ذكر سيسكو الذي طار إلى القدس ثم عاد ليجري مباحثات خاصة وعلى انفراد مع السادات.
حكاية الضابط الشاب التي زعم هيكل أنه أحضر ليلا للسادات شرائط مسجل عليها أحاديث تليفونية ، لم يقبلها حتى أكثر الناس ميلا للتصديق من المصريين، وكانت موضع سخريتهم، بل واعتبروها من الطرائف. وقد أوردها هيكل عبثا باعتبارها حكاية جادة. يبدو هنا وبقوة السيناريو الذي كتبه ومثله السادات نفسه. بالمناسبة فإن اسم هذا «البطل» لايزال مجهولا حتى الآن.
ص133:
لم يذكر الكاتب أي شيء (والأرجح أنه تصرف هنا بحصافة) عما سمعه السادات عند فحصه للشرائط التي أحضرت إليه، ولماذا جلس حتى الصباح إلى جوار جهاز التسجيل. كما أنه لم تذكر في المحكمة أية «فضائح مدوية» بفضل الشرائط المسجلة. ليس من قبيل الصدفة أن المصريين ذوي الألسنة اللاذعة راحوا يتساءلون في دهشة: ولماذا لجأ السادات بعد ذلك إلى حرق الأشرطة وعليها تسجيلات للمكالمات، وهي التي زعموا أنهم وجدوها في وزارة الداخلية؛ إذ كان من الممكن ببساطة مسح المكالمات والاحتفاظ بهذه الأشرطة الباهظة الثمن. لقد تم إضرام النار في فناء وزارة الداخلية وقام السادات بنفسه أمام كاميرات التليفزيون بإلقاء الصناديق فيها، وفيما بعد عرضت هذه الملهاة في فيلم تسجيلي.
على أنه استنادا إلى الأحداث التي وردت في الكتاب، والتي بدأت مبكرا في صباح العاشر من مايو 1971م، كان من المفترض أن يحاول السادات بوعي أن يخفي المعلومات عن السفير السوفييتي أو حتى يعد له أمرا مستفزا. وفي مساء الحادي عشر من مايو أجرى السفير السوفييتي حديثا وديا طويلا مع السادات، انتهى بسؤال وجهه السفير إلى السادات عمن يمكنه الآن التحدث معه بصراحة وكأنه يتحدث إلى الرئيس. وقد سأله السادات بدوره عن الدافع وراء هذا السؤال، فأجاب السفير بقوله إنه وبعد إحالة علي صبري إلى التقاعد فقد سرت شائعات مختلفة، ونظرا للعلاقات العميقة بين البلدين على جميع المستويات، بما فيها العلاقات ذات الطابع السري؛ فإن على السفير السوفييتي، بطبيعة الحال، أن يكون حذرا للغاية وألا يسيء التصرف مع من يتعامل معهم. أجاب السادات دون تفكير بقوله: «إن أفضل أصدقائي هم شعراوي جمعة والفريق فوزي وسامي شرف، وهؤلاء باستطاعتك أن تتحدث معهم بصراحة كما تتحدث معي.» لقد ذكر لي السادات ذلك، ثم تبين أنه كانت لديه تلك «الأشرطة»، وفي الثالث عشر من مايو؛ أي بعد يومين فقط، قام باعتقالهم جميعا.
فيما بعد قص السفير على هيكل هذه الواقعة، وسأله كيف يفسر هذه الإجابة من الرئيس تحديدا على سؤال كان منطقيا تماما في تلك الآونة. فأجاب هيكل على الفور أن السادات كان يتعامل مع السوفييت جميعهم على هذا النحو من الشك، وأنه كان يريد أن «يختبر» السفير السوفييتي فيما إذا كان وراء «المؤامرة». فعندما كان السادات يستمع إلى بعض الشرائط المسجل عليها مكالمات السفير السوفييتي مع بعض المسئولين المصريين، الذين أشار السادات على السفير السوفييتي بالتعامل معهم، لم يجد أية «أدلة» تشير إلى تورط السفير السوفييتي في «المؤامرة»، وعندها شعر، على حد قول هيكل، بالغيظ (هنا يتضح لنا واحدة من الخصائص البالغة الدلالة على علاقة الرئيس بالاتحاد السوفييتي).
ص134:
يترك الكاتب لخياله العنان وهو يعلن أن الفريق صادق أقسم يمين الولاء للسادات في الثاني عشر من مايو 1971م بعد أن نطق بعبارة واحدة. هذه رواية تثير ما هو أكثر من الشك. لم يكن خافيا على أحد أن رئيس الأركان (صادق) رجل شديد الطموح، وكان يتطلع بقوة إلى السلطة، وقد نفد صبره على تحمل وزير الحربية الفريق فوزي. ظهر ذلك في التفاوت في الوضع الاجتماعي والتفكير العسكري؛ فصادق يمثل طبقة العسكريين العليا الموسرة، وهو من الأغنياء بالمفهوم المصري، بل إنه كان مالكا لمصنع، وكان ميالا، بطبيعة الحال، للغرب. أما الفريق فوزي فيمثل بالنسبة له النقيض في كل شيء. كان صادق لا يحب الاتحاد السوفييتي، وكان يرى أن العلاقة العسكرية معنا شر لا بد منه. وقد أصبح في النهاية وزيرا للحربية، وكما اتضح بعد ذلك أنه كان المنظم لعدد من التصرفات الاستفزازية الدنيئة ضد العسكريين السوفييت.
كان فوزي على العكس من ذلك. عمل من أجل تعاون أكثر قوة وإخلاصا مع الاتحاد السوفييتي.
لم تكن العلاقة الشخصية المتوترة بين كل من فوزي وجمعة وسامي شرف تجاه السادات بالأمر الخافي على صادق، ناهيك عن معرفته بميول السادات نحو أمريكا. وعلاوة على ذلك، ولسبب ما غير معلوم حتى الآن، كان صادق مدعوا على العشاء في منزل شعراوي جمعة، حيث حضر العشاء أيضا كل من محمد فوزي وسامي شرف والسفير السوفييتي وكبير المستشارين السوفييت الجنرال أكونيف. إبان هذا العشاء انتقد جمعة وفوزي وسامي شرف السادات على نحو شخصي لتعاونه مع الأمريكيين، بينما التزم صادق الصمت واكتفى بالإنصات ...
لا يمكن أن نستبعد أنه لم يوجد إطلاقا «ضابط شرطة شاب» لديه شرائط تسجيل، وإنما كان هناك الفريق صادق، الذي أبلغ السادات بالكيفية التي تلائم نفسيته، ومن ثم فقد عينه السادات وزيرا للحربية فور اعتقال فوزي. وكان ذلك متوقعا من الجميع.
ويصف هيكل أيضا سياق أحداث مايو وإنما على نحو مختلف بعض الشيء مقارنة بما قصه السادات نفسه على السفير السوفييتي؛ فوفقا للسادات فهو قد عرض على جمعة، على حد قوله، أن يختار بين أن يستقيل «طواعية»، أو يقيله السادات بنفسه. وفي تلك الفترة، كما أخبر السادات السفير السوفييتي، كان السادات مهتما باختيار بديلين لمنصبين مهمين في هذه الحالة؛ وزير الحربية (صادق) ووزير الداخلية (ممدوح سالم). وبعد أن أقال السادات شعراوي جمعة، أعلن الذين عرفوا ب «المتآمرين» عن استقالاتهم الجماعية بالفعل و... توجهوا إلى بيوتهم ليناموا. كانت هذه الليلة تحديدا ليلة سهاد وأرق بالنسبة للسادات؛ فقد كان يتوقع قيام انقلاب ضده؛ أي أعمال صريحة يواجه بها، لكن «المتآمرون» ذهبوا إلى بيوتهم ليناموا في أسرتهم.
من المؤسف أن هيكل لم يصف هذا السلوك الغريب الذي قام به «المتآمرون»، فلو أنهم أرادوا أن يقوموا بانقلاب، فما هي التهمة التي وجهها إليهم السادات لاحقا، وما الذي لم يعترفوا به؛ أي لو أنهم أرادوا إزاحة السادات بالقوة لكان الأمر يسيرا عليهم؛ فقد كان على رأسهم جميعا القوات المسلحة والشرطة والمخابرات والبرلمان والاتحاد الاشتراكي العربي ووسائل الإعلام. لم يكن صعبا على هيكل أن يعبر عن موقفه بشأن إثبات تهمة «المتآمرين» ب «خيانة الدولة»، وأنه قد حكم عليهم بالإعدام شنقا في البداية، وهو الحكم الذي استبدله السادات بالسجن المؤبد.
ص135:
الكاتب ليس على صواب عندما يتحدث عن عدم وجود بعض الأعمال هنا أو هناك دفاعا عن المعتقلين، والحقيقة أنه لم تكن هناك بالفعل أية اضطرابات جماهيرية؛ ف «المتآمرون» لم يعدوا الجماهير لانقلاب تقوم به الحكومة.
ص136:
اتضح أن ما قاله الفريق فوزي حول أن «البلد سيباع للأمريكيين» هو مجرد تكهنات. ولما كان صادق يعلم أنه سيصبح حتما وزيرا، فقد نصح فوزي بالذهاب إلى بيته ل «يستريح». وفي الوقت نفسه فقد وضع منزل فوزي تحت الحراسة؛ أي إنه أصبح معتقلا بالفعل على يد رئيس أركان جيشه.
ص137:
لم يكن السفير السوفييتي إبان مقابلته للسادات في السادس عشر من مايو محرجا؛ فلم يكن هناك أي مدعاة لحرجه. بالمناسبة فهيكل لم يحضر هذه المقابلة، ولهذا لم يكن باستطاعته أن يحصل على أية معلومات حول هذه المقابلة إلا من خلال السادات نفسه، الذي كان عليه أن يجد أحدا ما ليوقعه في «الحرج».
كان السادات إبان هذا اللقاء مرتبكا للغاية، لم يكن شاحبا فحسب، وإنما كان مغموما، يتصبب العرق من وجهه دون توقف. هكذا كان الحال دائما مع السادات عندما يعتريه اضطراب شديد. اعترف السادات أنه لم يذق طعم النوم ثلاث ليال متتالية. إذن فملاحظة هيكل حول أن السادات كان هادئ الأعصاب تملق يفتقد إلى الذكاء؛ فالسفير السوفييتي لم ير السادات على مدى السنوات الأربع التي قضاها في الخدمة في مصر في هيئة من الارتباك أكثر من تلك التي كان عليها آنذاك.
ص137:
يروي هيكل عن لقاء سامي شرف ببريجنيف في موسكو على نحو غير دقيق. لم يكن سامي شرف رئيسا للوفد المصري إلى المؤتمر الرابع والعشرين للحزب الشيوعي السوفييتي، وإنما كان الرئيس هو عبد المحسن أبو النور الأمين العام للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي. أما لقاء سامي شرف بليونيد بريجنيف فجاء بطلب من شرف بناء على تفويض مباشر من السادات!
لم يقل شرف إن ناصر عهد إليه تحديدا بمسئولية الحفاظ على روابط الصداقة بين مصر والاتحاد السوفييتي، وإنما ذكر أن ناصرا قد عهد بهذه المهمة إلى السادات وجمعة وفوزي وله.
ص138:
من أين استمد هيكل هذه المعلومات المجافية للواقع تماما؟ لم يبحث سامي شرف إطلاقا مسألة إعداد معاهدة مع الاتحاد السوفييتي، ناهيك عن الحديث عن أن نص هذه المعاهدة، كما زعم هيكل، قد أعده سامي شرف. من الواضح مرة أخرى، أن ذلك كان تضليلا من السادات.
وعلاوة على ذلك، فلم يتناول النقاش إنشاء أكاديمية عسكرية بحرية في مرسي مطروح، وإنما عن تأسيس كلية عسكرية جوية مصرية هناك، وذلك بناء على طلب من السادات نفسه، وليس من الجانب السوفييتي.
ص138:
لم يحدث أي اتفاق إبان مباحثات سامي شرف بشأن زيارة أحد الزعماء السوفييت إلى القاهرة . ولم يدر أي حديث في هذا الصدد.
لقد جرى الأمر على نحو مختلف؛ فالرئيس السادات وبعد اعتقاله «للمتآمرين» طلب أكثر من مرة أن يحضر إلى القاهرة أحد الزعماء السوفييت، وفي الوقت نفسه طرح السادات فكرة عقد معاهدة صداقة مع الاتحاد السوفييتي.
من المرجح أن يكون الطلبان مجرد خطوة تكتيكية من جانب السادات. لم يكن السادات يعول على زيارة على مستوى رفيع من الاتحاد السوفييتي إلى القاهرة، أو على موافقة على عقد معاهدة في مثل هذه الظروف. وإلا لماذا شعر بالارتباك عندما تم إبلاغه بالموافقة على اقتراحيه؟
ص138:
لم يحاول سامي شرف مطلقا أن يقنع السفير السوفييتي بعدم الدخول في تعامل مباشر مع الرئيس السادات، بل إنه لم يطرح مثل هذا الموضوع عموما. وعلى ذلك فإن كل ما سبق، بما في ذلك وصف رد فعل السفير السوفييتي، لم يكن سوي خيال محض اختلقه هيكل. وهذه القضية لها جوانب أخرى؛ فالسادات طلب أن يقوم السفير السوفييتي بزيادة اتصالاته بسامي شرف، وكأنه قد فوضه ب «إحاطة السفير السوفييتي»، الذي كان قد وصل لتوه، «علما بمجريات الأمور».
ص138:
بالطبع فقد أعطى السادات لهيكل نسخة مشوهة من المباحثات التي أجراها مع نيكولاي بودجورني. الأمر الأهم أنه (هيكل) لم يذكر أن السادات كان مصرا قبل ذلك على عقد هذه المعاهدة. وقد تم تصوير الأمر ليبدو وكأن الاتحاد السوفييتي كان هو المبادر بعقد هذه المعاهدة.
ص138:
يبدو التشوش السياسي واضحا تماما في رأس الكاتب في هذا المثال الذي طرحه، عندما حاول أن يقيم توازنا بين المعاهدة الإنجليزية المصرية عام 1936م، والتي استعبدت مصر، ومعاهدة الصداقة السوفييتية المصرية التي جعلت مصر دولة قوية ودعمت استقلالها. يا له من «قصر نظر» غريب من الكاتب!
ص138:
بالفعل، طلب المصريون أن تكون المدة المحددة للمعاهدة خمسة عشر عاما، ومن المدهش للجميع، وهو ما لم يزعج السادات فيما بعد، أن يؤكد، عندما كان ذلك ضروريا له، أنه، كما يزعمون، كان مصرا على جعلها ثلاثين عاما، بينما وافق الروس على أن تكون المدة خمسة عشر عاما فقط!
ص139: «الاستقبال الحماسي» الذي قوبل به الضيوف السوفييت في شوارع القاهرة كان معدا إعدادا جيدا من قبل مؤسسات السلطة، وهو أمر لا يثير الدهشة. كما أنه لا خلاف على أن أحدا (من الضيوف (المترجم)) لم يتساءل عن مشاعر الجماهير تجاه جماعة علي صبري. في أحيان كثيرة نجد الكاتب يلجأ إلى الاختلاق؛ فمن أين له هذا الكلام؟!
ص139:
تعد رسالة نيكسون إلى السادات والتي يقترح فيها مواصلة الاتصالات حول «وسائل الدبلوماسية الهادئة» دليلا على مواصلة السادات لسياسته ذات الوجهين تجاه الاتحاد السوفييتي؛ فالاتحاد السوفييتي لم يحط علما، بطبيعة الحال، بالاتصالات الجارية مع الأمريكيين.
ص139:
علينا أن ندرك أن هيكل وصف بطريقة ساخرة كيف اقتنع نيكسون بتأكيدات الملك فيصل بأن البلشفية هي نتاج للصهيونية! من الواضح هنا أن هيكل يتباهي بمعرفته بفيصل، وفي الوقت نفسه لم يحدث مطلقا أن «اشتكى» هيكل للسفير السوفييتي من أن فيصلا يمنع مقالاته من النشر في العربية السعودية وأنه يعتبره عدوا له.
ص140:
من أكثر الاعترافات الصريحة والمدهشة في كتاب هيكل هو اعترافه، بل وتأكيده على حقيقة أنه على الرغم من غياب أية تصريحات معادية لأمريكا، فإن السادات في لقاءاته مع الزعماء السوفييت كان يقسم لهم أغلظ الأيمان بأنه لا توجد هناك أية أعمال في الخفاء، بينما كانت هناك مراسلات مستمرة بين السادات ونيكسون عبر القناة الموجودة بين المخابرات المركزية للولايات المتحدة (!) والمخابرات المصرية! مما يعني وجود تعاون بين جهازي المخابرات في البلدين. مثل هذه الخيانة للاتحاد السوفييتي لم تكن لتحدث بأي حال بالطبع في زمن ناصر.
ص141:
لم يخبر السادات الاتحاد السوفييتي حتى عن هذه الاتصالات التي تمت مع الأمريكيين، عندما أبدوا اهتمامهم بإمكانية أن يكون لمعاهدة الصداقة السوفييتية المصرية تأثير على علاقة مصر بالولايات المتحدة الأمريكية؛ أي من الناحية العملية، على التحركات القادمة وفقا ل «خطة روجرز»، وكما ندرك من الوصف، فإن السادات واصل دعمه لآمال الأمريكيين، فضلا عن أنه أظهر صراحة استعداده للتعاون معهم من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي، على الرغم من أنه كان يبدي في العلن رفضه ل «خطة روجرز».
الخطأ هو أن أحدا لم يتصور أن السادات يمكن أن يتصرف على هذا النحو من الخسة.
ص143:
في عرضه لرد الفعل السوفييتي تجاه الأحداث التي وقعت في السودان عام 1971م
13
يعود هيكل مرة أخرى ليعطي لنفسه قدرا كبيرا من الحديث بلا قيود، مستندا إلى ما أخبره به السادات (على سبيل المثال، عن علاقته بعبد الخالق محجوب)، وقد بات من الواضح أكثر أن السادات لم يكن ينقل إلى هيكل معلومات غير دقيقة فحسب، وإنما كان يتعمد في كثير من الأحيان دفعه نحو تشويه الحقائق (للتشهير بالاتحاد السوفييتي في كل الأحوال). من أين، على سبيل المثال، هذا الغباء الهائل في التأكيد على أن «السوفييت» التقطوا المكالمة التليفونية بين السادات والنميري؟
ص143:
لدى هيكل حساسية مرضية بالغة تجاه النقد، وخاصة إذا كان هناك ما يشينه بشكل واضح، وحيث إنه كان يكتب، إلى جانب ما يكتبه من حقائق وأكاذيب، مقالات استفزازية أيضا عن الاتحاد السوفييتي تصل أحيانا إلى درجة العداوة، فقد كان كثيرا ما يواجه بالنقد حتى في أثناء لقاءاته الشخصية، كما كان هناك من ينبهون القادة المصريين إلى كتاباته، لكن الأمر لم يصل مطلقا، بطبيعة الحال، إلى حد أن يشرح أحد للمصريين كيف يكتب هيكل، أو عن ضرورة «التخلص منه».
14
وهناك أمر آخر، وهو على أي نحو كان السادات ينقل لهيكل ما يمكن أن يمثل مادة لمقالاته، الأرجح أن السادات كان يحرض هيكل ضد الاتحاد السوفييتي بكل الوسائل، وكان أكثرها جدوى هو التضليل؛ فهيكل بعد وفاة ناصر لم يعد لديه منفذ إلى الأوراق الشخصية للرئيس الجديد.
ص144:
الحديث الذي ذكره هيكل إبان مأدبة الغداء، التي حضرها بوناماريوف، نقل على نحو محرف تماما. إن الكاتب يستغل هنا بصفاقة وضع ضيفه من أجل أن يستعرض ذكاءه، بينما يبدو الحضور أغبياء. لم يتصرف هيكل في أثناء هذا الغداء، أقولها بدماثة، على النحو الأمثل. لقد حاول هيكل في هذا الغداء أن يرد اعتباره في عيون السوفييت . هذا بالضبط ما أراده، لكنه لم ينجح في ذلك.
ص146:
تحريف بشع للحقائق. لم يكن بيرجوس في ضيافة محمد رياض،
15
وإنما في ضيافة محمود رياض،
16
وقد ترك له بالفعل مذكرة، وقد قام الوزير، المخلص في علاقته بالاتحاد السوفييتي، بدعوة السفير السوفييتي فور انصراف بيرجوس مباشرة، وسلمه وهو يشعر بالاستياء نسخة من «مذكرة» بيرجوس.
ص147:
يختلق هيكل هنا حديثا عن «جماعة علي صبري»
17
وما إلى ذلك.
ص148:
اعتراف مثير آخر حول الاتصالات بين المخابرات المصرية والأمريكية، وفي هذه المرة يرد ذكر اسم العميل الأمريكي يوجين ثرون (وكان نشاطه معروفا).
لم يخبر المصريون أصدقاءهم السوفييت، بطبيعة الحال، بشأن اتصالاتهم بالأمريكيين، على الرغم من أن الأمر كان يمس العسكريين السوفييت. ووفقا للاتفاق السوفييتي المصري، كان الجانب المصري ملزما باتخاذ كل التدابير الضرورية الخاصة بنظام مكافحة التجسس من أجل ضمان قيامهم بعملهم على نحو طبيعي.
ص150:
الأرجح أن راندوبولو قد قتل.
ص150:
إلى هذا الحد يعجب المصريون بالأسماء الألمانية، حتى إن هيكل اخترع للجنرال السوفييتي اسما هو .. شفارتسكوف.
18
ص151:
يكتب هيكل أن السفير السوفييتي دعاه إلى الحديث ومناقشة موضوع معه «بصفة شخصية وسرية للغاية». حسنا، ثم لا يخجل هيكل أن يصف بعد ذلك هذا الحديث الذي دار بينهما. أليس لديه وازع من ضمير؟!
ص151:
لم يقدم المصريون أي تقرير عن نتائج التحقيق.
ص152:
مرة أخرى يود هيكل تأكيدا على علاقات الولايات المتحدة ومصر في مجال الاستخبارات. لقد أطلق السادات سراح الجاسوسة الأمريكية فقط من أجل الإبقاء على هذه القناة مفتوحة.
19
ص154:
لم يكن الخلاف في وجهات النظر بين السادات ووزير خارجيته محمود رياض وهما، كما أعلن ذلك الكاتب، وإنما كان حقيقة. إن رياض الوطني النزيه وصاحب الخبرة العريضة في الاتصالات مع الأمريكيين، كان يدرك أهدافهم، ويعرف عادتهم أيضا. كان رياض ضد التواطؤ مع الأمريكيين (فضلا عن أن يتم ذلك من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي)، ومن الواضح أنه لم يكن على علم بالاتصالات السرية بين السادات ووكالة المخابرات المركزية، وفي كل الأحوال، فهو لم يكن مطلعا على مضمون الرسائل الدءوبة بينهما. ليس من الغريب إذن أن قام السادات على الفور بإزاحة رياض من منصبه كوزير للخارجية، بعد أن راح يتعاون على نحو أكثر علانية مع الولايات المتحدة الأمريكية.
كان السادات قد غير من نهجه، ولهذا راح يتعامل مع رياض بقدر من الريبة، الأمر الذي ساعد عليه أن رياض كان متعاطفا مع علي صبري، وكان يعتبره من أكثر الرجال ذكاء في البلاد.
ص157:
إن الملاحظة التي أبداها هيكل بشأن أن الاتحاد السوفييتي لم تكن له أية علاقة فيما يخص الخطط العسكرية المصرية هي ملاحظة صحيحة، بل إن الأمريكيين أنفسهم كانوا يرفضون في وقت ما أن يصدقوا ذلك.
ص157:
كان السادات يسمح لنفسه بالفعل بالتحدث على هذا النحو المفتقد إلى اللياقة عن الزعماء السوفييت، ودائما ما كان يحب أن يقارن نفسه تارة بستالين وتارة بتشرشل. باختصار كانت أكاليل المجد تقض مضجعه.
من الصفات المميزة لهيكل أنه كان يخشى أن يذكر أي شيء إيجابي عن الشخصيات التقدمية من طراز عزيز صدقي. وهو لم يقدر على أي نحو حقيقة استبدال صدقي بمحمود فوزي لمنصب رئيس الوزراء، من الواضح أن هيكل، وقد كان قريبا دائما في علاقته بالدكتور فوزي، كان على علم بالخلاف القائم بين محمود فوزي والسادات فيما يتعلق بالسياسة الخارجية الأمريكية تجاه مصر. وتكشف الأحداث التي وقعت بعد عامين، أنه على الرغم من أن محمود فوزي كان يقف دائما إلى جانب إجراء اتصالات مع الأمريكيين واستغلالهم لصالح مصر، فإنه لم يستطع أن يوافق على المغازلة التي لا حدود لها، والتي كان يبديها السادات للولايات المتحدة الأمريكية، وقد ترك محمود فوزي منصبه باعتباره رئيسا للوزراء لهذا السبب تحديدا. وقد قص هيكل على السفير السوفييتي عن الخلافات التي نشبت بين محمود فوزي والسادات.
ص158:
يفتقد تأكيد هيكل بشأن إصابة القاذفات من طراز تو-16 إلى أي دليل، والأرجح أنه استمع إلى هذه القصة من السادات، الذي قام بتضخيمها بعد أن نجح في الحصول على هذه الطائرات من الاتحاد السوفييتي. فبعد أن تسلم السادات هذه الطائرات وجد نفسه وقد فقد الحجة على توجيه الاتهامات للاتحاد السوفييتي، عندئذ قام بتلفيق هذه الحكاية ليثبت أنها دون المستوى! آنذاك كان المصريون قد بات باستطاعتهم العمل على الطائرات من طراز تو-16، التي، مثلها مثل أي طائرة، كانت، إلى جانب خواصها الإيجابية، بها عيب هو قلة سرعتها نسبيا. على أنها كانت مجهزة لقذف الصواريخ من الجو إلى الأهداف البعيدة المدى. فإذا ما أخذنا في الاعتبار أن المسافات المتاحة في مسرح العمليات العسكرية المصرية ليست واسعة، فإن هذه القاذفات ليست بحاجة إلى طلعات تصل فيها إلى سرعتها القصوى، الأمر الذي يمكن أن يمثل خطورة عليها؛ فالطائرة تو-16 هي بالدرجة الأولى «سلاح ردع» لإسرائيل. ليس من العجيب إذن أن السادات، بعد أن تسلم أخيرا القاذفات من طراز تو-16 التي كان ناصر قد طلبها، بدأ على الفور حملة تشهير لكي يبرر عدم الاستفادة بها؛ إذ إنه، كما اتضح، لم يكن في الحقيقة يعتزم القتال!
ص158:
مثال مهم يدل على أي نحو تدار السياسة في الشرق العربي، هذا بالطبع إذا لم يكن هيكل قد اخترعه؛ فالسادات، على حد قوله، قد أبلغ الملك فيصل أن تتلقى قيادة القوات المصرية أوامرها منه مباشرة (بالطبع في حالة حدوث أي طارئ) في أثناء غيابه في موسكو. شيء من هذا لم يحدث مطلقا بطبيعة الحال، ولم يكن هناك أحد في مصر يمكن أن يخطر بباله أن يمتثل لأوامر الملك فيصل. لكنها لفتة كريمة على أية حال. ليس ذلك هو الأمر المهم. في الواقع فقد وعد فيصل السادات بإهدائه عشرين قاذفة مقاتلة من طراز «لايتننج»، وقد حاول السادات أن يبتز بها الاتحاد السوفييتي، لكنه لم ينجح في التأثير على أحد. في موسكو قالوا له تريد أن تأخذ طائرات «لايتننج»، خذها، لكننا نعلم أنها ليست من نوعية رفيعة. ولم يربط السوفييت بين قرار توريد الطائرات تو-22 وطائرات «لايتننج» (بالمناسبة فقد رفض المصريون استلام تو-22)، أما الطائرات من طراز «لايتننج» فلم يرسلها السعوديون مطلقا؛ لأنها كانت في حالة سيئة .
ص160:
قام الرائد مصطفى الخروبي (عضو مجلس الثورة الليبي (المترجم)) بأداء الصلاة في الكرملين في مكتب ألكسي كوسيجين بالقرب من صورة كارل ماركس مباشرة. في الواقع كان مشهدا لم يسبق له مثيل في الكرملين.
ص160:
يعرض هيكل حكاية استفزازية تتعلق بنقل مشغولات ذهبية. كان استفزازا من طراز كلاسيكي تماما إذا جاز القول. لم يحمل الخبراء السوفييت مطلقا معهم أية كميات كبيرة من الذهب، وإنما كانت هدايا تذكارية عادية، من تلك التي يلاحق بها الباعة المصريون كل السائحين الأجانب، الذين يزورون القاهرة.
لقد توفر لدى الخبراء السوفييت على مدى إقامتهم في مصر لمدة عام أو عامين بعض المال بطبيعة الحال، راحوا ينفقونها على شراء الهدايا التذكارية، التي لا تتمتع في مصر بالتنوع الكبير. كم من مرة طلب الدبلوماسيون السوفييت من السلطات المصرية أن يقيموا كشكا خاصا تحت إشراف المصريين لبيع مختلف الهدايا التذكارية للعسكريين السوفييت العائدين للوطن! وفي كل مرة كان المصريون يرفضون. لم يحمل مواطنونا مطلقا سبائك من الذهب كما كتب هيكل.
جدير بالذكر أيضا أن العسكريين السوفييت كانوا يتمتعون بالإعفاء من التفتيش الجمركي، بناء على اتفاق سوفييتي مصري. على أن الفريق صادق أصدر توجيهاته بخرق هذا الاتفاق. سعت السلطات المصرية بعدم السماح للدفعة الدورية من العسكريين السوفييت المسافرين للوطن، وطلبوا تفتيشهم بشكل كامل، بما في ذلك التفتيش الشخصي. حدث سوء تفاهم، فاستدعى المصريون جنودا يحملون الرشاشات قاموا بإحاطة مبنى المطار العسكري، وقد اتخذ الاستفزاز شكلا أكثر صراحة بعد ذلك، عندما فشل السفير السوفييتي في الاتصال بالفريق صادق أو بعبد العزيز حجازي (وزير المالية آنذاك والذي تتبعه مصلحة الجمارك) أو بوزير الخارجية أو بالسادات. لقد اتضح أن جميعهم موجودون، فجأة «خارج القاهرة». كان اليوم يوم عمل، ولم يكن أمامنا سوى اللجوء إلى مستشار الرئيس لشئون الأمن القومي حافظ إسماعيل، الذي وعد ب «بإبلاغ الرئيس»، ووصف ما حدث مباشرة بأنه عمل استفزازي من جانب السلطات، وطلب ألا نستجيب لهذا الاستفزاز، الذي يستهدف تفجير غضب الجانب السوفييتي.
وقد أصدر السفير السوفييتي تعليماته بأن يكشف العسكريون السوفييت عن كل ما لديهم للتفتيش الجمركي. وقد تبين أن كل مسافر يحمل معه في المتوسط هدية تذكارية واحدة من المشغولات الذهبية، بروش أو عقد وما إلى ذلك.
لم يذكر هيكل فيما بعد، عندما انهار هذا العمل الطائش، أن السادات قدم اعتذاره للسفير السوفييتي في حديث تليفوني معه بعد أن قال له «إنه يشعر بالخجل أن في مصر أناسا لا يحملون الجميل للروس».
بالمناسبة، فالسفير الروسي لم يذهب للمطار، على عكس ما أكده هيكل.
ص161:
يطرح هيكل أيضا قصة إحلال أطقم الدفاع الجوي المصرية محل الأطقم السوفييتية على نحو يفتقر إلى الضمير، بدءا من استخدامه لهذا التأكيد المغلوط الذي روجه السادات، والذي يزعم فيه أن مرتبات العسكريين السوفييت الموجودين في مصر تدفع بالعملة الحرة. أما حضور الماريشال جريتشكو إلى مصر فلا علاقة له إطلاقا بقصة استبدال الأطقم السوفييتية.
في واقع الأمر، فقد أعلن الفريق صادق أولا، ثم تلاه السادات، أنهما يريدان تغيير نصف أطقم الدفاع الجوي السوفييتي (ثم عادا ليطلبا تغيير الثلث)، وإحلال أطقم مصرية بدلا منها من التي عادت لتوها من الاتحاد السوفييتي بعد أن أنهت تدريباتها. في الواقع لم تكن هناك حاجة لاستعجال هذا التغيير، فضلا عن أن المصريين كانوا سيتسلمون بالضرورة منصات دفاع جوي جديدة لم تكن هناك أطقم جاهزة للعمل عليها آنذاك. وكان قبول اقتراح المصريين يعني، ربما، حدوث تدهور حاد في وضع الدفاع الجوي للبلاد، يصبح الاتحاد السوفييتي مسئولا عنه بدرجة أو بأخرى، وقد تم لفت انتباه السادات إلى هذا الوضع.
لكن هذا الأمر كان له جانب سياسي أيضا ؛ فقد سارع السادات بإعلان استبعاد مجموعة كبيرة من العسكريين السوفييت عشية وصول الرئيس نيكسون إلى مصر لإجراء مباحثات كان من أهم ما تضمنته مناقشة الوضع في الشرق الأوسط. وقد اكتشف الجانب السوفييتي وعلى نحو صحيح مغزي تصرف السادات، واعتبره استعراضا أمام الأمريكيين لمشاعره غير الودية وكأنه يقدم بهذا عربونا لنيكسون.
وقد تم لفت انتباه السادات إلى ذلك إبان زيارته الأخيرة إلى موسكو في أبريل 1972م، وقد أعلن السادات آنذاك أنه سوف يتريث قليلا في سحب العسكريين السوفييت من مصر. ولم يحدث مطلقا أن أصر الجانب السوفييتي على بقاء الوحدات العسكرية السوفييتية في مصر.
ص162:
لم يكن هيكل يعلم شيئا عن قصة صفقة توريد الطائرات من طراز ميج-23. من الواضح أنه سمع من أحد ما حكايات ملفقة عن هذه الصفقة. شيء واحد يمكن أن نقوله في هذا السياق: إن مصر لم تدفع سنتا واحدا بالعملة الحرة ثمنا ولو لطائرة واحدة، قام الاتحاد السوفييتي بتوريدها لمصر. لقد تم توريد كل الطائرات بقرض ذي شروط تفضيلية ميسرة على أمد طويل وبنصف الثمن يدفع بالجنيه الحسابي السوفييتي المصري؛ أي في نهاية الأمر، مقابل بضائع مصرية. ونظرا لأن هذه القروض كانت طويلة الأجل إلى حد بعيد، فإنه يمكن القول إن المصريين لم يبدءوا حتى الآن في تسديد هذه القروض بشكل جاد مقابل تلك الصفقات، ومن ثم فإن هذه القروض لا تزال مسجلة كديون.
ص163:
أكذوبة أخرى يرويها هيكل، ومن جديد استنادا إلى حكاية نشرها السادات. لم تصدر أي بيانات أو مشروع إعلان باسم «اللجنة المركزية للحزب الشيوعي السوفييتي» (؟!).
بعد زيارة قام بها السادات إلى قاعدة غرب القاهرة الجوية العسكرية بصحبة المارشال جريتشكو، حيث استعرض السادات الطائرات من طراز م-500 وسوخوي-7 وسوخوي 17-ب (التي أراد المصريون شراءها) تم، بناء على موافقة السادات، صياغة بيان صحفي قصير، تمت صياغته وإذاعته في القاعدة، يفيد زيارة الرئيس لإحدى القواعد العسكرية الجوية، حيث استعرضا الطائرات القتالية الحديثة بما فيها بعض الطائرات التي تبلغ سرعتها ثلاثة أضعاف الصوت، وقد أعرب السادات وجريتشكو عن تمنياتهما بنجاح الطيارين المصريين في الذود عن سماء بلادهم. لم يرد في هذا البيان أي ذكر أن الطيارين المصريين يجيدون قيادة مثل هذه الطائرات. ترجع أهمية هذا الإعلان إلى أنه يفيد وجود طائرات حديثة في مصر، وقد وافق السادات دون أي تردد على التصريح بهذا الخبر للصحافة.
من الأمور اللافتة للاهتمام أن السادات وافق بصعوبة على زيارة هذه القاعدة الجوية العسكرية بصحبة جريتشكو، لكنه رفض رفضا باتا الذهاب إلى الإسكندرية لاستعراض السفن الحربية السوفييتية؛ إذ كان يرى أن ذلك يمثل استعراضا كبيرا يصب في مصلحة الاتحاد السوفييتي عشية زيارة نيكسون إلى موسكو.
ص164:
نشر هيكل بالفعل بعض المعلومات التي تفيد اهتمام الاتحاد السوفييتي بدرجة ما باستمرار حالة «اللاسلم .. واللاحرب». ومثل أي شخص غير مطلع على العلوم، يرى هيكل أن كل ما يتذكره العقل الإلكتروني هو حقيقة قطعية، وهو لا يعلم أن هذه «الحقيقة» تتوقف على المعلومات التي يتم بها تغذية العقل الإلكتروني وعلى أي نحو. عموما، فمن المشكوك فيه أن تكون مثل هذه التجربة قد أجريت. وعلى أية حال، فمن غير المعروف أين ومن الذي أعد هذا «البرنامج» الذي تم تغذية العقل الإلكتروني به وعلى أي نحو.
20
ص167:
هل كان لزاما على هيكل أن يعود ليكرر السخافات التي ينشرها أعداء مصر حول استخدام الروس للمطارات المصرية! في الواقع هل كان من الضروري أن يبعث الاتحاد السوفييتي بقواته إلى مصر؟ يعلم هيكل تمام العلم كم من الوقت استغرقه ناصر وهو يطلب من الزعماء السوفييت أن يرسلوا أطقما سوفيتية للعمل على منصات الدفاع الجوي!
بالطبع، فإن الحديث عن حاويات ضخمة وصلت، ربما إلى مطار غرب القاهرة يمكن تفسيره حسب هوى كل من أراد. ولعل هناك من يؤكد إن كانت هذه الحاويات قد وصلت عموما.
ص167:
مرة أخرى يعود هيكل ليكرر كذب السادات حول دفع مرتبات الخبراء السوفييت بالعملة «الصعبة». لم يحدث ذلك كما لم يحدث أن أرسل ليونيد بريجينيف أي رسائل في هذا الشأن للسادات كما ذكر هيكل.
ص167:
يبدي هيكل ملاحظة صائبة حول أن المصريين (السادات ) كانوا يجرون مباحثات مع الزعماء السوفييت حول العلاقات بين البلدين إجمالا، وحول قضايا الحصول على السلاح السوفييتي. صحيح أيضا ما أشار إليه حول أن طلبات المصريين كانت دائما مبالغا فيها، من الواضح أن ذلك كان مرده إلى الرغبة في تبرير مناخ السخط على الاتحاد السوفييتي، الذي دأب السادات دائما على خلقه.
ص168:
لا يلحظ هيكل دناءة ما يكتب. بالفعل كان الوضع غريبا؛ ها هم الجنود السوفييت في حالة الاستعداد القتالي القصوى يعيشون في مخابئ تحت الأرض في صحراء وهم يحرسون بكل يقظة وانتباه سماء مصر؛ ذلك لأنهم يخدمون ضمن قوات الدفاع الجوي للبلاد.
أي تناقض كان يمثله لهم تسكع الشباب المصري وهو يثرثر في دعة ودون مبالاة وعدم اكتراث كل مساء في الإسكندرية الساطعة بالأنوار؟! كان من الصعب علينا أن نشرح لجنودنا وضباطنا كل هذه الأشياء، والأهم الإجابة عن سؤال: لماذا جاءوا بنا إلى هنا إذا كان المصريون يتعاملون مع الخدمة العسكرية، بل ومع الحرب عموما بهذا القدر من اللامبالاة؟!
أما فيما يتعلق بتصريح السادات حول «التعبئة الذاتية» التلقائية للشعب «ما إن تنطلق الطلقة الأولى»، فإن صياح الديكة هذا، للأسف، كثيرا ما يحل محل الاستعداد الجاد العواقب الأعمال الحربية. وفي القاهرة لم يتم بناء مخبأ واحد ليلجأ إليه الناس في حالة وقوع غارات جوية، كما لم يتم إعداد مراكز للإسعافات الأولية. ومن حسن حظ المصريين أن قنبلة أو صاروخا إسرائيليا لم يسقطا على القاهرة. وإنني لعلى يقين أنه لو حدث ذلك لأصاب الناس عندئذ ذعر لا نظير له، بدلا من «التعبئة الذاتية»، ناهيك عن الحرائق الحتمية ووقوع الضحايا وما إلى ذلك. إن الشعب المصري، لم يعرف ما الحرب على حقيقتها، لعل الأقدار تحفظه من هذا الابتلاء الصعب.
ص170:
عبثا يسعى هيكل لإلقاء ظل من الغموض على قرار السادات حول إنهاء مهمة العسكريين في مصر. ها هو يتذرع بالقول إن من المستحيل التصريح بذلك بثقة، إذا كان السادات نفسه لم يقرر أن يزيح الستار عن الأمر بنفسه. حسنا، وماذا عن السادات؟ وماذا وراء هذه الغمغمة؛ فالسادات، تصوروا! «لم يكن سعيدا طوال الشهر الماضي، وكان هيكل يشعر أن ثمة شيئا كان يختمر في ذهنه (السادات)، لكنه لم يكن يعرف كنهه على وجه اليقين»؟
إن هذه «التفسيرات» لا تصلح اللهم إلا للكتيبات الدينية الشعبية. بينما نجد هيكل يدلي برأيه في أكثر القضايا خطورة، وأحيانا ما يخطئ في ذلك.
في رأيي أن هيكل كان يشعر (إذا لم يكن على علم مسبق بالفعل) أن قرار إبعاد العسكريين السوفييت من مصر، الذين جاء بهم ناصر إلى مصر بشق الأنفس، كان أمرا تم اتخاذه من أجل الشروع في اتخاذ خطوة واسعة نحو ملاقاة الولايات المتحدة الأمريكية، إن لم يكن في إطار التآمر معها.
مهما قلبنا الأمر على أوجهه، فإن هذا القرار الذي اتخذه السادات قد أضعف من موقف مصر. وكما يبدو، فقد جاء هذا القرار في لحظة غير مناسبة إطلاقا؛ أي في الوقت الذي كان الاتحاد السوفييتي يطرح فيه قضية التسوية في الشرق الأوسط في لقاءاته مع الأمريكيين على أرفع مستوى. لقد أضعف هذا القرار مصر على المستوى العسكري، فضلا عن، وهو الأهم، المستوى السياسي، كما أنه أفقدنا فرصة كبيرة لأن نمارس ضغوطنا على الولايات المتحدة الأمريكية.
كان الأمريكيون يتذرعون دائما بأن إسرائيل، على حد قولهم، يصعب عليها التوصل إلى سلام مع العرب بسبب «الوجود العسكري» السوفييتي في مصر. وكنا نجيب بأنه عند التوصل إلى سلام شامل فإننا «نتوقع» أن يطلب منا العرب، إنهاء مهمة العسكريين السوفييت في الشرق الأوسط. باختصار: عندما تنسحب القوات الإسرائيلية من جميع الأراضي العربية المحتلة، سوف ينسحب العسكريون السوفييت أيضا.
وعلاوة على ذلك، فإن «الوجود العسكري» السوفييتي، الذي كان قائما بالفعل، كان يدفع إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية إلى التعامل بمزيد من الحذر مع إمكانية وقوع عمليات عسكرية ضد مصر، تجنبا لظهور خطر المواجهة العسكرية المباشرة مع الاتحاد السوفييتي.
والآن إذا بالسادات ينتزع من أيدينا هذه الفرصة لصالح الأمريكيين.
من الواضح (شاء هيكل ذلك أم أبى) أن المسألة كلها تتلخص في أن السادات، بعد أن أصبح رئيسا بعد موت ناصر، وطد اتصالاته مع الولايات المتحدة الأمريكية، واتخذ مساره باتجاه التخلص من الاتحاد السوفييتي. ويبدو أن هيكل شعر بذلك ولكنه خشي التصريح بذلك علنا.
ص172:
لو كان هيكل دقيقا هنا، فإن عبارة السادات «لقد قطعنا مع السوفييت»، تكشف ببلاغة قاطعة النيات الكامنة في أساس القرار الذي اتخذه السادات بشأن العسكريين السوفييت.
ص173:
لسبب ما يكرر هيكل كذب السادات بخصوص «جماعة علي صبري» واتصالاتهم بالسفير السوفييتي، وهلم جرا، وعن صفقات السلاح الواردة من الاتحاد السوفييتي. ألا يرى كم من السخافات في حديثه هذا.
ص174:
لماذا استطاع السادات أن «يخمن» مضمون الرسالة التي بعثت بها موسكو، والتي حملها السفير السوفييتي؟ يا له من أمر عجيب! أما المقابلة فكانت في قصر الطاهرة، لا في القناطر.
ص174:
الأمر أشبه بالسخرية عندما يورد هيكل حديث السادات الذي يقول فيه: «لقد قضينا، عبد الناصر أولا ثم أنا، أربع سنوات عانينا فيها ما عانينا من تصرفاته» (يقصد الاتحاد السوفييتي الذي قدم لمصر مساعدات تبلغ قيمتها عدة مليارات، ناهيك عن الدعم السياسي!).
ص174:
لم يخبرنا السادات باستلامه رسالة سرية أخرى من الأمريكيين قبيل زيارة السفير السوفييتي له بيوم واحد، والتي أبلغه فيها السادات بقرار إنهاء مهمة العسكريين السوفييت. ويبدو أن الرسالة الأمريكية كان لها دور حاسم في اتخاذ السادات لهذا القرار المعادي للسوفييت (والمعادي في الواقع لمصر أيضا).
ص174:
يحرف السادات عن قصد مضمون الرسالة، محاولا جذب هيكل إلى صفه؛ ولهذا قال له إن الرسالة تتعرض له (هيكل) شخصيا. شيء من هذا لم تتضمنه الرسالة. ومن هنا يتضح لنا أن السادات لم يعرض نص الرسالة على هيكل.
ص175:
لم يذكر السادات للسفير السوفييتي أي شيء من هذا. ولو أنه كان قد تجاسر على القول بأن الزعماء السوفييت «كذبوا» عليه، لكان قد تلقى مني الرد المناسب. كان السادات يتباهي بالحديث أمام مستمعيه، أما هيكل فراح يكرر أكاذيب السادات.
ص176:
يورد الكتاب رد الجانب السوفييتي على عزيز صدقي إبان زيارته إلى موسكو في الثالث عشر من يوليو عام 1972م على نحو دقيق. الاتحاد السوفييتي لن يشارك في إضعاف مصر. على أن هناك اختلاقا أيضا فيما يتعلق بخطاب الجانب السوفييتي، الذي يزعم الكاتب أنه سلم لصدقي ورد فيه أن السوفييت رفضوا إمداد مصر بالسلاح. والأمر على العكس تماما، فقد حمل صدقي اقتراحا بإقامة مشروعات عسكرية في مصر، الأمر الذي رفضه السادات بالمناسبة.
ص177:
يفتقد هيكل الدقة حين يؤكد على نحو قطعي أن قرار إنهاء مهمة العسكريين السوفييت «قوبل بالترحيب» في مصر. هذا صحيح، وإنما بالنسبة لعناصر المجتمع من البرجوازيين والرجعيين فحسب. وهناك معلومات كثيرة تفيد أن هذا القرار قوبل من العديد من المفكرين، ناهيك عن القطاعات التقدمية من المجتمع ومن جانب العمال والعسكريين، باعتباره ضربة قاصمة لمصر بأسرها، وأن من شأنه إضعافها (الأرجح أن هيكل يعرف ذلك، وهو نفسه يشارك هذا الرأي). هل يمكن وصف شعور هؤلاء بأنه ترحيب بقرار السادات الموالي لأمريكا؟ وهل أصبح الفريق صادق أكثر شعبية، إذا كان السادات قد اضطر لإقالته من منصب وزير الحربية بعد ثلاثة أشهر فقط؟
ص177:
ما الذي يعنيه هذا التأكيد: «لم يبل السلاح السوفييتي بلاء حسنا، ولكنه والحق يقال، لم يختبر اختبارا حقيقيا»؟ هل كان هيكل يريد سلاحا يمحو الإسرائيليين من الوجود بمجرد الضغط على أزراره في القاهرة؟!
ص178:
لم تكن القوات المسلحة المصرية بعد هزيمة 1967م الكارثية بحاجة إلى «إعادة بناء» كما يقول الكاتب. في الواقع إنه لم يعد هناك جيش، ولم تكن مهمة العسكريين السوفييت هي «إعادة بنائه»، وإنما خلقه من جديد. وكون أنه قد تم بناؤه، فهذه هي المأثرة الخالدة للضباط السوفييت.
ص178:
مرة أخرى يعود الكاتب ليعرض جهله بالأمور العسكرية، مخترعا فكرة أن الدبابات السوفييتية تم تصميمها للعمل في مناخ «القطب الشمالي» (!). بالطبع لا يمتلك الاتحاد السوفييتي دبابات مكيفة، بها حمام أو حشيات مريحة، أو يتوفر فيها عصير ليمون مثلج يقدم للشرب بمجرد الطلب! زد على ذلك أن مثل هذه الدبابات، التي حلم بها أحدهم في مصر، غير موجودة ولن توجد لدى أي جيش آخر.
ص179:
يورد الكاتب هنا ادعاء مستحيلا يفيد أن الضباط المصريين، تصوروا لديهم خبرة قتالية يفتقر إليها المستشارون العسكريون السوفييت، على حد زعمه. إحقاقا للحق يجب أن نقول إن المصريين كانت لديهم خبرة وحيدة هي الركض أمام الجيش الإسرائيلي. كان الضباط السوفييت يمتلكون دائما خبرة حقيقية اكتسبوها على جبهات القتال في الحرب الوطنية العظمى ؛ ولهذا فإن الملاحظة التي أبداها هيكل أقل ما توصف به أنها تفتقر إلى اللياقة.
ص180:
ومن جديد يعود الكاتب ليكشف عن جهله بالحقائق؛ فالأمر مختلف تماما عما ذكره؛ فعندما وصل الأدميرال جورشكوف إلى الإسكندرية أعلن عن رغبته في زيارة قائد قوات البحرية المصرية، اللواء بحري عبد الرحمن فهمي، على أن الأخير رأى أن صيغة الطلب الذي تقدم به الأدميرال السوفييتي تنقصه بعض الكياسة، ومن ثم لم يستقبله. ولما وصل فهمي بعد ذلك إلى القاهرة لم يقبل الأدميرال السوفييتي مقابلته.
ص180:
يبدو أن تصرفات صادق المستقلة على نحو كبير، كان لها دور حاسم في مسألة خلع السادات له من منصبه كوزير للحربية (على الرغم من أن صادق ساعد السادات منذ عام واحد تقريبا في إبعاد الناصريين). لقد بدا للسادات آنذاك أن استقلال صادق أمر زائد عن الحد، ومن المعروف أيضا أن صادق كان يحظى بتعاطف من جانب الطبقة العليا من الضباط الأغنياء، وهي الطبقة التي لم تكن تتقبل السادات مطلقا «كند لها»، فكانت تضعه في درجة أقل منها، على الرغم من أنه كان يسعى لاسترضائها. كان من الممكن لصادق أيضا أن يصبح بسهولة، في مثل هذه الظروف، «مركزا» لانقلاب ضد السادات، الذي شعر بذلك بسليقته. كانت المبررات لخلع صادق كافية تماما وواقعية؛ عدم الرغبة في القتال، ضعف الضبط والربط في الجيش، وهلم جرا. ينبغي أيضا ألا نستبعد من حسابتنا أن صادقا قام بزيارة رسمية إلى الاتحاد السوفييتي في شهر يونيو، استقبل خلالها حسابات بالغة، جعلت السادات يفكر، وقد طغى عليه الشك، أن الاتحاد السوفييتي «يراهن» على صادق.
ص183:
مرة أخرى يعود الكاتب لإضفاء هالة من الغموض حول تصرفات السادات في علاقته بالاتحاد السوفييتي. وهو هنا يكتفي بالحديث فقط عن تسلم السادات رسالة «سرية» من الولايات المتحدة الأمريكية تتضمن «أن مفتاح حل الصراع في الشرق الأوسط في يد الولايات المتحدة الأمريكية». أما رحلات السعوديين آنذاك فلم تكن محض صدفة؛ لقد كانوا يعملون باعتبارهم محامين للأمريكيين، داعين السادات ليتخذ بشكل أكثر صراحة موقفا معاديا للسوفييت.
كان قرار السادات بإبعاد العسكريين السوفييت، بطبيعة الحال، نتيجة صفقة حقيقية مع الأمريكيين. كان ذلك نوعا من «العربون» قدمه السادات للأمريكيين، كان عليهم أن يردوه فيما بعد.
ص184:
وكعادته عبر كيسينجر عن رأيه في هذا الأمر بصلف شديد. من الواضح أن السادات قد تصرف، حتى في نظر الأمريكيين، بقدر كبير من التفريط بإبعاده العسكريين السوفييت، ثم ها هو لا يحصل على شيء في المقابل من الولايات المتحدة الأمريكية، وهو ما يعني أن تقديراتنا التي بعثنا بها في حينه إلى موسكو كانت صحيحة. آنذاك لم نكن قد عرفنا شيئا بعد، بالطبع، عن هذا التصريح المستهتر الذي أطلقه كيسينجر: «لقد حصلت على كل شيء دون مقابل.»
ص191:
يرجع الكاتب على نحو خاطئ صعوبة قيام الوحدة بين مصر وليبيا إلى العقبات البيروقراطية. هيكل إما أنه لا يعرف، وإما أنه لا يريد أن يكشف صراحة السبب الحقيقي. كان السادات يدرك جيدا أنه في حالة إقامة الوحدة مع ليبيا (وهو ما كان من شأنه تقوية الاقتصاد المصري بدرجة ملموسة)؛ فقد كان عليه أن يسند إلى القذافي منصبا ما، منصبا حقيقيا وليس اسميا، لنقل قائدا عاما للقوات المسلحة الموحدة، وهو المنصب الذي كان القذافي يطمح إليه، أو رئيسا لوزراء الدولة الموحدة أو حتى رئيسا. المسألة برمتها تلخصت في عدم الاستجابة للقذافي. لم يكن السادات عموما ليسمح بفكرة أن أحدا ما سوف يتصرف على نحو مستقل، ليس فقط ضده، وإنما حتى بالتوازي معه؛ ولهذا تحديدا، ومن أجل كبح حماس القذافي ابتكر المصريون نظاما ماكرا تمثل في إنشاء لجان مصرية ليبية مشتركة تنبثق عنها لجان فرعية تقوم على إعداد القوانين الأساسية المنظمة للحياة المشتركة للدولتين (نظام إدارة الدولة والاقتصاد والمؤسسات السياسية وما إلى ذلك). كان الهدف من ذلك في واقع الأمر هو عدم صد الليبيين شكليا، وفي الوقت نفسه إفراغ فكرة الوحدة بين البلدين من مضمونها. هذا التكتيك هو ما أخبر به حافظ إسماعيل السفير الروسي بصفة سرية.
وكما هو معروف، فقد بلغ الضجر بالليبيين غايته من جراء الاجتماعات العقيمة التي لا تنتهي، فدخلوا في خلاف مع السادات، كانت آخر مظاهره تلك المسيرة التي سار فيها آلاف الليبيين في القاهرة في صيف عام 1973م حاملين عريضة للسادات موقعا عليها بالدم، تطالب بسرعة إتمام الوحدة بين البلدين.
ص192:
أما الحادثة الدراماتيكية التي وقعت لطائرة الركاب المدنية الليبية التي أسقطها الإسرائيليون بركابها بكل دم بارد في وجود تقاعس تام من جانب المصريين، فهي أمر بالغ الدلالة؛ إذ يعكس تواطؤ السادات مع الأمريكيين في تلك الفترة على ألا يتم تصعيد الموقف قبل الأوان، فقد تم التخطيط لأن يتم كل شيء في أكتوبر، عندما يأتي موعد تنفيذ المسرحية، التي وضع السيناريو الخاص بها في فبراير. آنذاك كان الليبيون لا يمثلون سوي عقبة في طريق السادات.
ص198:
لسبب ما يعود الكاتب مرة أخرى ليؤكد على علاقة السادات بالمخابرات الأمريكية.
ص199:
لقد وقعنا هنا بالطبع في خطأ، حيث اعتبرنا وفقا لتقليد ما (أي بسبب تناقل القصة من شخص لآخر) أن زكي هاشم شخصية تقدمية، «شيوعي سابق» تقريبا! وقد اتضح أنه يعمل لصالح الأمريكيين!
ويكشف هيكل هنا تفاصيل تتعلق بالاتصالات السرية الجديدة التي جرت في الكواليس، والتي لم يخبرنا المصريون بشأنها، علاوة على أن السادات كان قد أقسم أكثر من مرة أنه ليس لمصر أي اتصالات من هذا النوع.
ص200:
لقد تبين لنا أن السادات كان يكذب علينا، كما كذب علينا أيضا حافظ إسماعيل، الذي لم يبلغنا بأي شيء حول المباحثات السرية التي جرت مع كيسينجر.
ص200:
يرتكب هيكل هنا أخطاء مدهشة فيما يتعلق بالحقائق! آنذاك كان حافظ غانم هو الأمين العام للجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي العربي وليس مستشارا للرئيس. لم يكن السادات يثق في حافظ إسماعيل مستشاره للأمن القومي (وهو الذي وصفه السادات للسفير السوفييتي بأنه
My Kissinger )؛ ولذلك كان يرسل حافظ غانم إلى كل مكان يذهب إليه حافظ إسماعيل بوصفه مراقبا وجاسوسا له، وباعتباره كلبا وفيا دون أن يكون له رأي على الإطلاق أو شخصية. وهذا النظام كان يمثل عملا عاديا بالنسبة للسادات ، وحتى عندما كان السادات يرسل عزيز صدقي، وهو رئيس وزرائه، إلى موسكو، كان يرافقه ممدوح سالم، الخادم الأمين للسادات، والذي كان وزيرا للداخلية آنذاك.
ص201:
إذا كان حافظ إسماعيل قد قال لنيكسون بالفعل إن إبعاد العسكريين السوفييت من مصر كان إظهارا لقدرة مصر على «البقاء خارج مناطق النفوذ»، فإن ذلك أمر لا يوصف إلا بكونه عملا دنيئا من جانب حافظ إسماعيل؛ فقد كان إسماعيل يؤدي أمامنا دور الصديق الكبير والرجل الذي يرى أن اعتماد مصر على الاتحاد السوفييتي أمر ضروري.
وإذا كان حافظ إسماعيل قد أعلن بالفعل لنيكسون أن السبب الرئيسي للصراع في الشرق الأوسط، هو الصدام بين طائفتين هما اليهود والفلسطينيون، فإن ذلك لا يعكس جهلا بجوهر الصراع فحسب، وإنما يعد أيضا إيحاء للأمريكيين بأن هذا الصراع، على حد قوله، لا يخص المصريين مباشرة، وأن مصر يمكنها أن تقف بمنأي عنه. بالمناسبة، فقد كان حافظ إسماعيل في أحاديثه مع السفير السوفييتي يدلي برأيه باحتقار فيما يخص الفلسطينيين وكذلك السوريين.
ص202:
إذا كان حافظ إسماعيل قد خرج من مقابلته مع نيكسون بانطباع يفيد أن نيكسون ينظر بحسن نية إلى مصر، فهو إذن كان يكذب علينا، عندما تحدث عن موقف الولايات المتحدة الأمريكية العدائي تجاه مصر.
ص202:
لم يبلغنا حافظ إسماعيل والسادات بالمباحثات التي دارت بينهما وبين كيسينجر، حتى عندما كان حافظ إسماعيل في زيارة إلى موسكو! بماذا نسمي هذا التصرف؟ لكن ما قام به هيكل من فضح غير مقصود لخيانة السادات لنا لم يعد خبرا، كلما طالعنا الكتاب أكثر فأكثر. وهناك أمر آخر أكثر أهمية؛ إن هيكل يكشف الخلفية الحقيقية لكل الأحداث التي وقعت في أكتوبر عام 1973م. علينا فقط أن نمعن النظر فيما قاله نيكسون؛ لقد كانت الحكومة الأمريكية على استعداد للضغط على إسرائيل «إذا رأت أن هناك «أساس أخلاقي» لاستخدام هذا الضغط، وكنا سنعلن ذلك على الرأي العام الأمريكي»!
ومع علمه، بالطبع، بما يعتمل في نفس السادات من شكوك، ومؤججا إياها في علاقته بالاتحاد السوفييتي، لم يخش نيكسون أن يقول لحافظ إسماعيل على نحو استفزازي، إنه إذا حاولت مصر أن تدق إسفينا في العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي، فإنها «تخطئ بذلك خطأ فاحشا!»
ص203:
هيكل على حق هنا في تعريفه لأهداف الأمريكيين، وخاصة الهدف الأخير؛ «ينبغي أن تكون النتيجة النهائية هي «السلام على الطريقة الأمريكية»، وهو السلام الذي يضمن المصالح الأمريكية في المنطقة».
ص205:
إن كلمات السادات بشأن انفراج التوتر الدولي أصبح واقعا، وإنه «ربما يفرض نفسه علينا (على مصر (فينوجرادوف)) قبل أن يكون باستطاعتنا أن نفرض نحن أنفسنا عليه». إن هذه الكلمات تعكس جهلا مطبقا لدى هذه الشخصية القومية البرجوازية بحقيقة الخلاف بين السياستين الخارجيتين لدولتين إحداهما رأسمالية (الولايات المتحدة الأمريكية)، والثانية اشتراكية (الاتحاد السوفييتي). ما الذي كان يخشاه السادات؟ يقول السادات: «إن سياسة الوفاق سوف تفرض شروط حل مشكلة الشرق الأوسط، بدلا من أن تفرض مشكلة الشرق الأوسط شروطها على سياسة الوفاق.»
أحيانا ما نجد هيكل، القومي أيضا يتضامن، بصورة أو أخرى، مع غياب موقف مختلف في السياسة الخارجية لكل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي. وهو ما جعله يستشهد هنا بكلمات السادات.
الفصل الرابع: «الحرب»
ص207:
لا أظن أنه كانت هناك ضرورة لوصف خطة العملية «بدر» بأنها كانت «ممتازة». لقد اتضح أنها كانت خاطئة فيما يتعلق بنتائجها النهائية؛ فهي لم تستشرف الأمر الجوهري وهو التحركات العسكرية في حالة النجاح، بمعنى تطوير هذا النجاح. ولهذا، باختصار، فمهما كانت جودة خطة اقتحام القناة، ينبغي الاعتراف بأنها كانت تضع بالتالي في اعتبارها الفشل والتعرض لخسائر فادحة؛ أي تحقيق الحد الأدنى من النتائج. إذن ما الذي حدا بهيكل أن يصف هذه الخطة بأنها «ممتازة»؟
ص209:
يدير الكاتب حديثه المتعلق، على سبيل المثال، بالتعليمات التي تلقاها السفير السوفييتي من موسكو بتعسف تام. ومن هنا أكاذيبه المتكررة، وخاصة أننا نجد هنا تلفيقا عن وعي لتلك الحكاية التي عرضها السادات بعد العمليات العسكرية.
إن موسكو لم تقدم أية مقترحات في السادس من أكتوبر تتعلق بوقف إطلاق النار. وإنما كان هناك سؤال للسادات فحسب بشأن الرغبة في التشاور معه بخصوص ما لدى السفير السوفييتي في سوريا من معلومات حول رأى الرئيس الأسد في مدى ملائمة طرح الاتحاد السوفييتي لاقتراح على مجلس الأمن لوقف إطلاق النار مع بقاء القوات المتحاربة في مواقعها. كان من مصلحة السادات أن يصور الأمر كما لو كان الاتحاد السوفييتي يصر منذ اليوم الأول للحرب على وقف إطلاق النار.
ص211:
مسألة إصدار القيادة الإسرائيلية في السابع من أكتوبر أمرا إلى جميع القوات العاملة على خط بارليف أن تتصرف وفق ما تراه، فإما أن تستسلم أو تنسحب إلى عمق شبه جزيرة سيناء تبدو أمرا غريبا، فلم يكن قد مر نصف يوم على بدء العمليات العسكرية حتى تصدر القيادة الإسرائيلية مثل هذا الأمر! أمر غريب وغير مفهوم.
يبدو الأمر واضحا إذا افترضنا أن الإسرائيليين كانوا على علم مسبق بالاقتحام المزمع للقناة؛ أي إنهم كانوا شركاء في لعبة سياسية كبرى أطرافها الولايات المتحدة الأمريكية ومصر وإسرائيل. إن الجنود الإسرائيليين الذين سقطوا في خط بارليف كان مقضيا عليهم أن يكونوا «شهداء» (بالمناسبة يقال إن عددهم كان قليلا على نحو يثير الشك).
ص212:
يؤكد الكاتب على نحو صحيح أن القيادة الإسرائيلية قررت سلفا تركيز قواتها في الشمال بهدف إنزال الهزيمة بسوريا؟ لماذا استطاع الإسرائيليون أن يتصرفوا على هذا النحو؟ فالعدو الرئيسي، إذا توخينا الموضوعية، كان يجب أن يكون هو القوات المسلحة المصرية.
الأمر كله، كما هو واضح، أن الإسرائيليين كانوا يعرفون مقدما أن المصريين لن يتقدموا في سيناء؛ وهو ما أتاح للإسرائيليين أن ينزلوا ضربات قاصمة بالسوريين.
ص212:
ليست موسكو هي التي اقترحت الاتصال بالعراق لتطلب منها إرسال دبابات إلى الجبهة السورية، إنما كان السوريون هم الذين طلبوا منا أن نخاطب نحن العراقيين في هذا الشأن.
ص212:
كان السادات ضد وقف إطلاق النار؛ لأن خطة السادات والأمريكيين الأساسية كانت قد سقطت؛ لم يكن الأمريكيون حتى ذلك الحين يملكون أي مبرر للتدخل أو ممارسة «الضغط» على إسرائيل وما إلى ذلك. إن وقف إطلاق النار ، على الرغم من أنه كان من الممكن أن يعطي للعرب أفضلية، فإنه لم يكن ليعطي السادات أي شيء في سياق خطة لعبته مع الأمريكيين. ولعله كان سيمثل عندئذ هزيمة لإسرائيل، الأمر الذي لم يكن الأمريكيون ليسمحوا به. إن قتل عدد محدود من الجنود الإسرائيليين من أجل تحقيق الأهداف السياسية للولايات المتحدة الأمريكية هو ما وافق عليه الأمريكيون وليس هزيمة إسرائيل. في الواقع فقد ساعد السادات بذلك كل من إسرائيل والولايات المتحدة الأمريكية.
رغم ما يبدو في هذا الأمر من مفارقة، فإن وقف إطلاق النار، كما كشفت الأحداث التالية، أنه كان أجدى للعرب، أما السادات فظل يقاوم ذلك! من هنا جاءت «نصائحه» السخيفة للأسد.
ص213:
يبدو واضحا هنا أن الكاتب قد انصاع وراء هذا التفسير الساذج لتوقف القوات المصرية بعد العبور السهل نسبيا للقناة، زاعما أن المصريين قد أقاموا «جدارا دفاعيا قويا» على الضفة الشرقية للقناة لا بد أن تتحطم عليه هجمات الإسرائيليين. لا بد أن يكون الإسرائيليون من السذاجة بمكان ليتعاملوا مع هذه «الخطط».
ص213:
مرة أخرى يعود هيكل ليكرر رد الأسد مستندا إلى حكاية السادات، لا استنادا إلى وثيقة؛ فالأسد لم يتحدث عما قاله السفير الروسي لدى القاهرة (للسادات (المترجم))، كما أنه لم يتحدث عن انتفاء الحاجة للجوء للعراق طلبا للمساعدة.
في الواقع، فقد نفى الأسد ما قاله في حديثه مع السفير الروسي لدى دمشق في الرابع والسادس من أكتوبر بخصوص رغبته في أن يتخذ الاتحاد السوفييتي مبادرة لوقف إطلاق النار (مع بقاء القوات المتحاربة في مواقعها). لم يكن أمام الأسد ليتصرف على نحو آخر. وفي حديثه مع السفير السوفييتي فسر حافظ إسماعيل تصرف الأسد على النحو التالي: في الحقيقة أن الأسد، كما يبدو، اعتبر أن وقف إطلاق النار أمر ضروري بعد النجاح الأول للعرب (فقد رأى أو عرف أن المصريين لن يساعدوا سوريا التي انقض عليها الجيش الإسرائيلي كله (فينوجرادوف)). على أنه وبعد الطلب المستفز الذي قام به السادات فقد كان لزاما عليه (الأسد) أن «يحفظ ماء وجهه »، وبالطبع فقد أجاب بأنه لم يفكر في وقف إطلاق النار. هذا هو التفسير الذي أفاد به مساعد السادات إبان أحداث أكتوبر، والذي تم، بطبيعة الحال، بشكل سري.
ص214:
تصريح منافق ذلك الذي أدلى به السادات لهيكل والذي يزعم فيه أن الفرصة قد سنحت لاستعادة الاتحاد السوفييتي هيبته المفقودة في الشرق الأوسط. كان السادات يحرض هيكل دائما ضد الاتحاد السوفييتي، وهو ما أثبتته الحقائق الآن. كان هيكل يبدو أمامنا آنذاك رجلا مطيعا في خدمة السادات.
ص215:
هيكل على حق هنا وهو يتحدث عن إلحاح السوريين وعن «الوقفة التعبوية» التي لا مبرر لها (ناهيك عن أن هيكل لم يكن على علم بأفكار السادات، والخاصة، كما يظهر، بتواطئه مع الأمريكيين). وهو على صواب أيضا عندما يرى أنه لو تم استيلاء المصريين على الممرات الجبلية؛ الجدي ومتلا، لأمكن تحرير سيناء بأكملها مع ما يترتب على ذلك من نتائج سياسية لا تعد ولا تحصى. هذا أيضا صحيح، لكن ذلك لم يدخل في خطط السادات؛ لأن ذلك كان يعني: (أ) إثبات قوة السلاح السوفييتي وفعالية المساعدات السوفييتية. (ب) دعم موقف الاتحاد السوفييتي. (ج) خرق اتفاق السادات مع الأمريكيين فيما يخص خلق مبرر لهم للتسلل إلى الشرق الأوسط. (د) تدهور العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ص216:
لم يرغب السادات في الرد على طلب السوريين؛ لأنه خشي لا من الهزيمة، وإنما من النجاح، الذي كان حدوثه يعني، ربما، انهيار كل الخطط السياسية الماكرة لتسوية العلاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية.
ص216:
لا طائل من وراء ما يكتبه هيكل عما لا يعرفه؛ أي اعتماده مرة أخرى، على أحاديث السادات كما هو واضح. لقد كان الجسر الجوي السوفييتي يعمل كالساعة، بينما لم يذكر هيكل شيئا عن المغزى العسكري والمعنوي الذي كان يعنيه أن تصل طائرة سوفييتية محملة بالسلاح من موسكو إلى القاهرة كل نصف ساعة!
ص217:
لم يطلب السادات من السفير السوفييتي لدى القاهرة إجراء أي تحقيق حول موقف السفير السوفييتي لدى دمشق. مرة أخرى يختلق السادات هذه الرواية.
ص218:
هل كان تحذيرنا عملا خاطئا؟ على أن السادات يعود من جديد ليتحدث بغطرسة إلى السفير السوفييتي لدى القاهرة بالكلمات التالية حرفيا قائلا: «إنني لا أرغب في الجري في سيناء، كما يريد ذلك نيكولاي بودجورني. باستطاعتي الاستيلاء على الممرات غدا لو أردت، لكن ذلك لا يدخل في خططي في الوقت الحالي.»
ص218:
لم يستشهد السفير السوفييتي لا بليونيد بريجينيف ولا بألكسي كوسيجين، وإنما عرض على هيكل مخاوفه. أما ما أضافه هيكل لحديثه، فقد فعله من قبيل «تجميل الكلام».
ص219:
لم يتحدث السفير السوفييتي عن صعوبات في إقامة «الجسر الجوي». أما بخصوص ملاحظة هيكل أن الروس يفكرون دائما في الخطوة التالية فهذا صحيح. من الأمور الملفتة للانتباه أيضا أن السادات رفض التفكير في الخطوات السياسية، وأحال السفير السوفييتي إلى محمود فوزي، الذي لم يكن هو نفسه مفوضا في الحديث عنها.
ص220:
يفتقد هيكل الدقة هنا؛ فالروس لم يتحدثوا عن ضرورة الهجوم والاستيلاء على الممرات، كما أنهم لم يقدموا عموما أية نصائح في هذا الصدد (لأنه لم يكن باستطاعتهم ذلك؛ لأنهم لم يكونوا على دراية بخطط السادات الحقيقية). أما عن رد وزير الحربية فهو رد غير عسكري بامتياز؛ لأن الهجوم أفضل وسيلة للدفاع، أما الدفاع السلبي فنتائجه مدمرة.
ص221:
شيء من هذا لم يحدث. هذه أيضا حكاية اختلقها السادات. لم يكن السادات يرغب في دخول الأردن الحرب؛ إذ إن ذلك كان من شأنه إن لم يلحق الهزيمة بإسرائيل، ففي جميع الحالات سوف يفسد خططه. لقد كان من الممكن أن تتعرض إسرائيل الهزيمة قاسية، وهو ما قد يعوق إمكانية ظهور الأمريكيين على مسرح العمليات باعتبارهم صناع السلام.
ص222:
لم يقدم السادات مطلقا هذه «اللفتة الكريمة»: عرض مزعوم بإرسال سلاح سوفييتي كان مخصصا لمصر إلى سوريا. الأمر على النقيض من ذلك. لقد ظل السادات طوال الوقت يشتكي، حتى عندما لم تكن لديه أسباب لذلك، مؤكدا أن سوريا تحصل على أسلحة أكثر من اللازم، بينما لا تعطى مصر شيئا، وهلم جرا. كان يقول إن سقوط دمشق لا أهمية له؛ فسوريا لديها أراض واسعة، وهي تستطيع في حالة الهزيمة أن تخوض حرب مقاومة، ومن الضروري الاهتمام بمصر فحسب. بعد ذلك استمرت مطالب السادات وتذكيره الدائم والمفرط بتوريد السلاح.
مرة أخرى نجد هنا مثالا واضحا على التضليل الذي يمارسه السادات على هيكل.
ص223:
يا له من تناقض بين هذه البهجة التي تعم قصر الطاهرة وهذا المشهد الدموي على الجبهة السورية! لم تحرك مصر ساكنا لتقدم مساعدة ما للسوريين، الذين ورطهم السادات نفسه في مغامرته العسكرية من أجل إيجاد ذريعة للأمريكيين كي يستطيعوا الدخول بها إلى الشرق الأوسط! لقد كان من واجب السادات أن يدعم سوريا، ليس فقط للاعتبارات السياسية والأخلاقية، وإنما من منطلق الواجب الرسمي باعتباره القائد العام للقوات المشتركة. لقد أدرك السوريون مغزى لعبة السادات متأخرا للغاية، بعد أن طلبوا من السادات، بشهادة هيكل، لا أقل من خمس عشرة مرة المساعدة، لكنه رفضها جميعا بكل ثبات.
ص223:
يعود الكاتب من جديد ليؤكد على العلاقة بين المخابرات الأمريكية والمصرية بهدف دعم الاتصالات المباشرة مع السادات!
ص224:
في الرسالة التي أرسلت إلى كيسينجر، لم يرد أي ذكر للفلسطينيين. هنا يتعامل حافظ إسماعيل أيضا، مثله مثل السادات، باستهتار بالغ تجاه الفلسطينيين وقضيتهم.
ص226:
ما يكتبه هيكل هنا عن قيام الأمريكيين بنقل الدبابات إلى إسرائيل بالطائرات مباشرة إلى منطقة العمليات العسكرية مجرد هراء. إن الدبابات التي استخدمت إبان الحرب لم ترسل بالطائرات. لقد كانت العريش في سيناء، وهو مكان بعيد تماما عن منطقة العمليات العسكرية هي نقطة إرسال الشحنات العسكرية الأمريكية. مرة أخرى نشعر بأن السادات هو مصدر تلك «المعلومات»؛ عن ذلك تحدث السادات إلى السفير السوفييتي طالبا منه أن يبدأ الاتحاد السوفييتي في إرسال الدبابات إلى مصر ... جوا. وقد جاءه الرد بأن أكثر طائرات النقل العسكري قدرة لا تستطيع أن تحمل سوى دبابة أو اثنتين!
ص227:
يورد هيكل هنا معلومات غير دقيقة؛ إذ لم تكن هناك أية تحركات من جانب المصريين أجبرت الإسرائيليين على نقل وحداتهم العسكرية من الجبهة السورية إلى سيناء. إن ما أثار القلق لدى القيادة الإسرائيلية على نحو جاد هو تحركات العراقيين، وحتى الأردنيين الذين هبوا لمساعدة سوريا، وليست تحركات المصريين؛ فالإسرائيليون كانوا يعلمون أن المصريين لن يدفعوا بقواتهم إلى أي مكان.
ص228:
يطرح الكاتب ملاحظة غريبة تفيد أن المصريين قد افترضوا قبل الحرب، أن الإسرائيليين سوف يعبرون القناة ثم ينتقلون منها إلى مصر. إذا كان لدى المصريين هذا القدر من نفاذ البصيرة، وكانوا يعلمون على وجه الدقة المكان الذي سيقع عنده هذا العبور (الدفرسوار)، فما الذي منعهم من الاهتمام بحماية هذا المكان تحديدا؟ يقول الكاتب إن الإسرائيليين حددوا الثغرة التي تفصل بين الجيشين الثاني والثالث، فمن أين للإسرائيليين أن يعرفوا عموما كم جيشا سيكون لدى مصر وأين سينتشرون؟ ما الذي يعنيه إذن الحديث عن خطة المصريين «الممتازة» إذا كان الإسرائيليون على علم بتوزيع الجيوش المصرية منذ عام 1969م، وأن هذه الأماكن لم تتغير في سياق العمليات العسكرية؟!
ص229:
ما الفائدة التي كانت ستعود على مصر عموما من جراء دفعها لما يسمى بالاحتياطي «الاستراتيجي» إلى المعركة؟ فالعمليات العسكرية الحقيقية، التي تتطلب وجود مثل هذا الاحتياطي لم تكن موجودة. ولماذا كانت هناك فجوة بطول أربعين كيلومترا تفصل بين الجيشين المنتشرين في سيناء. إنه خطأ بدائي وفاحش، إن لم يكن أكثر من ذلك.
ص230:
يستند هيكل، شأنه في ذلك شأن السادات، في تفسيره لغياب أي مواجهة للوحدات الإسرائيلية التي تسللت إلى مصر إلى ... أن الاتصالات بين الجبهة ومقر القيادة العامة كانت سيئة جدا، ناسيا أنهما يضعان أنفسهما بهذا «التفسير» في موقف مضحك، فالمسافة الواقعة بين الثغرة والقاهرة تبلغ أكثر قليلا من مائة كيلومتر! وهي مسافة يمكن قطعها حتى بالدراجة في ساعات قليلة.
يقدم لنا هيكل بعد ذلك في الصفحات 230، 231، 232، 233، 234 وصفا غير مقنع لتصرفات السادات التي أدت إلى تدخل الإسرائيليين، الأمر الصحيح الوحيد هو حديثه عن الرسالة التي بعث بها الأسد إلى السادات. لقد كانت المناورة السياسية التي قامت بها مصر مناورة رديئة؛ لأن السادات لم يكن يريد أن يكون مع الاتحاد السوفييتي؛ فقد كان لا يزال يمارس لعبته السياسية مع الولايات المتحدة من وراء ظهرنا.
ص235:
هذه واحدة من أكثر الفقرات في كتاب هيكل إثارة للفضول، حيث يصف توقف المصريين عن القتال بعد حدوث الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون للوصول إلى الضفة الغربية للقناة! لقد تبين أن الأمر وصل إلى حد إلغاء القيادة المصرية في القاهرة للتحركات الصحيحة تماما لعدد من التشكيلات المصرية، التي حاولت القضاء على الثغرة، وهو الأمر الذي كان ممكنا وسهلا. ليس هناك أي تفسير لذلك سوى الافتراض (وهو ما يتردد كثيرا الآن) بأن السادات سمح عن قصد للقوات الإسرائيلية بالدخول إلى مصر؛ ففي هذه الحالة يكون في الواقع «مبرر أخلاقي» للأمريكيين لكي يصبح باستطاعتهم أخذ المبادرة «للضغط» على إسرائيل!
ص235:
كان باستطاعة الكاتب أن يأتي أيضا على ذكر الجسر الركامي الذي أقامه الإسرائيليون عبر القناة، لقد استطاعوا أن يردموا قناة السويس دون أي عائق من جانب المصريين، بل إنهم فرشوا هذا الجسر بالأسفلت!
ص235:
يا له من تحريف مدهش للحقائق! فكوسيجين لم يحضر للسادات أي صور التقطت من الجو، كما أن السادات لم يتحدث عن ضرورة أن يحضر مؤتمر السلام «الدول الأربع عشرة في مجلس الأمن والأمين العام للأمم المتحدة، وكل الأطراف المعنية بما فيها الفلسطينيون». كان السادات موافقا على عقد مؤتمر تشارك فيه أطراف الصراع (لم يذكر من بينهم الفلسطينيين)، إضافة إلى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية. لكن الأهم، أنه طلب من الاتحاد السوفييتي «ضمانا» أن تقوم إسرائيل بتنفيذ قرار مجلس الأمن رقم 242، دون أن يعرب عن إصراره في سياق ذلك على الانسحاب الكامل للقوات الإسرائيلية. وكان السادات قد بعث قبل ذلك برسالة إلى الملك حسين، لا بمبادرة منه، وإنما بعد حديثه مع السفير السوفييتي. لقد كان من الممكن أن يكون لمشاركة الأردن أثر قوي في ضرب إسرائيل، لكن ذلك لم يدخل في خطط السادات؛ ولذلك رفض مشاركة الأردن في العمليات العسكرية.
ص236:
من الواضح أن موقف الملك حسين قد جرى تحريفه من جانب الكاتب، الذي رأى أن ذلك يمكن أن يصب لصالح السادات. مرة أخرى يبدو الأمر وكأنه من تفسير السادات. والأرجح أن حسينا رأي أو علم لاحقا أن السادات لا يقود العمليات العسكرية على نحو جاد، وإنما يؤدي لعبة بمشاركة الأمريكيين، ليس له مكان فيها.
ص237:
لم تجر الأمور على هذا النحو؛ فالسادات، الذي كان مستعدا لوقف إطلاق النار، لم يجد بدا من أن يطلب تقديم هذا الاقتراح من جانب الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية معا، آنذاك لفت السفير السوفييتي الانتباه إلى ضرورة إعداد الرأي العام المصري لذلك. لم يكن باستطاعة الصحف المصرية أن تسيء إلى موقف الاتحاد السوفييتي (على الرغم من أنه اتضح فيما بعد أنه قد صدرت لها تعليمات أن تلتزم التواضع في هذا الشأن). قد يأتي يوم رائع يعلم فيه المصريون أن الاتحاد السوفييتي قد انضم إلى الولايات المتحدة في تقديم اقتراح وقف إطلاق النار، ولعل ذلك يزيل الغموض عن موقف الاتحاد السوفييتي؛ لأن أحدا لم يخبر المصريين بالثغرة التي أحدثها الإسرائيليون للعبور إلى الضفة الغربية للقناة!
وافق السادات على رأي السفير السوفييتي، وقال إنه أصدر تعليماته إلى هيكل بإعداد مقال كبير في هذا الصدد (كان على السادات أن يقتنع هو نفسه بذلك). في واقع الأمر، فقد كتب هيكل مقالا ضافيا مدعما بالجداول، وهو ما سبب للمصريين صدمة بطبيعة الحال. لقد رأوا أن مصر تقف الآن على شفا كارثة عسكرية، بدلا من الانتصار الذي تحدثوا عنه من قبل. وعلى هذه الخلفية بدا موقف الاتحاد السوفييتي منطقيا؛ فالاتحاد السوفييتي يتجه الآن نحو وقف إطلاق النار لإنقاذ مصر.
ص238:
من الأمور المميزة لهيكل إسقاطه لجوانب مهمة للغاية من وجهة نظر الحقائق التاريخية الثابتة؛ مثل كيف تم تنظيم وقف إطلاق النار، وكيف بدأ الأمر. يورد هيكل مقولة أحمد إسماعيل بعد الثغرة التي أحدثها الإسرائيليون، أن من المستحيل، على حد قوله، دفع وحدة عسكرية للقضاء عليها، يورد هيكل هذا الرأي الذي قاله إسماعيل للسادات «على انفراد» (المثير للفضول هو كيف عرف الكاتب بذلك؟). إن جوهر ما صرح به إسماعيل يبدو ملتبسا، فإما أنها صياغة مهذبة للاعتراف بالفشل العسكري الذريع، وإما أنها إيحاء للسادات أن الظروف باتت مهيأة لتدخل الأمريكيين. لا أحد يعرف أيهما يقصد. ما الذي قاله وزير الحربية للسادات على انفراد؟ «قال إنه يتحدث الآن للتاريخ وبصفته مواطنا، وأنه إذا كان الرئيس يرى طريقا مفتوحا لوقف إطلاق النار على أساس شروط مقبولة، فإنه سيؤيد قراره»(!).
ينتقل هيكل بعد ذلك على الفور إلى عرض الرسالة التي بعث بها السادات إلى الأسد، مسقطا نقطة مهمة للغاية؛ طلب السادات نفسه من الاتحاد السوفييتي الإعداد لوقف إطلاق النار على وجه السرعة.
في الساعة الواحدة والنصف بعد منتصف الليل، يوم العشرين من أكتوبر، طلب السادات حضور السفير السوفييتي لمقابلته في قصر الطاهرة على وجه السرعة. وفي الساعة الثانية طلب منه، وكان يبدو عصبيا على نحو واضح، أن يبلغ موسكو طلبه العاجل لتقوم بالإعداد بسرعة لوقف إطلاق النار مع بقاء القوات الإسرائيلية في تلك المواقع التي احتلتها على الضفة الغربية للقناة. كان هذا بالضبط ما طلبه السادات. ومن اللافت للانتباه، أن أحدا حتى الآن من المصريين، بما فيهم السادات نفسه بطبيعة الحال، لم يذكر أن السادات هو أول من طلب وقف إطلاق النار.
ص239:
في رسالته للأسد يتحدث للأسد بكثير من المبالغة: «لقد كنت في الجبهة المصرية خلال العشرة أيام الأخيرة، أقاتل الولايات المتحدة الأمريكية أيضا (!)، حيث إنها كانت ترسل السلاح لها (إسرائيل). وأقولها بصراحة إنني لا أستطيع أن أقاتل الولايات المتحدة الأمريكية أو أن أتحمل أمام التاريخ المسئولية عن تدمير قواتنا المسلحة للمرة الثانية.» وقد تضمنت الرسالة أيضا عددا من الألاعيب الفظة. نفهم من الرسالة، على سبيل المثال، أن الاتحاد السوفييتي يضمن، هو والولايات المتحدة الأمريكية، انسحاب القوات الإسرائيلية والدعوة لعقد مؤتمر السلام تحت إشراف الأمم المتحدة. نحن لم نقدم ضمانات، وإنما السادات هو الذي طلبها.
بالمناسبة، كان رد الأسد على السادات صحيحا تماما، وعموما، وكما كشفت الأحداث السابقة، فقد اتضح أن الأسد كان يتمتع ببعد نظر وأمانة في علاقته بالاتحاد السوفييتي، خلافا للسادات.
الفصل الخامس: «حالة التأهب النووي»
ص246:
عندما سعى الاتحاد السوفييتي لكي لا يشارك في مؤتمر السلام، إلى جانب الأطراف المعنية بالصراع، سوى الاتحاد السوفييتي والولايات المتحدة الأمريكية، لم يكن السبب هو الخوف من موقف جمهورية الصين الشعبية (في حالة ما إذا شارك في المؤتمر كل أعضاء مجلس الأمن)، وإنما لسبب آخر. إن مشاركة الدول الإمبريالية الأخرى، مثل إنجلترا وفرنسا، كان من الممكن أن يؤدي إلى أن هذه الدول لم تكن لتقف في اللحظات الصعبة والحاسمة للدفاع عن مصالح العرب، كما أنها لم تكن لتقف أيضا، بطبيعة الحال، إلى جانب الحركة العربية التقدمية؛ ولذلك ولصالح العرب، كان من الضروري الاكتفاء بمشاركة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. بالنسبة للقوميين، مثل هيكل والسادات، كان من الواضح أنهما لا يدركان الفارق بين السياسة الخارجية للاتحاد السوفييتي والسياسة الخارجية للدول الرأسمالية.
يختلق الكاتب كثيرا من التلفيقات، وهو يصف الحديث الذي دار بين القيادة السوفييتية ونيكسون، وهي أمور لا تتفق إطلاقا مع الواقع، وبصفة خاصة عندما يزعم أن الاتحاد السوفييتي كان يدير مباحثاته مع الأمريكيين حول وقف عمل «الجسور الجوية»؛ السوفييتية إلى مصر، والأمريكية إلى إسرائيل.
ص248:
لقد وصل الاستهتار بالسادات، أقولها بلطف، إلى حد أنه، بينما كانت الأسلحة الأمريكية الحديثة التي تسلمتها إسرائيل لتوها لا تزال تقتل المصريين، كان السادات يتحدث بتفاخر أنه يقاتل الولايات المتحدة الأمريكية نفسها، وفي هذا الوقت أرسل السادات دعوة إلى كيسينجر، من وراء ظهر الاتحاد السوفييتي، لزيارة القاهرة! وهي الحقيقة التي عرفت، فضلا عن الدعم السياسي الكامل، وكان يصرخ من نفاد الصبر والخوف، بينما ظل الإسرائيليون يواصلون تقدمهم في مصر غير عابئين بقرار مجلس الأمن بشأن وقف إطلاق النار.
من الطريف أن هيكل في هذه المرة يؤكد على الاتصالات المستمرة، التي راحت تساندها أجهزة المخابرات المصرية والأمريكية طوال فترة الأحداث العسكرية.
ص250:
من المدهش جهل هيكل وعدم إحاطته علما بالحقائق المهمة للتاريخ، الذي أخذ على عاتقه كتابته! كتب هيكل يقول: إن أكبر عيب في قرار مجلس الأمن رقم 339 أنه لم يطلب عودة القوات إلى المواقع التي كانت تحتلها في الثاني والعشرين من أكتوبر! بينما كان البند الوحيد العملي في هذا القرار هو تضمنه طلب عودة القوات إلى المواقع التي كانت تحتلها في الثاني والعشرين من أكتوبر! ففي هذا البند يتلخص مغزى هذا القرار، بل والمغزى الوحيد له. كان القرار مهما ومثل انتصارا كبيرا للاتحاد السوفييتي، وربما كان ذلك تحديدا ما دفع هيكل لتحريفه. أما السادات فقد قرر أن يتنصل منه بعد أن صاغ فيما بعد «اتفاقا (مشوها) من ست نقاط» مع كيسينجر، بدلا من هذا القرار الذي تم إعداده على نحو جيد ومحكم، والذي تبين أنه لا يلزم الإسرائيليين ب «الفصل بين القوات».
وعلاوة على ذلك، فقد اخترع الكاتب أيضا حديثا دار بين السادات والسفير السوفييتي بخصوص موضوع وقف إطلاق النار.
ص251:
تحريف جديد لهيكل لأحداث واقعية، ينفي هيكل عنها مغزاها السياسي الكبير. لقد طلب المصريون من الاتحاد السوفييتي إرسال قواته. نعم طلبوا، والذي طلب هو السادات نفسه، حيث إن الإسرائيليين لم يلتزموا بوقف إطلاق النار، واندفعوا إلى الأمام لكي يطوقوا الجيش الثالث المصري والاستيلاء على مدينة السويس، بينما راح نيكسون يؤكد للسادات والاتحاد السوفييتي، أنه بناء على المعلومات المتوافرة لدى الأمريكيين، فإن إسرائيل ملتزمة بوقف إطلاق النار. لقد توجه السادات إلى الاتحاد السوفييتي وإلى الولايات المتحدة بطلب إرسال قواتهما و، أو، مراقبين لإجبار إسرائيل بالقوة على وقف تقدمها، وعندما رفض الأمريكيون توجه السادات إلى الاتحاد السوفييتي عبر السفير السوفييتي، وطلب من الاتحاد السوفييتي أن يرسل منفردا قواته. وقد كان لإعلان الاتحاد السوفييتي تحديدا استعداده لتلبية طلب السادات أثره في دفع الأمريكيين «لحفظ ماء وجههم»، ومن ثم إعلان «حالة التأهب النووي»، عندئذ أدركت إسرائيل ومعها الولايات المتحدة الأمريكية أن العبث مع الاتحاد السوفييتي أمر خطير، وهنا توقف الإسرائيليون. وللمرة الثانية في تاريخ مصر الحديثة ينقذ الاتحاد السوفييتي بخطواته الحاسمة مصر من هزيمة كاملة.
ص251-252:
ما يكتبه هيكل حول إمكانية التقاط صور جوية كل ساعة تقريبا محض هراء. الأمر ببساطة أنه لا يعرف تقنية هذا الأمر.
ص253:
يكذب السادات على الأسد؛ ففي لحظة أصابه فيها الذعر ، ألح السادات يومي 25 و26 أكتوبر على الاتحاد السوفييتي أن يرسل قواته و، أو، مراقبين. لقد طلب منا أن نوقف إسرائيل بالقوة، لكنه أراد أن يبدو أمام السوريين على صورة مختلفة.
ص254-255:
يقول الكاتب إن حالة التأهب العسكري من الدرجة الثالثة أعلنت في صفوف القوات المسلحة الأمريكية بمبادرة من كيسينجر. وكان كيسينجر قد شرح للسفير السوفييتي لدى القاهرة الأمر على نحو مختلف حين قال: «لقد فقد نيكسون أعصابه.»
يتسلل سوء الفهم إلى هيكل بخصوص جوهر الوفاق هنا أيضا، عندما يؤكد أن الاتحاد السوفييتي، على حد زعمه، كان ميالا لممارسة الضغط على أصدقائه؛ أي على العرب. إننا لم نمارس ضغطا على مصر، وإنما أنقذناها من الهزيمة! كان بإمكان هيكل أن يذكر ذلك أيضا.
ص256:
أعلى صور التلفيق عند الكاتب: اتضح أن إرسال السلاح عبر الجسور الجوية (من الاتحاد السوفييتي إلى مصر وسوريا، ومن الولايات المتحدة الأمريكية إلى إسرائيل) كان على نحو متكافئ؛ «طن مقابل طن». هذا ما كتبه هيكل، فمن الذي قام بالحساب؟
ص258:
لا يخجل هيكل من ذكر العدد الهائل للدبابات التي تم تدميرها. لقد فعل ذلك بهدف المبالغة من أهمية «المعركة»؛ فما دامت الخسائر كبيرة، فإن هذا يعني أن المعركة كانت كبيرة. الأمر ليس إلزاميا إطلاقا. لقد دفع المصريون عددا كبيرا من الدبابات إلى ساحة القتال، ولم يحاولوا أن يسحبوا الدبابات التي خرجت من المعركة من منطقة النيران لإصلاحها، فكل دبابة كانت قيمتها تبلغ 250 ألف روبل!
لم يكن الأمر يستحق أن يشتط الكاتب في الحماس: «عندما اقترب الإسرائيليون، فإن المصريين ضربوهم بقوة، وعندما اقتربوا مرة أخرى، تلقوا مرة أخرى ضربة قوية.» في الواقع من الذي ضرب من، الإسرائيليون أم المصريون؟
ص260:
في النهاية نجد من جديد هذا الاعتراف الثمين لهيكل: منذ السابع من أكتوبر عرف المصريون أن الطريق إلى الممرات كان مفتوحا، وأن بإمكانهم الاستيلاء عليها، لكنهم لم يتقدموا. لماذا؟ •••
لا شك أن كتاب هيكل كتاب مهم، لكنه يحتوي على عدد كبير من الأخطاء، كما يفتقد الدقة في ترتيب الوقائع، الأمر الذي يقلل من قيمته باعتباره وثيقة تاريخية. إن تقدير الكاتب للأحداث والظواهر يتوقف في الكثير، بطبيعة الحال، على وجهة نظره. ولكنه يتوقف أيضا على معرفة الوقائع الحقيقية.
كان هيكل في عهد ناصر يمتلك منفذا واسعا إلى وثائق الدولة، ومع ذلك كان هيكل يحرف الكثير منها في مؤلفاته «لاعتبارات فكرية» (انظر على سبيل المثال إلى كتابه «وثائق القاهرة»).
21
يتضح لنا من كتاب هيكل أن السادات لم يسمح عمليا لهيكل بالوصول إلى الوثائق؛ ولهذا فإن هيكل يعتمد في وصفه للعديد من الوقائع والأحداث وما تضمنته الرسائل على ما يعرضه عليه السادات، الذي كان يحرض هيكل بشكل مستمر ضد السوفييت، وكان يدس له حكايات للأحداث. وكان هيكل، دون خجل ودون مراجعة لهذه الحكايات، يضعها في كتابه، ناسيا أنه يتعامل مع قضايا لا تمس دولة واحدة فحسب (مصر)، وإنما أيضا دول أخرى، وخاصة الاتحاد السوفييتي. إن عدم جواز هذا التعامل المتحرر من القيود مع هذا النوع من القضايا، التي تعد في بعض الأحيان من أسرار الدولة، أمر بديهي.
وحتى على الرغم من التوجه المعادي للسوفييت عند إلقاء الضوء على بعض الحقائق، فإن حقيقة الدور النبيل والسياسة المستقيمة للاتحاد السوفييتي في دعم حركة التحرر الوطني ضد الدسائس الإمبريالية كان ينكشف عندئذ على أية حال. وعلى ما يبدو فإن هيكل لم تكن لديه الرغبة في غالب الأحوال في فضح الدور الخائن للرئيس السادات. ليس من قبيل الصدفة أن كتاب «الطريق إلى رمضان» محظور في مصر، ولم يسمح إلا بنشر بعض الفصول التي تمتدح موقف السادات وتسيء إلى دور الاتحاد السوفييتي.
موسكو، أغسطس 1975م
Unknown page