Misr Fi Matlac Qarn Tasic Cashr
مصر في مطلع القرن التاسع عشر ١٨٠١–١٨١١م (الجزء الأول)
Genres
واستمرت الدولة تطلب إنفاذ النجدات من الرجال والمؤن والذخائر، من مصر إلى الحجاز، فوصل الططر بفرمان من الباب العالي باسم علي باشا الجزائرلي والبكوات المماليك، بتشهيل أربعة آلاف عسكري وسفرهم إلى الحجاز لمحاربة الوهابيين، وإرسال ثلاثين ألف إردب غلال إلى الحرمين، فقال الشيخ الجبرتي في حوادث 7 فبراير 1804، «إنهم عملوا ديوانا وقرءوا هذا الفرمان، وكان أيضا مما جاء فيه، أنهم؛ أي الدولة، قد وجهوا أربع باشات من جهة بغداد بعساكر، وكذلك أحمد باشا الجزار أرسلوا له فرمانا بالاستعداد والتوجه لذلك، فإن ذلك من أعظم ما تتوجه إليه الهمم الإسلامية، وأمثال ذلك من الكلام والترقق، وفيه بعض القول بالحسب والمروءة بتنجيز المطلوب من الغلال، وإن لم تكن متيسرة عندكم، تبذلوا الهمة في تحصيلها من النواحي والجهات بأثمانها على طرف الميري بالسعر الواقع. ولكن علي باشا الجزائرلي كان قد قبل ذلك بأيام معدودة، وانشغلت حكومة القاهرة الثلاثية (البرديسي، إبراهيم، محمد علي) بمطاردة الألفي عقب وصوله من إنجلترة، ثم حدث انقلاب 12، 13 مارس 1804 الذي أخرج البكوات من حكومة القاهرة، وتنصيب أحمد خورشيد باشا. وقد قرئ فرمان في 4 يوليو من العام نفسه يطلب تشهيل لوازم الحج والحرمين من الصرة والغلال. وفي 27 يوليو وصل مندوب من قبل الباب العالي يحمل أوامر تقضي بإخراج خمسمائة من العسكر إلى ينبع البحر يقيمون بها محافظين لها من الوهابيين، ويدفع لهم جامكية سنة كاملة وذخيرتها وما يحتاجون إليه من مؤنة وغلال وجبخانة. وقد تبين من قراءة هذه الأوامر أنه قد تعين أبو مرق باشا بعساكر الشام إلى الحجاز، فأحضر أحمد خورشيد كبار العسكر وعرض عليهم ذلك الأمر، وقال لهم إنه ورد لي إذن عام في تقليد من أقلده، فمن أحب منكم قلدته أمرية طوخ أو طوخين، فامتنعوا من ذلك ، وقالوا نحن لا نخرج من مصر، ولا نتقلد منصبا خارجا عنه.» وكانت كل القوة التي غادرت البلاد إلى ينبع البحر لا تزيد على مائة عسكري لا غير ذهب بها في 20 أغسطس من العادلية خارج القاهرة علي باشا الوالي المسافر إلى ينبع البحر، قاصدا إلى السويس في طريقه إلى الحجاز. وفي 17 نوفمبر وصل قاصد من الديار الرومية؛ أي من الدولة وعلى يده فرمان عن مراسلة للباشا (أحمد خورشيد) بإرسال باشة الينبع لمحافظتها من الوهابيين وأنه أعطاه ذخيرة شهرين، بأن يرسل إليه ما يحتاجه من الذخيرة لأجل حفظ الحرمين.
ولكن خورشيد لم يستطع إرسال أية نجدات أخرى لجيش الدولة بالحجاز، مع ضآلة النجدات الأخيرة التي بعث بها إليه، وذلك لانشغاله بالنضال مع محمد علي، ذلك النضال الذي انتهى بالمناداة بولاية هذا الأخير، كما هو معروف في مايو 1805، وقد جاء في المكاتبة التي حملها سلحدار القبطان باشا إلى محمد علي بإبقائه في القائممقامية أن يقلد من قبله باشا على عسكر يعين إرساله إلى البلاد الحجازية ويسهل له جميع احتياجاته من الجبخانة وسائر الاحتياجات واللوازم، واستعد طاهر باشا المتعين للذهاب إلى بلاد الحجاز وبرز بعساكره إلى خارج باب النصر في نوفمبر، ولكن هؤلاء الجند شغلوا بمطاردة جماعة الألفية وعربان أولاد علي، في ديسمبر، وبطل أمر السفرة المذكورة، وشغل محمد علي بنضاله مع البكوات، وكان كل ما فعله أن أخرج المحمل والكسوة وعين للسفر بهما من القلزم مصطفى جاويش العنتبلي ومعه صراف الصرة، وقد ارتحلت القافلة فعلا من القاهرة في 7 فبراير 1806 قاصدة إلى السويس.
وتعذر بسبب أزمة النقل المعروفة إلى سالونيك، والنضال مع محمد بك الألفي من ناحية، وبكوات الصعيد من ناحية أخرى، إرسال النجدات إلى الحجاز، بالرغم من أن المرسوم الذي كان قد أتى به كتخدا القبطان صالح باشا لتقرير الولاية لمحمد علي في سبتمبر 1806، قد نص في نظير تثبيته في الولاية، على قيامه بالشروط التي منها طلوع الحج ولوازم الحرمين، وإيصال العلائق والغلال لأربابها (في الحجاز) على النسق القديم. ثم حضر في نوفمبر من العام نفسه قابجي يحمل فرمانين: أحدهما يتضمن تقرير الباشا على ولاية مصر، والثاني يتضمن الأوامر بإجراء لوازم الحرمين وطلوع الحج وإرسال غلال الحرمين ... وتشهيل غلال وقدرها ستة آلاف إردب وتسفيرها على طريق الشام؛ معونة للعساكر المتوجهين إلى الحجاز.
ولكنه لم تمض شهور قليلة حتى كانت حملة «فريزر» قد جاءت إلى مصر واستولت على الإسكندرية، ونشب من ثم ذلك النضال الذي تتبعنا أدواره من نزول الإنجليز في الأراضي المصرية في مارس 1807 إلى وقت جلائهم عن الإسكندرية في سبتمبر من العام نفسه، وكان في أثناء ذلك أن وصلت في 14 يونيو «القافلة والحجاج من ناحية القلزم على مرسى السويس، وحضر فيها أغوات الحرم والقاضي الذي توجه لقضاء المدينة، وهو المعروف بسعيد بك، وكذلك خدم الحرم المكي، وقد طردهم الوهابي جميعا، وأما القاضي المنفصل فنزل في مركب ولم يظهر خبره، وقاضي مكة توجه بصحبة الشاميين، وأخيرا المواصلون، أنهم منعوا من زيارة المدينة، وأن الوهابي أخذ كل ما كان في الحجرة النبوية من الذخائر والجواهر، وحضر أيضا الذي كان أميرا على ركب الحجاج، وصحبته مكاتبة من مسعود الوهابي (والمقصود هنا سعود بن عبد العزيز) ومكتوب من شريف مكة غالب، وأخبروا أنه أمر بحرق المحمل.» وشكا حاكم قلعة المدينة، الحاج مصطفى، من انقطاع ورود الحبوب التي كانت ترسلها مصر سنويا إلى الحرمين الشريفين، منذ عام تقريبا، مع شدة الحاجة إليها بسبب البؤس والضنك المنتشرين بهذه الجهات، وبعث الباب العالي حوالي منتصف سبتمبر 1807 يطلب من محمد علي إرسال كميات وافية من الحبوب إلى المدينة المنورة بكل سرعة، وعندما صدر في نوفمبر من العام نفسه فرمان تقرير محمد علي باشا على ولاية مصر (للسنة القابلة؛ حيث جرت العادة بتقرير الولاية سنويا)، ذكر الباب العالي أن محمد علي قد استحق هذا التقرير في وظائفه تقديرا لمواهبه، ولجهوده في أخذ الإسكندرية من الإنجليز، وقال إن من بين واجبات وظائفه هذه ما يتعلق بمسألة الحرمين الشريفين، وقد وصل القاهرة في 24 ديسمبر 1807، القابجي بيانجي بك يحمل فرمان التقرير هذا وغيره من المراسيم، وكان من بين هذه مرسوم بالتأكيد في التشهيل والسفر لمحاربة الوهابيين بالحجاز واستخلاص الحرمين.
وقد بقي بيانجي في مصر قرابة شهرين يستحث الباشا على إنفاذ جيشه إلى الحجاز، وقال الشيخ الجبرتي: إن هذا القابجي «كان حضر بالأوامر بخروج العساكر للبلاد الحجازية، وخلاص البلاد من أيدي الوهابية، وفي مراسيمه التي حضر بها التأكيد والحث على ذلك، فلم يزل الباشا يخادعه ويعده بإنفاذ الأوامر، ويعرفه أن هذا الأمر لا يتم بالعجلة، ويحتاج إلى استعداد كبير وإنشاء مراكب في القلزم، وغير ذلك من الاستعدادات.» ويستطرد الشيخ، فيذكر الوسيلة التي لجأ إليها محمد علي لإظهار الصعوبات التي تعترض تنفيذ الأوامر التي جاءته فورا ودون إمهال، وأهم هذه الصعوبات ما تتكلفه الحملة المزمعة من نفقات طائلة مع خلو خزانته من المال، «فعمل الباشا ديوانا جمع فيه الدفتردار والمعلم غالي والسيد عمر والمشايخ، وقال لهم: لا يخفاكم أن الحرمين استولى عليهما الوهابيون، ومشوا أحكامهم بهما، وقد وردت علينا الأوامر السلطانية المرة بعد المرة للخروج إليهم ومحاربتهم، وجلائهم وطردهم عن الحرمين الشريفين، ولا تخفى عنكم الحوادث والوقائع التي كانت سببا في التأخير عن المبادرة في امتثال الأوامر، والآن حصل الهدوء، وحضر قابجي باشا بالتأكيد والحث على خروج العساكر وسفرهم، وقد حسبنا المصاريف اللازمة في هذا الوقت، فبلغت أربعة وعشرين ألف كيس، فأعملوا رأيكم في تحصيلها. فحصل ارتباك واضطراب، وشاع ذلك في الناس، وزاد بهم الوسواس، ثم اتفقوا على كتابة عرضحال ليصحبه ذلك القابجي معه بصورة نمقوها»، فغادر بيانجي القاهرة في 28 فبراير 1808، للعودة إلى القسطنطينية، وخرج الباشا لوداعه.
ووجه الأهمية في هذا الحادث، أنه يحدد بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين الباشا والباب العالي بشأن الحرب الوهابية، فقد درج الباب العالي منذ أن وصل محمد علي إلى الولاية، على مطالبة الباشا بإرسال الغلال التي جرت العادة بإرسالها سنويا إلى الحرمين الشريفين، وإنفاذ النجدات من الذخائر والجبخانة والعسكر إلى الحجاز، وقد شاهدنا كيف أن الباشا لم يرسل جندا إلى الحجاز، وكيف شكا حاكم المدينة المنورة من عدم ورود أية حبوب من مصر، منذ عام 1806، وقد كان المسوغ لعدم تلبية أوامر الباب العالي، انشغال الباشا بنضاله ضد البكوات المماليك، وحربه مع الإنجليز، ثم عدم تكليف الباشا رسميا، كأحد الباشوات الذين عينهم الباب العالي لقيادة الحملات الموجهة ضد الوهابيين، بالخروج بجيش مستقل وبوصفه باشا مصر، للاشتراك مع زملائه في هذه الحملات.
ولكنه سرعان ما صار للمسألة وجه جديد، عندما فوض الباب العالي محمد علي رسميا بتصفية الحرمين الشريفين، وحضر القابجي باشا، يطلب إليه إنفاذ العسكر إلى الحجاز، وصار لزاما على الباشا امتثال أمر السلطان والخروج فورا لقتال الوهابيين، وانتحال المعاذير المبررة لتباطؤه في تنفيذ هذه الأوامر الصريحة والمحددة. ولما كان الباشا لا يريد الدخول في حرب، ميدانها بعيدة، ونفقاتها جسيمة، وهو لما يفرغ بعد من دعم أركان باشويته، والقضاء على خصومه الداخليين - البكوات المماليك - وتطويع الجيش الذي كان لا يزال يتخذ من المطالبة بمرتباته المتأخرة ذريعة للتمرد والعصيان، ولا تزال إلى جانب هذا كله حاجته إلى المال شديدة، ولما كان في حاجة كذلك إلى السفن لنقل جيشه إلى بلاد العرب، وذلك في الوقت الذي عظم فيه نشاطه التجاري وأراد السفن لنقل غلاله المصدرة إلى الخارج، فقد آثر الباشا عدم الدخول وقتئذ في هذه المغامرة، التي باء فيها بالفشل غيره من الولاة في العراق والشام، زد على ذلك، أنه كان غير مطمئن لنوايا الباب العالي من جهته، ولا يزال ماثلا في الأذهان حادث محاولة نقله إلى سالونيك، بينما هو يريد تأمينا لباشويته، أن يرقى بها إلى مصاف وجاقات الغرب، على أساس الحكم الوراثي في أسرته، فلا يظل تجديد ولايته، وتقريره بها سنويا، مرهونا برضاء الباب العالي عليه، وخاضعا لنزوات الديوان العثماني وتقلبات الأهواء السياسية، أو مطالبها من وجهة النظر العثمانية.
وحيث إن الباب العالي قد فوض إليه الآن إنهاء مسألة الحرمين الشريفين، وصار ينتظر صدوع الباشا بالأوامر الصادرة إليه من صاحب السيادة الشرعية عليه، فقد وجب على محمد علي أن يوضح للباب العالي الأسباب التي تحول دون صدوعه بهذه الأوامر فورا ومن غير إبطاء، ولكن الباب العالي - كما سيتضح - لم يقتنع بالحجج والدعاوى التي قدمها محمد علي، ثم تزايدت خطورة الموقف في الحجاز، وتزايد تبعا لذلك، إلحاح الديوان العثماني على محمد علي بضرورة الخروج لحرب الوهابيين، فكثر الأخذ والرد بين الجانبين، وتبودلت الرسائل الكثيرة بينهما ، وانقضت سنوات أربع، منذ سبتمبر 1807، قبل خروج جيش طوسون باشا بن محمد علي إلى الحجاز في سبتمبر 1811، وتكشف هذه المراسلات عن حقيقة الأعذار التي انتحلها محمد علي لإرجاء إنفاذ الحملة ضد الوهابيين، ثم إنه لم يلبث أن طرأ في أثناء ذلك على العلاقات بينه وبين الباب العالي ما كدرها بسبب حادثة يوسف كنج (أو جنج) وسليمان باشا التي ألمعنا إليها، حتى إنه بدا في وقت من الأوقات أن الأمور قد تأزمت بينهما بدرجة لا أمل في تسويتها، لولا حاجة الباب العالي إلى جيش محمد علي من جهة، ثم ما أظهره محمد علي نفسه من حنكة سياسية، من جهة أخرى، مكنته من اجتياز الأزمة، ثم الظفر علاوة على ذلك، بذلك الوعد الذي أشرنا إليه، تقرر الحكم الوراثي في مصر إذا انتصر جيش الباشا في الحجاز.
وقد بدأ الباشا مراسلاته مع الباب العالي، يوضح الأسباب التي تحول دون إنفاذ عسكره فورا إلى الحجاز في فبراير 1808، فكتب إلى الآستانة يقول: إنه وإن كانت قد أحيلت إلى عبدكم تصفية الحرمين الشريفين، وتطهيرهما من الخارجي بموجب الخط الهمايوني، التي هي بالشوكة مقرونة فسمعا وطاعة، وليس لي جواب غير مؤدى سمعنا، ومن الجلي أن عبدكم عبد الدولة العلية ومملوكها، ولكن هناك أسباب تدعو إلى إعمال الروية والتريث، منها: أن واقعة الحرمين هذه ليست من المسائل التي يمكن إنجازها بالاعتماد على جهده هو وحده، بل هي مادة جسيمة تتطلب إمداد السلطان ملاذ العالم، بإرسال عشرة آلاف كيس نقدا وعدا، غير المهمات وما إليها، وهذا مما يعجز محمد علي عن فعله؛ لأنه - كما قال - مثقل بالديون الكثيرة، سواء كان مبعثها بقاء بعض الأراضي في مصر دون ري - بسبب انخفاض الفيضان في هذا العام، وقلة الإيراد المتحصل تبعا لذلك - أم النفقات التي تطلبها فتح الإسكندرية وإجلاء الإنجليز عنها، أم المبالغ الكثيرة التي تعهد محمد علي بدفعها سدادا للديون التي بقيت على سلفه أحمد خورشيد باشا وقت عزله من الولاية، أضف إلى هذا، أنه لم يصل الباشا بارة واحدة من إيرادات الصعيد؛ لأن هذا الإقليم بيد البكوات المماليك.
ثم إن هناك سببا آخر هاما يدعوه إلى عدم إخلاء مصر من الجند، بإرسال الجيش المطلوب إلى الحجاز، هو أنه قد ترتب على الحرب القائمة بين الدولة وأعدائها، أن صارت مصر مطمح أنظار جميع الدول المسيحية؛ ولذلك فأقرب الاحتمالات وأجدرها بالملاحظة، إنما هو احتمال أن يتسلط أعداء الدين على السواحل المصرية، فيما إذا صار إرسال العسكر الموجودين بمعية عبدكم محمد علي إلى الحجاز، ثم وعد الباشا بإنجاز استعداداته على وجه السرعة، وسداد ديونه، حتى يتسنى له القيام بالمهمة المكلف بها في السنة القادمة، وقال: إنه يعمل الآن لتجهيز ثلاثة أو أربعة آلاف جندي من المشاة لهذه الغاية، يعتزم إرسالهم إلى جدة بحرا بطريق السويس، مزودين بالذخائر والمهمات وكامل العدة والأدوات، وإن كان هو شخصيا لا يستطيع السفر لمجرد تلك المحاذير التي سردها في رسالته هذه.
Unknown page