Min Shuquq Zalam

Nahid Hindi d. 1450 AH
74

Min Shuquq Zalam

من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد

Genres

إذا لم يكونوا من هؤلاء فمن يكونون إذن هؤلاء السجناء الجدد؟ صرنا نتلصص ونجمع الأخبار عنهم بأي وسيلة، وبعد عدة أسابيع استدعى جهاز المخابرات سجينا من الأقسام المغلقة اسمه «ح. گ.» من سكنة محافظة البصرة، وطلب منه القيام بتصليحات فنية طارئة، وحذره رجال المخابرات من الكلام أو إجراء أي حديث مع السجناء الجدد لأي سبب كان، وبحسب شهادته التي سمعتها شخصيا منه، وتأكدت منها حتى بعد خروجنا من السجن، أنه حين دخل هذا القسم رآه يشبه «ق3» إلا أن الزنزانات بدل أن تكون واجهتها من القضبان - كما هي العادة - وجد أن هذه القضبان قد أغلقت بصفيحة حديدية تمنع رؤية من في داخل الزنزانة، ولكن لأن عمله كان داخل الزنزانات فقد استطاع رؤية السجناء وهم يخرجون منها ويوضعون في الممر الوسطي، بينما يقوم هو بأعماله من تصليحات. يقول: رأيتهم جميعا من الشباب وكلهم يرتدون زي السجن الكانة باللونين الرصاصي والأحمر وأن الأغلب فيه الرصاصي، ومن لهجتهم عرفت أنهم كويتيون، وسمعتهم يتحدثون بينهم، وكان بعضهم قد بلغ به اليأس والإحباط حدا كبيرا بسبب المعاملة السيئة، ويتحدث عن بقائه إلى آخر عمره في هذا السجن.

لم يستطع «ح. گ.» تبادل أي حديث معهم ولكن استرق السمع لكل حديث كان يجري بالقرب منه باهتمام وعلم أنهم أسرى كويتيون وإن لم يستطع تحديد وظائفهم. وأغرب ما لفت انتباهه هو غرفة صغيرة أوسع من باقي الزنزانات كان فيها أسرى لم يسمح له برؤيتهم، ويبدو أن لهم خصوصية ما، إما لوظائف عالية أو وجاهة اجتماعية كبيرة، ولكن تبقى هذه تخمينات فقط. عدد الأسرى في هذا القسم - بحسب التقديرات غير الدقيقة بالطبع - لا يقل عن مائة شخص وربما يكون العدد ضعف ذلك إذ لم يتسن له معرفة العدد الحقيقي في كل زنزانة، ولكن لو طبقنا ظروفنا نفسها في «ق3» لربما يصل العدد إلى مائة وستين شخصا أو حتى مائتي شخص.

أما «ق3» الذي أخلينا منه فقد جاء إليه أسرى كويتيون ولكن من نوع آخر، وأيضا عن طريق العمال الفنيين حصلت على شهادة مباشرة؛ إذ دخل إليهم سجينان من القومية التركمانية «أ. ف.» و«أ. ص.» للقيام بإصلاح أعطال كهربائية، وحين دخلا أغلقت أعينهم ولكنهم قالوا للعنصر المخابراتي إنه لا بد من السماح لهم بالرؤية وإلا فإنهما لا يستطيعان أداء عملهما، فحذرهما من إجراء أي حديث مع السجناء. قالا بحسب شهادتهما إن الموجودين كانوا من الأسرى الكويتيين وتبين ذلك من زيهم الخليجي، وقد شاهدا نساء خليجيات بزي محتشم بأردية طويلة وغطاء رأس وبينهن أطفال بعمر يتراوح بين العشر سنوات والأربع عشرة سنة تقريبا، وربما أقل بقليل أو أكثر؛ ولأنها مشاهدات سريعة فلم يمكن التحقق من تفاصيلها جيدا خصوصا مع التحذيرات الأمنية. كان بين الأسرى شباب في العشرينات من العمر، ورجال بأعمار متوسطة. تقديرات الأعداد تكاد تكون مقاربة لما تم توقعه عن أعداد الأسرى في القسم الآخر الذي تحدثت عنه للتو. وبذا يمكن الحديث عن أربعمائة أسير كويتي كحد أعلى تم احتجازه في هذين القسمين، وتبقى هذه تخمينات وليست أرقاما تقريبية.

بعد عدة أسابيع - ومع بدء العمليات الحربية وتراجع القوات العراقية أمام الضربات العسكرية - سمح للأسرى الموجودين في «ق3» بالخروج إلى ساحة جانبية في القسم للتمشي أو لممارسة ألعاب رياضية، وطبعا من الممكن أن يكون قد حصل الأمر نفسه للأسرى في القسم الآخر إلا أنه لم تتوفر لنا فرصة للتأكد من ذلك.

صارت أصواتهم واضحة لكل أحد، وقطعت كل شك، وصار الأمر جليا للجميع؛ إنهم عوائل كويتية محتجزة. استرقنا النظر من خلال فتحات صغيرة في ممر السجن الكبير الملاصق للساحة الصغيرة حيث كان يسمح لهم بالتمشي، وكنا نقف هناك بحجة الاتكاء على الحائط، ونتظاهر بالانهماك في حديث طويل بينما في حقيقة الأمر كنا نواري زميلا لنا يجلس إلى جوار فتحة صغيرة تقع أسفل الجدار الفاصل بينه وبين ساحة القسم يمر من خلالها أنبوب ماء، وكنا نحفظ مكانها جيدا؛ لأننا سبق وأن سكنا في هذا القسم قبل فترة وجيزة. التواصل كان صعبا جدا؛ أولا: خشية المراقبة الأمنية، وخصوصا من المخابرات المعروفة قسوتهم. وثانيا: لأنه من الصعب جدا أن يثق أحد أفراد هذه العوائل بشخص مجهول يكلمهم من وراء جدار. وكان من الطبيعي أن يظنوا به الظنون، ومع ذلك خاطر شاب منهم للحديث معنا فيما كان رفاق له يلعبون كرة الطائرة مستغلا - على ما يبدو - عدم تواجد عناصر المخابرات بالقرب منهم، وبعد أن اطمأن لطريقة سلامنا عليه ونبرة حديثنا معه، عرفنا أنهم أسرى كويتيون محتجزون وبينهم نساء وأطفال.

لم يكن الوضع مريحا - للأسف - لتبادل أحاديث مفصلة، بل كل ما يجري هو أسئلة وأجوبة سريعة. علمنا بأنه سمح لهم بمغادرة الزنزانات مؤخرا، وتحسنت شيئا ما معاملتهم، وأتيحت لهم فرصة الخروج إلى هذه الساحة الصغيرة لرؤية الشمس وممارسة بعض الألعاب الرياضية. وبدا من خلال كلماته أنهم تعرضوا في أول أمرهم لتعذيب جسدي لم نعرف مداه، إنما المعاملة السيئة كانت حاضرة بلا شك. معاودة الاتصال ثانية كانت صعبة؛ لأن رجال المخابرات كانوا يتميزون بسمعة سيئة للغاية في التعذيب، حتى إن رجال الأمن أنفسهم كانوا يخشون الاصطدام بهم أو المخاطرة بانتهاك حدودهم الأمنية. بيد أن أحد رفاقي في السجن (س. ع. ش.) تمكن من التواصل عبر هذه الفتحة مع شاب كويتي آخر استبشر خيرا بعد أن نقل له أخبار تراجع الغزو وتقدم عملية تحرير الكويت، وفي خطوة جريئة جدا - بل مغامرة كبيرة - أوصل له صديقي راديو صغيرا بحجم الكف؛ مما أدخل عليه بهجة وامتنانا كبيرا. هذه البشرى بانتهاء محنتهم كنا أيضا قد نقلناها لذلك الشاب، وكنا مقتنعين بالتلازم بين تحسن معاملتهم وأخبار تقدم عملية تحرير الكويت، ويبدو أن الشاب الكويتي هو الآخر استنتج الأمر نفسه. أوصي صديقي هذا الشاب الكويتي أن ينقل قضيتنا إلى العالم الخارجي حين يعود إلى وطنه سالما وأن يعري هذا النظام الذي يذبح أبناء وطنه، بينما يدعي الدفاع عنه فيما هو ينكل ويخفي معارضيه في سجون سرية بظروف بشعة.

كنا نتوقع أن يعودوا سالمين مع انكسار الجيش في حرب الخليج الثانية، خصوصا حين وضعت حرب الخليج أوزارها، وبالفعل أفرغ القسم بعد فترة قصيرة من وقف إطلاق النار من جميع هؤلاء الأسرى، ونقلوا جميعا إلى جهة مجهولة كما جاءوا - وبعملية سريعة - دون أن يخلفوا أية آثار وراءهم. ظلوا لغزا لا يعرفه أحد من السجناء - كما هو مصيرهم - وبقيت الأسئلة عنهم حائرة تبحث عن جواب شاف. من كان هؤلاء الأسرى؟ وكيف جمعوا بهذه السرعة؟ ومن أين جيء بهم؟ والى أين أخذوا؟ وما قصة هؤلاء الذين منع كل أحد من رؤيتهم بالمطلق؟ أسئلة ظلت حبيسة في صندوق أسرار السجن الذي يخفي عجائب كثيرة. أملنا الكبير بعودتهم سالمين كان تقلقه دوما خبرتنا الطويلة والمريرة مع نظام وحشي لم يتوان عن ارتكاب أبشع المجازر المروعة بحق أبرياء مسالمين لا ذنب لهم.

17

أمر إخلائنا كان من الأحداث الغريبة جدا؛ إذ إننا لم نجد مكانا نأوي إليه حتى في السجن، سكان الزنزانات لم يعودوا يتقبلون فكرة زيادة الأعداد من جديد بعد فترة الازدهار التي شهدها السجن مؤخرا ... كنت أقول ونفسي، ها نحن صرنا تائهين في أول تبعة لهذا الغزو، ولم نعد نعرف أين نأكل ولا أين ننام، حياتنا انقلبت إلى فوضى في نصف ساعة، وانتهى الازدهار الذي تنعمنا به لعام واحد فقط، وكنا نأمل بأن عهده قد بدأ ليستمر طويلا، لننحدر سريعا في حالة عكسية من التشرد والضياع، فكيف أصبح حال الكويتيين الآن، وأحسست حينها بمعاناة الغزو الذي تعرضوا له.

لا أريد ولا أحب أن أكتب عن كل أمر حصل في السجن، ولا أن أصف كل زاوية وحجر فيه، وإن كان التأريخ يلزمني بذلك؛ لأن استرجاع الأحداث يرهقني، ليس في تذكرها وحسب لكن في مرارتها؛ ولأني أيضا لست بمؤرخ وغايتي التنبيه لتلك الوقائع لا سردها بالكامل، وإلا لو كان الأمر غير ما ذكرت ولو كتبت عن كل شاردة وواردة - وكلها تستحق ذلك - لاحتاج الأمر مني إلى أكثر من مجلد ضخم بمئات الصفحات ولربما أكثر من ذلك. كل ما في السجن كان قصة لوحده، وكل يوم فيه يصلح أن تؤلف عنه رواية، بل لو قلت: إن بعض المواقف وحدها التي لم تدم سوى دقائق يستحق أن يكون رواية كبيرة أو فيلما سينمائيا مشوقا لما جاوزت الواقع قدر أنملة. أترك هذا لخيال لمؤلفي الدراما ومبدعيها ولكتاب السينما والمسرح الجاد.

Unknown page