Min Shuquq Zalam
من شقوق الظلام: قصة سجين أكثر ما يؤرق فيها أنها لم تنته بعد
Genres
لقب المثقف والوجاهة الاجتماعية التي ينالها بواسطته كان يعطى في السجن ليس لكل من حفظ معلومة، بل لمن يقوم بدوره الرسالي، فليس مثقفا من لم يك يعرف مشكلات بيئته ولا يقدم لها حلولا، ولا يعد منهم وإن قرأ الكثير أو كان ذلق اللسان. المثقف من يشعر بالمسئولية تجاه مجتمعه وهو على أهبة الاستعداد للتضحية في سبيل ذلك. المثقفون هم صناع الرأي العام يتبنون كشف الحقائق وهم شجعان في كشفها وفي الدفاع عنها حين ينكص الآخرون؛ لأنهم أصحاب رسالة، إنهم كالأنبياء بين قومهم.
كانت تعقد حلقات صغيرة وأحيانا بشكل فردي للتثقيف في مواضيع شتى. وفي أوقات محددة ومناسبات معينة كان يجتمع كل سكان الزنزانة لسماع محاضرة عامة أو المشاركة في برنامج احتفالي. المناخ الثوري كان هو السائد في عملية التثقيف والاحتفالات وتصدح الحناجر بأناشيد تحرض على الصبر والثبات وعلى مواصلة الثورة والتحدي وتبشر بالنصر. بوارق الأمل بنهاية حكم الظلم وسلطة القمع لم تتوقف ولم تخل الإشارة إليها في أي برنامج خاص أو احتفال عام.
كثير ممن لم يكن له شغل بالمعارضة والسياسة بدأ يتعلم مفرداتها وينخرط في أجوائها، وبالطبع لا يمكن القول إن الكل كان مهتما بذلك؛ فبعض ممن وصل بقطار الصدفة لم تغيره الأحداث، وبعض آخر أصابه إرهاق وملل وتعب من المقاومة الصعبة والسباحة ضد تيار جارف واستسلم، فصار سطحيا في مطالبه، تلاطم به أمواج الحيرة والتوجس، وتنشب مخالب الموت بجذوة الحياة لتنتزعه إلى اتجاه معاكس يحسبها تستبقيه على الحياة وهي تغرس الخنجر تلو الآخر فيه ليغدو كأنه جثة تأكل وتمشي في زقاق مدفنها الأخير.
وبرغم ذلك فإن تلك الفئتين لم تشكلا عائقا أمام عملية التثقيف، وأصبح السجن مدرسة حقيقية. تبادل المعلومات يجري بشكل متواصل وبطريقة عمل الأواني المستطرقة، فكل يقدم ما عنده من خلاصة مطالعاته وخبرته إلى الآخرين. وبوجود عدد لا بأس به ممن يحمل ثروة معرفية وخبرة سياسية، تحول تبادل المخزون الثقافي إلى صناعة فكرية؛ إذ صار هناك الكثير ممن بات يستثمر وقته في التحليل والتفكير العميق ليخرج برؤى فكرية جديدة.
انهمك الشعراء - وما أكثرهم - في نظم القصائد في مواضيع شتى أغلبها يشع ثورية وتحديا، يشجعهم على نظم المزيد منها شباب يحول تلك القصائد إلى أناشيد تلهب الحماس وتشد أزر الجمع في مواجهة المحنة القاسية وظرفها الرهيب.
الاعتقال السياسي كانت له حسنة كبيرة على السجن؛ إذ بين هذا الجمع الكبير من السجناء لم يكن بينهم إلا قليل جدا من سيئي الأخلاق رديئي الطباع مستعدين لارتكاب أفعال رذيلة؛ لأن الأغلبية وإن لم تكن غير منخرطة بتنظيمات سياسية فإنها أيضا لم تعتقل بسبب ارتكاب فعل سيئ كما هو الحال في باقي السجون، بل جرى اعتقال كثير منهم لشبهات تحوم حولهم أو لأنهم مرتبطون بعلاقات خاصة مع شباب ثوري. وإلى جانب هذا هناك عدد كبير من السجناء ممن يلتزم بالفعل وليس بالقول فقط بأخلاقيات الثوار الرومانسية، من صدق ووفاء، أمانة ونبل، والتزام شديد بالسلوك القويم، بل مضافا لذلك، يحملون صفة غاية في الأهمية وهي الريادة والقدرة على توجيه أي جمع يحلون فيه. صفة رائعة وخصلة مدهشة مكنتهم من فرض نهج أخلاقي جميل في السجن. أحب كل السجناء ذلك والتزموا بتلك الأخلاق في تعاملاتهم وتأكدت بذلك مقولة آمنت بها مبكرا: «عندما يصلح القائد تصلح الجموع.» التي تتبعه في حركتها، وتختفي كل عيوبها الداخلية الصغيرة.
هذه العيوب بغياب قائد صالح مصلح تبدو مشكلة اجتماعية عميقة لا سبيل لحلها ولا للخلاص منها، أما إن ظهر رائد بخصال حميدة وأخلاق رفيعة يقود حركة المجتمع فإنه يجذبهم إلى شاطئ فطرة الإنسان الجميل، وحينها يتحدون في الأشياء الجميلة وتضيع كل العيوب الأخرى والعكس صحيح أيضا. المجتمعات بحاجة إلى من ينظمها في مسار مستقيم بقدرات فنية يملكها هذا القائد وأهمها حكمته وإخلاصه لشعبه ولمبادئه. ولحسن الحظ كان السجن يعج بالمخلصين ولا يخلو من الحكماء في الأقوال والأفعال؛ لذلك ارتقت الأمانة والصدق إلى درجة مثالية بين السجناء.
بسبب الزحام الشديد وتشابه الأشياء المستعملة كان يحصل في كثير من المرات أن يتوهم سجين في ملكية حاجة ما، ويعتريه شك بعائديتها، فيتركها زهدا وتعافها نفسه مع حاجته الماسة لها. تتحول القضية أحيانا إلى شبه معضلة؛ إذ تصبح هذه الأشياء كدسا متراكما في وسط الزنزانة لا أحد يعرف مالكه وتأخذ حيزا في الزنزانة الضيقة ولا يتقدم أحد لاستعمالها، وغالبا ما كانت تحل المشكلة بطلب إذن جماعي بحق التصرف يمنح إلى مراقب الغرفة أو شخص آخر محل اعتماد في الأمور الإدارية ليتولى توزيعها بما يقدر ويرى.
وفي فترة لاحقة عندما أصبح بإمكاننا مواجهة أهالينا، لجأ بعض السجناء - خصوصا من كانت أسرهم تعاني ضائقة مادية ويشكون من قلة اليد - إلى بيع بضائع كانت تصلهم من عوائلهم مثل السجائر وأشياء بسيطة أخرى لتمشية أموره المالية ولرفع الحرج عن عوائلهم وتخفيف العبء الذي ينوءون به. في أيام المواجهة كان ينشغل عن بضاعته بملاقاة أهله، لكنه لا يتوقف عن بيعها؛ إذ يضعها مفروشة على الأرض ويذهب لقضاء وقته مع عائلته، فيما يأتي السجناء الآخرون وبعض من زوارهم يتبضعون منها، يأخذون ما يرغبون ويضعون مقابلها عوضا ماديا بلا كاميرات مراقبة ولا أمن يقفون عند بوابات المحال ولا هناك من محاسب ولا رقيب إلا أخلاق آمن الجميع بجدواها وتواصوا عليها وصارت خيمة يستظل الجميع بأمانها وسلمها.
الأمر بدا غريبا جدا لمن لم يعش بيننا في سجون الاعتقال السياسي؛ إذ في مرة بينما أحد رجال الأمن يتجول في الأقسام أثناء المواجهة رأى عمليات البيع والشراء تسير بهذه الطريقة ولم يفهم ماذا يحدث بالضبط. ولما شرح له الموقف لم يصدق أذنه ولا عينيه، خرج مذهولا يردد كلمات استوحيت منها عبارة كتبتها في هذا الكتاب حين قلت: «عالمي الذي أحلم به حيث تضوع ريح الأنبياء وهي تلامس الأموات لتحييها.» وقف رجل الأمن يقارن بين هذا العالم الغريب المخفي عن العيون وبين عالم وحشي يعيشه. عيناه حكت ألما وهو يرى، بل كان يردد ويقول: «هل هذه هي الجنة أم هذا هو الفردوس يتجسد أمامي؟»
Unknown page