لجنة العلوم المتصلة بالتاريخ كعلم النقوش والخطوط، وما إلى ذلك. (12)
لجنة البحث عن مصادر تاريخ العالم أثناء الحرب العظمى. (13)
لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية.
وكان المنظمون للمؤتمر قد خصصوا له قصر المجامع العلمية، فظهر أن هذا القصر على سعته وكثرة غرفه أضيق من أن يسع هذه اللجان، واضطر المنظمون إلى أن يقرروا لجانا كثيرة في مواضع مختلفة قريبة أو بعيدة من قصر المؤتمر.
وكانوا قد أجمعوا أن يفتتح المؤتمر بعد ظهر الاثنين 9 أبريل، وأن يشرع في أعماله بعد ذلك، ولكن كثرة الأعمال وكثرة ما كان يجب أن يلقى من الخطب ويقدم من المذكرات؛ اضطر المؤتمر إلى أن يبدأ في عمله قبل أن يفتتح رسميا. فاجتمعت اللجان، وبدأت بسماع الخطب والمذكرات صباح الاثنين؛ أي قبل أن يفتتح المؤتمر رسميا.
وكنا قد ذهبنا يوم الأحد إلى سكرتارية المؤتمر فوجد كل منا طائفة من الأوراق تنتظره، وقد كتب عليها اسمه، وهذه الأوراق عبارة عن برنامج أعمال المؤتمر ومختصر ما كان قد قدم من المذكرات وبطاقات الدعوة إلى القصر، وعند وزير المعارف، وفي الجامعة، وفي البلدية، ثم بطاقة شخصية تثبت أن صاحبها عضو في المؤتمر، ثم علامة من المعدن يعلقها العضو في صدره ليتميزه الناس، وليستغني بها عن إظهار بطاقته كلما أراد أن يدخل دارا من دور المؤتمر.
وعلمنا حينئذ أننا سنبدأ أعمالنا صباح الاثنين قبل الافتتاح الرسمي، فلما كان يوم الاثنين ذهبنا جميعا إلى الأماكن التي خصصت للجان التي يجب أن يشترك فيها كل منا. ذهبت إلى لجنة المحفوظات ونشر النصوص التاريخية، وفي هذه اللجنة قدمت مذكرتي صباح الاثنين، وكان موضوعها «نص معاهدة دفاعية هجومية» عقدت سنة 692 للهجرة (1292 للمسيح) بين الملك الأشرف خليل بن قلاوون وابن جايم الثاني ملك أراجون وأخويه وصهريه، وكلهم ملوك لإسبانيا المسيحية. وجدت نص هذه المعاهدة العربي في الجزء الرابع عشر من كتاب صبح الأعشى، وفي هذا النص اضطراب كثير، وضروب من التحريف غريبة، فكنت أمام صعوبتين؛ الأولى: تصحيح هذه النص، وتقويم ما فيه من الاضطراب والتحريف. الثانية: إثبات أن هذا النص صحيح من الوجهة التاريخية، وأن هناك معاهدة عقدت حقا بين مصر وإسبانيا المسيحية في ذلك العصر.
وقد وفقت إلى تذليل هاتين الصعوبتين بواسطة استكشاف النص أو الترجمة الإسبانية اللاتينية لهذه المعاهدة التي لم يكن نصها العربي معروفا للمؤرخين قبل اليوم، ولم يكن هذا البحث يسيرا ولا سهلا. فحسبك أن القلقشندي الذي روى نص هذه المعاهدة عن كتاب لابن المكرم سماه «تذكرة اللبيب ونزهة الأديب» قد روى هذا النص دون أن يفهم قيمته التاريخية، بل دون أن يفهمه بوجه ما، فحرف وبدل ولم يصف المعاهدة إلا بأنها حسنة الإنشاء. وحسبك أن أسماء الملوك والبلاد كانت من التحريف بحيث كان يكفي أن تقرأها لتشك في صحة المعاهدة.
فملك أراجون جايم الثاني يسمى في المعاهدة «دون حاكم»، ولفظ حاكم لفظ عربي خالص لا يمكن أن يكون اسما لملك مسيحي من ملوك إسبانيا، وتحريفه ظاهر سهل، ولكن بشرط أن تصل إلى أصله المسيحي، ولست أدري على من تلقى تبعة هذا التحريف، أعلى المؤلف أم على الناسخ أم على المصحح؟ ولكني أعلم أن هذا الكتاب الجليل الذي سأخصه بفصل أو فصلين لو أنه صحح تصحيحا علميا متينا، وأشرف على طبعه ناس يتقنون هذا الفن، ويلمون بأصوله وباللغات الأجنبية، ويستطيعون أن يتصرفوا في هذه اللغات كتابة وترجمة، لخرج من المطبعة الأميرية نافعا حقا ميسرا للباحثين، من المصريين وغير المصريين، سبل البحث عن التاريخ، ولكن الذين أشرفوا على طبع هذا الكتاب، على حسن نيتهم وإتقانهم للغة العربية وما إليها، وتصحيح الحروف، يجهلون التصحيح العلمي وما يحتاج إليه من بحث وتنظيم جهلا تاما، وهم إلى ذلك لا يعرفون لغة أجنبية، وأحسب أنهم لم يدرسوا التاريخ، ولا يستطيعون التصرف فيه، ولا تأول نصوصه وتفسيرها، ولهذا كان نفع الكتاب قليلا وعسيرا جدا بنوع خاص. وحسبك أنك لا تجد فيه ثبتا بأسماء الأشخاص والأمكنة، فأنت مضطر إلى أن تقرأ الكتاب كله - أو تتصفحه على أقل تقدير - لتعرف: أألم الكتاب بالموضوع الذي تبحث عنه أم لم يلم؟ ومع هذا فأنا أعتقد أن هذا الكتاب أنفع كتاب تاريخي طبع باللغة العربية لمن أراد أن يدرس النظم السياسية في البلاد الإسلامية عامة وفي مصر خاصة، ولمن أراد أن يدرس العلاقات الدولية بين المسلمين من جهة وبينهم وبين غيرهم من جهة أخرى، ولكن صبح الأعشى أنساني ما كنت فيه من قصص المؤتمر.
سمعت في هذه اللجنة يوم الاثنين مذكرة قدمها أحد المندوبين «لتشيكوسلوفاكيا» عما كان من تبادل المحفوظات الرسمية بين النمسا و«تشيكوسلوفاكيا» بمقتضى معاهدة سان جرمان بعد الحرب العظمى، ودارت حول هذه المذكرة مناقشة قيمة اتخذت اللجنة بعدها قرارا لو عمل به لاستفادت منه مصر، وخلاصة هذا القرار أن المحفوظات في كل بلد تتبع هذا البلد فهي حق من حقوقه لا يصح أن يعتدي عليه معتد بحكم الفتح أو بأي سبب آخر، وإنما يجب أن تبقى هذه المحفوظات ملكا للبلد الذي هي فيه، وليس يتناول هذا القرار المحفوظات التي تمس الإدارة أو الشئون السياسية وحدها، وإنما يتناول المحفوظات جميعا إدارية كانت أو سياسية أو فنية أو علمية، ومهما يكن تاريخها.
Unknown page