ونحن حين يرفع الستار في فندق فخم من فنادق الصيف في مدينة مترفة من مدن الساحل، هي مدينة دوفيل، نرى هذا الكهل المجرب تييري يتحدث إلى خادم من خدم الفندق، وهو يهيئ له غرفة الاستقبال في الجناح الذي احتجزه لنفسه، ليقضي فيه بعض الصيف. والخادم ينبئه بأن فتاة قد أقبلت تطلب لقاءه، وهي تنتظر في بهو الفندق واسمها أليس إرسان. فإذا أذن لها بالصعود رأينا فتاة جميلة ولكنها شديدة الاحتشام، شديدة الذكاء، متئدة فيما تعمل وفيما تقول. وفهمنا من أول حديثها إلى هذا الرجل أنها قريبة صديقه تيبو، وأنها تعمل في قصره كرفيقة لأمه الغنية التي تقدمت بها السن، ولكنها تأبى أن تشيخ. فهي تلهو وتعبث وتختلف إلى الكازينو كل مساء تقامر مع المقامرين، وهي تربح حينا فتزعم أنها خاسرة، وتخسر حينا فتزعم أنها رابحة: تعلن الخسارة في أوقات الربح لترد عن نفسها أصحاب الحاجات، وتعلن الربح في أوقات الخسارة لترد عن نفسها العذال والشامتين. وهي في حقيقة الأمر لا تحفل بخسارة ولا بربح؛ لأنها واسعة الغنى عظيمة الثراء، وحسبك أن بعض مواردها يغل لها أربعة عشر مليونا من الفرنكات.
وهذه الفتاة تعمل في القصر رفيقة لقريبتها هذه، ولكنها لا تراها ولا تتصل بها، وإنما تلزمها من بعيد، تشتري لها الكتب، وتقرؤها نيابة عنها، وتلخصها لها تلخيصا موجزا لتكون على علم بها إذا تحدثت إلى الناس، وقد ترافقها إلى الكازينو ولكنها لا ترافقها إلى غرفة اللعب، وإنما تنتظرها في مكان آخر. وهي قد أقبلت اليوم تبلغ هذا الرجل أن قريبها تيبو سيزوره بعد حين، ليتحدث إليه في أمر ذي بال، وما دامت قد ذكرت تيبو، فهي تصوره لنا كما صورت أمه؛ فهو فتى رائع الشباب، ولكنه لا يقدر شبابه قدره، وإنما يبذر فيه تبذيرا وينفقه بغير حساب، قد أفسده الغنى فاتبع هواه، وتنقل به هواه من حب إلى حب، ومن لذة سريعة إلى لذة سريعة، حتى فقد قلبه وعقله، وكل هدوء، وكل استقرار.
والفتاة ترى ذلك محزونة له، ساخرة منه، ملاحظة دقائقه مع ذلك مستخرجة منها العبر والعظات التي لا يحسن استخراجها إلا المجربون الذين مارسوا الحب واللذة وعرفوا آثامهما وآثارهما، وهي تزعم أنها تجد من نقاء ضميرها، وصفاء سريرتها، وحسن سيرتها ما يمكنها من أن تفهم الحياة وتستخلص عظتها وعبرتها أحسن مما يفعل المجربون الممارسون. وهذا الفتى تيبو قد أقبل، فذكرته الفتاة بأنه مضطر إلى أن يتناول العشاء مع أهله هذه الليلة؛ لأنها ليلة عيد من أعياد أمه، قد اجتمعت لها الأسرة كلها على كره من الأم التي كانت تؤثر على مائدة العشاء مائدة القمار. وقد انصرفت الفتاة وخلا الصديقان، فلم يكادا يتحدثان حتى فهمنا قصة هذا الفتى. فهو يحب منذ عهد بعيد امرأة جميلة غنية، هي هنرييت هربلان، ولكنه لقي في بعض زياراته امرأة أخرى جميلة، هي لورنس هربر، فأحبها وأحبته، وأبعدا في الحب حتى كادا يبلغان الزواج. وكانت خليلته الأولى تصطاف مع زوجها في أقصى الغرب الجنوبي على الأطلنطيك، بينما يصطاف هو مع صاحبته في هذه المدينة الجميلة على ساحل المانش. ولكن الظروف الخادعة الماكرة زينت لهذا الزوج الأحمق أن يفارق امرأته أياما لتزور إسبانيا، فأسرعت هذه المرأة إلى دوفيل ونزلت ضيفا على أسرة صديقة تقيم من الفندق غير بعيد.
والفتى حائر بين هاتين الخليلتين، فهو يحب لورنس ويريد أن يتخذها له زوجا، وهو يريد أن يتخلص من هنرييت، ولكن في شيء من الرفق، ومن غير أن يؤذيها في حبها إيذاء عنيفا. وقد خطر له أن السبيل إلى التوفيق بين هذين الأمرين، إنما هو أن يقلل من لقاء لورنس ويحتاط في هذا اللقاء، حتى تسافر هنرييت من دوفيل. ولكنه لا يجرؤ على أن يبين حقيقة الأمر للورنس، فهو يعتمد على صديقه تييري في ذلك، ولا شك في أنه سيؤدي إليه هذه الخدمة راضيا سعيدا. وهو قد نظم له لقاء لورنس فستزوره بعد لحظات، وهو من أجل هذا ينصرف مسرعا وينبئ صاحبه بأنه سيلقاه في الغد ليعرف منه ما سيكون بينه وبين لورنس من حديث.
وما هي إلا لحظات حتى تستأذن لورنس على صاحبنا الكهل، فيأذن لها ويلقاها، ولا يكاد يأخذ معها في الحديث حتى يرى أنها تعلم من أمر صاحبه كل شيء. فليس من المعقول أن يتقرب رجل من امرأة بالحب دون أن يسعى الساعون إليها بأنباء هذا الرجل، ما ظهر منها وما بطن.
وهي ليست غافلة ولا جاهلة فتظن أن صاحبها قد ظل ينتظرها طول حياته نقيا بريئا من الحب، فهي إذن تعذره ولكنها تلومه لأنه لم يتحدث إليها بنفسه في هذا الموضوع. على أنها لا تكره آخر الأمر أن تعفو له عن هذا النزق الذي دفعه إليه الشباب، وهي تهم أن تنصرف ولكن تييري يستبقيها ليتحدث إليها طرفا من حديث، ولينبئها بأنه سعيد حقا بها، فما كان يقدر أنه سيلقى امرأة يرتفع بها الذكاء والفطنة وحسن التقدير للأشياء إلى حيث تتجاوز المألوف، وتعرض عن الصغائر، وهو سعيد بأن يثني عليها غير طامع فيها لأنها خليلة صديقه، وهي سعيدة أيضا بالاستماع لهذا الحديث الذي ليس وراءه طمع ولا رغبة، والذي لا يفسده تملق ولا تقرب؛ فقد سئمت ثناء المحبين، كما سئم هذا الرجل أيضا حديث المحبات. وهما سعيدان حقا بهذا الود الذي أخذ ينبت بينهما؛ لأنه ود بريء يرتفع عن الحب ويكتفي بالصداقة. لقد ظفرت هي يإعجاب الرجال حتى أذلتهم، وظفر هو بإعجاب النساء حتى أذلهن. فما يمنعهما أن يلتقيا كما يكتفي الفاتحان الظافران فيتحدثا في غير الفتح والظفر، ويسمرا في غير الحب والغرام.
وليس من شك في أن هذه المرأة لا تستطيع أن تحب هذا الرجل؛ لأنه متقدم في السن، ولأنها تحب صديقه الشاب. وليس من شك أيضا في أن هذا الرجل لا يستطيع أن يحب هذه المرأة؛ لأنها شابة بالقياس إليه، ولأنها خليلة صديقه، فلن يكون بينهما إلا ود الأصدقاء، وإذن فسيجتمعان إلى العشاء وستعتذر هذه المرأة إلى قوم دعوها للعشاء معهم، ولن يتعشيا في الفندق، ولا في الكازينو، ولكنهما سيذهبان إلى مطعم بعيد، ولن يشربا على طعامهما الشامبانيا، ولا هذه الأنبذة التي تدير الرأس وتحجب العقل، ولكنهما سيشربان نبيذا من هذه الأنبذة التي تطلق اللسان وتبعث الحرارة في القلب وتحبب حديث الصداقة إلى الأصدقاء.
وقد نهضت لتتهيأ للخروج، فهم أن يقبل يدها، فردته عن ذلك ردا، فما ينبغي للصديق أن يقبل يد الصديق وإنما يتصافح الأصدقاء في قوة كما يتصافح الرجال.
ويرفع الستار عن الفصل الثاني من الغد، فإذا نحن في الغرفة نفسها نرى هذين الصديقين، وقد أحدث الليل بينهما ما لا يحدث بين الأصدقاء، وهما يعتنقان اعتناق العاشقين وقد فتن كل منهما بصاحبه وسقط بينهما ذلك الفتى الغر، فمرا على جثته إلى حبهما العنيف ثم تم الاتفاق بينهما على أن يرحلا بحبهما عن هذه المدينة لينعما به في مأمن من الرقباء. وستسافر هي أول النهار، ويدركها هو إذا كان المساء أو إذا كان الغد؛ لأنه ينتظر اليوم مقدم أخيه.
وقد انصرفت عنه على كره منها وعلى كره منه، ولكنه لم يكد يخلو إلى نفسه حتى أفاق من نشوة الحب، ونظر إلى نفسه فازدراها وإلى صديقه فرثى له وعطف عليه.
Unknown page