Mawt Yazur Pemberley
الموت يزور بيمبرلي
Genres
ولم يكن عقل السيد كولينز ذكيا بما يكفي ليستوعب المفارقة أو يشك في الحيلة. فقد توقف به غروره عند هذا الثناء، وفي عشائهم التالي في روزينجز جلس على طاولة الطعام صامتا معظم الوقت، حتى إن إليزابيث خشيت أن تطرق الليدي كاثرين بملعقتها على الطاولة بحدة وتسأله عن سبب امتناعه عن الحديث.
كانت إليزابيث قد وضعت قلمها قبل 10 دقائق وتركت عقلها يرجع بالزمن إلى أيام العيش في لونجبورن، إلى تشارلوت وأيام صداقتهما الطويلة. والآن كان الوقت قد حان لتضع الأوراق جانبا وترى ما أعدته السيدة رينولدز من أجل عائلة بيدويل. وأثناء توجهها إلى غرفة مدبرة المنزل تذكرت كيف أن الليدي كاثرين - أثناء إحدى زياراتها العام الماضي - صحبتها في رحلة إلى كوخ الغابة لتوصيل الطعام إلى رجل مصاب بمرض عضال. لم تكن الليدي كاثرين قد دعيت لتدخل الغرفة التي يمكث بها المريض، ولم تظهر هي أي رغبة في فعل ذلك، ولم تفعل سوى أنها قالت أثناء عودتهما: «ينبغي أن نتشكك بشدة في تشخيص الدكتور ماكفي. أنا لا أصدق أبدا ما يدعى بالاحتضار الطويل. إنه تظاهر وتصنع في الطبقة الأرستقراطية؛ وما هو إلا عذر للتهرب من العمل لدى الطبقات الدنيا. لقد ذاع أن الابن الثاني للحداد يحتضر طوال السنوات الأربع الماضية، إلا أنني حين أمر بالكوخ أجده يساعد والده، ويبدو عليه أنه يتمتع بتمام الصحة والعافية. وعائلة دي بيرج لم تقنع قط بالاحتضار الطويل. فينبغي على الناس أن يحسموا أمرهم؛ إما أن يموتوا أو يبقوا على قيد الحياة، ويفعلوا إما هذا أو ذاك بأقل إزعاج ممكن للآخرين.»
وكانت إليزابيث حينها مصدومة كثيرا ومذهولة، فلم تستطع أن تعلق على ذلك. فكيف يمكن لليدي كاثرين أن تتحدث بهذه الطريقة الهادئة عن الاحتضار الطويل بعد ثلاث سنوات فقط من فقدانها طفلتها الوحيدة بعد سنوات طويلة من تدهور صحتها؟ لكن وبعد نوبة الحزن الأولى - التي تمت السيطرة عليها رغم أنها كانت شديدة - استعادت الليدي كاثرين بسرعة كبيرة رباطة جأشها - ومعها الكثير من عدم تسامحها. ولم تخلف الآنسة دي بيرج - التي كانت فتاة بسيطة وحساسة وصامتة - الكثير من الأثر في العالم أثناء حياتها كما لم تخلف أثرا كبيرا بموتها. وفي وقت وفاتها كانت إليزابيث قد أصبحت أما، وقد فعلت كل ما يمكن لها أن تفعله بدعوة الليدي كاثرين لزيارة بيمبرلي، وبالذهاب بنفسها إلى روزينجز من أجل دعمها في الأسابيع الأولى بعد الوفاة، وقد آتت تلك الدعوات وما أظهرته من تعاطف - وهو ما لم تتوقعه الليدي كاثرين - ثمارها. كانت الليدي كاثرين هي المرأة نفسها التي لطالما كانت عليها، إلا أن ظلال بيمبرلي كانت أقل تلوثا حين كانت إليزابيث تقوم بنشاطها اليومي بالسير تحت الأشجار، وأصبحت الليدي كاثرين مغرمة بزيارة بيمبرلي أكثر مما كان دارسي أو إليزابيث يتوقان لاستقبالها.
الفصل الثالث
في كل يوم كانت هناك مهام ينبغي على إليزابيث أن توليها اهتماما وقد وجدت هي في مسئولياتها تجاه بيمبرلي وتجاه عائلتها وخدمها ترياقا لأكثر ما يرعبها في مخيلتها. كان اليوم هو أحد الأيام المهمة لها ولزوجها. كانت تعلم أنها لا يمكنها أن تؤخر زيارة كوخ الغابة أكثر من ذلك. فصوت طلقات النار أثناء الليل وفكرة أن جريمة قتل وحشية وقعت على بعد 100 ياردة من الكوخ، في حين كان بيدويل في منزل بيمبرلي، لا بد أنها تركت السيدة بيدويل في جو من الرعب والأسى يضاف إلى حزنها الذي ينقض ظهرها. كانت إليزابيث تعلم أن دارسي زار الكوخ يوم الخميس الماضي ليقترح إعفاء بيدويل من مهامه عشية اليوم السابق للحفل؛ حتى يتسنى له أن يكون مع أسرته في هذا الوقت الصعب، لكن الزوج وزوجته أصرا على أن هذا لم يكن ضروريا ورأى دارسي أن إلحاحه وإصراره على ذلك لم يزدهما إلا حزنا. كان بيدويل يرفض دوما أي اقتراح قد يحمل في ثناياه أن منزل بيمبرلي أو سيده يمكنهما الاستغناء عنه - حتى ولو كان لمدة مؤقتة؛ فمنذ هجر منصبه ككبير سائقي العربات كان دائما ما يلمع الفضة في اليوم السابق ليوم حفل الليدي آن، وفي رأيه لم يكن هناك في بيمبرلي من يمكن أن يؤتمن على تلك المهمة.
وفي أثناء العام المنصرم، حين ازداد ويل ضعفا وتلاشى أمل شفائه تدريجيا، كانت إليزابيث تزور كوخ الغابة بانتظام، وفي البداية كانت تستقبل في غرفة نوم صغيرة في مقدمة الكوخ حيث يرقد الصبي المريض. ومؤخرا أدركت إليزابيث أن وجودها مع السيدة بيدويل بجوار فراشه كان مصدر إحراج له أكثر مما كان مصدر سعادة، ويمكن بالطبع أن يرى الأمر على أنه فرض أو عبء ثقيل، فظلت إليزابيث في غرفة الجلوس وتخبر الأم المنكوبة بما تستطيع من عبارات العزاء. وحين كانت عائلة بينجلي تمكث في بيمبرلي، كانت جين ترافق إليزابيث وبينجلي في الذهاب إلى الكوخ، وأدركت إليزابيث مرة أخرى كم تشتاق إلى وجود أختها، وكم كان مريحا أن تحظى برفقة أختها العزيزة التي تستطيع أن تفضي لها حتى بأسوأ أفكارها، التي كانت طيبتها ورقتها تخففان عنها كل حزن يعتريها. وعند غياب جين، كانت جورجيانا وأحد كبار الخدم يرافقانها إلى الكوخ، إلا أن جورجيانا كانت في الغالب تقدم تحياتها لها باقتضاب، ثم تجلس في الخارج على مقعد خشبي كان ويل قد صنعه قبل مدة؛ وذلك بسبب حساسيتها إزاء مسألة أن السيدة بيدويل قد تجد راحة أكبر في الحديث سرا مع السيدة دارسي. وكان دارسي نادرا ما يرافق إليزابيث في تلك الزيارات الروتينية؛ ذلك أن أخذ سلة الطعام التي يعدها الطاهي في منزل بيمبرلي كان يعد عملا أنثويا. واليوم، وبخلاف زيارته إلى ويكهام، كان دارسي مترددا في مغادرة منزل بيمبرلي في حال وجود أي تطورات تستدعي وجوده، واتفق أثناء تناول الإفطار على أن خادما سيرافق إليزابيث وجورجيانا. حينها قال ألفيستون بنبرة هادئة وموجها حديثه إلى دارسي إنه سيكون من دواعي سروره أن يرافق السيدة دارسي والآنسة جورجيانا؛ إذا ما كان هذا ملائما لهما، وقوبل عرضه بالامتنان. ورمقت إليزابيث جورجيانا بنظرة سريعة فرأت نظرة فرح بادية عليها، وسرعان ما أخفتها جورجيانا، فجعل هذا ردها على العرض المقترح واضحا جدا.
وأخذت إليزابيث وجورجيانا إلى الغابة في عربة ذات ظهر قابل للطي، في حين امتطى ألفيستن صهوة جواده الذي يدعى بومباي وسار إلى جوارهما. كان ضباب الصباح قد انقشع بعد ليلة خالية من الأمطار، وكان الصباح رائعا بهيا، كما كان باردا، لكن يتخلله ضوء الشمس، أما الهواء فكان منعشا وبه مسحة الخريف المألوفة - من أوراق الشجر والأرض الندية ورائحة الخشب المحترق. وحتى الجياد بدت وكأنها تستمتع باليوم، فراحت تهز رءوسها وتلوي شكائمها. وكانت الرياح قد هدأت، لكن بقايا العاصفة كانت لا تزال تلوح في الأفق، وكانت أوراق الشجر الجافة تطقطق تحت عجلات العربة وتتساقط وتدور بعد مرورهم. ولم تكن الأشجار قد تجردت من كامل أوراقها بعد، وصار لونا الخريف، وهما الأحمر القاني والذهبي، أكثر حدة تحت السماء الزرقاء الصافية. وكان من المستحيل في مثل هذا اليوم ألا تشعر إليزابيث في نفسها بارتفاع معنوياتها، وللمرة الأولى منذ أن استيقظت اليوم كانت تشعر بدفقة من الأمل. وفكرت إليزابيث أن مظهرهم قد يبدو للناظرين وكأنهم في طريقهم لرحلة خلوية - وذلك من شكل الجياد وشكل سائق العربة في كسوته ووجود سلة المئونة، وذلك الشاب الوسيم الذي يمتطي حصانه بجوارهم. وحين دخلوا الغابة كانت الأغصان الداكنة التي تمتد فوقهم - والتي تبدو في قوتها وقت الغسق كسقف أحد السجون - مضاءة ببصيص من ضوء الشمس الذي تخللها فوصل إلى أرض الممر المفروش بورق الشجر، وبث في الشجيرات الخضراء الداكنة حيوية الربيع وبهجته.
توقفت العربة وأعطي السائق الأوامر بأن يعود بعد ساعة واحدة بالتحديد، ثم سار ثلاثتهم - فكان ألفيستون يقود الحصان ويحمل السلة - بين أغصان الأشجار اللامعة على طول الممر الموصل إلى الكوخ. ولم يتم إحضار الطعام باعتبار ذلك عملا من أعمال الخير - فلم يكن هناك أي عضو من العاملين في بيمبرلي يعيش من دون مأوى له أو طعام أو ملبس - وإنما كان الطعام فائضا صنعه الطاهي أملا في إثارة شهية ويل؛ فكان الطعام يتكون من مرق لأفضل أنواع اللحم ومضاف إليه النبيذ - بحسب وصفة وضعها الدكتور ماكفي - وشطائر صغيرة شهية تذوب في الفم، وحلوى هلامية من الفواكه وخوخ وكمثرى ناضجة من المستنبتات الزجاجية. وكان من النادر أن يتحمل ويل تناول هذه الأطعمة الآن، لكن قبلت العائلة بهذا الطعام بامتنان وإن لم يتمكن ويل من تناوله فلا شك أن أمه وأخته ستفعلان.
وعلى الرغم من خفوت صوت أقدامهم أثناء سيرهم، فإن السيدة بيدويل لا بد أنها سمعت قدومهم؛ ذلك أنها وقفت عند الباب ترحب بهم. كانت السيدة بيدويل امرأة هزيلة ونحيلة، وكان وجهها الشاحب كلون الماء لا يزال يعكس شيئا من جمال الشباب وبشره، لكن الآن أصبحت بفعل القلق والتوتر الناتجين عن انتظارها لموت ابنها امرأة عجوزا. وقدمت إليزابيث ألفيستون الذي أبدى أحر تعاطفه من دون أن يذكر اسم ويل مباشرة، وقال إن لقاءها كان مصدر سرور له، وأشار إلى أنه سينتظر السيدة دارسي والآنسة جورجيانا على المقعد الخشبي بالخارج.
قالت السيدة بيدويل: «لقد صنعه ابني ويليام يا سيدي، وانتهى منه في الأسبوع السابق لمرضه. كان نجارا ماهرا كما ترى يا سيدي، ولا يزال يحب تصميم قطع الأثاث وصنعها. والسيدة دارسي لديها كرسي للرضاعة - أليس كذلك يا سيدتي؟ - كان ويل قد صنعه في عيد رأس السنة التالي لولادة السيد فيتزويليام.»
Unknown page