ومن هنا نتبين أن السنة التي تثبت عن النبي ثبوتا قاطعا أو راجحا هي الأصل الثاني من أصول الدين بعد القرآن الكريم.
فليس بد إذن من أن نقف وقفة عند كل واحد من هذين الأصلين.
2
أما القرآن الكريم فهو المعجزة الكبرى التي آتاها الله رسوله الكريم، آية على صدقه فيما يبلغ عن ربه.
والقول في إعجاز القرآن يكثر ويطول وتختلف وجوهه وتختلف فنونه أيضا؛ فالقرآن كلام لم تسمع العرب مثله قبل أن يتلوه النبي، فهو في صورته الظاهرة ليس شعرا لأنه لم يجر في الأوزان والقوافي والخيال على ما جرى عليه الشعر، ثم هو لم يشارك الشعر الذي ألفه العرب في قليل أو كثير من موضوعاته ومعانيه؛ فهو لا يصف الأطلال والربوع، ولا يصف الحنين إلى الأحبة، ولا يصف الإبل في أسفارها الطوال والقصار، ولا يغرق فيما كان الشعراء يغرقون فيه من تشبيهات للإبل والصحراء والرياض والأشجار والحيوان والصيد وأدواته؛ لا يعرض لشيء من هذا كله. وليس فيه غزل ولا فخر ولا مدح ولا هجاء ولا رثاء، وهو لا يصف الحرب وما يكون فيها من الكر والفر، وهو لا يبالغ ولا يغلو ولا يعدو الحق. لا يعرض من هذا كله لشيء وإنما يتحدث إلى الناس عن أشياء لم يتحدث إليهم بها أحد من قبله، يتحدث عن التوحيد فيحمده ويدعو إليه، ويتحدث عن الشرك فيذمه وينهى عنه، ويتحدث عن الله فيعظمه ويصف قدرته التي لا حد لها، وعلمه الذي لا غاية له، وإرادته التي لا ترد وخلقه للسموات والأرض وما فيهن من يسير الأشياء وخطيرها ومن صغير الأشياء وكبيرها. ويدعو الناس إلى عبادة الله والائتمار بما يأمر به والانتهاء عما ينهى عنه، والتنزه عما لا يليق بكرام الناس. ثم يصف ما أعد الله من النعيم المقيم للذين يؤمنون به وحده ويخلصون له دينهم، ويصف ما ادخر من العذاب الأليم الخالد للذين يشركون معه إلها آخر ويجعلون له أندادا ويكفرون بآياته ويجحدون نعمه عليهم. وهو يبشر المؤمنين بما أعد لهم من نعيم وينذر الكافرين ما ادخر لهم من جحيم. وهو يصف قيام الساعة وما يكون فيه من هول يذهل المرضعة عما ترضع، ويضطر ذات الحمل إلى أن تضع حملها، ويجعل الناس كأنهم سكارى وما هم بسكارى، وهو يعظ الناس ليطهر أنفسهم ويزكيها ويتلو عليهم من أنباء الغيب ما يثبت به قلوب المؤمنين ويخلع به قلوب الكافرين؛ فيقص عليهم أنباء الرسل الذين أرسلوا قبل محمد
صلى الله عليه وسلم
وجاءوا قومهم بالآيات البينات، فأعرض عنهم أكثر قومهم ولم يؤمن منهم إلا قليل. فعذب الذين أعرضوا وأخزاهم في الدنيا والآخرة ونجى الذين آمنوا وأرضاهم في الدنيا والآخرة أيضا.
كل هذا وأكثر جدا من هذا يتحدث به القرآن إلى الناس على لسان رجل من قريش لم يتعلم قط كتابة ولا قراءة ولا حسابا، ولم يجلس قط إلى أحبار اليهود ولا رهبان النصارى ولا أصحاب الفلسفة، وإنما هو رجل عربي أمي كأكثر العرب لا يعلم من أمر الدنيا إلا مثل ما كان أوساط العرب يعلمون. وهو مع ذلك يجادل اليهود في التوراة ويجادل النصارى في الإنجيل، ويصفهم بأنهم يكذبون على موسى ويقولون على المسيح غير الحق، ويحرفون ما عندهم من التوراة والإنجيل. كل ذلك وهو لا يقرأ التوراة ولا الإنجيل، وإنما ينبئه الله نبأ الحق بما في كليهما. وهو لم يأت لنسخ التوراة ولا لنسخ الإنجيل وإنما جاء مصدقا لما بين يديه منهما ومضيفا إليهما ما أمره الله أن يضيف من العلم والدين. وهو يحاج المشركين في آلهتهم تلك التي كانوا يعبدونها ويجعلونها لله أندادا ويتخذونها عنده شفعاء، والتي لا تجيبهم إن دعوها ولا تسمع لهم إن تحدثوا إليها، ولا تنفعهم ولا تضرهم ولا تغني عنهم من الله شيئا إن أراد بهم سوءا، ولا تمسك عنهم رحمة الله إن أراد بهم رحمة، وإنما هي أشياء صنعوها بأيديهم أو صنعت لهم من قبل بأيدي الرجال، ثم خلعوا عليها ما ليس لها من القوة والبأس والسلطان.
ثم هو يشرع لهم من الدين والشرائع ما ينفعهم في الدنيا ويعصمهم من عذاب الآخرة إن استمسكوا به وأنفذوه على وجهه؛ فيشرع لهم في أمر الزواج والطلاق والميراث والوصية والبيع والشراء وغير ذلك مما تقوم عليه حياتهم الاجتماعية وحياتهم الفردية أيضا. ثم هو يفرض عليهم من أنواع العبادة ما يطهر نفوسهم ويزكي قلوبهم ويحضر في ضمائرهم حب الله والإخلاص له وخوف الله والإشفاق منه. ويبين لهم ألا سبيل إلى أن يستخفوا من الله بكبيرة أو صغيرة؛ فهو يسمع كل شيء ويرى كل شيء ويعلم كل شيء، وهو معهم حين يجتمعون وحين يخلو كل واحد منهم إلى نفسه، وهو يعلم ما يثور في قلب الإنسان من عاطفة وما يضطرب فيه من هوى وما يخطر في ضميره من خير أو شر. بل هو يعلم أكثر من ذلك: يعلم كل ما كان وكل ما هو كائن وكل ما سيكون، وهو يحصي عليهم أعمالهم وكل ما تحدثهم به أنفسهم من الخير والشر ومن الفجور والبر ومن الطاعة والمعصية. وهو يسجل كل هذا في كتاب مدخر عنده، فيعرض على كل إنسان كتابه يوم الحساب ويجزيه عما سجل في هذا الكتاب من أعماله الظاهرة والباطنة إن خيرا فخيرا وإن شرا فشرا.
ثم ينبئ الناس في الدنيا بما تقول ألسنتهم وما تعمل جوارحهم وما تضمر نفوسهم. نجد هذا كله في القرآن الذي يتلوه هذا الرجل الأمي والذي أخذ في تلاوته فجاءة ذات يوم بعد أن بلغ الأربعين وأنفق ثلثي عمره في الدنيا يحيا كما يحيا غيره من قريش. فلا غرابة في أن يبهر قريشا وسائر العرب هذا العلم الذي جاءه فجاءة، ولا غرابة في أن يعجزهم فهم هذا كله؛ فهم في حيرة من أمر هذا الرجل وما يتلو عليهم من الآيات.
Unknown page