Manhaj Fi Fikr Carabi Mucasir
المنهج في الفكر العربي المعاصر: من فوضى التأسيس إلى الانتظام المنهجي
Genres
95
لهذا فإن قراءة أركون، من خلال الاختيارات التي استقر عليها، لا تبدو فيها أصالة الإبداع والاستقلال المسئول المطلوب من المثقف العضوي داخل مجتمع يعاني من مركبات الأزمة؛ ويسعى إلى تجاوزها، رغم تأكيداته المتكررة حول الإبداع، لكنه سقط في فخ التكرار، دون أن تكون له لغته التحليلية المستقلة المعبرة عن الإشكالات الحقيقية التي يسعى إلى معالجتها؛ لذلك نلمس عنده «تضخما في الأجهزة والأدوات التي يستخدمها هناك فعلا آلية مفهومية جبارة - ولكن يتم ذلك على حساب لغة أركون وخطابه - ذلك أن لغته تكاد تضيع بين اللغات الأخرى».
96
هذه بعض الانتقادات القاسية التي طالت متن أركون ومنهجيته المتعددة المداخل، مما يعبر عن خلطة هجينة من المناهج ضاعت فيها ومعها لمسات الإبداع التي كنا في أمس الحاجة إليها لتجاوز أعطاب التخلف ومركبات التأخر. (2) المبحث الثاني: اختبار المفهوم في التداول الثقافي المعرفي والاجتماعي العربي المعاصر
اختبار تداولية المفاهيم وترحالها من مجال إلى آخر أصبح علما قائما بذاته في كل العلوم والحقول المعرفية. وفي سبيل تحقيق هذا الغرض أنشئت المختبرات العلمية في كل التخصصات لوضع عينات من المفاهيم المرتبطة بتخصصاتها تحت مجهر الاختبار والنقد والتمحيص والتشريح - ليس بالمعنى العضوي للمفهوم، إنما بالمعنى التحليلي النقدي التفكيكي - والوقوف عند مسيرتها ومشاقها ومتاعبها وأوزارها وذنوبها المعرفية والمنهجية، ليس في عالمنا العربي الإسلامي، بل في عالم الأمم والحضارات قديما وحديثا ومعاصرا. بل تكاد هذه القضية تطبع أغلب الأعمال الفكرية لكبار المفكرين بعناوين واضحة تبرز مركزية المفاهيم في كبريات المشاريع الفكرية، والتحكم في مساراتها المنهجية ومآلاتها في الإنسان والطبيعة.
ويعتبر مفهوم العلمانية واحدا من المفاهيم المركزية التي شغلت مساحة واسعة في الفكر الغربي منذ وقت مبكر، وبلغ ذروته خلال القرن الثامن عشر الميلادي، وما يزال إلى اليوم والشيء ذاته في الفكر العربي المعاصر، وفي وعي النخب العربية، بل دارت حوله كثير من المعارك الثقافية، والمعرفية، والاجتماعية والسياسية، وتشابكت النخب العربية فيما بينها حول تداولية المفهوم، وقدرته على تثبيت وجوده المعرفي والثقافي، من خلال جدل التراث والحداثة، ومفاهيم التجاوز والقطيعة، والاستمرارية، حين دفع بمنظومته الفكرية والنفسية في اتجاه التدمير الممنهج لمقومات العقل العربي الإسلامي، وتخريب دفاعاته ضد التبديل والتغيير.
فتحولات المفهوم في الفكر العربي المعاصر مؤشر على صعوبة التداول، وعدم الرضا الذي قوبل به في الذاكرة العربية الإسلامية، بل في أوساط ثقافية لها اعتبارها المقدر حين رأت في تداولية المفهوم قلبا للحقائق وتشويها للمشكلات الحقيقية للعرب، لكن قبل الحديث عن تداولية المفهوم وإجرائيته في الفكر العربي المعاصر، نقف عند المفهوم في موطنه الأصلي، ليس من باب التأريخ، لكن من باب تحولاته وموقف التيارات الفكرية منه، قبل أن نناقش موقعه في فكرنا المعاصر، وموقف تياراته منه. (2-1) اختبار تداولية المفهوم في الفكر الغربي
ما ميز تاريخ الأفكار في الغرب كما تؤكد أكثر من دراسة،
97
أو أغلبها هو هذا التنوع والتعدد في المدراس الفكرية التي نبتت على تربته الجغرافية، تنوع صاحبته قدرة هذه المدارس على مراجعة ما تنتجه من مفاهيم وأفكار ومناهج، لهذا «يلاحظ أن مراجعات العلمانية والحداثة في العالم الغربي بلغت أبعادا لربما لم تصلها بين العلمانيين العرب»
Unknown page