Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genres
ربما كان في إمكاننا أن نحس بميل أقوى نحو «مدينة المسيحيين» لأندريا، لو كانت مبادئه الدينية قد سمحت له بقدر أكبر من التعاطف مع المشاعر الإنسانية، ولو سمح كذلك للطبيعة البشرية بأن تعبر عن نفسها دون أن تتهم في كل لحظة بالسقوط في حبائل الشيطان. ولكن الواقع أن المؤلف يذكرنا من سطر إلى آخر بمدى الشر الذي وصل إليه الإنسان. «فكل إنسان»، كما يحذرنا أندريا، يحمل معه الشر المتوطن والمتأصل، بل الشر الفطري الموروث من الأبوين ويعدي به رفاقه عدوى مسمومة لا ينجو منها حتى أولئك الذين كرسوا حياتهم لله تكريسا تاما، وإنما تشق طريقها كالعاصفة بكل ألوان الشر والخديعة والغلظة والفظاظة، وتستبد بأولئك الناس فلا يستطيعون لها دفعا طوال حياتهم ومهما تقلدوا أرفع المناصب المشرفة.
ولكي يبعد أندريا الشيطان عن سكان مدينته، فإنه يقرن أوصافه لأخلاقهم وعاداتهم بعظات مطولة يمكن أن نقول عنها إن «قراءة عظة واحدة منها تغني عن قراءتها جميعا». ويندر أن نجد موضوعا لا يعطيه الفرصة لتقديم مواعظه، فحتى الأطباق والصحون في مدينته الإلهية مزودة بالأفكار الورعة التقية. وهذه المواعظ تشغل من الكتاب حيزا شديد الاتساع، مما يجعلنا نطمع في عفو القارئ إذا ذكرنا واحدة منها من الموضوع الأثير لدى أندريا، وهو «النور». فهو يتخذ من إضاءة الشوارع ذريعة عجيبة للحديثة عنه، وبعد أن يقرر بإيجاز شديد أن سكان مدينة المسيحيين «لا يسمحون لليل بأن يكون مظلما ، وإنما يضيئونه بمصابيح مشتعلة، وذلك لتوفير الأمن للمدينة، ومنع التسكع في الشوارع، وجعل الحراسة الليلية شيئا غير منفر»، نراه يستطرد في الخطبة الطويلة عن الدلالة الرمزية للنور: «سوف يطيب لهم أن يناضلوا بهذه الطريقة لكي يقاوموا مملكة الشيطان المظلمة وألاعيبه المريبة، وسوف يتوقون إلى تذكر أنفسهم بالنور الأبدي. أما ما يتوقعه عدو المسيح من هذا العدد الكبير من الشموع، فعليه أن يراه بنفسه، ولكن علينا نحن ألا نتهيب من أي نظام يقلل من خوف إنسان يعمل في ظلام الليل، ويزيح الحجاب الذي تحرص أجسادنا كل الحرص على أن تغطي به الفسق والفجور ... آه لو صحت عزيمتنا على الاتجاه نحو النور، إذن لما بقيت هناك فرصة لكل أنواع الخسة ولا لهذا العدد الكبير من الأوغاد الأفاقين. ليت نور قلوبنا يتوقد بصورة مستمرة، وليتنا نكف عن محاولاتنا المتكررة لمخادعة عين الله التي ترى كل شيء. والآن والظلام يتخذه العالم ذريعة ليفتح أبوابه بكل أنواع الحقارة والدناءة، بينما ينشر العمى فوق الأشياء التي يخجل منها، فماذا عسى أن يكون الموقف عندما يعود المسيح وتبدد شمسه كل ضباب، ويظهر فساد العالم الذي يحميه (الظلام) بكل هذه الأغطية، وعندما تصبح شهوات القلوب، ورياء الشفاه، وما قدمته الأيدي من عمل سيئ وكل ما اقترفه من الفحش عارا عليه وسخرية في نظر المباركين المنعمين؟»
إن هذه الفقرة تعبر تعبيرا كاملا عن شخصية أندريا. وإذا كانت طيبته وحدبه على مواطنيه، بجانب حسه العملي، قد حملته على المطالبة بإضاءة المدينة لتوفير الأمن وتخفيف العبء عن حراس الليل، فإن مشاعره الأخلاقية والدينية قد جعلته يتجاوز هذه الاعتبارات العملية. ويشعر قارئ يوتوبياه أن حبه للناس يدفعه إلى الثقة بهم بصفتهم كائنات حساسة وقادرة على أن تعيش حياتها بأمانة وشر، ولكن تدينه يقول له إن الإنسان شرير ويحتاج إلى الهداية والموعظة والتحذير والوعيد إذا اقتضت الضرورة، وذلك لحمايته من الوقوع في الإثم والخطيئة. وهذا هو الذي جعل مدينته المثالية تركيبة عجيبة مؤلفة من الطوائف الحرة والاستبداد الديني، والمسئولية الشخصية والخضوع الكامل للدين .
وربما يكون وصف «مدينة المسيحيين» بأنها جماعة مثالية أكثر منها مجتمعا مثاليا هو الوصف الأدق لها. وعلى الرغم من أن أندريا يصف الجزيرة التي تقع فيها بأنها عالم مصغر، وأن المدينة تحتوي على كل عناصر الدولة، فإنه لم يتصور أن سكانها قد وجدوا فيها بطريق المصادفة، وإنما اعتقد أنهم تجمعوا عن قصد وألفت بينهم مجموعة من المثل والمبادئ. ويتبين من المقدمة التي كتبها أندريا لمدينة المسيحيين أنه قد حاول تكوين جمعية سرية لتنفيذ الإصلاح الديني، الذي احتل مكانا عزيزا من قلبه، هذه الأخوة
56 (التي توصف بوجه عام بأخوة الصليب الوردي)
57
قصد بها نخبة قليلة، ولم تستجب لرغبة الشعب الذي اشتاق للعثور على ملاذ يجد فيه الراحة والأمان وسط فظائع العصر واضطراباته. وقد جاء وصف الجماعة الكبرى لمدينة المسيحيين تلبية لهذه الرغبة.
وسواء كانت أخوة الصليب الوردي تنظيما أسطوريا خالصا أو كان علينا أن نقتنع بالمبررات التي قدمها أندريا لمشروعه الخاص بمدينة مثالية، فإن الأمر في الحالين لن يخرج عن دائرة التأمل والتخمين. ولو أخذنا كلام أندريا بشكل حرفي لكان الهدف من مدينة المسيحيين هو أن تصبح نموذجا لجماعة يمكن أن تنشأ بمجرد أن يتجمع عدد كاف من الناس لهذا الغرض. وهذه هي الطريقة التي تصور بها كل من أوين وفورييه، بعد ذلك بقرنين، تكوين جماعتيهما المثاليتين. ومع ذلك فإن أندريا يبدأ سرد قصته بفصل مجازي خالص جعل الكثيرين يعتقدون أن كتابه ليس إلا مجرد أمثولة. وها هي ذي الفقرة التي لا تخلو من جمال شعري: «بعد أن تجولت كالغريب على الأرض، وواجهت بالصبر ألوان المعاناة من الطغيان والسفسطة والنفاق ، وفتشت طويلا عن إنسان فلم أعثر على طلبتي، قررت أن أنطلق مرة أخرى فوق البحر الأكاديمي برغم ما نالني منه من الأذى. ولما أن ركبت سفينة الخيال الطيبة، غادرت الميناء مع الكثيرين غيري، وعرضت حياتي وشخصي لآلاف الأخطار التي تلازم الرغبة في المعرفة. وظلت الظروف مواتية لرحلتنا فترة قصيرة من الزمن، ثم هبت عواصف الحسد والافتراء المعادية وأهاجت علينا البحر الإثيوبي وقضت على كل أمل في طقس هادئ. وبذل الربان والبحارة بمجاديفهم قصارى جهدهم، ولم يستسلم حبنا العنيد للحياة، وحتى السفينة نفسها قاومت الصخور، لكن قوة البحر تثبت دائما أنها هي الأقوى. وفي النهاية بعد أن فقدنا كل أمل وتأهبنا استعدادا للموت - بحكم الضرورة وليس بتأثير شجاعة الروح - تهاوت السفينة وسقطنا في الماء. ابتلع البحر بعضنا وجرف البعض الآخر إلى مسافات بعيدة، بينما حمل القليلين، الذين استطاعوا العوم أو وجدوا ألواحا خشبية يطوفون عليها، إلى جزر مختلفة متناثرة في أنحاء البحر. ونجا القليلون جدا من الموت، وألقي بي أنا وحدي، بغير رفيق واحد، إلى جزيرة صغيرة جدا، بدت أشبه بقطعة من بساط مرج أخضر.»
هبط الرحالة على جزيرة «كفار سالاما» التي كانت «غنية» بحقول القمح والمراعي الخضراء والأنهار والجداول المتدفقة، مزدانة بالغابات والكروم، ممتلئة بالحيوانات، كأنما هي عالم كامل في صورة مصغرة.
وقبل أن يؤذن للرحالة بالدخول إلى المدينة تم استجوابه من قبل ثلاثة ممتحنين. وأندريا هو أول من جعل الدخول إلى يوتوبياه مشروطا باجتياز اختبار معين، ولعلنا نحس بالامتنان نحو موظفي مكاتب الهجرة في هذه الأيام لأنهم ليسوا مدققين تماما مثل موظفي مدينة المسيحيين ...
Unknown page