Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genres
14
ويرفض هيثلوداي هذا اللوم ويقتبس بدوره من أفلاطون ما يعزز وجهة نظره: «ليس الفلاسفة بهذه الغلظة، بحيث لا يقدمون المشورة بكل سرور. والواقع أن كثيرين منهم قد قاموا بذلك بالفعل في الكتب التي نشروها، لو كان الحكام على استعداد لتقبل مشورتهم السديدة. ولكن مما لا شك فيه أن أفلاطون قد أدرك مقدما أنه ما لم يتجه الملوك أنفسهم إلى دراسة الفلاسفة فلن يقروا مطلقا مشورة الفلاسفة الحقيقيين لأنهم قد تشبعوا بالأفكار الخاطئة التي أفسدتهم. وقد أدرك أفلاطون هذه الحقيقة من تجربته الخاصة مع الملك ديونيسيوس.»
15
إن هذه الفقرة تكاد تحمل طابع النبوءة، على الرغم من أن توماس مور لم يستطع أن يتنبأ بأن الملك هنري الثامن سيعامله بصورة تفوق في جحودها، حسب الرواية المعروفة، معاملة ديونيسيوس لأفلاطون. وهي كذلك فقرة مهمة لأنها يمكن أن تقودنا للاعتقاد بأن الدولة المثالية ليوتوبيا ينبغي أن يحكمها فلاسفة، ولكن هذه الفكرة لم تطور في الجزء الثاني من الكتاب، كما يبدو أنها تدل على أن تصور مور للدولة المثالية قد طرأ عليه التغير في الفترة التي تفصل بين تأليف الكتابين.
ويواصل هيثلوداي شجبه لولع الملوك بالحروب التي يخوضونها بطريقة تفتقر للأمانة، وذلك بعدم احترامهم للمعاهدات، وتحصيلهم للأموال بناء على ادعاءات زائفة وعن طريق غش العملة في بلادهم، فضلا عن لجوئهم إلى الدسائس والرشوة. ويمكن أن يجد الفيلسوف نفسه مضطرا إلى توجيه اللوم إلى الملك بسبب هذه الأعمال ، ولو فعل هذا فسوف يطرد على الفور. ويظل مور على عدم اقتناعه، ويصر على أن الفيلسوف، إذا كان سياسيا ماهرا، يمكنه أن يؤثر بعض التأثير في الأمراء. وتدفع هذه الحجة هيثلوداي إلى الكشف عن فكرته بأكملها؛ فالملوك لا يحتاجون فحسب إلى أن يكونوا فلاسفة صالحين لكي يحكموا حكما سديدا، وإنما يجب تغيير بناء المجتمع برمته: «إذا ما كنت لأعبر لك بصدق عن مشاعري القلبية، فإنه يبدو لي أنه حيثما وجدت الملكية الخاصة، وكان المال هو المعيار الذي يقاس به كل شيء، فيكاد يكون من المستحيل تقريبا أن يسود المجتمع العدل أو الرخاء، إلا إذا حسبت أن العدل قائم حيث تتدفق أفضل الأشياء إلى أيدي أسوأ المواطنين، أو أن الرخاء يسود حيث تتقاسم قلة قليلة منهم كل شيء، وحتى هذه القلة لا تحقق درجة كبيرة من الثراء، في حين يعيش الباقون في شقاء تام. ولذا فطالما يجول بخاطري نظم اليوتوبيين البالغة الحكمة والقدسية، حيث تدبر الأمور تدبيرا سويا عن طريق عدد صغير جدا من القوانين، وتنال الفضيلة جزاءها. ومع ذلك فنظرا لعدالة التوزيع، يتمتع الجميع بالوفرة في كل شيء. ومن ناحية أخرى أقارن بين سياستهم وسياسة الشعوب الكثيرة في الأماكن الأخرى التي لا تكف عن إصدار القوانين، ومع ذلك فلا تحقق إحداها الحياة الصالحة، وحيث يسمي كل رجل كل ما يحصل عليه ملكا خاصا له، ومع ذلك لا تكفي جميع هذه القوانين التي تصدر يوميا ليحتفظ المرء أو يدافع عن - أو حتى يفرق بين - ما يخصه وما يخص شخصا آخر، وما يدعي كل بدوره أنه يخصه، وليس أدل على ذلك من تلك القضايا التي لا حصر لها، والتي تتجدد يوميا، ولا تنتهي أبدا، أقول إني عندما أتأمل هذه الحقائق، أصبح أكثر تحيزا لأفلاطون وأقل دهشة لرفضه وضع القوانين لأولئك الذين رفضوا تلك التشريعات التي منحت الجميع أنصبة متساوية من جميع السلع.
لقد أدرك هذا الفيلسوف الحكيم مقدما وبسهولة أن الطريق الوحيد الذي لا يوجه سواه لتحقيق الرفاهية للجميع هو تحقيق المساواة في جميع الأمور. وأشك في أن هذا يمكن مراعاته حيث تعد ممتلكات الفرد ملكا خاصا له. فعندما يهدف كل إنسان إلى الملكية المطلقة لكل ما تصل إليه يداه، فمهما عظمت كمية السلع، فإنها تقسم بين حفنة من الناس ويترك الباقون في فقر وعوز. وغالبا ما يحدث أن هذه الطبقة الأخيرة تستحق ما تتمتع به الأخرى من ثراء، فالأغنياء جشعون، لا ضمير لهم، ولا فائدة منهم، بينما الفقراء حسنو السلوك، مهذبون، بسطاء، وأكثر نفعا للدولة بعملهم اليومي عنهم لأنفسهم. وإني مقتنع تمام الاقتناع بأنه لن يمكن إجراء تقسيم عادل ومتساو للسلع، ولا أن تتحقق السعادة في الحياة الإنسانية ما لم تلغ الملكية الخاصة تماما. فما دامت باقية فسيظل الجزء الأكبر بكثير، والأفضل بكثير من الجنس البشري مثلا دائما بعبء ثقيل لا مفر منه من الفقر. أعترف بأنه من الممكن تخفيف هذا العبء بعض الشيء، ولكني أنكر أنه من الممكن التخلص منه تماما.
فقد يصدر قانون يقضي بألا يملك شخص أكثر من قدر معين من الأرض. وألا يكون لأي رجل دخل من المال يزيد على ما يحدده القانون. وقد تصدر تشريعات خاصة تحول بين الملك وزيادة سيطرته، والأغنياء وزيادة جشعهم، وتقضي أيضا بألا يكون الحصول على الوظائف العامة بالهدايا والوساطة، وألا تباع وتشترى، وألا تحمل شاغليها تكاليف شخصية باهظة (وإلا فسيكون الإغراء قويا لأن يسترد الشخص هذه التكاليف عن طريق النصب والنهب، وأن يعين بالضرورة لهذه الوظائف الأغنياء من الرجال بدل أن يشغلها الحكماء منهم).
أقول إنه بهذا النوع من القوانين تخفف هذه الشرور وتقل حدتها، كما يبقى على الأجسام المعتلة التي لا رجاء في شفائها بأنواع العلاج الطبي المتكررة، أما أن تشفى تماما وتعود إليها الصحة الكاملة، فهذا ما لا أمل فيه ما دام كل فرد سيدا لملكه الخاص. نعم، بينما تحاول إصلاح جزء ما، تزيد من وطأة المرض على جزء آخر، بحيث يؤدي شفاء عضو واحد بالتبعية إلى إصابة عضو آخر، ما دام لا يمكن إضافة شيء للواحد من دون أن يؤخذ من الآخر.»
16
ويعترض مور قائلا: «لا يمكن للبشر أن يعيشوا عيشة راضية إذا كانت كل الأشياء مشاعا بينهم.» ويرفض جيلز أن يصدق «أن أي أمة في ذلك العالم الجديد، يسودها نظام حكم أفضل من النظام السائد بيننا»، ولكي يثبت هيثلوداي فكرته نجده يشرع في وصف دولة يوتوبيا الحكيمة المزدهرة.
Unknown page