Madina Fadila Cabr Tarikh
المدينة الفاضلة عبر التاريخ
Genres
ويعد الكتاب الأول من «يوتوبيا»، إلى حد ما، وصفا للظروف التي سادت إنجلترا في بداية القرن السادس عشر، ولكنه في الأساس مناقشة لمشكلتين شغلتا عقل مور في ذلك الوقت. كانت المشكلة الأولى مشكلة شخصية: هل ينبغي عليه الالتحاق بخدمة الملك، والأعم من هذا، هل ينبغي على الفلاسفة مساعدة الملوك بنصائحهم وخبراتهم، وبذلك يسعون لمصلحة الدولة؟ وتتعلق المشكلة الأخرى بإصلاح نظام العقوبات. فقد كان مور، من خلال عمله محاميا على معرفة وثيقة بالإجراءات المتبعة في إدارة شئون العدل، ولا بد أن الإفراط في تطبيق عقوبة الموت حتى على جرائم السرقة التافهة سبب له معاناة شديدة. لقد رأى أن هذه العقوبة أبعد ما تكون عن منع الجرائم التي ترتكب في حق الملكية، بأن هذه الجرائم في تزايد مستمر كل يوم ومن الطبيعي أن يجد من واجبه أن يبحث عن وسيلة أفضل للتصرف معها.
وتناقش هذه المسائل في حديث يجري بين بيتر جيلز ورفائيل هيثلوداي،
6
وهو فيلسوف وباحث، تتملكه الرغبة الحارة في اكتشاف البلاد الأجنبية، واكتشاف أفكار مور نفسه. وفي حديقة منزل مور، في أنتورب، يبدأ هيثلوداي بسرد روايته عن رحلاته وعن العادات التي صادفها بين الأمم الغريبة التي زارها. وبعد الاستماع إليه يعبر بيتر جيلز عن دهشته من أن رجلا بمثل هذه الخبرة بشئون العالم لم يفكر في الالتحاق ببلاط أحد الملوك، بحيث يمكنه أن يمتعه بمعرفته وخبرته بالبلاد والشعب، وأن يساعده بإسداء النصيحة، وبذلك يؤدي خدمة للمصلحة العامة.
ويرد عليه هيثلوداي بأنه لو فعل ذلك فلن يفقد فحسب استقلاله، بل لن يخدم كذلك المصلحة العامة عن طريق الالتحاق بخدمة الملوك، لأن «معظم الملوك يشغلون أنفسهم بأعمال الحرب والفروسية (وهي أمور لا تتوافر لي معرفتها ولا أرغب فيها) أكثر مما يشغلونها بأعمال السلم الشريفة، ويهتمون بوجه عام بالحصول على ممالك جديدة، سواء بالحق أو الباطل، أكثر مما يهتمون بأن يحكموا بالعدل الممالك التي يملكونها بالفعل.»
7
ويستطرد هيثلوداي في فضح الرذائل المنتشرة في بلاط الملوك وعدم اكتراثهم بمعاناة شعوبهم. وقد عرف أثناء زيارته لإنجلترا أن اللصوص يحكم عليهم بالإعدام في كل مكان، وأنهم يشنقون بسرعة مذهلة بحيث يتم في بعض الأحيان شنق العشرين منهم على مشنقة واحدة، ثم يلاحظ أن هذه الطريقة في التصرف مع اللصوص «تتعدى حدود العدالة، كما أنها ضارة بالمصلحة العامة، فهي عقوبة بالغة القسوة للسرقة، ومع ذلك فليست رادعا كافيا، فالسرقة وحدها ليست جرما كبيرا يعاقب عليه بالموت. كما أنه لا توجد عقوبة كفيلة بأن تمنع من السرقة أولئك الذين يفتقرون إلى حرفة أخرى يكسبون منها عيشهم ... إذ فرضت العقوبات الصارمة الرهيبة على اللصوص، في حين كان من الأفضل كثيرا تدبير بعض الوسائل ليكسبوا بها عيشهم، بحيث لا تدفع الضرورة القصوى بالإنسان لأن يسرق، ثم يموت نتيجة لذلك.»
8
وبدلا من توفير سبل كسب العيش لأفراد الشعب، فإن الرجال الذين يعودون من الحرب مشوهين ومعوقين أو عاجزين عن العمل بسبب التقدم في العمر، نجدهم مجبرين على السرقة والاستجداء، أو على التعرض للجوع، والنبلاء بدورهم، ليسوا أفضل حالا من الدولة في الوفاء بالتزاماتهم تجاه أولئك الذين خدموهم: «هناك ذلك العدد الكبير من النبلاء الذين لا يكتفون بأن يعيشوا عاطلين مثل ذكور النحل، معتمدين على عمل الغير وكدهم، وأقصد أولئك الذين يؤجرون أراضيهم والذين يسلبونهم كل صغيرة وكبيرة عن طريق رفع الإيجار، علما بأن هذه هي الناحية الوحيدة التي يمارسون فيها التقشف، أما فيما عدا ذلك فهم مسرفون لدرجة أن إسرافهم المفرط قد يؤدي بهم إلى الاستجداء، هؤلاء النبلاء لا يكتفون بأن يعيشوا هم أنفسهم فقط في تعطل، ولكنهم يجرون وراءهم قطيعا ضخما من الخدم العاطلين، ممن لم يتعلموا قط حرفة يكسبون منها عيشهم. هؤلاء الرجال، ما إن يتوفى سيدهم، أو يحل بهم المرض، حتى يطردوا شر طردة. فهؤلاء النبلاء يفضلون الاحتفاظ بالمتعطلين على الاحتفاظ بالمرضى، وفي كثير من الأحيان لا يستطيع وريث الرجل المتوفى أن يحتفظ بمظاهر العظمة التي كان عليها البيت من قبل، ولا أن يبقي على كل هذا العدد من الخدم الذي كان يحتفظ به والده في بادئ الأمر على الأقل. وهكذا نجد هؤلاء الأشخاص، في هذه المواسم العجاف، يكرسون جهودهم للتضور جوعا، إن لم يكرسوها للسرقة. وماذا في وسعهم أن يفعلوا غير ذلك؟ فبعد أن يتجولوا في الطرقات فترة من الزمن بحيث تبلى ملابسهم وتعتل صحتهم، ونتيجة لشحوب وجوههم وتمزق ملابسهم، لا يتنازل النبلاء باستئجارهم لخدمتهم، ولا يجرؤ المزارعون على تكليفهم بالعمل لديهم. ذلك أن هؤلاء يعرفون تماما أنه لا يصلح للعمل الجاد المخلص بالمنجل والفأس، في خدمة رجل فقير، ومقابل أجر ضئيل، ذلك الشخص، الذي كان يتقلب في أحضان النعيم بين البطالة واللذة، ويختال في الطرقات حاملا سيفه في غمده، وعلى وجهه نظرة التباهي والكبرياء، ظنا منه ألا مثيل له بين الناس.»
9
Unknown page