1
وعن هذه الحشرات تصدر تلك الدعوة الغالية، تقديس العمل؛ كأن العمل يمكن أن يكون خيرا في حد ذاته. وعنهم تصدر الحروب، وأسباب الاضطهاد، وقوانين الشرطة والتحقيقات الظالمة. إنهم يتوهمون أنهم يستطيعون بالقوة أن يفرضوا على غيرهم المعتقدات والميول، وقد بلغ هؤلاء الآخرون من الحماقة أنهم يصدقونهم. إنهم يستطيعون أن يفرضوا - بل إنهم ليفرضون - التوحيد الظاهري، والنظام. إنهم ينظمون العداوة لكل ما ليس بالشائع أو المألوف - أي لكل ما هو متميز نادر. لا شك أنهم قلة مسحوقة، ولكن لما كانوا لا يحسنون عملا سوى السعي وراء السلطان، ولما كانت الغالبية غبية وديعة، فإنهم يظفرون به عادة.
ولنعد إلى الرجل المتمدن. الرجل المتمدن مصنوع لا مطبوع. هو شخص مصطنع، غير طبيعي. إنه يكون نفسه عامدا واعيا، وفي اعتباره الحصول على خير وأدق الموجود والاستمتاع به. وبرغم هذا - بمعنى آخر - إنه وإن يكن متكلفا في كل أموره، إلا أنه أقل الكائنات البشرية انحرافا، وهو كذلك لأن استجاباته أقل انحيازا، ولكي نفهم هذا التناقض الظاهر يجب علينا أن نسلط أذهاننا على صورتين: على الحياة، أو التجارب، باعتبارها تيارا دائم التدفق، وعلى ذلك المجرى العجيب الذي نجريها فيه. وهو الشخصية، والعجيب في الشخصية أنها تكيف وتتكيف بالتجارب، ولا تجد شخصيتين في شكلهما الأصيل متطابقتين، ولكن خلال السنوات الأولى لحياة كل إنسان تشكل الظروف والتربية الشخصية وتحورها - وأقصد بالشخصية المجرى الذي يسري خلاله تيار التجارب. إنها تنسد وتتضخم من أثر الخرافة المتخلفة أو تراكم العادات التي تلتوي هنا وتنبعج من فعل الأهواء التقليدية، وأحيانا تعيد الثقافة تشكيلها قصدا. ولكي تقدر تقديرا تاما قوة التيار الذي يمر بها وحرارته ونوعه، ولكي تسجل الدوامات والأمواج التي تصطدم بها، ولكي تميز تمييزا واضحا بين التحاريق والفيضان، يجب أن نحافظ في عناية تامة على نظافة هذه الأداة الدقيقة. الشخصية (هذا الموصل للتجارب) تحتاج إلى الجلاء دائما، ولا يستطيع إلا العقل وحده أن يؤدي هذه العملية الأساسية. العقل وحده يخلص الشخصية من الآراء المتعصبة وردود الأفعال العنيفة، وذلك لكي نقاوم دائما المعتقدات الثابتة وردود الأفعال الغريزية. شخصية الهمجي تتلوث بالأهواء والمخاوف الخرافية. أما شخصية المتمدن فليست بالتأكيد تلك الشخصية التي ولد بها، فقد طرقتها الأقدار وشكلتها التربية، ولكنها شخصية نظيفة. ولا تحول بينه وبين الحياة محرمات بالية، أو عرف على غير أساس أو مخاوف لا طائل تحتها، ومن ثم تتاح الفرصة لكي يمارس يوما ما أمرا من الأمور مباشرة ممارسة كاملة وبشخصه، لا باعتباره مسيحيا أو عابد شيطان، ولا باعتباره سيدا إنجليزيا أو من عامة قراء الصحف، وإنما باعتباره الذاتي.
الرجل المتمدن لا يعبث بصفاته الموروثة حبا في توحيدها مع صفات غيره، ولا من أجل الضمان العقلي والعاطفي - وهما من أهداف القطيع الكبرى، ولا يحاول أن يعدل من هذه الصفات إلا حينما تحول بينه وبين إدراك الحياة والاستمتاع بها. إنه يحاول أن يعالج نفسه من حدة الطبع كما يحاول أن يعالج نفسه من لكنة اللسان. إنه يكافح ميول الغيرة كما يكافح السل في بدايته. إن الميول الهمجية لا تعود بفائدة تدوم متعتها. إنها تهدم السعادة كما تهدمها أمراض الأسنان. إنها تجعلنا نعاني معاناة المرضى ونسلك سلوك المجانين. الرجل المتمدن يبذل كل جهده للتخلص من كل ما يحول بين وعيه والحقيقة، كل ما يحرف الأحكام، كل ما يظلم البصيرة. إنه يحاول أن يبدد الطبيعة بمعول التربية، وهو بهذه المحاولة إنسان متكلف مصطنع. ولهذا فهو وإن كان لا ينبذ لذة من اللذات لأنها تنافي المبادئ، إلا أن عادة التحليل عنده وإحساسه بالقيم سرعان ما تقنعه بأنه يضحي بالأسمى في سبيل الأدنى إن هو سار وراء ميوله الطبيعية. إنه يستبعد أو يحد من تذوق اللذات الدنيا، وإن بدا له أن الجشع يحد من تأثره بالفكر والشعور تحكم في شهوته. الرجل الهمجي يأكل ويشرب حتى يمرض، والرجل نصف المتمدن يفعل ذلك حتى يتبلد. أما الرجل المتمدن فيحاول دائما أن يطور الطبيعة ومن المحتمل أن ينجح. يعزز من نفسه ناحية ويمحو منها ناحية أخرى. إنه لا يقبل الطبيعة كما هي، ولست أرى سببا يدعوه إلى هذا. أما أولئك الذين يقبلون الطبيعة على علاتها. أولئك الذين يرفضون التدخل في هذه الآلهة، أولئك الذين عقدوا العزم على استبعاد كل ما ليس بالطبيعي - هؤلاء أنصحهم بالعودة إلى الصواب بأسرع ما تمكنهم قدراتهم الطبيعية.
هكذا أصور الرجل المتمدن. فهل تصدمك هذه الصورة ولا تلاقي عندك عطفا؟ لم يكن من شأني أن أرسمها على غير هذا الشكل. وسواء رضيت عنها أو لم ترض، وسواء ترققت فأسميتها «رسما تخطيطيا» أو نبذتها قطعا لأنها «ضعيفة». سواء كان هذا أو ذاك فإني أعتقد أنك توافق على أن الشخص الذي قصدت أن أصوره بها، هو في الواقع الشخص الذي نسميه متمدنا. إنه ليس الرجل الطيب، وليس الرجل الطبيعي. إنه ليس الفنان، أو البطل، أو القديس، أو الفيلسوف، ولكنه يقدر الفن، ويحترم الحق، ويعرف كيف ينبغي أن يكون سلوكه. هدفه أن يستمتع بالحياة استمتاعا كاملا، وأن يستمتع بها جملة وفي أدق نواحيها وأشدها خفاء. ووسيلته الأولى لتحقيق هذا الهدف هي قوة الفكر والشعور، مهذبة إلى أقصى الحدود. إنه صاحب ذوق في كل الأمور. تطلعه الذهني لا حد له، لا يخشى شيئا، ولا ينطوي على غرض . إنه متسامح، متحرر، لا يصدم، وإذا لم يكن دائما ودودا ظريفا، فهو على الأقل ليس شرسا، ولا مرتابا أو متعاليا، إنه ينتقي ملذاته قصدا، ولا يحد انتقاءه خوف أو هوى. إنه يميز بين الوسائل والغايات، ومن ثم تراه يقدر الأمور لدلالتها الوجدانية أكثر مما يقدرها لفائدتها العملية. كل نفاق في الحديث عن «الحقوق» و«الواجبات» و«المقدسات» يهب بعيدا عنه كالقش والرمال، يضايق ولا يؤذي. إحساسه بالقيم، حينما يوجهه بذكائه، كالإبرة التي يفقأ بها الفقاعات المزيدة التي يثيرها الاستنكار الخلقي. إنه ناقد، واع لنفسه، وهو على كل حال - إلى حد ما - يحلل المواقف. ولا مناص له من أن يكون فذا فريدا، ولما كان واعيا لنفسه كفرد كان قليل العطف على إجماع القطيع، ولما كان مهذب العقل والوجدان والحس، فإنه يشق للحياة طريقا يزبل منه - على قدر المستطاع - ما يعترضه من عادات وأهواء. كلا، إنه لن يكون طبيعيا أبدا.
إن النموذج الفذ للإنسان المتمدن قد يوجد - فيما أحسب - منفردا، مستوحشا، مستكفيا بذاته، له قيمته الذاتية، ولكن الرجل المتمدن لا يمسي ممدنا لغيره إلا عندما يجتمع حشد من المتمدنين. فجماعة المتمدنين هي نواة المدنية. يقول فلتير: «في النهاية تتحكم الجماعة الطيبة في الجميع في كل مكان». والجماعة طيبة كانت أو سيئة - لا بد أن تتألف من أكثر من فرد واحد. وعندما توجد «الجماعة الطيبة»، أو نواة التمدين، فإنها لا تسود - إن صح أن ننعتها بالسيادة - إلا بطلاء البيئة بلون خفيف. وهذه البيئة - مدينة كانت أو دولة أو عصرا - لا يمكن أن يقال عنها إنها أصبحت رفيعة المدنية (كبيئة) إلا عندما يصطبغ جانب عظيم من جمهورها بهذه الصبغة الغالبة - وإن بقي هذا الجمهور على قدر كبير من الهمجية إذا قسناه بتلك المعايير الدقيقة التي طبقتها على الأفراد، وفي العصور المحظوظة والبقاع السعيدة نرى أن جانبا كبيرا من السكان قد أبدى ميلا إلى المناظر والأصوات الجميلة، وبدت عليه علامات تدل على تنبه إلى التطلع الذهني، كما أظهر قلقا من القيود الهمجية على الفكر والشعور التي تدفع بالغالبية عادة إلى تخوم الحيوانية، وقام بتزيين المدن كبار الفنانين الذين فضلت أعمالهم عن وعي وقصد على أعمال الفنانين المتخلفين. وإني لأؤكد عن يقين أن تمثال مس كافل لم يكن بالإمكان أن يعرض في أثينا لعهد بركليز أو فلورنسا المديشية، ولقد مرت عصور بدأ كثير من الناس فيها يحسون ببغض الكذب والجهل، بغضا ينبني على أساس عقلي وأساس جمالي في آن واحد، وفي القرن الثامن عشر سخر فلتير متجاوبا مع الرأي العام من مؤلفين كان لديهم من العقل ما ليس لمستر بلك أو سير آرثر كونان دويل، وفي ذلك العصر كان لا بد أن تكون جنازة فالنتينو نفسه أقل روعة من جنازة سير إسحق نيوتن، وكان الأثينيون يخصصون للفن أضخم اعتماد من الخزانة العامة، وكان الإيطاليون لعهد النهضة يعدون رفائيل أعظم أمجادهم الوطنية، ومن أمثال هذه الريشات يتبين المرء اتجاه الريح، ويؤكد لنا الفحص الدقيق صحة الانطباع الذي تكون لدينا من أنه كانت هناك حقا جماعات سادها وانتشر فيها تقدير عادل - وإن يكن غامضا - للقيم العليا ولما في الحياة من جميل الأشياء، بل سادتها رغبة في متابعة هذه القيم والأشياء ولو على حساب إشباع الرغبات الأكثر وضوحا وجلاء، وكان ذلك من فعل جماعة من الأفراد الضالعين في المدنية؛ هذه الجماعة بتأثيرها في الجماهير لونت عصرها عن غير قصد وبطريقة غير مباشرة في أكثر الأحيان. إن الجماعات الضالعة في المدنية من رجال وسيدات هي التي نشرت الحضارة.
2
كيف نصنع المدنية؟
بقي أمامنا سؤالان، أولهما: هل نريد المدنية؟ وثانيهما: هل نستطيع أن نظفر بها لو أردناها؟
هل نريدها؟ هناك من الأسباب - إلى جانب ما يراه ساسة الدول المتحالفة - ما يدعونا إلى الاعتقاد بأن المدنية أمر مرغوب فيه؛ فهناك الاعتقاد الراسخ في قلب كل رجل مهذب وكل امرأة مهذبة ؛ لأن كل إنسان مهذب - رجلا كان أو امرأة - يحس أن تلك العصور الذهبية - التي حاولت أن أشير إلى صفاتها - كانت ذهبية حقا. وإنا جميعا لنشعر أنها كانت مما يشرف التاريخ. ولا يمنع ذلك من وجود جماعة من الأذكياء يمتعهم أن يتغنوا بجمال الهمجية، ومن العقلاء من يدرك عيوب المدنية ومفاتن الهمجية، وإنك لتلمس بين أرقى المتمدنين ميلا - من حين إلى حين - للثورة على تهذيبهم، وكثيرا ما تجد فيهم شيئا من السذاجة والحيوانية. إن في العودة إلى الطبيعة عن طريق الفنون والحرف، وفلاحة البساتين وسوء فهم فلتير، تناقضا يقبله عادة المتمدنون الذين يحسون الحاجة إلى دواء مسكن - وليس هناك ما هو أقرب إلى الطبيعة من أن يؤلف أمثال هؤلاء جماعات تتحسر في براعة وفي نغم جميل على ملذات الجهل المفقودة ونعمة البلاهة الضائعة. ولا يدعونا البتة إلى الدهشة أن تنال هذه الجماعات العطف الشديد، أو أن يمدهم بالمال أولئك الذين لبثوا على همجيتهم لأنهم عجزوا عن أن يكونوا شيئا أفضل من ذلك - ومهما يكن من أمر فمن المرغوب فيه أن يكون هؤلاء الأذكياء، هؤلاء الذين يبشرون بالحنين إلى العصر الباليوليتك القديم ويجدون من يصغي إليهم، من المرغوب فيه أن يبلغ بهؤلاء ذكاؤهم أن يدركوا أن هناك فارقا جسيما جدا بين نظرية يذكرها صاحبها لمجرد الدعاية، وبين ما يعتقده المرء فعلا. إن كل إنسان ذكي يدرك من صميم قلبه أن حياة المتوحش هي كما وصف هوبز - وذلك برغم ما فيها من فنون النحت، ورقصات الحرب، وتبادل المودة، والأثداء السمراء، وثمر الموز. إنها حياة لا يمكن لنا احتمالها لما فيها من مخاوف غير طبيعية تحدق بالناس وتتهددهم، ولما تنطوي عليه من انعدام الاطمئنان المادي، وانعدام التنوع - قد تهتز نفوسنا لما فيها من فنون خيالية للبناء، وقد نعجب بمظهر التحمس للعقائد، ولكنا ندرك من صميم قلوبنا أن العصور المظلمة كانت حقا مظلمة. إنا نعلم أن تلك الأيام الحالمة كانت تقع علينا كالكابوس لو عشنا فيها، لما سادها من مخاوف مفزعة، وآلام لها ما يبررها وما لا يبررها، ونقص في الأفكار الجديدة، وموانع عاطفية وذهنية، وتهديد مستمر بالدمار الشامل - وبعد ذلك النموذج الطيب من الهمجية الذي لمسناه بين أغسطس من عام 1914م ونوفمبر من عام 1918م، عرفنا - نحن الذين نحن إلى العقل - أننا عدنا إلى الملذات المصطنعة التي تتيحها لنا حفلات العشاء الحديثة، حيث نستطيع أن نجلس ونثور في أمن واطمئنان ضد سكون الحياة المتمدنة الذي يخلو من دلائل البطولة، وفي أفئدتنا إحساس بالتفريج عن النفس خفي، ولكنه بعيد الغور.
Unknown page