Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
وما إن وصلت هذه الملاحظات، التي كانت قد أرسلت سرا إلى «لجنة العشرة لشئون الحرب»، حتى صارت منذ ذلك الحين محل شهرة واسعة؛ لأنها تكاد تتكرر كلمة كلمة في الفصل السابع من كتاب «الأمير». فمكيافيللي إذ يستعرض سيرة بورجا، يؤكد من جديد على شجاعة الدوق الفائقة وقدراته الاستثنائية ووضوح أهدافه (33-34). وهو أيضا يعرب ثانية عن رأيه بأن بورجا ليس أقل إبهارا عندما ينفذ مخططاته؛ فقد «استخدم كل الوسائل والإجراءات الممكنة» كي «يمد جذوره»، ونجح في إرساء «أسس متينة لسلطته في المستقبل» في زمن بالغ القصر إلى حد سيجعله، ما لم يجانبه حظه، «يتمكن من التغلب على أي صعوبة» (29، 33).
لكن رغم أن مكيافيللي أبدى إعجابه بسمات بورجا القيادية، فقد شعر بشيء من عدم الارتياح منذ بادئ الأمر فيما يتعلق بثقة الدوق المذهلة بنفسه؛ ففي أكتوبر من عام 1502 كتب من إيمولا يقول: «طوال الوقت الذي أمضيته هنا، لم يكن حكم الدوق قائما على أي شيء أكثر من حظه الجيد» (ت د 386). وبحلول بداية العام التالي، كان يتحدث في استنكار متزايد عن حقيقة أن الدوق كان لا يزال مقتنعا باعتماده على ما يتمتع به من «حسن حظ غير مسبوق» (ت د 520). وبحلول أكتوبر 1503، عندما كان مكيافيللي مبعوثا في مهمة دبلوماسية إلى روما، ونال ثانية فرصة مراقبة بورجا عن كثب، تبلورت شكوكه السابقة وصارت شعورا قويا بمحدودية ما يتمتع به الدوق من قدرات.
كان الغرض الرئيسي من رحلة مكيافيللي إلى روما أن يعد تقريرا عن أزمة طارئة كانت قد ظهرت في البلاط البابوي. كان البابا ألكسندر السادس قد توفي في شهر أغسطس، وكان خليفته بيوس الثالث قد توفي هو الآخر بعد شهر من توليه منصب البابوية، وكانت الحكومة الفلورنسية حريصة على أن تتلقى نشرات يومية عما كان من المرجح أن يحدث بعد ذلك، لا سيما بعد أن حول بورجا ولاءه ووافق على أن يدعم ترشيح الكاردينال جوليانو ديلا روفيري؛ إذ بدا أن هذا التطور يمكن أن يشكل تهديدا لمصالح فلورنسا؛ لأن دعم الدوق بورجا جرى شراؤه مقابل وعد بأنه سيعين قائدا عاما للجيوش البابوية حال انتخاب روفيري، وبدا من المؤكد أن بورجا، في حال حصوله على هذا المنصب، سيبدأ سلسلة جديدة من الحملات المعادية على حدود إقليم فلورنسا.
ولهذا تركز أولى برقيات مكيافيللي على اجتماع مجمع انتخاب البابا، الذي انتخب فيه روفيري «بأغلبية هائلة» واتخذ اسم يوليوس الثاني (ت د 599). لكن ما إن انتهى هذا الأمر، حتى تحول انتباه الجميع إلى الصراع الذي بدأ يندلع بين بورجا والبابا. وبينما كان مكيافيللي يراقب محترفي النفاق هذين وهما يتأهبان للتقاتل، أدرك أن شكوكه المبدئية في قدرات الدوق كانت في محلها تماما.
فقد أحس أن بورجا كان يفتقر إلى بعد النظر؛ لأنه لم يتمكن من رؤية المخاطر التي ينطوي عليها تحوله إلى دعم روفيري . وذكر «لجنة العشرة» بأن الكاردينال روفيري كان قد أجبر على «أن يعيش في المنفى لعشر سنوات» حينما كان ألكسندر السادس، والد الدوق بورجا، يشغل منصب البابوية. وأضاف أنه من المؤكد أن روفيري «لا يمكن أن ينسى هذا الأمر بهذه السرعة» بحيث يشعر الآن باستحسان حقيقي إزاء تحالف مع ابن عدوه (ت د 599). لكن أكثر انتقادات مكيافيللي أهمية كانت تتمثل في أنه حتى في هذه الحالة الملتبسة والمحفوفة بالمخاطر، ظل بورجا يعتمد اعتمادا متعجرفا على رصيده الدائم من حسن الحظ. في البداية ذكر مكيافيللي ببساطة، في شيء من الاندهاش الواضح، أن «الدوق ينجرف وراء ثقته الهائلة» (ت د 599). وبعد مرور أسبوعين، عندما لم تكن بعثة بورجا البابوية قد وصلت بعد، وكانت مستعمراته في رومانيا قد بدأت تتمرد على نطاق واسع، كتب مكيافيللي يقول بأسلوب يحمل مزيدا من الانتقاد، إن الدوق «فقد صوابه» بفعل «ضربات القدر اللاذعة، التي لم يعتد مذاقها» (ت د 631). وبحلول نهاية الشهر، انتهى مكيافيللي إلى أن سوء حظ بورجا قد سلبه شجاعته تماما إلى حد جعله أصبح عاجزا عن أن يحتفظ بحسمه بشأن أي قرار، وفي السادس والعشرين من نوفمبر شعر مكيافيللي أن بوسعه أن يطمئن «لجنة العشرة» بقوله: «بوسعكم من الآن فصاعدا أن تتصرفوا دون حاجة للتفكير فيه بعد الآن» (ت د 683). وبعد أسبوع تعرض لأحوال بورجا للمرة الأخيرة، بمجرد الإشارة إلى «الدوق ينزلق شيئا فشيئا نحو حتفه» (ت د 709).
وكما حدث من قبل، نالت هذه الأحكام السرية على شخصية بورجا شهرة منذ ذلك الحين، من خلال إدماجها في الفصل السابع من كتاب «الأمير»، حيث يكرر مكيافيللي أن الدوق بدعمه «انتخاب يوليوس لمنصب البابوية» قد «أساء الاختيار»؛ لأنه «لم يكن ينبغي له إطلاقا أن يدع البابوية تذهب إلى أي كاردينال نال منه أذى» (34). وكان يعاود الإشارة إلى اتهامه الأساسي للدوق، وهو اعتماده إلى حد كبير على حظه، فبدلا من أن يواجه الدوق الاحتمال القائم بأنه قد يتلقى في مرحلة ما «ضربة ماكرة من ضربات القدر»، انهار بمجرد أن حدث هذا (29). ورغم الإعجاب الذي كان مكيافيللي يكنه لبورجا، كان حكمه النهائي عليه - الوارد في كتاب «الأمير» بقدر وروده في كتاب «التمثيل الدبلوماسي» - متناقضا مع هذا الإعجاب؛ إذ يقول إن بورجا: «نال منصبه بفضل حظ والده» وخسره بمجرد أن جانبه الحظ (28).
القائد المؤثر التالي الذي أتيحت لمكيافيللي فرصة أن يقيمه عن كثب هو البابا الجديد يوليوس الثاني. كان مكيافيللي حاضرا لعدة لقاءات وقت انتخاب يوليوس، لكنه لم ينل القدر الأوفى من فهم شخصية البابا وقيادته إلا خلال بعثتين لاحقتين له كانت أولاهما عام 1506، عندما عاد مكيافيللي بين شهري أغسطس وأكتوبر إلى البلاط البابوي. كانت مهمته في تلك المرحلة أن يحيط الحكومة الفلورنسية علما بالتقدم المحرز فيما وضعه يوليوس من خطة هجومية في الأغلب لاسترداد بيروجا وبولونيا، وغيرها من الأقاليم التي كانت ملكا للكنيسة من قبل. تسنت الفرصة الثانية عام 1510، عندما جرى إرسال مكيافيللي في بعثة دبلوماسية جديدة إلى بلاط فرنسا. بحلول ذلك الوقت كان يوليوس قد عقد العزم على شن حملة صليبية كبيرة لإجلاء البربر عن إيطاليا، وهو مطمح وضع الفلورنسيين في موقف حرج؛ فهم لم تكن لديهم رغبة في تكدير الحالة المزاجية للبابا التي تزداد ولعا بالقتال، لكنهم من ناحية أخرى كانوا حلفاء تقليديين للفرنسيين، الذين سرعان ما سألوا الفلورنسيين عن ماهية المساعدة التي يمكن أن ينالوها منهم إذا قرر البابا غزو دوقية ميلانو، التي كان لويس الثاني عشر قد استعادها في العام السابق. ومن ثم، كما حدث عام 1506، وجد مكيافيللي نفسه يراقب في قلق ما تحققه حملات يوليوس من تقدم، بينما يأمل ويخطط في الوقت نفسه للمحافظة على حيادية فلورنسا.
ظهر انبهار مكيافيللي - بل ذهوله أيضا - في بادئ الأمر وهو يراقب البابا المحارب في ميدان المعركة. كان يرى في البداية أن خطة يوليوس لإعادة غزو الولايات البابوية لا بد أن تفضي إلى كارثة؛ فكتب يقول في سبتمبر من عام 1506 إنه «ما من أحد يعتقد» أن البابا «سوف يتمكن من تحقيق ما كان يريده في الأصل» (ت د 996)، لكنه اضطر إلى التراجع عما قاله بين عشية وضحاها؛ فقد دخل يوليوس قبل حلول نهاية الشهر بيروجا مجددا و«فرغ من أمرها»، وقبل أن ينقضي شهر أكتوبر وجد مكيافيللي نفسه ينهي مهمته بتصريح حاسم أفاد بأن بولونيا استسلمت، على إثر حملة خاطفة، دون قيد أو شرط، وأن «سفراءها طلبوا العفو من البابا وسلموا له مدينتهم» (ت د 995، 1035).
لكن لم يمض وقت طويل حتى بدأ مكيافيللي يبدي لهجة أكثر انتقادا، لا سيما بعد أن اتخذ يوليوس القرار الخطير بأن يطلق قواته الهزيلة في مواجهة قوة فرنسا عام 1510. في بادئ الأمر، اكتفى بالتعبير ساخرا عن أمله في أن تكون جرأة يوليوس «قائمة على أساس آخر غير قداسته» (ت د 1234)، لكنه سرعان ما بات يكتب بلهجة أكثر جدية قائلا إنه «لا أحد هنا يعرف يقينا ما الأساس الذي تستند إليه تصرفات البابا»، وأردف يقول إن سفير يوليوس نفسه يصرح بأنه «في غاية الذهول» من هذه المغامرة برمتها؛ لأنه «يشك إلى حد كبير في أن يكون البابا يملك حقا الموارد أو التنظيم» اللازم للشروع فيها (ت د 1248). لم يكن مكيافيللي على استعداد بعد لأن يدين يوليوس صراحة؛ لأنه كان لا يزال يظن أنه من المعقول، «كما حدث في الحملة ضد بولونيا»، أن تعمل «جرأة البابا وسلطته الهائلتان» على تحويل اندفاعه الجنوني إلى نصر غير متوقع (ت د 1244). لكنه في الأساس بدأ يشعر بانزعاج بالغ، وصار يكرر في رثاء واضح ملاحظة لروبيرتيه مفادها أن يوليوس على ما يبدو «قد كلفه القدير بأن يدمر العالم» (ت د 1270)، وأضاف في وقار غير معتاد أن البابا بالفعل «يبدو عازما على تدمير الديانة المسيحية وإتمام انهيار إيطاليا» (ت د 1257).
هذه الإفادة عن سيرة البابا تظهر ثانية دون تغيير تقريبا في صفحات كتاب «الأمير»؛ إذ يعترف مكيافيللي أولا أنه على الرغم من أن يوليوس «كان مندفعا في جميع أموره»، إلا أنه كان «يحقق نجاحا دائما»، حتى في أكثر مغامراته استحالة. لكنه يستطرد مجادلا بأن هذا لم يكن إلا لأن «العصر وظروفه» كانا «مواتيين للغاية لطريقته الخاصة في التصرف»؛ وذلك لأنه لم يضطر قط لأن ينال ما يستحقه من عقاب على تهوره. ورغم ما حققه البابا من نجاحات مذهلة، يشعر مكيافيللي أنه محق تماما في الموقف السلبي الذي يتخذه من أسلوب حكمه. صحيح أن يوليوس «حقق باندفاعه ما لم يكن يستطيع أي بابا آخر - يتحلى بأقصى قدر من الحصافة الإنسانية - أن يحققه»، لكن «قصر حياته» فقط هو السبب فيما لدينا من انطباع بأنه كان بالضرورة قائدا عظيما من البشر؛ «فلو كانت أتت عليه أوقات يتعين عليه فيها أن يتصرف بحذر، لتسببت في سقوطه؛ لأنه لم يكن قط لينحرف كثيرا عن الأساليب التي يميل إليها بسليقته» (91-92).
Unknown page