Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
كان رومولوس مصيبا إذ أدرك ضرورة اعتماد إجراءين أساسيين إذا أرادت المدينة تنظيم شئونها «الخارجية» على نحو مقبول؛ ففي المقام الأول، من الضروري توفير أكبر عدد ممكن من المواطنين لأغراض التوسع والدفاع أيضا، ولتحقيق ذلك يجب اتباع سياستين مرتبطتين بهذا الأمر: الأولى - نوقشت في الفصل الثالث - وهي تشجيع الهجرة؛ إذ لا شك أن من المفيد لمدينتك، لا سيما لقوتها العاملة، أن تجعل «الطرق مفتوحة وآمنة للأجانب الراغبين في المجيء للعيش فيها» (334). والاستراتيجية الثانية - نوقشت في الفصل الرابع - «أن تكتسب شركاء لك»؛ فأنت بحاجة لأن تحيط نفسك بالحلفاء، وأن تجعلهم في وضع التبعية لك، على أن تحميهم بقوانينك مقابل أن يكون بمقدورك طلب خدماتهم العسكرية إذا دعت الضرورة (336-337).
الإجراء الحاسم الآخر مرتبط بهذا التفضيل لتجميع أكبر قدر ممكن من القوى؛ فلكي تحقق أفضل استفادة من هذه القوى، ومن ثم تخدم مصالح مدينتك بأفضل درجة من الفعالية، من الضروري أن تجعل حروبك «قصيرة وكبيرة»، وهذه كانت سنة الرومان في حروبهم؛ لأنهم كانوا «حالما تعلن الحرب »، دائما ما «يقودون جيوشهم لملاقاة العدو ويخوضون معركة على الفور». وهكذا يستنتج مكيافيللي بوضوح أنه ما من سياسة يمكن أن تكون «أكثر أمنا أو أقوى أو أفضل مردودا» من هذه؛ لأنها تمكنك من أن تتصالح مع خصومك من موقع قوة، وبأقل قدر من التكلفة أيضا (342).
وبعد أن يوجز مكيافيللي هذه «القوانين» العسكرية، فإنه يتجه للنظر في سلسلة من دروس أكثر تحديدا عن سير الحرب، يعتقد أن من الممكن استخلاصها من دراسة إنجاز روما. هذا الموضوع، الوارد في الفصل العاشر، يشغل بقية «المطارحة» الثانية، ثم يتعرض له أيضا - بأسلوب أكثر تأنقا لكنه مشابه في جوهره - في الأجزاء الوسطى من أطروحته التالية «فن الحرب».
ربما يدلل على تشاؤم مكيافيللي المتنامي حيال فرص إحياء «القوة» العسكرية القديمة في العالم المعاصر، أن كل استنتاجاته في هذه الفصول مقدمة بصيغة سلبية، فهو بدلا من أن ينظر في ماهية السبل التي تشجع «القوة» وتعزز العظمة، يركز كليا على التكتيكات والاستراتيجيات التي تتضمن أخطاء، ومن ثم تجلب «الموت والخراب» لا النصر (377-378)، وهذا أنتج قائمة طويلة من العبر والمحاذير، منها أنه من الحمق أن نوافق على المبدأ الشائع الذي يرى أن «الثروات هي عصب الحرب» (348-349). كذلك من الضرر اتخاذ «قرارات مترددة» أو «بطيئة ومتأخرة» (361)، ومن الخطأ تماما أن نفترض أن «أسلحة المدفعية هي التي ستتحكم في مسار الحرب مع تطور الزمن» (367، 371)، ومن غير المجدي استخدام جنود مساعدين أو مرتزقة، وهي حجة يذكرنا مكيافيللي بأنه سبق أن عرضها «تفصيليا في عمل آخر» (381). ومن غير المجدي في وقت الحرب، والمضر ضررا بالغا في وقت السلم، الاعتماد على الحصون باعتبارها نظاما رئيسيا للدفاع (394). ومن الخطورة أن تجعل من المستحيل على المواطن أن ينال «انتقاما شافيا» إذا شعر بالإهانة أو لحق به أذى (405)، وأسوأ الأخطاء على الإطلاق في حال تعرضك لهجوم من قوات متفوقة عليك «أن ترفض أي اتفاق»، وتحاول بدلا من ذلك أن تلحق بها الهزيمة رغم أن الظروف غير مواتية (403).
والسبب الذي يقدمه مكيافيللي لإدانة هذه الممارسات يتكرر في كل الحالات؛ إذ تشترك جميعها في العجز عن إدراك أن تحقيق المجد المدني مرهون بأهم صفة يجب أن يغرسها المرء في جيوشه - وتتحسب لها جيوش أعدائه - وهي صفة «القوة»؛ أي استعداد المرء لتنحية جميع اعتبارات السلامة الشخصية والمصلحة في سبيل الدفاع عن حريات وطنه.
ويعتقد مكيافيللي أن الخطر الذي قد تنطوي عليه بعض السياسات التي يسردها يتمثل في إثارة «قوة» استثنائية ضد من يمارسون هذه السياسات. وهذا، على سبيل المثال، هو السبب في أنه من الخطأ الاعتماد على الحصون؛ فالأمن الذي توفره لك يدفعك لأن تكون «أسرع في قمع رعيتك وأقل ترددا حيال ذلك»، لكن هذا بدوره «يثير حنقهم على نحو لا يصبح معه حصنك، الذي هو سبب ذلك الحنق، قادرا على حمايتك» من كراهيتهم وغضبهم منك (393). ونفس الأمر ينطبق على معارضة أن يثأر من لحق بهم ضرر لأنفسهم؛ لأن المواطن إذا شعر بأنه أهين إهانة بالغة، فإنه قد يستمد «قوة» كبرى من هذا الشعور بالإساءة إلى حد أنه قد يلحق بمهينه أذى في تهور على سبيل الثأر، كما حدث في حالة بافسانياس، الذي اغتال فيليب ملك مقدونيا لأنه كان قد حرمه من أن يثأر لإهانة تعرض لها (405-406).
والخطر الذي تنطوي عليه حالات أخرى هو أن مصيرك قد يكون في أيدي أشخاص ليس لديهم أي قدر من الاهتمام بالصالح العام، وهذا هو ما يحدث إذا سمحت بأن تتخذ القرارات السياسية بوتيرة بطيئة أو على نحو متردد؛ لأن من الأسلم عموما أن تفترض أن من يرغبون في الحيلولة دون التوصل إلى قرار «مدفوعون بشعور أناني»، ويحاولون في حقيقة الأمر «إسقاط الحكم» (361). وينطبق الأمر نفسه على استخدام قوات مساعدة أو مرتزقة، فنظرا لأن هذه القوات دائما ما تكون فاسدة تماما، فهي «عادة ما تنهب من استأجرها بقدر ما تنهب من استؤجرت للحرب ضدهم» (382).
الأخطر من ذلك كله هو عدم إدراك أن صفة «القوة» أهم من أي شيء آخر في الشئون العسكرية والشئون المدنية على حد سواء؛ ولذلك من المدمر جدا أن تزن أعداءك بثرواتهم، بل ما يجب عليك أن تزنه هو «قوتهم»؛ لأن «الحرب عتادها الحديد لا الذهب» (350). من الخطر أيضا الاعتماد الكلي على المدفعية لكسب المعارك. صحيح أن مكيافيللي يقر بأن الرومان «كانوا ليحققوا انتصاراتهم بوتيرة أسرع لو توفرت في زمانهم مدافع وأسلحة نارية» (370)، لكنه يصر على الاعتقاد بأنه من الخطأ البالغ الافتراض بأن «الرجال لا يستطيعون استخدام «قوتهم» أو إظهارها كما كانوا يفعلون في العصور القديمة بسبب ظهور هذه الأسلحة النارية» (367). وبناء على ذلك، يتوصل مكيافيللي إلى استنتاج متفائل بعض الشيء مفاده أن «المدفعية مفيدة لأي جيش إذا صاحبتها «قوة» القدماء»، لكنها تكون «عديمة الجدوى تماما أمام أي جيش «قوي»» (372). وأخيرا، تفسر هذه الاعتبارات نفسها السبب في أنه من بالغ الخطورة رفض المفاوضات في حال مواجهة قوات متفوقة؛ فمن غير الواقعي أن تطلب هذا حتى من أكثر الجيوش «قوة»، وكأنك تحاول أن «تبدل النتيجة» - كي «تنال رضاء «الحظ»» - بطريقة «لا يخاطر بأن يستخدمها أي رجل حكيم إلا إذا اضطر لذلك» (403).
كما حدث في «المطارحتين» الأخريين لمكيافيللي، نجد أن بحثه في التاريخ الروماني يدفعه لأن ينهي حديثه بمقارنة بائسة بين الفساد التام الذي عانته مدينته، و«القوة» المثالية التي اتسم بها العالم القديم. فقد كان من السهل على الفلورنسيين أن «يدركوا الوسائل التي استخدمها الرومان» في شئونهم العسكرية، و«كان من الممكن أن يحذوا حذوهم» (380)، لكنهم في الواقع لم يستفيدوا بأي قدر من الأساليب الرومانية، ونتيجة لذلك وقعوا في كل ما يمكن تصوره من مآزق (339). فقد كان الرومان يدركون تماما ما كان ينطوي عليه التصرف على نحو متردد من مخاطر، لكن قادة فلورنسا لم يستوعبوا هذا الدرس الواضح من دروس التاريخ، وهذا جعلهم يجلبون «الخراب والعار على جمهوريتنا» (361). وكان الرومان دائما يدركون عدم جدوى القوات المرتزقة والمساعدة. لكن الفلورنسيين، شأنهم شأن العديد من الجمهوريات والإمارات الأخرى، لا يزالون يعانون إذلالا لا داعي له جراء اعتمادهم على هذه القوى الفاسدة والجبانة (383). وكان الرومان يرون، فيما يتعلق بمراقبة مواطنيهم، أن سياسة «تشييد الحصون لتكون بمنزلة لجام يضمن ولاءهم» لن تولد إلا السخط وانعدام الأمن. لكن، على النقيض من ذلك، «المثل الدارج في فلورنسا على لسان حكمائنا، أن بيزا ومثيلاتها من المدن يجب أن تؤمن بالحصون» (392). وأخيرا يأتي مكيافيللي بمنتهى الحسرة على ذكر المناورة التي كان قد وصمها بأنها تفتقر لأي قدر من التعقل على الإطلاق، والتي تتمثل في رفض التفاوض عند مواجهة قوات متفوقة في قوتها الحربية؛ فجميع الشواهد المستمدة من التاريخ القديم تشير إلى أن هذه هي أكثر الطرق تهورا لنيل رضا «الحظ»، لكن هذا هو تحديدا ما فعله الفلورنسيون عند اجتياح جيوش فرديناند في صيف عام 1512؛ فبمجرد أن عبر الإسبان الحدود، وجدوا أنهم يعانون نقصا في المؤن الغذائية، وحاولوا أن يعقدوا هدنة، لكن «شعب فلورنسا، الذي أصابه ذلك بالغرور، لم يقبل بالهدنة» (403)، فكانت النتيجة المباشرة طرد براتو واستسلام فلورنسا، وسقوط الجمهورية وعودة طغيان مديتشي، وهي عواقب كان من الممكن تلافيها كلها. وهكذا يجد مكيافيللي نفسه مدفوعا - كما حدث من قبل - لأن ينهي حديثه بتعليق يكلله الغضب اليائس من حماقات النظام الذي كان هو نفسه يخدمه.
الفصل الرابع
Unknown page