Machiavelli Muqaddima Qasira
مكيافيللي: مقدمة قصيرة جدا
Genres
المصدر الرئيسي الآخر للشقاق والانقسام هو التأثير الخبيث الذي يمارسه أصحاب الثروة الشخصية الهائلة؛ فالأغنياء دائما في وضع يمكنهم من تقديم خدمات لغيرهم من المواطنين، كأن «يقرضوهم المال، ويسهموا في زواج بناتهم، ويحموهم من رجال القضاء»، ويقدموا لهم بوجه عام خدمات متنوعة. هذا النوع من الرعاية مفسد لأقصى حد؛ لأنه يميل إلى «جعل الرجال أنصارا لأولياء نعمتهم» على حساب الصالح العام، وهذا بدوره يعمل على «منح الرجل الذي يتبعونه شجاعة الاعتقاد بأنه يستطيع إفساد العامة وخرق القوانين» (493). من هنا يصر مكيافيللي على أن «الفساد وضعف الاستعداد للعيش بحرية ينبعان من انعدام المساواة في أي مدينة»، ومن هنا يأتي تحذيره الذي يتكرر مرارا من أن «طموح الأغنياء، الذي لا تكبح المدينة جماحه بمختلف الوسائل والطرق، هو الذي ينزل بها الخراب سريعا» (240، 274).
والسبيل الوحيد للخروج من هذا المأزق هو أن تحرص «الجمهوريات المنظمة تنظيما جيدا» على أن «تبقي خزائنها عامرة بالأموال، ومواطنيها فقراء» (272). ومكيافيللي غامض إلى حد ما فيما يتعلق بنوع «القوانين» اللازمة لتحقيق ذلك، لكنه واضح ومباشر فيما يتعلق بالمكاسب المرجوة من هذه السياسة؛ فهو يذهب إلى أننا إذا استخدمنا القانون في «إبقاء المواطنين فقراء»، فإن هذا سيفلح في منعهم - حتى إذا كانوا «عديمي الخير والحكمة» - من أن يتمكنوا من «إفساد أنفسهم أو غيرهم بالأموال» (469). وإذا تأتى في الوقت نفسه أن تظل خزائن المدينة عامرة، فستكون الحكومة قادرة على المزايدة على الأغنياء في أي «مخطط لكسب تأييد الشعب»؛ لأنه سيكون بمقدورها تقديم دعم للخدمات العامة أكثر من الخدمات الخاصة (300). وبناء على ذلك يخلص مكيافيللي إلى أن «أهم الأشياء المجدية التي يمكن أن يفعلها مجتمع حر هو أن يبقي أفراده فقراء» (486). ويختتم نقاشه بملحوظة قوية في تأثيرها حين يضيف أنه «كان سيسهب في بيان أن الفقر يؤتي ثمارا أفضل بكثير من الثراء»، لو لم تكن «كتابات من كتبوا غيري قد أوضحت هذا الأمر جليا» (488).
بوصولنا إلى هذه النقطة في تحليل مكيافيللي، يسهل علينا أن ندرك - كما في «مطارحته» الثالثة - أن ثمة انشغالا دائما ينطوي عليه نقاشه العام بما حكمت به المقادير على مدينة فلورنسا مسقط رأسه؛ فهو في أول الأمر يذكرنا بأن أي مدينة إذا أرادت الحفاظ على حريتها، فمن الضروري أن يتضمن دستورها نصا معينا لمواجهة شيوع رذيلة الافتراء على المواطنين البارزين والتشكيك في مصداقيتهم، ثم يشير إلى أن هذا الأمر «كان دائما ما يساء تدبيره في مدينتنا فلورنسا»، فأي شخص «يقرأ تاريخ هذه المدينة سيرى كيف كان العديد من الافتراءات دائما ما ينشر ضد المواطنين الذين يتولون شئونها المهمة»؛ وهذا أسفر عن «مشكلات لا تعد ولا تحصى»، ساعدت كلها على تقويض الحريات في المدينة، وكان من السهل تلافيها كلها لو جرى فقط في وقت ما وضع «نظام لإمكانية رفع دعوى ضد من يروجون شائعات تشوه السمعة، ومعاقبتهم إن تبين كذب افتراءاتهم» (216).
خطت فلورنسا خطوة أخرى نحو العبودية عندما لم تمنع كوزيمو دي مديتشي من تأسيس حزب كرس جهوده لإعلاء المصالح الخاصة لعائلته. كان مكيافيللي قد بين الاستراتيجية التي ينبغي لأي مدينة أن تتبناها إذا حاول مواطن ذو شأن أن يفسد الناس بثروته، إذ يقول: من الضروري أن تنافسه بأن تجعل خدمة الصالح العام أكثر نفعا للمواطن العادي. لكن ما حدث أن منافسي كوزيمو اختاروا أن يجبروه على الخروج من فلورنسا، مما أثار قدرا كبيرا من الاستياء وسط أتباعه لدرجة أنهم في نهاية المطاف «دعوه للعودة وجعلوه أميرا للجمهورية، وهذه منزلة لم يكن ليبلغها لولا تلك المعارضة الصريحة» (266، 300).
ثم حانت فرصة فلورنسا الأخيرة لضمان حرياتها عام 1494، عندما أجبر حكام عائلة مديتشي مجددا على الخروج إلى المنفى واستعيدت الجمهورية كاملة. لكن عند هذه المرحلة، ارتكب قادة المدينة الجدد، بقيادة بييرو سوديريني، أشد الأخطاء جسامة على الإطلاق بعدم تبني سياسة، وصفها مكيافيللي بأنها ضرورية ضرورة مطلقة عند حدوث تغير كهذا في النظام الحاكم؛ فكل من «قرأ التاريخ القديم» يعرف أنه بمجرد تحول نظام «من الاستبداد إلى الجمهورية»، يكون من الضروري قتل «أبناء بروتوس» (424-425)، لكن سوديريني «اعتقد أنه بالصبر والإحسان يستطيع التغلب على لهفة أبناء بروتوس على العودة في ظل حكم آخر»؛ لأنه اعتقد أنه «يستطيع أن يقضي على الفصائل الشريرة» من دون إراقة دماء، «وأن يستأصل عداء بعض الأشخاص» بالعطايا والمكافآت (425). كانت نتيجة هذه السذاجة الصادمة أن أبناء بروتوس - أي أنصار عائلة مديتشي - ظلوا على قيد الحياة إلى أن دمروه واستعادوا استبداد مديتشي بعد هزيمة عام 1512.
لم يطبق سوديريني المبدأ المحوري لفن الحكم المكيافيللي؛ فقد تردد في ارتكاب الشر الذي كان من شأنه أن يتمخض عن خير، ومن ثم رفض سحق خصومه؛ لأنه كان يدرك أنه قد يحتاج إلى الاستحواذ على سلطات غير شرعية كي يفعل ذلك. لكن ما لم يدركه أن من الحماقة أن يرضخ لمثل هذا التردد عندما تكون حريات المدينة في خطر حقيقي. كان ينبغي له أن يدرك أن «أعماله ونواياه لن يحكم عليها إلا وفقا لنتائجها»، وأن يدرك أنه «ما دام يملك «الحظ» والحياة معه، فهو يستطيع إقناع الجميع بأن ما فعله كان في سبيل الحفاظ على مدينته وليس لخدمة طموحه الشخصي» (425). لكن ما حدث أن عواقب «عدم تمتعه بالحكمة التي تجعله يكون مثل بروتوس»، كانت كارثية إلى أقصى حد، فهو لم يخسر «منصبه وسمعته» فحسب، بل خسر أيضا مدينته وحرياتها، وسلم مواطني مدينته «ليصبحوا عبيدا» (425، 461). ينتهي نقاش مكيافيللي، كما حدث في «المطارحة» الثالثة له، إلى تنديد عنيف بالزعيم وبالحكومة التي كان هو نفسه يعمل فيها.
السعي نحو الإمبراطورية
يكشف مكيافيللي في بداية «المطارحة» الثانية له عن أن نقاشه لموضوع «القوانين» لم يكتمل سوى نصفه فقط؛ فهو حتى ذلك الحين، ذهب إلى أن أي مدينة إذا أرادت تحقيق العظمة، فعليها أن تؤسس القوانين والتشريعات المناسبة كي تضمن أن مواطنيها يتصرفون بأكبر قدر من «القوة» في تسيير شئونهم «الداخلية». ثم أشار الآن إلى أن ما لا يقل عن ذلك أهمية هو وضع مجموعة أخرى من «القوانين» تهدف لتشجيع المواطنين على التصرف بقدر مماثل من «القوة» في شئونهم «الخارجية»، قاصدا بذلك العلاقات العسكرية والدبلوماسية مع الممالك والجمهوريات الأخرى (339). وتفسير هذه الحجة الأخيرة هو شغله الشاغل على مدى الجزء الأوسط من كتابه.
تنشأ الحاجة إلى هذه القوانين والتشريعات الإضافية من حقيقة أن جميع الجمهوريات والإمارات توجد في حالة من المنافسة العدائية بعضها مع بعض؛ فالبشر «لا يقنعون أبدا بالعيش على مواردهم الخاصة»، بل دائما ما «يميلون إلى محاولة حكم غيرهم» (194)، وهذا يجعل من «المستحيل على أي جمهورية أن تنجح في الثبات على حالها والتمتع بحرياتها» (379)، وأي مدينة تحاول سلوك هذا المسار المسالم تسقط سريعا ضحية للتغير المستمر في الحياة السياسية، التي دائما ما تكون حظوظ الجميع فيها عرضة لأن «تزدهر أو تنعدم» دون أن يتمكنوا أبدا من البقاء «ثابتين على حالهم» (210). والحل الوحيد لذلك هو اعتبار الهجوم خير وسيلة للدفاع، وتبني سياسة توسعية من أجل ضمان قدرة أي مدينة على «أن تدافع عن نفسها ضد من يغيرون عليها، وأن تسحق كل من يعترض سبيلها إلى العظمة» (194). وهكذا فإن السعي إلى الهيمنة في الخارج يعتبر شرطا لازما لتحقق الحرية على أرض الوطن.
يتحول مكيافيللي، كما فعل من قبل، لتأييد هذه المزاعم العامة بأحداث من تاريخ روما المبكر، فيذكر في الفصل الافتتاحي أنه «ما من جمهورية أخرى سوى روما» امتلكت هذا الكم الهائل من «القوانين» الداعمة للتوسع والغزو (324). كانت روما تدين بالفضل في هذه القوانين إلى رومولوس، أول مشرعيها، الذي تصرف بقدر كبير من بعد النظر جعل المدينة تتمكن منذ بداية أمرها من ممارسة «قدر استثنائي وهائل من «القوة»» في تسيير شئونها العسكرية (332)، وهذا بدوره مكنها، بما تتمتع به من حسن «حظ» استثنائي، من أن تتبوأ في نهاية الأمر - من خلال سلسلة من الانتصارات الباهرة - مكانتها من «العظمة الفائقة» و«القوة الهائلة» (337، 341).
Unknown page