فهو يكره الحياة كما ترى، ويود لو أننا لم ندفع إليها. والغريب أنه يعلل هذا بنفس التعليل، أو قل يصور هذا نفس التصوير الذي ذهب إليه لوكريس من استبشار الناس حين يتلقون المولود، وابتئاسهم حين يشيعون الموتى. فأبو العلاء أبيقوري في تشاؤمه هذا؛ ثم هو يذهب مذهب أبيقور ولوكريس فيثبت للعناصر التي ائتلفت منها أجسامنا طهرا ونقاء في حالها الأولى، ويثبت لها دنسا وكدرا طرأ عليها بعد أن تألفت منها الأجسام.
وامض بعد ذلك في القراءة حتى تبلغ إلى حيث ينبئنا أبو العلاء بتكتمه وتحفظه، واحتياطه في إعلان ما يضطرب في نفسه من الخواطر، وما يثور فيها من العواطف، وما يعرض لها من الآراء، وذلك حيث يقول:
ألم ترني حميت بنات صدري
فما زوجتهن وقد عنسنه؟
ولا أبرزتهن إلى أنيس
إذا نور الوحوش به أنسنه؟
ففي نفس أبي العلاء إذن أسرار مكتومة قد طال ضنه بها، وكتمانه لها. فما عسى أن تكون هذه الأسرار؟ ما أظن إلا أنها هذه المذاهب التي ينثرها أبو العلاء في اللزوميات، مصرحا مرة، وملمحا مرة، ومحتاطا دائما. وهو على كل حال يصطنع فيها التقية، فقل: إنه يذهب في هذا مذهب الشيعة، أو قل إنه يذهب في ذلك مذاهب كثير من الفلاسفة القدماء الذين كانوا يرون من العلم ما يباح للناس جميعا، ويرون منه ما لا يجوز الإفضاء به إلا إلى الأكفاء القادرين على تلقيه وتحمله.
وانظر بعد ذلك إلى تصريح أبي العلاء باصطناعه لمذهب أبيقور، وتصويره لهذا الزهد الذي اضطر إليه لا راغبا فيه، بل مكرها عليه إكراها، وذلك قوله:
وقال الفارسون: حليف زهد
وأخطأت الظنون بما فرسنه
Unknown page