الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Unknown page
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
Unknown page
مع أبي العلاء في سجنه
مع أبي العلاء في سجنه
تأليف
طه حسين
إلى الذين لا يعملون، ويؤذي نفوسهم أن يعمل الناس، أهدي هذا الكتاب.
طه حسين
الفصل الأول
لن يكون هذا إلا نحوا من حديث النفس تعرض فيه - كما تريد - ذكرياتي، والآراء المختلفة التي كونتها لنفسي في شخص ممتاز شاذ، فنان عظيم، قاس، قوي الإرادة قبل كل شيء، له ذكاء نادر يقظ دقيق قلق، يخفي من وراء الآراء المطلقة، والأحكام الصارمة - لا أدري أي شك في نفسه، وأي يأس من إرضائها! - شعورا شديد المرارة، عظيم الشرف، كان يثيره في نفسه علمه الدقيق بأساتذة الفن، وتهالكه على ما كان يزعم لهم من أسرار النبوغ، وما كان يحضر ذهنه دائما من ألوان تفوقهم المتناقضة. لم يكن يرى في الفن إلا نوعا من مسائل الرياضة أدق وألطف من الرياضة المألوفة، لم يستطع أحد أن يردها إلى الوضوح، ولا يستطيع إلا قليل جدا من الناس أن يفترضوا وجودها. كان كثيرا ما يتحدث عن الفن العالم، وكان يقول: إن صورة من الصور نتيجة لطائفة من أعمال العقل.
ومع ذلك فإن أصحاب السذاجة يرون أن الأثر الفني إنما هو نتيجة لما يكون من لقاء بين ذكاء بارع، وموضوع من الموضوعات. إن فنانا متعمقا على هذا النحو، بل أشد تعمقا في أكبر الظن مما ينبغي، يؤجل الابتهاج بالفوز، ويخلق لنفسه المصاعب، ويشفق من سلوك أقصر الطرق.
كان ديجاس يرفض السهولة، كما كان يرفض كل ما لم يكن يقصر عليه تفكيره، لم يكن يتمنى إلا أن يرضى عن نفسه، أي أن يرضي أصعب القضاة وأصلبهم، وأبعدهم عن التحيز. لم يحتقر أحدا قط كما احتقر الشهرة والمنافع والثروة، وهذا المجد الذي يستطيع الكاتب أن يسبغه على الفنان في سخاء وخفة. وكان يسخر في عنف من هؤلاء الذين يحكمون في فنهم الرأي العام، أو السلطان المقرر، أو المنافع التجارية؛ كما أن المؤمن حقا لا يحفل إلا بحكم ربه الذي لا يمكن الاستخفاء منه، والاحتيال عليه بالتلفيق أو المفاجأة أو التصنع، أو أي مظهر مهما يكن. كذلك أقام ثابتا مستقرا لا يخضع إلا للفكرة المطلقة التي كونها لنفسه في فنه. لم يكن يريد شيئا إلا ما كان يجد أصعب المشقة وأثقل الجهد في استخلاصه من نفسه.
Unknown page
ولعلي أعود إلى هذا كله ... على أني لا أدري ما عسى أن أقول بعد حين؛ فقد يمكن أن أستطرد من حديث ديجاس إلى حديث الرقص، وإلى حديث الرسم، فلست أريد أن أترجم له على النحو المألوف، فلست حسن الرأي في التراجم، وهذا لا يدل إلا على أني لم أخلق لها. فليست حياة رجل من الناس آخر الآمر إلا مصادفات يتبع بعضها بعضا، وإلا أجوبة دقيقة أو غير دقيقة لهذه الأحداث أو تلك.
على أن ما يعنيني من حياة رجل من الناس شيء آخر غير هذه الأعراض التي تطرأ له، وليس ينفعني مولده ولا حبه ولا شقاؤه، ولا كل هذه الأشياء التي يمكن أن تلاحظ في حياة الناس؛ لأني لا أجد في هذا كله أيسر الوضوح المقنع الذي تستبين به قيمته الصحيحة، والذي يميزه تمييزا عميقا من الناس جميعا ومني.
ولست أزعم أني لا أميل في كثير من الأحيان إلى هذه التفصيلات التي لا تعلمنا شيئا ذا خطر، ولكن أقول: إن ما يمتعني لا يهمني دائما، وهذه حال الناس جميعا. فلنحذر مما يمتع ويسلي. «بول فاليري في أول كتابه ديجاس ورقص ورسم.»
على نحو من هذا القول كنت أريد أن أبدأ هذا الحديث الذي أستأنفه عن لزوميات أبي العلاء في آخر ساعة من ساعات النهار، وأول ساعة من ساعات الليل، وفي يوم من أيام الصيف الفرنسي على كل حال.
وكانت معان تشبه هذه المعاني تضطرب في نفسي، وتلح في أن تجري على لساني، وأن يثبتها قلم صاحبي في الصحف. ولكني كنت أمانعها أشد الممانعة، وآبى عليها أشد الإباء، وأرفض أعنف الرفض أن أطلب إلى صاحبي إعداد القرطاس والقلم، وأن يستعد للكتابة على حين أستعد أنا للإملاء.
وكنت أوثر على ذلك المضي في قراءة اللزوميات هذه التي أخذت في قراءتها منذ أيام. ولكن هذه الخواطر كانت أقوى مني وأشد بأسا. فقد جعلت تدور في رأسي، وتحاول أن تحرك لساني، وأن تطلق صوتي، حتى ألهتني عما كان صاحبي يقرأ لي من شعر أبي العلاء. فطلبت إليه أن يكف عن القراءة. وصبرت لهذه الخواطر ريثما أحرقت سيجارة أو سيجارتين لا أدري، أريد أن أصرفها عن نفسي. فلما رأيتها لا تريد أن تنصرف بالحسنى أردت أن أصرفها بالعنف.
وكان صاحبي قد أهدى إلي هذا الكتاب من كتب بول فاليري منذ أسابيع، فطلبت إليه أن يأخذ في قراءته لي، مستيقنا بأن حديث هذا الكاتب الفرنسي العظيم عن هذا المصور الفرنسي العظيم، وعما أراد أن يستطرد إليه من الرقص والرسم، سيشغلني عن أبي العلاء ولزومياته، فضلا عن الحديث في أبي العلاء ولزومياته. ولكن أعجب للمصادفات، وأعجب لقول فاليري نفسه: إن حياة رجل من الناس ليست إلا سلسلة من المصادفات. وأعجب لقول أبي العلاء نفسه في أول اللزوميات: إنه إنما قال ما قال بقضاء لا يشعر كيف هو.
فلم أكد أسمع لمقدمة بول فاليري حتى رأيت خواطري مصورة، ومعاني ممثلة، وحتى خيل إلي أن هذه المعاني والخواطر قد قامت أمامي ضاحكة مني، هازئة بي، تقول: لقد حاولت أن تكظمنا وتكتمنا فلم تفلح ولم توفق، وحاولت أن تفر منا إلى هذا الكتاب فإذا نحن نطالعك، وإذا أنت تطالعنا في أوله فأذعن للقضاء، وخذ في الإملاء.
هنالك لم أر بدا من أن أترجم هذه الصفحة من صفحات بول فاليري، ومن أن أستعيرها بدءا لهذا الحديث. والغريب الذي لم أكن أتوقعه ولا أفترضه أن كثيرا من صفات هذا المصور الفرنسي، الذي كنت أسمع اسمه، وأجهل من أمره كل شيء، تشبه ما ألفت وأحببت من صفات أبي العلاء. فشدة الرجل على نفسه إلى أقصى غايات الشدة، وشك الرجل في مقدرته إلى أبعد آماد الشك، وارتياب الرجل بأحكام الناس في أمور الفن، وزهد الرجل في الشهرة وبعد الصيت، وفي الثراء وسعة ذات اليد، وانصرافه عن الحمد الكاذب، والثناء الرخيص، وتأجيله لذة الظفر بالفوز، وخلقه المصاعب لنفسه، وبغضه للطرق القصار والأبواب الواسعة، وإيثاره الطرق الطوال والأبواب الضيقة. كل هذه الخصال التي يحدثنا بها بول فاليري عن صديقه وأثيره ديجاس؛ قد حدثتنا بها القرون والأجيال عن أبي العلاء، إلا أن الأول كان مصورا رساما، والآخر كان شاعرا حكيما.
وما قضيت العجب، وما أظنني سأقضيه من توافق هذه المصادفات، وتوارد هذه الخواطر! ولولا أني قد شهدت ذلك بنفسي وخضعت له، وتأثرت به لما صدقته، ولا اطمأنت نفسي إليه. وإني لأعذر قارئا إن شك في صدق هذا الحديث، وظن - فيما بينه وبين نفسه، أو فيما بينه وبين الناس - أني قد قدرت له ذلك تقديرا، وموهته عليه تمويها.
Unknown page
وما دمت أملي على كره مني، وعلى غير علم بما سأقول بعد حين وما سأدع، فلا أقل من أن أستقصي أمر هذه المصادفة ما وسعني استقصاؤه. فلم اصطحبت اللزوميات إلى فرنسا هذا العام؟ ولم أهملتها شهرا لا أنظر فيها، ولا أسمع لها، ثم أقبلت عليها لا أنصرف عنها، ولا أعدل بها شعرا ولا نثرا؟
أما اصطحابي اللزوميات فمصدره يسير جدا، فقد ظهر في هذا العام جزء من كتاب الفصول والغايات لأبي العلاء، وقرئت علي منه صحف، فخيل إلي أن من الجائز أن يكون بين هذا الكتاب وبين اللزوميات سبب قوي أو ضعيف في الألفاظ أو في المعاني. وكان صديقي الأستاذ ماسينيون قد افترض منذ ثلاثة أعوام أن بين أبي العلاء وبين الإسماعيلية صلة في المذهب واشتراكا في الرأي، وكنت قد أكبرت ذلك وأنكرته، واشتد فيه الحوار بين الأستاذ الصديق وبيني، فوعدته أن أعود إلى قراءة اللزوميات من أولها إلى آخرها؛ لأعلم علم هذا الأمر، ولا مطمع بالطبع في قراءة دقيقة متصلة لديوان ضخم كاللزوميات ، ومجلد ضخم كهذا الجزء الذي ظهر من الفصول والغايات أثناء العام الجامعي. فقلت لصاحبي حين أزمعت الرحلة: احمل لنا هذين الكتابين؛ فلعل الله أن يتيح لنا من الوقت بعض ما يحتاج تحقيق ما نريد تحقيقه.
وليس هذا كل شيء، فلم أكد أبلغ مدينة نابولي، وأنفق فيها يوما وبعض يوم حتى خرجت للتروض مع أسرتي على سواحل هذه المدينة، وبينما كانت زوجتي وابناي وصاحبي ينظرون إلى البحر والسماء، وإلى الجزر والربى، وإلى هذه المناظر الكثيرة المختلفة التي كانت تحدث لهم متعة، وتطلق ألسنتهم بالإعجاب، وتبهر نفوسهم وتسحر قلوبهم، كنت أحس هذه الطبيعة التي لم أكن أراها ولا أتصورها، ولا أعرف لها كنها تدنو مني قليلا قليلا، ثم تنفذ إلى نفسي، ثم تملأ قلبي رضا وأملا، وحبا للحياة. وبينما كانوا يتحدثون عما كانوا يرون، ويتواصفون ما كانوا يشهدون، كنت أنا أدير في نفسي حوارا بيني وبين أبي العلاء، موضوعه: الرضا عن الحياة، والسخط عليها، والابتسام لها، والضيق بها، وكنت أحدث أبا العلاء بأن تشاؤمه لا مصدر له في حقيقة الأمر إلا العجز عن ذوق الحياة، والقصور عن الشعور بما يمكن أن يكون فيها من جمال وبهجة، ومن نعيم ولذة. وكان أبو العلاء يقول لي: فإنك ترضى عما لا تعرف، وتعجب بما لا ترى. وكنت أقول له: إن لم أعرف كل شيء فقد عرفت بعض الأشياء، وإن لم أر الطبيعة فقد أحسستها. وكان أبو العلاء يقول لي: تبين إن استطعت حقيقة ما تعرف، فسترى معرفتك مشوهة، ولائم إن استطعت بين ما تحس من الطبيعة، وما يرى الناس منها، فلن تجد إلى هذه الملائمة سبيلا، واذكر ما أمليته على صاحبك منذ سبعة أعوام في ذلك الدفتر الصغير الذي أهملته إهمالا، وأبيت أن تسر إليه بذات نفسك. اذكر ما أمليته على صاحبك من أنك تعلم حق العلم أن لو ظهر المبصرون على ما تحصل نفسك من حقائق الأشياء ومظاهر الطبيعة لضحك منك الضاحكون، وأشفق عليك المشفقون، فما ابتهاجك بصور لا تصور شيئا، وما رضاك عن خيالات ليس بينها وبين مظاهر الأشياء - فضلا عن حقائقها - سبب قريب أو بعيد؟ وكنت أسأل أبا العلاء: أيهما خير: أن تلم بنا أسباب النعمة قوية أو ضعيفة، صحيحة أو كاذبة، فنتشبث بها، ونشد بها أيدينا وأنفسنا، ونأخذ ما تحمل إلينا من ألوان الراحة وضروب الأنس، أم أن تعرض لنا فنعرض عنها، وتقبل علينا فنمتنع عليها، ولا نحصل من الحياة إلا ما حصلت من خيبة الأمل، وكذب الرجاء، وظلمة اليأس، وحرقة القنوط؟ وكان أبو العلاء يجيبني ببيته المشهور:
ولم أعرض عن اللذات إلا
لأن خيارها عني خنسنه
وكنت أتهمه بالإسراف على نفسه وعلى الحياة، وأصمه بالكبرياء والغلو فيها، وأدعوه إلى شيء من التواضع والاعتدال في الرأي والسيرة جميعا. وأزعم له أنه يصور لنفسه أمر الحياة على غير وجهه، ويظن بلذات الحياة أكثر وأكبر مما ينبغي أن يظن بها، وأن المبصرين الذين يرون ما لا نرى، ويشهدون ما لا نشهد، ويستمتعون من جمال الدنيا بما لا نستمتع به، إنما يأخذون من أسباب هذا كله بأوهنها وأضعفها، وأنهم لو حققوا ما يرون - وأنى لهم ذلك؟ - لما وجدوا بين ما يرتسم في نفوسهم من الصور وبين الحقائق الواقعة إلا أيسر الأسباب، وأبعدها من المتانة والقوة، وعن الصدق والمطابقة. فحقائق الأشياء وجمال الطبيعة أبعد منالا مما يظن المبصرون وغير المبصرين. وما ينبغي للرجل الزاهد أن يستشعر الحسد، وأن يضيق بما يجد الناس من نعمة، وأن يسخط على الحياة؛ لأنه لا يبلغ أعماقها، ولا يصل إلى حقائقها، وأن يسخط على الأحياء؛ لأنه لا يشاركهم في كل ما يستمتعون به، وإنما يشاركهم في قليل منه، ويستأثرون من دونه بالكثير.
وكان الجو من حولي صافيا، مشرقا، عطرا، ولم تكن الطبيعة تتحدث إلي بلسان واحد أو لغة واحدة، وإنما كانت تتحدث إلي بألسن مختلفة، ولغات متباينة. كانت تتحدث إلي بعبيرها الذي كان يملأ الأرجاء، وبطيرها التي كانت تستقبل الليل بأعذب النغم وأشجاه، وبهذا الهدوء الشاحب الحزين الذي يلم بالحياة والأحياء إذا آذنت الشمس بالمغيب؛ وبابتهاج الناس لما يجدون من جمال، وبابتئاس الناس لما يشعرون به من حزن، وبما يعلن الناس به ابتهاجهم وابتئاسهم من الأصوات والحركات؛ ثم بكل هذه الحياة العاملة المنصرفة إلى تحقيق المنافع، وإرضاء الحاجات غير حافلة بجمال الطبيعة، وما يثير في النفوس من بهجة وغبطة، وما يفيض عليها من حزن وأسى.
وكنت أسمع هذه الأحاديث كلها فأشتد على أبي العلاء في اللوم، وأعنف عليه في العذل، وأقول له: إن أيسر هذا خليق أن يرضيك مهما يبلغك مشوها ممسوخا، وإن شيئا خير من لا شيء، وإن من الإثم أن تسمي الدنيا «أم دفر»، وهي التي تهدي إليك هذا العبير، وأن تصفها بالقسوة والغلظة وهي التي تمنحك هذه الرحمة وهذا اللين.
ويشتد علي هذا الحوار بيني وبين أبي العلاء حتى أبرم به وأفر منه، وأطلب إلى من حولي أن يدعوني إليهم، وأن يستنقذوني من هذه الحياة التي كنت أحياها في القرن الرابع للهجرة أو العاشر للمسيح!
ثم أصبح فأزور مع أسرتي جزيرة كابري، وأشهد ما كان يملؤهم من هذا الإعجاب الذي كان يخرجهم عن أطوارهم، وأقنع أنا مما يجدون بما يبلغني من رقة الهواء، ونقاء الجو وصفائه، وبما يحمله إلي النسيم من العرف، وبما يلقي في نفسي من أوصاف لا تحقق لها شيئا، ولكنها تثير فيها كثيرا من الخواطر والمعاني وضروب الخيال. وإذا الحوار يستأنف بين أبي العلاء وبيني متصلا عنيفا مختلفة ألوانه.
Unknown page
ثم أقضي على هذا النحو الأيام التي أنفقتها في نابولي، فإذا تركت هذه المدينة شغلت عن الطبيعة، وعن أبي العلاء بالسفر الطويل الشاق، ولكني لا أكاد أبلغ مدينة ستريزا، وأستقر فيها ساعات حتى تبلغني أحاديث الطبيعة حلوة عذبة بين جبال شاهقة، وأشجار باسقة، وأرجاء عطرة، ورقعة من الماء قد بسطت في هذه البحيرة تريد أن تستقر وتثبت، لولا أن النسيم يداعبها، فيضطرب سطحها لهذه المداعبة اضطرابا خفيفا يصدر عنه خرير فاتر خفيف، ولولا أن الريح تعنف بها فتضطرب لهذا العنف من جميع أقطارها، ويصدر عن هذا الاضطراب هدير صاخب عنيف.
وألم بهذه الجزر الناتئة في هذه الرقعة من الماء، فإذا أنا بين رجلين يدعوني أحدهما إلى زهد شاحب مظلم؛ لأني أشهد لذات الحياة، ولا أكاد أحصلها، ويدعوني أحدهما الآخر إلى حياة كلها حس ومتعة؛ لأن جمال الطبيعة ينفذ إلى نفسي من كل وجه. فأما الأول فهو أبو العلاء، وأما الثاني فهو أندريه جيد.
وإذا الحوار يتصل بيني وبين هذا الرجل أو ذاك، أخلو مرة إلى ذاك فتضيق نفسي بكل شيء، وأخلو مرة أخرى إلى هذا فتتسع نفسي لكل شيء، وينقذني من الرجلين جميعا بين حين وحين حديث زوجي، أو حديث ابني، أو حديث بعض الأصدقاء.
ثم أترك إيطاليا وفي نفسي من أبي العلاء شيء، في نفسي أن أفرغ له، وأن أطيل التحدث إليه والاستماع منه؛ لأتبين أين يكون الحق: أفي سخطه وتشاؤمه، أم في رضاي وتفاؤلي؟ ولكني لم أكن أحدث نفسي بأن هذا الحوار سيخرج إلى كلام ينطلق به اللسان، ويجري به القلم، وتمسكه الصحف.
على أني لم أكد أبلغ فرنسا وأستقر في قرية من قراها حتى أنسيت الحياة ولذاتها، والطبيعة وجمالها، وأبا العلاء وتشاؤمه، وأندريه جيد وتفاؤله، وشغلت عن هذا كله بما لم يكن بد من الفراغ له من القراءة والإملاء. وأنفق في ذلك شهرا ونحو شهر، وإذا أنا أحس جهدا ثقيلا، وألما ممضا، وحاجة إلى الراحة والتسلية عن العمل العقلي. وما أكثر ما بين يدي من الكتب المختلفة، وما أكثر ما يدعوني منها إلى اللذة والراحة، وإلى السلو والنسيان! منها كتب في الأدب العربي المشرق الممتع، ومنها كتب في الأدب الفرنسي، ومنها كتب في الأدب الإنجليزي. والطبيعة من حولي رائعة بارعة، وجميلة مشرقة، وكل ذلك يدعوني ويلح في الدعاء، وكل ذلك يغريني، ويلحف في الإغراء، ولكني لا أسمع لشيء من ذلك، ولا ألتفت إليه، ولا أقف عنده، وإنما أطلب إلى صاحبي أن يقرأ لي في اللزوميات، وأن يقرأ لي فيها من أولها. وصاحبي يفعل وأنا أستمع، وإذا أنا بعد ساعات كأبي العلاء رهين سجون ثلاثة لا سجنين. أليس أبو العلاء يقول:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
وكون النفس في الجسم الخبيث
وإذا تلك المعاني التي عرضتها عليك في أول هذا الحديث تخطر لي، وتلح علي، وتخادعني، وتضطرني آخر الأمر إلى ما أخذت فيه من إملاء.
Unknown page
أتراني أخذت في هذا الحديث عن رضا؟ أتراني أخذت فيه عن كره؟ لا أدري! ولكني أعلم أن الليل قد تقدم، وأن كل شيء من حولي هادئ مستقر حتى ما يبلغني صوت، ولا يصل إلي شيء من هذا الضجيج العنيف الذي يمتلئ به أسفل الفندق. فقد سمعت حين انصرفت عن مائدة العشاء أن الشباب سيحيون بالرقص أول الليل. أعلم هذا، وأعلم أن نفسي قد ضاقت بالإملاء وانصرفت عنه، وأني سأدع هذا الحديث الآن، ولن أهبط إلى غرفتي قبل أن أسمع قصيدة، أو قصائد من اللزوميات. ومن يدري أأستأنف هذا الحديث إذا كان الغد، أم أصرف عنه لعمل آخر، أم أطلب إلى صاحبي أن يصنع به ما يشاء؟
الفصل الثاني
وما أريد أن أظلم أبا العلاء، فأترجم له مرة أخرى، فقد ترجمت له منذ ربع قرن، وما أراني أستطيع أن أعرض جديدا من أمره إن استأنفت درس حياته، وعرضها على الناس. فقد ظهرت للرجل رسائل وكتب لم تكن بين أيدينا حين أمليت ذكرى أبي العلاء، ولكن الغريب أنها لا تضيف إلى ما نعلم من حياته شيئا، ولعلها لا تضيف إلى ما نعلم من آرائه شيئا، فأي خير إذن في أن أعيد في هذا الحديث ما بدأته في ذكرى أبي العلاء؟ وما يمنع الراغب في درس حياته، أو في درس ما يعرف من حياته أن يلتمس هذا في ذلك الكتاب القديم، أو فيما نشر بعده من الكتب والرسائل، ومن المقالات والفصول؟
ولست أرى رأي بول فاليري في التراجم، ولست أهمل ما للتفصيلات التي تمس حياة الشعراء والأدباء والفلاسفة من خطر، ولعل صناعتي هي التي تقف بي عند هذا الطور، وتكرهني على أن أقدر التاريخ الأدبي بما فيه من تفصيل وإجمال، كما أقدر التاريخ السياسي بما فيه من تفصيل وإجمال أيضا. ولعل صناعة بول فاليري هي التي ترفعه عن الاحتفال بالتاريخ مهما يكن موضوعه. فبول فاليري شاعر أديب بارع في الشعر والأدب، يتكلف التعليم منذ أنشئ له كرسي في الكوليج دي فرانس، فلا غرابة في أن يرفعه فنه عن تفصيلات الحياة الإنسانية. وأنا معلم يتكلف الأدب الخالص حين يستريح من التعليم، وحين يخلى بينه وبين الحياة، فلا يجد ما يعمل إلا أن يشعر ويتأثر، ويحاول أن يصور ما يجد من حس أو شعور.
فلا غرابة في أن تهبط بي صناعة التعليم إلى دقائق الحياة الإنسانية وتفصيلها، ولكني على ذلك أعترف بأن التاريخ الأدبي كالتاريخ السياسي يغلب فيه الظن، ويكثر فيه الرجحان، ويقل فيه اليقين. وما أدري أمن إنصاف الناس أن نقول فيهم بالظن، ونأخذ في أمرهم بما نرجحه الآن، وقد نشك فيه غدا، أو بما نرجحه نحن، وقد يجحده غيرنا أشد الجحد، وينكره أشد الإنكار؟ وماذا تريد أن أقول لك، ونحن نقرأ أحيانا ما يقول الناس فينا، وما يظن الناس بنا فنضيق به أشد الضيق، ونسخط عليه أعظم السخط؛ لأننا لا نراه ملائما لما نعرفه من حقائق أنفسنا، أو لأننا نراه ملائما لهذه الحقائق، ولكننا نكره أن يعرف، وأن يقال، وأن يذاع في الناس!
وما أشك في أن أبا العلاء قد كان مثلنا، يحب أن يعرف الناس من أمره أشياء، ويكره أن يعرفوا من أمره أشياء أخرى. وقد احتاط الرجل لذلك ألوانا من الاحتياط، واتقاه بضروب من التقية. فألغز وغلا في الألغاز، واصطنع الاستعارة والمجاز، ودار حول كثير من المعاني دورانا، ولم يرد أن يتعمقها في شعره أو نثره مخافة أن يظهر الناس على رأيه، وأن يعرفوا من أمره ما كان يجب أن يجهلوا، ويطلعوا من سره على ما كان يؤثر أن يظل عليهم مستغلقا، ودونهم مكتوما.
وأنا أعرف أن العلم يكلف أصحابه أهوالا ثقالا، ويحملهم من بعض الأمر على ما لا يحبون أن يحملوا عليه؛ فيضطرهم أحيانا إلى هتك الأستار، وفضح الأسرار ، وإظهار الناس من أمر بعضهم على ما لا ينبغي أن يظهروا عليه. تلك تضحيات يتكلفها العلماء في سبيل الوصول إلى الحق، لا يشبهها إلا ما يتكلفه أصحاب العلوم التجريبية من تعذيب الحيوان في سبيل ما يبتغون من العلم الخالص، أو من العلم الذي ينفع الناس في حمايتهم من العلل والآفات.
أنا أعرف هذا، وقد أقدمت على كثير منه حين درست من درسته من الشعراء والأدباء في غير هذا الحديث. ولكن ما رأيك في أني أحب أبا العلاء، وأريد أن أسير معه في هذا الحديث سيرة الصديق الوفي الأمين، فلا أسوءه في نفسه، ولا في رأيه، ولا أذهب فيما سأعرض له من البحث مذهب أصحاب العلم الذين يضحون بموضوع بحثهم، فيخضعونه لألوان من التمحيص، وضروب من التحليل، يحملونه من ذلك ما يطيق وما لا يطيق، ويعرضونه من ذلك لما يحب وما لا يحب. أفلو كان أبو العلاء حيا معاصرا، وكنت له صديقا معاشرا أتراني كنت أظهر من أمره ما يقتضي العلم إظهاره، وأجهر من سره بما يفرض العلم على العلماء أن يجهروا به، مضحيا في سبيل ذلك بما يمكن أن يكلف ذلك أبا العلاء من الحزن والألم، ومن الخوف والفزع، ومن الإشفاق والضيق؟ أم تراني كنت أوثر وده، وأرعى حقه، فأحفظ عليه غيبه ولا أوذيه فيما لا يحب الناس أن يؤذوا فيه من خاصة أمورهم؟ لأمر ما منع الناس أنفسهم من أن يتناولوا الأحياء من الأدباء بالبحث العلمي الدقيق، والتحليل الذي لا يرهب شيئا، ولا يرجو لشيء وقارا. منهم من يمنعه من ذلك خوف القانون الذي يحمي الأحياء من الأحياء، ويكف شر الناس عن الناس؛ ومنهم من يمنعه من ذلك قلب رقيق، وحس دقيق، وإيثار للعافية، وإشفاق أن يصنع الناس به صنيعه بهم، وأن يخضعوه لما يخضعهم له من التمحيص والتحليل؛ ومنهم من يمنعه من ذلك مجرد الحب والرفق، وهذا الشعور الممتاز الذي يرتفع بصاحبه عن إيذاء الناس فيما يكرهون أن يؤذوا فيه.
الناس يصطنعون هذا التحفظ مع الأحياء، ولكنهم لا يصطنعونه مع الموتى، وإنما يهدرون من أمر الموتى في سبيل البحث ما لا يستطيعون أن يهدروه من أمر الأحياء! تبيح لهم القوانين ذلك، وتدعوهم طبيعة العلم وحرية البحث إليه. وليس عليهم بأس أن يخطئوا فيضطرهم الخطأ إلى الظلم؛ لأن كل الناس يخطئ ويصيب، ولأن الوصول إلى الصواب قلما يتأتى إلا بعد التورط في الخطأ.
كل ذلك أعرفه ويعرفه الناس، وقد اصطنعته حين درست أبا العلاء منذ ربع قرن. ولكني مع ذلك أريد أن أعرض عنه في هذا الحديث؛ لأني كما قدمت أحب أبا العلاء، وأريد أن أتحدث عنه حديث الصديق. وأود لو استطعت أن أصدر فيما أملي عن القلب الذي يحب ويعطف ويرحم لا عن العقل الذي يمحص ويحلل، ويقسو في التمحيص والتحليل.
Unknown page
قد كنت أريد ذلك منذ اضطررت إلى الأخذ في إملاء هذا الحديث، ثم ثبتني على ما أريد بيت من شعر أبي العلاء وقفت عنده فأطلت الوقوف، وفكرت فيه فأطلت التفكير، وتأثرت به فكان تأثري به قويا عميقا، وكان انتهائي إلى هذا البيت أثناء تفكيري في هذا الرفق مصادفة من المصادفات كما يقول بول فاليري، وقضاء من سالف الأقضية كما يقول أبو العلاء. وماذا تريد أن أصنع وعمل المصادفات في هذا الحديث لا يريد أن ينقضي؟
وهذا البيت هو قول رهين المحبسين:
لا تظلموا الموتى وإن طال المدى
إني أخاف عليكمو أن تلتقوا
لست أدري أتشعر كما أشعر، وتجد من قراءة هذا البيت مثل ما أجد؟ ولكن قلبي يمتلئ لإنشاده رحمة وبرا، وحنانا وإشفاقا. أترى أبا العلاء فكر في نفسه، وفيما سيقول الناس فيه بعد موته؟ أتراه أشفق من ظلم الناس له بعد موته كما ظلموه أثناء حياته، ومن تجني الناس عليه بعد ارتحاله عنهم كما تجنوا عليه حين كان مقيما بين أظهرهم؟ أم تراه لم يفكر في نفسه، ولم يحفل بما سيقول الناس فيه، وإنما فكر في غيره من الموتى، وفيما كان الناس يقولون فيهم، ويحملون عليهم؟ أم تراه لم يفكر في نفسه، ولا في غيره، وإنما عرض له المعنى فسجله وصوره في هذا اللفظ الحلو الرقيق الذي لا يبلغ قلبا رحيما رقيقا إلا أثر فيه؛ لأنه صدر من قلب رحيم رقيق؟
إذا قرأت اللزوميات فما أكثر ما ستجد فيها من ازدراء أبي العلاء لما سيقال عنه بعد الموت. وإذا قرأت اللزوميات فما أكثر ما ستجد فيها من قسوة أبي العلاء على الأحياء والأموات جميعا. وإذن فهل تراه فكر في نفسه، أم هل تراه فكر في غيره حين قال هذا البيت؟ أم هل تراه في لحظة من لحظاته قد أشفق على الموتى من حيث هم موتى؟ تصور عجزهم عن أن يدفعوا عن أنفسهم، وقصورهم عن أن يردوا ما يصب عليهم من الظلم، فرحمهم وأشفق عليهم؛ لأنه كان رحيما شفيقا. ولماذا يخاف أبو العلاء على الأحياء الذي يظلمون الموتى أن يلقوهم؟ ماذا يخاف على الأحياء، وماذا يخاف من الأموات؟ أتراه ينذر ويهدد ويخوف من الانتقام والبطش، أم تراه ينبه عاطفة الحياء، ويشفق على الظالم أن يلقى المظلوم فيستحي منه؟ أم تراه لا ينذر ولا يخوف، ولا ينبه عاطفة الحياء، وإنما يشير إلى أن من الجائز ألا يكون الموت خاتمة للإنسان، وأن يكون للنفس حظ من خلود، ومن شعور بهذا الخلود، وأن يكون من نتائج ذلك أن يلتقي الموتى في عالم آخر كما كان الأحياء يلتقون في هذه الدنيا؟ وكما أن الناس في هذه الدنيا يخوفون من أن يظلم بعضهم بعضا بالانتقام مرة، وبتنبيه عاطفة الحياء في أعماق الضمير مرة أخرى، فليخوف الموتى هذا الخوف المشترك بين الانتقام والحياء أيضا! فمن الناس من ينتصف إذا ظلم فيبطش بظالمه، ومن الناس من يعجزه هذا الانتصاف فيستعدي الله على ظالمه، والله شديد الانتقام. ومن الناس من يحلم فلا يبطش بظالمه، ولا يستنزل عليه غضب الله، وإنما يعفو، ويكون من عفوه أقسى عقوبة للظالم، وأعظم تنكيل به؛ لأنه يؤذي منه عاطفة الحياء، وهي أرق العواطف وأدقها حسا.
مهما يكن من شيء فإني قد أطلت الوقوف عند هذا البيت، وتصورت أني لقيت أبا العلاء في هذه الحياة أو في حياة أخرى؛ فآلمني أن ألقاه ظالما له، متجنيا عليه، ولو كان ذلك في سبيل العلم، واستكشاف الحق من أمره. وما تصورت أبا العلاء باطشا بي أو موعدا لي، وإنما تصورته معرضا عني، مشفقا علي من ظلمي له، وتجني عليه، وتصورت نفسي معتذرا إليه، ومستعطفا له؛ فكرهت أشد الكره أن أقف منه هذا الموقف، وأن أكون منه بهذا المكان، والغريب أني قد وعيت هذا البيت وفقهته كما ترى، وتأثرت به أشد التأثر، وقبلت وعظ أبي العلاء بالقياس إلى أبي العلاء نفسه؛ ولكني لم أقبله، وما أرى أني سأقبله، بالقياس إلى غيره من الشعراء والكتاب الذين عرضت لهم أو سأعرض لهم بالدرس والبحث في يوم من الأيام! إني أتصور من شئت من الشعراء والكتاب الذين ارتحلوا عن هذه الدار في العصور القديمة أو في هذا العصر الحديث، وأتصور أني أعرض لهم بالنقد، وأعرض لحياتهم الخاصة بالدرس، وأقول فيهم ما لم يكونوا يحبون أن يقال فيهم، وأظهر من أمرهم ما لم يكونوا يريدون أن يظهر من أمرهم، ثم ألقاهم بعد ذلك في هذه الدار أو في دار أخرى فأجد منهم سخطا على ما قلت فيهم، وضيقا بما أظهرت من أمرهم؛ وقد يعرض لي بعضهم بالأذى، وقد يكتفي بعضهم بالعتاب، وقد ينالني بعضهم بالعفو والإغضاء، ولكن شيئا من ذلك لا يهمني ولا يخيفني، ولا يصرفني عما يجب أن أقبل عليه من البحث ما دمت مطمئنا إلى أني لم أتعمد ظلما ولا تجنيا، ولم أقل إلا ما اعتقدت - مصيبا أو مخطئا - أنه الحق.
أتراني أشفق من لقاء المتنبي مثلا وقد قلت فيه ما قلت، وأظهرت من أمره ما أظهرت؟ أتراني أشفق أن ينالني الأذى من يده أو لسانه؛ لأني لم أصدقه فيما زعم لنفسه من هذه المفاخر أو تلك؛ ولأني لم أرض من أخلاقه عن هذه الخصال أو تلك، ولأني وقفت من نسبه موقف التردد والشك؟ كلا! لأني لم أصدر فيما قلت عن المتنبي إلا عن رأي رأيته بعد روية وتفكير، وبعد تمهل وترجيح. فأنا لم أرد به شرا، ولم أقترف في ذاته ظلما، لم أرد أن أرضيه، ولم أرد أن أسخطه، وما يعنيني أن أرضيه أو أسخطه، وإنما يعنيني أن أظهر وأظهر الناس من أمره على ما أرجح أنه الحق.
ولو قد كان المتنبي حيا لما حفلت من أمره إلا بما تفرض القوانين والمجاملة أن أحفل به. وقد سرت هذه السيرة نفسها مع بعض الشعراء الذين عاصرونا، ثم انتقلوا عن هذه الدار إلى رحمة الله ورضوانه، واجهتهم بالنقد أحيانا، ولم أغير فيهم رأيي بعد أن قضوا، وما أدري لعلي أن أكون لهم ظالما من حيث لا أريد الظلم، وعليهم متجنيا من حيث لا أريد التجني! وقد أوازن بين أبي تمام والبحتري فأرضى حتى أبلغ أقصى غايات الرضا، وأسخط حتى أبلغ أقصى غايات السخط، وأثني وأعيب كما رضيت وكما سخطت، وما يعنيني وما يخيفني أن يغضب الطائيان أو يرضيا، وما يعنيني وما يخيفني أن يلقياني بالرضا والغضب في هذه الحياة أو في تلك. ولا كذلك أمري مع أبي العلاء، فإني أكره أن أقسو عليه، راضيا أو كارها، مخافة أن ألقاه فإذا هو متأذ بهذه القسوة؛ لأني أحبه كما قلت، ولأني أجد فيه من الرفق والرحمة، ومن الحنان والإشفاق، ومن البر والعطف بالناس وبالحيوان ما لا أجده عند غيره من الشعراء والفلاسفة إلا قليلا. وكيف تتصور القسوة على رجل كان يرحم النحل، ويلح في أن لا يشتار ما تجمع لنفسها؛ وكان يرحم الدجاج، ويفزع إذا قدمت إليه، ويرد الناس أشنع الرد عن إيذائها؟ وكان يحاور الديك هذا الحوار الحلو الذي قد أقف عنده في وقت من الأوقات؛ وكان يترجم عن الضأن للناس، فينبئهم بأنها تعذر عدوان الذئب عليها؛ لأنه يقوم على العدوان من غير بصيرة وعقل، ولا تعذر عدوانهم هم عليها؛ لأنهم يقدمون عن روية وتفكير، وعن تعمد للقسوة، وإصرار عليها؟ وكيف تتصور القسوة على رجل ما أظن أحدا فهم عن ذوات الأطواق مثل ما فهم عنها، وما أظن أحدا رحمها من عدوان الناس، وعدوان سباع الطير، وعدوان حوادث الأيام كما رحمها؟
أبنات الهديل أسعدن أو عد
Unknown page
ن كثير الهموم بالإسعاد
إيه لله دركن فأنتن
ن اللواتي يحسن حفظ الوداد
وستقول: فإنك إن مضيت على هذا النحو لم تقدم إلينا كتابا في البحث العلمي، ولا في النقد الأدبي، وإنما تتحدث إلينا عن صديق! وهذا حق، فإني لا أقدم إليك كتابا في البحث العلمي عن أبي العلاء، ولا في النقد الأدبي لأبي العلاء، ولعلي قدمت إليك من ذلك ما فيه مقنع، وإنما أتحدث إليك عن صديق لا يرجى نفعه، ولا يتقى شره، ولا يصدر المتحدث عنه إلا عن الحب المبرأ من الرغب والرهب، ومن الطمع والإشفاق. أفتراك تكره مثل هذا الحديث؟ ألم تسأم هذه الأحاديث الكثيرة التي تمتلئ بالبحث العلمي والنقد الأدبي، والتي تكتب ابتغاء لرضا الأصدقاء، واتقاء لسخطهم؟ ألم يجهدك هذا السفر المتصل في هذه الطريق الطويلة الملتوية، طريق البحث العلمي، والنقد الأدبي؟ ألست في حاجة إلى أن تعرج على هذه الواحة الخضراء لتستريح لحظة في ظل الحب النقي الكريم؟
الفصل الثالث
وأنا شديد الإشفاق على أبي العلاء من نفسه قبل كل شيء، وقبل كل إنسان، فلم يظلمه أحد قط كما ظلم نفسه، ولم يكلفه أحد قط من الجهد والعناء، ومن المشقة والمكروه مثل ما كلف نفسه نحو خمسين عاما. ولم يفتن أبو العلاء في شيء كما افتن في ظلم نفسه، وتحميلها ما تطيق، وما لا تطيق، وأخذها بالمكروه في حياتها العملية والعقلية أيضا.
وأول ما ألاحظه من ظلم أبي العلاء نفسه اقتناعه بأنه سجين، وامتناعه عن أن يرى لنفسه سجنا واحدا، بل عن أن يرى لنفسه سجنين، وإباؤه إلا أن تكون لها سجون ثلاثة يذكرها في البيتين اللذين رويتهما آنفا:
أراني في الثلاثة من سجوني
فلا تسأل عن الخبر النبيث
لفقدي ناظري ولزوم بيتي
Unknown page
وكون النفس في الجسم الخبيث
فأنت ترى أن أبا العلاء لم يكتف بالسجن الذي فرضته الطبيعة عليه فرضا حين أفقدته ناظره كما يقول، وإنما فرض على نفسه سجنين آخرين، أحدهما: ظاهر محس، يراه الناس جميعا، ويشهدون ما يمكن أن يلقى سجينه من الحزن اللاذع، والألم الممض، وهو هذا البيت الذي أقام فيه أبو العلاء لا يريمه، وفرض على نفسه لزومه مهما تكن الظروف، وطلب إلى أهل المعرة ألا يخرجوه منه حتى حين يغير الروم على المدينة.
والثاني: سجن فلسفي، تخيله كما يتخيل الشعراء، واشتقه من حقائق الأشياء كما يفعل الفلاسفة، وما أكثر ما يلتقي الشعراء والفلاسفة في موقف واحد يتفق فيه العقل والخيال جميعا!
هذا السجن الخيالي الفلسفي هو الجسم الذي أكرهت النفس - كما كان يتصور أبو العلاء، وكما تصور الفلاسفة من قبله ومن بعده - على أن تستقر فيه لا تتجاوزه، ولا تتعدى حدوده إلا حين يقضي عليها الموت، وهي حينئذ تظفر بحرية لا تعرف كيف تقدرها، ولا كيف تستمتع بلذاتها أثناء هذه الحياة؛ لأن هذه الحرية مجهولة المدى، مجهولة الموضوع، يثير انتظارها في النفس ألوانا من الشك، وضروبا من الخوف، وفنونا من الهلع أحيانا. فما مصير النفس بعد أن تفتح لها أبواب هذا السجن، وتحط عنها قيوده وأغلاله، ويخلى بينها وبين الانطلاق؟
لقد استراح المؤمنون الذين اطمأنوا إلى البعث، بعث الأرواح وحدها، أو بعثها مع الأجسام، اطمأنوا إلى أن حياتهم بعد الموت متصلة بحياتهم قبل الموت، ومتأثرة بها، ومؤدية لثمنها، ومحتملة لتبعاتها، اطمأنوا إلى أنهم مسئولون بعد الموت عما قدموا بين أيديهم قبله، فهم يعلمون نحوا من العلم إلى أين هم ذاهبون، وإلى أي حال هم صائرون. ويثير هذا العلم في نفوسهم كثيرا من الأمل، وكثيرا من اليأس، كثيرا من الأمن، وكثيرا من الخوف، ولكنهم على كل حال مطمئنون إلى شيء أساسي، وهو أن خروج أنفسهم من هذا السجن لن يدفعها إلى المجهول المطلق الذي لا تعرف له أملا، ولا حدا، ولا موضوعا.
فأما الرجل الذي لم يطمئن إلى هذا الإيمان، ولم يمتلئ به قلبه، ولم تسكن إليه نفسه، ولم يسترح إليه عقله، وإنما هو مضطرب في أمره أشد الاضطراب، يؤمن مرة فيرجو أو يخاف، وينكر مرة فيدركه اليأس والجزع، ويضطرب بين الإيمان والإنكار في كثير من الأحيان، فإذا هو قلق لا يستقر على حال، وهذا الرجل معذب دائما أشد العذاب، إلا أن يفطر على التهاون والإعراض، والاشتغال بعاجل الأمر عن آجله، والانصراف إلى يومه عن غده، وإلى التفكير في حياته الدنيا، والاستمتاع بها، والاحتياط لها، عن التفكير في حياته الآخرة، والإشفاق منها.
ولم يكن أبو العلاء من هذا التهاون في شيء، وإنما رفض حياته الدنيا رفضا، وصد عنها صدودا، ومنعها أن تحول بينه وبين التفكير، وأن تحول بينه وبين ما يستتبعه التفكير من النتائج. وأشق من ذلك أن هذا الرجل الذي كان قوي الخيال بعيد آماده، كان في الوقت نفسه قوي العقل عميقه، قوي الإرادة عنيفها، فلم يستطع الخيال قط أن يسيطر عليه أو يستأثر به، وإنما وجد من العقل دائما ما يحده ويرده إلى التواضع والاعتدال. وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من الديانات، فمالت نفسه إلى الإيمان بالبعث! وما أكثر ما تأثر أبو العلاء بما كان يقرأ من كتب بعض الفلاسفة، فمال إلى التصديق بخلود النفس! ولكن ما كان أكثر ما يعرض العقل لهذا الميل فيمحوه محوا، أو يضعفه إضعافا شديدا! وأكبر الظن أنه حين كان يطمئن إلى خلود النفس لم يكن يطمئن إلى ما يزعمه الفلاسفة من تفصيل ما ستلقاه النفس الخالدة من سعادة أو شقاء، كما أنه حين كان يطمئن إلى البعث، لم يكن يطمئن إلى ما سيلقاه الناس بعد البعث من نعيم أو جحيم، فكان اطمئنانه إلى خلود النفس لا يزيده إلا شقاء؛ لأنه يشرف به على هوة لا يعرف لها قرارا، ولا علم له بما يضطرب فيها من خير وشر.
ولم يكن أبو العلاء يحرص على شيء كما كان يحرص على أن ينشر ميت من الموتى، فينبئه وينبئ الناس بما وراء الموت. ومن قبله طلب هذا إلى الأنبياء فلم يظفر طالبوه بشيء، ولم يظفر أبو العلاء بما لم يظفر به غيره، فظل في حيرة كما كان الذين جحدوا البعث من قبله في حيرة أيضا. نستغفر الله! بل إن أكثر الذين جحدوا البعث من قبله، لم يكن لهم عقله وذكاؤه، ونفوذ بصيرته، فلم يفكروا في عاقبة، ولم يشفقوا من مغبة، وإنما قالوا هي حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر. وما كان شيء أحب إلى أبي العلاء من أن يقول كما قالوا، ولكنه لم يستطع أن يقوله؛ لأن عقله كان يمنعه من ذلك؛ ولأنه لم يكن قادرا على أن يتصور أن الناس خلقوا عبثا، أو تركوا سدى. فلم يكن له بد إذن من أن يسأل نفسه، ومن أن يسأل الناس، ومن أن يسأل حيوان الأرض وجمادها، وكواكب السماء ونجومها، عما عسى أن يلقى الناس بعد أن تطلق نفوسهم من هذه السجون.
والذي كان يغيظ أبا العلاء إلى أقصى حدود الغيظ أنه كان يفكر ويستقصي، فيرى أن نفسه سجينة في جسمه بأدق معاني هذه الكلمة وأقساها، قد أدخلت السجن مكرهة، وأخرجت منه مكرهة، لم تسأل أتريد هذا الدخول أم ترفضه، ولم تستشر أترغب في هذا الخروج أم تزهد فيه. بل هي لا تذكر أنها جنت قبل دخول هذا السجن من الإثم ما يضطرها إلى دخوله، ولقاء العذاب فيه إن كان شرا. ولا تذكر أنها أتت من الصالحات بما يثيبها بدخوله، والاستمتاع باللذات فيه إن كان خيرا. لا تعلم شيئا عن ماضيها. فلم أدخلت هذا الجسم وأقرت فيه؟ ألتلقى فيه عقابا أو ثوابا؟ وفيم العقاب والثواب، وهي لا تعرف أنها جنت شرا أو أتت خيرا؟ ثم هي مخرجة منه على كره منها، ولا تعرف ما سيلقاها بعد هذا الخروج.
كل هذه الخواطر كانت تنغص على أبي العلاء حياته إذا خلا إلى نفسه، وفكر في أمره. على أن هناك منغصات أخرى لم تكن أقل من هذه الخواطر إيذاء لهذا الشاعر الحائر، وهذا الفيلسوف البائس، وهي منغصات الحياة نفسها، هي هذه الآلام التي يلقاها في السجن، والتي يحسها ويشهدها، ويستطيع أن يصورها تصوير عالم بها، خاضع لها، هي هذا التناقض الهائل بين أمل النفس وطاقتها، بين ما تريد وما تستطيع. يفكر أبو العلاء فلا يرى لتفكيره حدا ولا غاية، فإذا أراد العمل وجد نفسه مقيدا مغلولا، ووجد قدرته على العمل ضئيلة لا قيمة لها.
Unknown page
إن عقله يفكر في النجوم والكواكب، ويتصور من أمرها الخطأ والصواب، والممكن والمحال، ولكنه يريد أن يعرف من أمر هذه النجوم والكواكب أكثر مما عرف، وأن يبلو حقائقها بلاء الملم بها، المداخل لها، القريب منها. فما له لا يبلغ القمر، وما له لا يلم بالمريخ، وما له لا يبلو بنفسه أخبار المشتري؟ وما هذا التناقض بين قوة العقل وتضاؤل القدرة؟ بل في الأمر ما هو أعظم من هذا إيلاما، وأشد منه إيذاء، فقد تتواضع النفس وهي مضطرة إلى هذا التواضع، فلا تطمع في أن تبلغ النجوم، ولا تطمح إلى أن تزور الكواكب، ولكنها تطمع في أن تحقق ما ترى أنه الخير، وتجتنب ما ترى أنه الشر. ما ترى أنه الخير أو الشر في حياتها القريبة جدا، في حياتها اليومية التي تحياها من لحظة إلى لحظة، وتباشرها من آن إلى آن. وما لها لا تبلغ من ذلك شيئا، وما لها لا تقدر من ذلك على شيء؟ وما بال هذه القوى التي لا تحصى قد تظاهرت وتناصرت على منعها من تحقيق ما تريد، بل من محاولة ما تريد؟
ما هذه الحرية المطلقة التي يستمتع العقل بها إذا فكر، وما هذا العجز المطلق الذي يضطر العقل إليه إذا أراد أن يعمل أو يدفع إلى العمل؟ ما هذه القوى الطبيعية التي تقوم دونه، فتمنعه من أن ينزه الجسم عما تقتضيه غرائزه من هذه الأشياء الكريهة البغيضة التي لا يقدم عليها إلا كارها لها، متبرما بها، مزدريا نفسه؛ لأنه مضطر إلى الإقدام عليها؟ ما هذه القوى الاجتماعية التي تقوم دونه فتحد من حريته في العمل، وتحد من حريته في القول، وتضطره إلى العجز المطلق عن الصلاح والإصلاح؟ جهل بما كان قبل دخول السجن، وجهل بما هو كائن بعد الخروج من السجن، وعجز عن إصلاح أمره وتدبيره كما يحب أثناء الإقامة في السجن. وشر من هذا كله أنه قد يحب هذا السجن، وقد يحرص على الإقامة فيه، وقد يستمتع أثناء هذه الإقامة ببعض اللذات المادية أو المعنوية، فلم لا يخلى بينه وبين هذا السجن يقيم فيه ما شاء، ويخرج منه متى أراد؟ أو على أقل تقدير لم لا ينبأ بموعد مضروب، وأجل محدد لهذا الخروج، ولكنه يدخل على غير علم ولا إرادة، ويخرج على غير علم ولا إرادة، فهو في خوف متصل، وقلق دائم، لا يدري متى يفتح السادن عليه بابه، ويقذفه من هذا السجن الذي ألفه إلى هذا الفضاء المجهول الذي لا يعلم من أمره شيئا.
بل هناك ما هو شر من هذا وأشد إيلاما، فلماذا منح السجين هذه القوة المفكرة المقدرة المريدة التي تأمل وتعجز عن تحقيق الأمل، وتريد وتقصر عن إنفاذ الإرادة، وترى الخير ولكنها لا تجد إليه سبيلا، وترى الشر ولكنها لا تجد منه مخرجا؟
فلو أنك اتخذت اللذة والألم مقياسا للسعادة، وسلكت في ذلك طريقا مشبهة لطريق الفلاسفة، ولكنها معاكسة لها معاكسة ظاهرة صريحة لانتهيت إلى نتيجة تملأ النفس يأسا وسخطا. هؤلاء الفلاسفة يفاوتون بين الكائنات بمقدار حظها من الحس والشعور، ومن اللذة والألم، ومن التفكير والتقدير. وهم يجعلون الإنسان أرقى هذه الكائنات؛ لأنه يشاركها في الوجود، ثم يشارك بعضها في أنه جسم، ثم يشارك بعضها في أنه حي، أي حساس شاعر، ثم ينفرد منها جميعا؛ لأنه مفكر ناطق. وخذ طريقا معاكسة لهذه الطريق، فسترى الإنسان أشقى هذه الكائنات؛ لأنه مفكر، ولأن تفكيره يضطره إلى ألوان من الآلام، وضروب من اليأس والقنوط لا يجدها كائن غيره، فهو يضطره إلى الشك، ويلبس الأمر عليه فيورطه في الحيرة وآلامها، وهو قد يبين له الخير، ولكنه يبين له في الوقت نفسه عجزه عن بلوغه، وهو قد يبين له الشر ولكنه يبين له في الوقت نفسه إغراقه فيه، وعجزه عن الخلاص منه، وهو قد يبين له السعادة، ولكنه يبين له في الوقت نفسه قصوره عن أن يبلغها كاملة، وقصوره عن أن يحتفظ بأيسر ما يبلغه منها، وهو قد يبين له الشقاء، ولكنه يبين له في الوقت نفسه اضطراره إليه، ولزومه له، وإخفاقه المحتوم كلما حاول أن يخلص من أقله وأيسره، وهو قد يبين له اللذة المادية، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أنه عاجز عن أن يبلغ خيرها وأكملها، كما يبين له أن ما يحصله من أيسرها وأهونها لا يكاد ينقضي حتى يعقبه من الآلام والحسرات ما يعدل أضعاف ما أصاب من نعيم ومتعة، وهو قد يبين له الألم، ولكنه يبين له في الوقت نفسه أن أنواع هذا الألم لا تعد، وأن ضروبها لا تحصى، وأنه لا يخلص من بعضها إلا لتهجم به غرائزه الخاصة أو الأقدار التي لا يملك تصريفها، ولا دفعها على ما هو شر منها، وأمض وأسوأ عاقبة وأبلغ أثرا. فإذا تركت الإنسان إلى ما يرى الفلاسفة أنه دونه من الكائنات فسترى هذه الكائنات أحسن حظا من الإنسان؛ لأنها قد سلبت هذا العقل، وحرمت هذا التفكير، فالحيوان يألم ويشقى، وهو يلذ ويسعد، ولكنه لا يقدر الألم والشقاء، واللذة والسعادة كما يقدرها الإنسان. والحيوان تتفاوت أنواعه فيما بينها بمقدار ما أتيح لها من الحس والشعور، وبمقدار ما أتيح لها من قوة الغرائز وضعفها، فكلما قوي حظ الحيوان من الحس والشعور والغرائز قوي حسه للألم وشعوره به، وإشفاقه منه، وقوي حرصه على اللذة، وتتبعه لها، وتوقعه إياها، وألمه للعجز عن بلوغها، والقصور عن تحصيلها. فإذا تجاوزت الحيوان إلى النبات فقد بلغت جنسا من الكائنات له حظ من حياة، ولكنه ضئيل بالقياس إلى حظ الحيوان. وإذن فحظه من الألم لا يكاد يذكر، ولعله ألا يكون موجودا. فإذا تركت النبات إلى ما هو أدنى منه رتبة، وأحط منه طبقة عند الفلاسفة، إلى الجماد الذي لا حظ له من حياة، ولا حظ له من حس، ولا حظ له من إرادة، ولا حظ له من تفكير، فهناك السعادة العظمى التي لا ينغصها شقاء، وهناك الراحة الكبرى التي لا يشوبها ألم. وإذن فلم منح هذا السجين حياته هذه القوية العنيفة التي تستتبع الحس والحركة، والإرادة والتفكير، وتستتبع بحكم ذلك الألم والبؤس، والشقاء والحرمان الذي هو أصل الشقاء كله؟
ومن هنا يتمنى أبو العلاء حين لا ينفع التمني، ويود حين لا ينفع الود، ويبكي حين لا يجدي البكاء، ويكون تمنيه ووده وبكاؤه مصدر شقاء وحسرات تضاف إلى ما هو فيه من شقاء وحسرات. فهو يغبط الحيوان؛ لأنه لا يعرف الخير والشر، ولا يفكر فيما كان وما يكون، ولا يرجو ولا يخاف، وهو مع ذلك يرثي له من الألم الذي يجده، والشقاء الذي يشعر به، والمكروه الذي يتعرض له، ولكنه يغبط الجماد إلى أبعد حد ممكن، ويرسل أصواتا تمتلئ بالحسرة واللوعة؛ لأنه لم يظل جمادا كما كان، فهو قد كان جمادا في سالف الدهر.
والذي حارت البرية فيه
حيوان مستحدث من جماد
وهو صائر إلى الجماد في مستقبل الدهر.
خفف الوطء ما أظن أديم ال
أرض إلا من هذه الأجساد
Unknown page
فلم استخرج من الجماد ليرد إليه؟ ولم هذه المحنة التي يمتحن بها في هذا الطور من أطوار وجوده؟ والذي يزيد الأمر إشكالا، أي يجعله مصدرا من مصادر الألم العقلي الذي هو شر من الألم المادي، أنه لا يدري أصائر كله إلى الجماد بعد الموت؟ وإذن فالمحنة موقوتة، وهي من أجل ذلك محتملة هينة الأمر مهما تمتلئ بالمصائب والنوائب، وبالكوارث والآلام. أم صائر بعضه وهو الجسم إلى الجماد كما كان، وإذن فما مصير بعضه الآخر؟ أين كان قبل أن تلم به هذه المحنة، وإلى أين يمضي بعد أن تنجاب عنه هذه المحنة؟ بل أهي منجابة عنه يوما من الأيام؟ أراجع هو إلى حيث كان قبل المحنة فجاهل نفسه كما كان يجهلها من قبل؟ وإذن فلم تكن المحنة إلا حلما، ولكنه حلم معاكس لما ألفه الناس من معنى الحلم. فالحلم عند الناس يقظة تخيل إلى النائم فإذا استيقظ لم يجدها شيئا، ولكن هذا الحلم العلائي يقظة تخيل إلى المعدوم فإذا أفاق منها لم يشعر بها، بل لم يذكرها ولم يجد لها تعبيرا، بل لم يشعر بنفسه فضلا عن أن يشعر بما ألم بها من الأحداث. أم ماض هو في هذه المحنة، فشاعر بنفسه شعورا متصلا خالدا، وإذن فالمحنة باقية لم تنقض، وما عسى أن يكون نوع هذه المحنة بعد الموت، أهو من نوعها قبل الموت؟ وإذن ففيم الموت وآلامه؟ وفيم هذه الحسرات التي تمتلئ بها النفس؛ لأنها تتوقع الموت وآلامه؟ أم هو من نوع جديد لم نعرفه، ولم نذقه أثناء هذه الحياة؟ وإذن فما عسى أن يكون هذا النوع الجديد؟ أهو خير مما ألفنا، أم هو شر مما ألفنا؟
وكذلك أنفق أبو العلاء نصف قرن من حياته يواجه هذه الخواطر إذا أصبح، ويواجهها إذا أمسى، ويواجهها أثناء الليل إن أبطأ عليه النوم، ولعله يواجهها أثناء النوم إن صورتها له الأحلام. وقد وجد أجوبة مختلفة على هذه الأسئلة، وجد أجوبة الديانات، ووجد أجوبة الفلسفة. وكان خليقا أن يطمئن إلى هذه الأجوبة أو تلك فيريح ويستريح، ولكن هذا الاطمئنان لم يقدر له. فهو يستريح إلى ما جاءت به الأديان، ويهيئ نفسه للبعث، ويجتهد ما استطاع في تحصيل الخير، وتحقيق العمل الصالح. ولكن عقله لا يلبث أن يصور له الأمور مناقضة لما اطمأن إليه. فما بال الإنسان يخص بالبعث، وما يستتبعه البعث من ألم أو لذة ومن جحيم أو نعيم؟ ألأنه عاقل وهو من أجل ذلك مكلف؟ ولكن ما بال الإنسان خص بالعقل، وما باله خص بالتكليف؟ وإذن فقد ذهبت عن المسكين طمأنينته، وخاب كل ما كان قد عقد بها من أمل.
وتارة يطمئن إلى بعض مذاهب الفلاسفة فيرى خلود النفس، ولكنه يريد أن يعرف ما عسى أن تصنع النفس، وما عسى أن تلقى أثناء هذا الخلود فلا يجد جوابا، فيعود إلى الحيرة والشك، وما يستتبعان من الألم والشقاء. وقد يتحدث إليه بعض الأجيال بالتناسخ، وما تلقى النفس فيه من فنون الرضا والسخط، وألوان الرفعة والضعة، ولكنه لا يحفل بذلك ، ولا يقف عنده، يراه سخفا وعبثا، ويسخر من الذين يجدون فيه غناء ومقنعا. والذي يزيد الأمر مشقة وجهدا، ويجعله حريا بإثارة اليأس، والدفع إلى القنوط هو أن أبا العلاء قد هداه عقله إلى أن لهذا العالم خالقا، وإلى أن هذا الخالق حكيم. لا يشك
1
في ذلك، أو على الأقل لا يظهر فيه شكا، وإنما تمتلئ به اللزوميات، ولا تكاد تخلو منه قصيدة من قصائدها، أو مقطوعة من مقطوعاتها. وهو إذا تحدث عن هذا الخالق الحكيم تحدث عنه في لهجة صادقة، يظهر فيها الإخلاص واضحا جليا، ولكنه عاجز عن فهم هذه الحكمة التي يمتاز بها هذا الخالق الحكيم، وعجزه عن فهم هذه الحكمة هو الذي يضنيه ويعنيه، ويعذبه في نفسه أشد العذاب. خالق حكيم، خلق هذا العالم ورتبه على هذا النحو الذي رتبه عليه، ولكن لماذا وما بال هذا الخالق الحكيم الذي منحنا هذا العقل، وهدانا إلى التفكير لم يكشف لنا القناع كله أو بعضه عن وجه هذه الحكمة التي لا نشك فيها ولا نرتاب؟ لقد قالت الديانات
2
لأبي العلاء أشياء كثيرة، ولكنها فيما بينها مختلفة أشد الاختلاف متناقضة أشد التناقض. فلأيهما يسمع، وبأيهما يؤمن؟ حيرة جديدة أهون من تلك الحيرة التي صورناها آنفا. وهي تثير في نفس أبي العلاء كثيرا من السخرة التي تظهر هنا وهناك صريحة مرة
3
وخفية مرة
4
Unknown page
أخرى، ولكنها على كل حال لا تخلو من الألم، ومن الألم اللاذع الممض أحيانا.
ومصدر الشقاء المتصل الذي ألح على أبي العلاء نحو خمسين سنة من عمره هو أن الله لم يهده إلى الإيمان بالنبوات.
5
لم يؤمن بها، ولكنه في الوقت نفسه لم يقطع برفضها كلها، وإنما كان يسأل نفسه بين حين وحين: من يدري؟ لعل بعض هذه النبوات حق، ولعل بعض ما جاءت به أن يكون صحيحا. وإذن فويل لي إن صح ما جاءت به،
6
ولم ألائم بينه وبين سيرتي العملية. ولكن أي سيرة عملية، وكيف تكون الملاءمة بين سيرتي وبين هذه النبوات المختلفة، أأسير سيرة اليهود؟ فإني أعيب عليهم كثيرا من أعمالهم وأقوالهم. أأسير سيرة النصارى؟ فإني أعيب عليهم كثيرا من أقوالهم وأعمالهم، أأسير سيرة المسلمين؟ فإني أعيب عليهم كثيرا من أقوالهم وأعمالهم أيضا، أم أسير سيرة أهل الهند؟ أم أسير سيرة الفرس؟ فما أكثر ما أعيب على أولئك وهؤلاء
7
من الأقوال والأعمال. ومع ذلك فماذا أصنع إن صح ما تنبئنا به هذه الديانة أو تلك؟
أرأيت إلى هذه الحيرة المتصلة
8
Unknown page
التي لا يهتدي فيها عقل، ولا تستطيع أن تستقر فيها نفس، والتي لا يعرف لها مدى تنتهي إليه من أي ناحية من نواحيها؟ ثم أرأيت إلى هذا الرجل النحيل الضئيل العاجز الضعيف قد دفع إليها دفعا، وألقي فيها إلقاء، ثم لم يجد منها مخرجا، ولم يتبين فيها طريقا؟ ثم أرأيت إليه حائرا ضالا في هذه الحيرة، شاعرا أقوى الشعور وأشده بما هو فيه من جور عن القصد، وضلال عن الصراط المستقيم، سائلا نفسه في غير طائل، سائلا الناس في غير غناء، سائلا نجوم السماء وحيوان الأرض وجمادها دون أن يظفر منها كلها إلا بجواب واحد واضح كل الوضوح جلي كل الجلاء، ولكنه غير مقنع، وهو أن لهذا العالم خالقا حكيما، ولكن ما كنه حكمته، وما غايتها، وكيف نلائم بينها وبين سيرتنا؟ وكيف نلائم بينها وبين آرائنا؟ وكيف نلائم بينها وبين أقوالنا؟ هذه هي الأسئلة التي لم يظفر لها بجواب من الناس، ولا من كواكب السماء ونجومها، ولا من حيوان الأرض وجمادها.
وأظن أن العلة الحقيقية التي شقي بها أبو العلاء خمسين عاما إنما هي الكبرياء، الكبرياء التي دفعته إلى محاولة ما لا يطيق، وإلى الطمع فيما لا مطمع فيه، وإلى الطموح إلى ما لا مطمح إليه. أسرف أبو العلاء في الإيمان بعقله، وأسرف أبو العلاء في الثقة بهذا العقل، ورفض كل شيء سواه.
9
فالعقل مهما يكن جوهره، ومهما تكن طبيعته إنساني أي محدود، محدود الطاقة محدود المعرفة كغيره من ملكات الإنسان، فالغريب أن يتخذ العقل المحدود سبيلا إلى ما لا حد له، وأن تتخذ هذه الآلة القاصرة المتواضعة سبيلا إلى بلوغ ما لا تستطيع بلوغه. والغريب أن يشعر أبو العلاء بأنه لا يستطيع أن يرقى إلى النجوم بجسمه، وبأنه من الحمق أن يتكلف هذا الرقي.
وكيف صعودي إلى الث
ريا بلا سلم
وأن يشعر أنه لا يستطيع أن يبلغ بعقله كنه هذه الحكمة العليا التي امتاز بها الخالق الحكيم، ولكنه مع ذلك ينفق حياته مجاهدا في استكشاف هذه الحكمة، والوصول إلى أسرارها، ما باله لا يحاول الرقي إلى الثريا ما دام لم يجد إليها سلما، ثم يحاول الرقي إلى حكمة الله مع أنه لم يجد إليها سلما؟ ما مصدر هذا التناقض الذي جر على أبي العلاء وعلى أمثاله ما صب عليهم في حياتهم من شقاء؟ مصدره فيما أعتقد هذا الغرور الذي يخيل إلينا أن العقل ليس شيئا إنسانيا، وإنما هو جوهر ممتاز قد أهبط إلى هذا الجسم فأقام فيه ضيفا، فهو إذن ممتاز في جوهره من الجسم، قادر على ما لا يقدر الجسم عليه، فإذا عجز الجسم عن أن يرقى إلى النجم بلا سلم فلن يعجز العقل عن أن يرقى إلى السماء بلا سلم. أليست الفلسفة قد زعمت لنا، ولم تنكر عليها الديانات ما زعمت، أن العقل قبس هبط من الملأ الأعلى وهو عائد إليه؟ وما دام العقل قد هبط من الملأ الأعلى فما يمنعه أن يتصل به أثناء هذه الحياة؟ وقد زعم بعض الفلاسفة، وزعم بعض المتصوفة أن العقل يتصل بالملأ الأعلى أثناء الحياة بين حين وحين، وزعموا أنهم قد جربوا ذلك، وشهدوا ما لم يشهده غيرهم من الناس، فما بال أبي العلاء لا يحاول أن يتصل بهذا الملأ الأعلى ليعرف كنهه، ويبلو أسراره، وما باله لا ييأس أشد اليأس، ولا يسخط أعظم السخط إذا لم يبلغ من ذلك ما أراد، وما باله إذن لا يكذب أولئك الفلاسفة وهؤلاء المتصوفة، ولا يسخر منهم؟ ومما يزعمون لأنفسهم من التفوق والامتياز؟ الكبرياء إذن هي مصدر المحنة العلائية، وهذه الكبرياء جاءته من تصوره للعقل، وغلوه في الإكبار من أمره .
10
ولو قد تواضع أبو العلاء في حياته العقلية الفلسفية كما تواضع في سيرته العملية، ولو قد عرف أبو العلاء لعقله حده، ووقف به عند طاقته كما عرف لجسمه حده، وكما وقف بجسمه عند طاقته؛ لجنب من هذه المحنة شرا كثيرا، ولاستراح من عذاب أليم، لا نتصوره لأننا لا نعاني ما عاناه أبو العلاء من جهد، ولا نسمو إلى ما سما إليه أبو العلاء من غاية. لو فعل لاستراح وأراح. هذا حق، ولكن نحن ما خطبنا؟ أكنا نظفر باللزوميات، وبما نجد في قراءتها من هذا المتاع العقلي المؤلم المر الذي نحبه ونستعذبه برغم ما فيه من ألم ومرارة؟
هوامش
Unknown page
الفصل الرابع
أقام أبو العلاء في سجنه الفلسفي هذا نحو خمسين عاما، أو استكشف ذات يوم أثناء إقامته ببغداد،
1
أو أثناء عودته منها، أو بعد أن استقر في المعرة أنه مقيم في هذا السجن منذ رشد وبلا لذات التفكير وآلامه. فجعل منذ استكشف سجنه الفلسفي هذا يبلوه من جميع نواحيه، ويختبره على أي وضع من أوضاعه، ولا يرى من هذا البلاء والاختبار إلا شرا متصلا، وألما مقيما.
وقد كان يدركه التعب، ويبلغ منه الإعياء، فيستسلم إلى القنوط، ويستريح إلى اليأس حينا، ثم لا يلبث أن يسترد رجاءه، أو قل أن يسترد نشاطه، فيستأنف البحث والدرس، ويعاود الابتلاء والاختبار، ويحاول الصعود بعقله إلى السماء، فيرد عنها مدحورا.
وربما أتيح لأبي العلاء بين حين وحين شيء من التواضع فاستراح إلى ما يستريح إليه غيره من الناس، وعرف قدر نفسه أو قل قدر عقله، وأمل في روح الله ورحمته. وكان مثله في ذلك مثل الرجل الذي دفع إلى سفر غير قاصد في طريق طويلة طويلة لا ينتهي طولها، عسيرة عسيرة لا يسهل عسرها، قد سلطت عليها الشمس أشعتها الملتهبة المحرقة، فضرمت من حوله كل شيء، وجعلت الأرض التي يمشي عليها نارا لا يطاق مسها، والهواء الذي يتنفسه جحيما لا يطاق تنسمه. وهو مع ذلك مدفوع مدفوع لا يستطيع أن يرجع أدراجه؛ لأن من ورائه قوة لا تني عن دفعه، ولا يستطيع أن يقوم في مكانه ليستريح؛ لأن هذه القوة تدفعه دائما؛ ولأنه لا يجد الراحة في أي مكان يلم به. نار مهلكة تأخذه من كل وجه، وقوة عنيفة تدفعه إلى أمام، وأمل ضئيل نحيل يسبقه شيئا، ثم يقف له ويدعوه إلى نفسه، حتى إذا دنا منه، أو خيل إليه أنه دنا منه وثب هذا الأمل الضئيل النحيل وثبة أو وثبتين، ثم وقف لهذا المسافر المسكين يدعوه إلى نفسه مغريا له، ملحا عليه. وإنه لفي هذا السفر المتصل والعذاب الأليم، وإذا شجرات خضر قد بدون له مورقات مزهرات، لهن ظل رطب مريح، يجري بينهن غدير من ماء عذب صاف بارد، ينقع الغلة، ويشفي الظمأ، فيسرع المسكين إلى هذه الشجرات فيستظل بظلها حينا، ويشعر بشيء من النعيم لحظة، وينشد في نغمة حزينة - ولكن فيها اطمئنانا لا يخلو من قلق - هذه الأبيات:
صنوف هذي الحياة يجمعها
طول انتباه ورقدة وسنه
دنياك لو حاورتك ناطقة
خاطبت منها بليغة لسنه
Unknown page
ليفعل الدهر ما يهم به
إن ظنوني بخالقي حسنه
لا تيأس النفس من تفضله
ولو أقامت في النار ألف سنه
وما يوئسها من فضل الله عليها ورحمته لها، ورفقه بها، وقد طالت عليها الطريق حتى ظنت أنها لن تنقضي، وثقل عليها الجهد حتى ظنت أن لن تنهض به، وإذا هذه الشجرات الخضر ترفع لها فتأوي إليها، وتجد في ظلها الراحة والنعيم. ويدعو هذا التفكير مسافرنا البائس إلى أن يروي في أمره، ويستعرض سيرته، وإذا هو يلوم نفسه على غرورها، ويعاتبها على اقتحامها ما اقتحمت من هول، وتجشمها ما تجشمت من سفر، وعلى إسرافها في محاولة ما لا ينبغي أن يحاول؛ لأن الوصول إليه لم يقدر للناس. وإذا هو يستأنف الإنشاد في نغمة حزينة مطمئنة إلى اليأس، راضية به، مستريحة إليه، وإذا إنشاده يوشك أن يكون غناء، وإذا نحن نسمع منه هذه الأبيات:
منون رجال خبرونا عن البلى
وعادوا إلينا بعد ريب منون
بنون كآباء وكم برح الردى
بصب على علاته وبنون
دفناهم في الأرض دفن تيقن
Unknown page
ولا علم بالأرواح غير ظنون
وروم الفتى ما قد طوى الله علمه
يعد جنونا أو شبيه جنون
نعم جنون أو كالجنون أن تحاول علم ما طوي علمه عن الناس، وأن تتكلف في ذلك ما تكلفت من مشقة وجهد؛ فثق بحكمة الله، واركن إليها، واسترح إلى هذا الظل الظليل، والنسيم العليل، والماء العذب الصافي الذي تجد فيه شفاء من هذا الحر المهلك الذي اصطليت ناره دهرا طويلا.
ولكن العقل الإنساني مضطرب لا يعرف الاستقرار، ساخط لا يعرف الرضى، ثائر لا يعرف الإذعان، طامع لا يعرف القناعة، متكبر لا يعرف التواضع. وما كاد صاحبنا يستريح ويستقر حتى أخذ عقله يضطرب، وما كاد صاحبنا يهدأ حتى أخذ عقله يثور. وكأن القوة التي كانت تدفعه منذ حين إنما تخلفت عنه لحظات لا لتريحه، بل لتخيل إليه الراحة. وكأن الأمل الذي كان يسبقه، ويتراءى له إنما استخفى عنه ساعة لا ليؤمنه، بل ليخيل إليه الأمن. وإذا القوة الدافعة قد أقبلت من ورائه، وإذا الأمل المغرى قد قام أمامه غير بعيد، تلك تدفعه وهذا يدعوه، وعقله مشفق من تلك، راغب في هذا، وإذا هو يثيره من مكمنه، ويخرجه من مأمنه. وما هي إلا لحظات حتى تستخفي الشجرات الخضر، والنسيم العليل، والغدير العذب، وإذا صاحبنا في جحيمه القديم تأخذه النار من جميع أقطاره، تدفعه تلك القوة العنيفة، ويدعوه ذلك الأمل الخلاب، وقد جردت ثورة عقله لنفسه تلك الآلام العنيفة المتصلة التي لم يسترح منها إلا قليلا.
ولكن ما الذي أشعر أبا العلاء بهذا السجن الفلسفي؟ وما الذي أنبأه بأنه سجين؟ وما الذي كشف له عما يحيط به في هذا السجن من الحسرات والغمرات، ومن الآلام والأحزان؟ هو من غير شك سجن من سجونه الثلاثة، هو سجنه الطبيعي، أو سجنه الفسيولوجي إن صح هذا التعبير. هو هذه الآفة التي ألمت به في أول عهده بالحياة، فذهبت ببصره، وألقت بينه وبين النور حجابا كثيفا.
والصلة بين هذين السجنين من سجون أبي العلاء لا تخلو من غرابة تدعو إلى كثير من الرحمة والإشفاق، فقد فقد أبو العلاء بصره صبيا، واستقبل الحياة غير مستمتع بهذه الملكة التي ترسم في نفس الأحياء من الحياة صورا لا عهد له بها. ومع ذلك فقد جاوز الصبى، وتقدمت به السن إلى الشباب، وتقدم به الشباب إلى الكهولة دون أن ينكر من أمر الوجود شيئا ذا خطر أو دون أن يشتد إنكاره لأمر من الأمور.
وما من شك في أنه قد أحس منذ أول عهده بهذه المحنة الطبيعية فرقا عظيما بينه وبين أترابه. وما من شك في أن إحساسه هذا الفرق قد آلمه وآذاه، وأسبغ على نفسه شيئا من الكآبة المتصلة القاتمة، واضطره إلى كثير من التحرج والتحفظ والاحتياط في سيرته العملية، ولكن ما من شك في أنه قد قهر هذا كله، وظهر عليه وقتا طويلا من حياته، فقد اجتهد في أن يسير سيرة غيره من الناس، واجتهد أهله في أن يهيئوه لهذه السيرة ما وسعهم ذلك. علموه صبيا، وأعانوه على طلب العلم، وتعمقه شابا. ولعله قد بذل في سبيل ذلك ما لا يبذله كثير من المبصرين، فضلا عن المكفوفين، فهو قد ارتحل إلى حلب، وأنطاكية، وألم باللاذقية، ولعله أن يكون قد ألم بطرابلس. وهو قد سمع من شيوخ المسلمين، ورهبان النصارى، وقرأ في كتب أولئك وهؤلاء، وتعمق في درس الديانات، وفرغ بنحو خاص لإتقان اللغة وعلومها، وللأخذ بحظ عظيم من البراعة الأدبية. ولم يبلغ العشرين من عمره حتى كان نضجه العلمي قد تم، وحتى استطاع أن يقول بعد ذلك: إنه لم يحتج بعد هذه السن إلى أن يجلس من أحد مجلس الطالب من الأستاذ.
وقد فقد أباه في الرابعة عشرة من عمره، فحزن لفقده حزنا شديدا من غير شك، ولكن هذه الفاجعة لم تفت في عضده، ولم تفل من حده، ولم تقعد به عن الرحلة، ولم تصرفه عن الأسفار، ولما ألم من دور العلم في الشام بما كان يستطيع أن يلم به، وأخذ منها ما كان يستطيع أن يأخذه ، عاد إلى المعرة فاستقر فيها وادعا مطمئنا، يعاشر الناس ويخالطهم، ويشاركهم في خطوب الحياة، ويعكف على ما كان يعنيه من العلم والأدب، فينمي حظه منه، ومشاركته فيه. ومع أننا نجهل تفصيل حياته في المعرة، كما نجهل تفصيل حياة أمثاله من الشعراء والفلاسفة القدماء، فليس من شك في أن حياته مرت هادئة وادعة لا عنف فيها ولا اضطراب. ثم نيف على الثلاثين، فهم برحلة طويلة شاقة إلى بغداد، وأشفقت عليه أمه من هذه الرحلة، فحاولت صرفه عنها، ولكنها لم تفلح، ومضى أبو العلاء في إتمام ما عزم عليه، فانتهى إلى بغداد بعد خطوب امتحن فيها صبره وجلده، واحتماله، وذكاءه أيضا. وأقام في بغداد عاما ونصف عام؛ فعرف من أمرها ما كان يحب أن يعرف، وبلا من أهلها ما كان يحب أن يبلو، وحصل من علمها ما كان يريد أن يحصل، وظفر فيها من الشهرة وبعد الصيت بما كان يحب أن يظفر به، ولو استطاع لأنفق فيها بقية عمره كما يقول في بعض شعره، ولكنه لم يستطع؛ لأن أمه مرضت، ولأن الثروة لم تواته، فعاد إلى المعرة وقد استكشف هذا السجن الفلسفي، واضطر بحكم هذا الاستكشاف نفسه إلى أن ينشئ لنفسه سجنا ماديا ثالثا هو بيته الذي أقام فيه حتى مات.
فأنت ترى أنه قد حاول أثناء الصبا وأثناء الشباب، وفي أول عهده بالكهولة أن يعيش عيشة غيره من الناس، وأن يقهر المصاعب التي كان يثيرها أمامه فقد بصره، وظفر بقهر هذه المصاعب في أكثر الأحيان، وكان خليقا أن يمضي في سيرته هذه بعد الأربعين كما مضى فيها حتى كاد يبلغ الأربعين. وأي شيء كان أيسر عليه من أن يعيش شيخا كما عاش صبيا وشابا وكهلا، مخالطا للناس، مشاركا لهم فيما يختلف عليهم من الخير والشر، مفكرا كما يفكرون، أو مخالفا لهم في بعض ألوان التفكير، ممتازا منهم في علمه وذكائه أشد الامتياز، ممتازا منهم في سيرته العملية بعض الامتياز؟ وليس هو أول مكفوف قد تفوق على أمثاله بحدة الذكاء، ونفاذ البصيرة ، وغزارة العلم، وفصاحة اللسان، فلم يمنعه ذلك من أن يشارك الناس فيما كانوا يضطربون فيه من حلو العيش ومره؟ فقد ظهر قبله بين المسلمين من رزق النبوغ وحرم الإبصار، وعاش مع ذلك بين الناس لم يفارقهم ولم يعتزلهم، ولم يشذ من بينهم هذا الشذوذ. كان يستطيع أن يعيش معلما، وكان يستطيع أن يعيش شاعرا، وكان يستطيع أن يعيش كما عاش لا يستفيد رزقه من الشعر ولا من التعليم، وإنما يكتفي بهذا الوقف الضئيل الذي كان يعيش منه دون أن يفارق الناس، ويمسك نفسه في هذه العزلة المظلمة الشاقة.
Unknown page
كان هذا كله ميسورا لولا أن أبا العلاء لم يكن مهيئا له؛ لأنه كما قال قد خلق إنسي الولادة وحشي الغريزة. كان طبعه يعده للعزلة، ويهيئه للانفراد، وجاءت هذه الآفة فأمدت هذا الطبع وقوته، وجعلت تأثيره في حياته أشد وأعظم مما لو أتيح له الإبصار. ذلك أن هذه الآفة نفسها هي مرتبة من مراتب العزلة، ومرحلة من مراحلها تميزه من الناس شيئا وأي شيء! وتفرق بينه وبينهم إلى حد وأي حد! بل هي تميزه من الطبيعة في كثير جدا من مظاهرها، فهو لا يراها، ولا يحقق صورها وأشكالها، وهي لا تبلغ نفسه من طريق مستقيمة، ولا تؤثر فيها تأثيرا مباشرا، وإنما هو يعرف منها شيئا قليلا، ويجعل منها أشياء كثيرة، وهي تصل إلى نفسه من طرق معوجة ملتوية، فتبلغها بعد مشقة وجهد، وتبلغها مشوهة ممسوخة، وتؤثر فيها بحكم هذا كله تأثيرا مخالفا لتأثيرها في نفوس غيرها من الناس.
هو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للطبيعة، ممتاز منها، قد ألقي بينه وبينها حجاب، وهو إذن بحكم هذه الآفة معتزل للناس، ممتاز منهم قد قطعت بينه وبينهم الأسباب. وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز لا عن أن يستمتع بجمال الطبيعة كما يستمتع به غيره من المبصرين، بل عن أن يلائم بين حياته وبين كثير من مظاهر الطبيعة على نحو ما يفعل المبصرون، لا يظفر من ذلك إلا ببعض ما يعينه الناس عليه، وييسرونه له . وهو بحكم هذا الاعتزال والامتياز عاجز كذلك عن أن يستمتع بالحياة الاجتماعية كما يستمتع بها المبصرون، وعن أن يلائم بين سيرته، وبين ما تقتضيه هذه الحياة الاجتماعية من الأوضاع والأشكال، وما تفرض من السنن والعادات، لا يبلغ أيسر ذلك إلا إذا أعانه الناس عليه، ويسروه له. وواضح أن الناس حين يعينون أمثاله على أمثال هذه المصاعب إنما يصدرون عن رفق به وعطف عليه وإحسان إليه. فإذا كان الرجل ذكي القلب أبي النفس وحشي الغريزة آذاه ذلك، وشق عليه، وآثرت نفسه الحرمان مع العزة، والإباء على الظفر مع التعرض للشفقة والرحمة والإحسان.
ومن هنا تقوى في نفس أبي العلاء عاطفتان كان لهما أعظم الأثر في حياته، وأعظم السيطرة عليها: عاطفة الحياء من جهة، وعاطفة سوء الظن من جهة أخرى، عاطفة الحياء؛ لأن ذكاء قلبه، وإباء نفسه، واعتداده بشخصيته، كل ذلك يحمله على أن يرغب أشد الرغبة في أن يكون كغيره من الناس في الملاءمة بين حياته وبين قوانين الطبيعة، وفي الملاءمة بين حياته وبين أوضاع الاجتماع، فإذا أحس من نفسه القصور عن ذلك أو التقصير فيه آلمه هذا الإحساس أشد الإيلام، وآذاه أشد الإيذاء. وهو من أجل ذلك لا يقدم على ما يحتاج إلى الإقدام عليه من شؤون حياته الظاهرة إلا مترددا أشد التردد، مضطربا أشد الاضطراب، مرتابا بنفسه وبالناس أشد الارتياب، مؤثرا الإحجام مع العافية على الإقدام الذي قد يعرضه لرحمة الراحمين، وسخرية الساخرين. وعاطفة سوء الظن؛ لأن الناس بالقياس إليه مجهولون أو كالمجهولين، يسمع أصواتهم ولا يراهم، ويحس أعمالهم ولا يراها، فيفهم من ذلك ما يستطيع ويعجزه من ذلك أكثره. وما دام عاجزا عن أن يلائم بين سيرته وبين ما يقتضيه نظام الاجتماع فهو سيئ الظن بسيرته، وبالاجتماع أيضا.
وكل هذا يضطر أبا العلاء إلى أن ينصرف إلى نفسه عن غيره من الأشياء والأحياء جميعا، هو مصروف عن غيره بحكم هذه الآفة، وبحكم ما تنشئ في نفسه من العواطف، وهو مضطر من جهة إلى أن يحلل سيرته مع الناس والطبيعة، ومضطر من جهة أخرى إلى أن يحلل ما يصل إليه من سيرة الناس والطبيعة معه ما وسعه التحليل.
وإذن فهو بحكم هذا كله فارغ لنفسه، عاكف عليها، متهم لها سيئ الظن بها. وحسبك بهذا كله مثيرا للتشاؤم، ومسبغا للكآبة على النفس، وصابغا للحياة بهذه الصبغة الشاحبة عادة، القاتمة في كثير من الأحيان! وقد كان أبو العلاء في حاجة شديدة إلى شيء من بلادة الحس وفتور الشعور يرده إلى الاعتدال في الحكم، والقصد في التقدير، ويصده عن الغلو في الارتياب بنفسه وبالطبيعة وبالناس، ولكنه لم يرزق من بلادة الحس شيئا، وكان شعوره أبعد شيء عن الفتور. فإذا أضفت إلى ذلك غريزته الوحشية، وكبرياءه العنيفة لم تعجب؛ لأنه دفع إلى هذه الطريق التي سلكها، وإنما عجبت؛ لأنه دفع إليها متأخرا بعد أن نيف على الثلاثين.
ومع ذلك فهل نحن واثقون بأنه دفع إليها متأخرا؟ أليس من الجائز، بل من الراجح أنه دفع إليها منذ آخر الصبى، ولكنه دفع إليها في رفق ويسر، ولم ينته إلى غايتها إلا بعد تردد واضطراب، ووقت طويل؟ إن رثاءه لأبيه يصور لنا حياته العقلية في أول أمرها، فنرى فيها أصول الاضطراب الفلسفي، ومظاهر هذا التشاؤم الذي لزمه طول حياته. وما باله لم يذهب مذهب غيره من الشعراء فيمدح السادة والأمراء، ويستمتع بما يجزلون من عطائه؟ لم يكن إقصاره عن ذلك لقصور في ملكته الشعرية، فقد كان شاعرا بارعا منذ آخر الصبى وأول الشباب، وله مدح رائع قاله في شبابه، ولو أنه عرضه على السادة والأمراء لفرحوا به، ولأثابوه عليه، ولأكبروه في أنفسهم، وآثروه بمودتهم، ولكنه لم يفعل، لماذا؟ لأنه إنسي الولادة كغيره من الشعراء، ولكنه يمتاز منهم بهذه الغريزة الوحشية التي تصده عن الناس، وتنفره منهم، وبهذه الآفة التي زادته عنهم صدودا ومنهم نفورا، وبهذه الكبرياء التي ارتفعت به عن أن يظهر للناس حاجته إليهم أو انتظاره منهم المعروف. انظر إليه حين يمدح الإسفراييني في بغداد، ويستعينه على رد سفينته، كيف يطلب إليه ذلك في حياء وإباء، واعتداد بالنفس، وتصريح بعرفان الجميل إن فاز، وتسجيل للشكر والدعاء إن أدركه الإخفاق.
من أشد ما يملأ قلوبنا إشفاقا على أبي العلاء هذه الحرب العنيفة المتصلة التي ثارت بين طبيعته الإنسانية وغريزته الوحشية نحو ثلاثين عاما، والتي لم تنته إلا حين أزمع العودة من بغداد، وانتهت بانتصار الغريزة الوحشية على الطبيعة الإنسانية الاجتماعية. رجل من الناس ولد في بيئة متحضرة، وولدت معه ملكاته الاجتماعية كلها، فنشأ مستعدا كل الاستعداد ليكون فردا من الجماعة يشاركها في حياتها العامة والخاصة، ويأخذ بنصيبه مما يلم بها من سعادة، وما يصيبها من شقاء، فتأبى عليه غريزته الوحشية، وآفته هذه الطارئة إلا أن ينفرد من هذه الجماعة، ويشذ على ما ألفت من نظام. له ما لغيره من الغرائز الطبيعية والاجتماعية التي تدفعه إلى ألوان الحياة المختلفة دفعا شديدا، وتطالبه بتحصيل ما يحصل غيره من أنواع اللذات والنعيم، وهو خليق أن يجد في ذلك كما يجد فيه غيره من الناس، ولعل آفته هذه الطارئة أن تصور له الحياة ولذاتها على غير وجهها، وأن تخيلها إليه على غير حقيقتها، وأن تجعل تعلقه بها، وحرصه عليها أشد من تعلق غيره بها وحرصه عليها، وأن تجعل ألمه حين يرد عنها، وحسرته حين يحرم الظفر بها أشد مما يصيب غيره من الآلام والحسرات حين يكتب عليه الرد، ويقدر عليه الحرمان، ولكن غريزته تلك الوحشية، وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكظم هذه الغرائز كظما، ويكبتها كبتا، ويضطر جذوتها المضطرمة الملتظية إلى الانطفاء والخمود.
له ذكاء ممتاز، وملكات متفوقة، وقدرة على الإجادة والبراعة فيما لا يجيد الناس فيه ولا يبرعون، وهو من أجل ذلك معتد بنفسه، مكبر لها؛ لأنه شاعر بامتيازها وتفوقها، وهو من أجل ذلك خليق أن يمتاز من الناس في الاستمتاع بالحياة كما امتاز منهم في الكفاية والبراعة، وهو من أجل ذلك خليق أن ينتظر من الناس أن يعرفوا له ذلك، ويمكنوه منه، فإن لم يفعلوا فهو خليق أن يكرههم عليه إكراها، وأن يفرض نفسه عليهم فرضا ، ولكن غريزته تلك الوحشية وآفته هذه الطارئة تأبيان عليه إلا أن يكبح نبوغه كبحا، ويأخذ نفسه بأعنف العنف وأقسى القسوة، لا ليردها إلى التواضع والاعتدال، بل ليحملها حملا على أن تنكر نفسها أشد الإنكار، وتجحد امتيازها أشد الجحود.
وهنا تستطيع أن توازن بين أبي العلاء وبين شاعرين نابهين حكيمين من شعراء المسلمين، كلاهما شاركه في التفوق والنبوغ والامتياز، وأحدهما شاركه في هذه الآفة الطارئة التي نغصت عليه الحياة: وهما: بشار، والمتنبي.
فأما أولهما: فقد كان كأبي العلاء، ذكي القلب إلى أبعد حدود الذكاء، دقيق الحس إلى أقصى غايات الدقة، قوي الشعور إلى أرقى مراتب القوة، غزير العلم واسع المعرفة، فصيح اللسان بارعا في الشعر، قادرا على التصرف فيه إلى حيث لم يسبقه شاعر عربي. وكان كأبي العلاء ضريرا مكفوفا، وكان كأبي العلاء فيلسوفا عميق الفلسفة، مفكرا دقيق التفكير، متشائما مسرفا في التشاؤم، سيئ الظن بالناس، سيئ الظن بالطبيعة، سيئ الظن بكل شيء. ولكنه مع ذلك قد سار في حياته الطويلة سيرة أقل ما توصف به أنها مناقضة كل المناقضة لسيرة أبي العلاء. إذا كانت سيرة أبي العلاء طهارة ونقاء، وبراءة من الإثم والعاب؛ فسيرة بشار هي العهارة والدنس، والتهالك على الإثم، والإغراق في العاب، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تواضعا، بل إسرافا في التواضع؛ فسيرة بشار هي الكبرياء، بل تجاوز الكبرياء إلى ما هو شر منها إلى التيه والغرور، وإذا كانت سيرة أبي العلاء زهدا في الدنيا، بل إعراضا عنها، بل بغضا لها؛ فسيرة بشار رغبة في الدنيا، بل تهالك عليها، بل فناء فيها، وإذا كانت سيرة أبي العلاء تعذيبا لنفسه وجسمه، وأخذا لهما بأشد القوانين وأصرمها، وحملا لهما على أعنف المحامل وأخشنها، وصرفا لهما عن أيسر اللذات وأهونها؛ فسيرة بشار تنعيم لنفسه وجسمه، وإرسال لشهواتهما على سجيتها، وحمل لهما على أيسر المحامل وأوثرها، واقتحام بهما إلى أعظم حظ ممكن من اللذة، وأكبر قسط ممكن من النعيم. ومع ذلك فقد كان كل من الشاعرين مجبرا في أكثر أحيانه وأغلب أمره . وكان كل من الشاعرين ينكر التكليف أو يكاد ينكره. وكان كل من الشاعرين يجهر بأنه ليس مسؤولا عما يأتي في حياته من خير وشر، فما بال هذين الشاعرين اللذين اشتركا في هذه الآفة الطارئة كما اشتركا في التفوق والنبوغ قد سلكا هاتين الطريقين المتعاكستين؟
Unknown page
كان كل منهما متشائما، ولكن تشاؤم أحدهما انتهى به إلى العهارة والفجور والإباحة؛ وتشاؤم أحدهما الآخر انتهى به إلى الطهر والبر والنسك والتحرج. أكان مصدر هذا الخلاف البيئة التي عاش فيها كل من الشاعرين؟ فقد عاش بشار في بيئة زندقة ومجون؛ وعاش أبو العلاء في بيئة تحفظ واحتشام وورع، أكان مصدر ذلك الأسرة؟ فقد انحدر بشار من أسرة فارسية خضعت للرق؛ وانحدر أبو العلاء من أسرة عربية لم تعرف إلا العزة والحرية، أكان مصدر ذلك العصر السياسي؟ فقد عاش بشار في عصر ثورة لم تتناول السياسة وحدها، بل تناولت الأخلاق والدين ونظام الاجتماع؛ وعاش أبو العلاء في عصر مهما تفسد فيه الحياة فقد كان فيه استقرار ما للعرف الخلقي والاجتماعي، أم كان مصدر هذا كله ما قدمناه وغير ما قدمناه؟
وشيء آخر يظهر أنه أساسي، وهو أن بشارا كان إنسي الولادة والغريزة؛ وأن أبا العلاء كان إنسي الولادة وحشي الغريزة؟ فنشأ أولهما، ولا حظ له من حياء؛ ونشأ ثانيهما والحياء أظهر صفاته، وأعظم خصاله سلطانا عليه، ونشأ أولهما ولا سلطان له على غرائزه، وإنما لغرائزه على نفسه وجسمه السلطان كله؛ ونشأ ثانيهما ولا سلطان لغرائزه عليه، وإنما عقله هو المسيطر على نفسه وجسمه جميعا، ونشأ أولهما يمتدح بآفته جهرا؛ ونشأ ثانيهما لا يذكر هذه الآفة إلا كارها، فإذا تحدث عنها قال إنها عورة يجب أن تستر، ونشأ أولهما لا يعرف التستر بمباح ولا بمحظور، لا يتحرج أن يظهر سوأته للناس، ويرضي أخس غرائزه بين أيديهم فضلا عن معاقرة الخمر، وتتبع النساء، والتعرض في ذلك لما يخزي ويسوء؛ ونشأ ثانيهما لا يحب الجهر بشيء لا حظ له من محظور عليه، فإذا ألم بأيسر ما يباح له وهو الطعام ألم به سرا وعلى استخفاء، ونشأ أولهما محبا للمال، متهالكا عليه يطلبه من وجهه ومن غير وجهه، ويحصل عليه بالمدح، فإن أعياه ذلك حصل عليه بالهجاء، ونشأ ثانيهما والمال أبغض الأشياء إليه، وأهونها عليه، لا يطلبه بمدح ولا بهجاء، ولا يسعى إليه من وجه، ولا من غير وجه، يتاح له منه ما يقيم الأود، فيقسمه مناصفة بينه وبين خادمه، ولو استطاع لما أصاب منه شيئا، ونشأ أولهما عدوا للناس، مسيئا إليهم، مستطيلا عليهم إلا أن تكون لهم القوة، ويتاح لهم الاستعلاء، فهناك يذل ويستكين، ويظهر من الذلة والاستكانة ما يستحي منه أهون الناس شأنا وأقلهم خطرا؛ ونشأ ثانيهما محبا للناس أشد الحب، رفيقا بهم أعظم الرفق، يغلظ لهم قوله، ويرق لهم قلبه، يعنف عليهم في اللفظ، وينصح لهم في دخيلة النفس وأعماق الضمير، لا يريد بهم شرا، ولا ينتظر منهم خيرا، يقدم إليهم المعروف ما قدر عليه، ولا ينتظر منهم شكرا، بل لا يرى أنه يستحق منهم شكرا. شفع لقومه عند صالح، فلما نجحت شفاعته عاد وهو ينشد:
نجى المعاشر من براثن صالح
رب يفرج كل أمر معضل
ما كان لي فيها جناح بعوضة
الله ألبسهم جناح تفضل
ثم لم يقصر حبه على الناس، وإنما تجاوزهم به إلى الحيوان، فكف عنه أذاه، وود لو يستطيع أن يكف عنه أذى الناس. وعلى الجملة لم يشعر بشار بسجنه الفلسفي في وقت من الأوقات مع أنه حاول الفلسفة واتخذها له صناعة دهرا، ثم انصرف عنها ولم يحفل بها، وإنما حفل بأهوائه ولذاته ليس غير، عاش حرا طليقا ما وسعته الحرية، وما أرسل له العنان، وما زال في شهواته ولذاته وأهواء نفسه حتى انتهى به الشوط إلى بعض مفترق الطرق، وإذا الموت ينتظره فيبطش به بطشا عنيفا فيمضي، وقد كان الناس في حياته يؤثرونه بالبر خوفا منه وإشفاقا، فإذا هم بعد موته يتنفسون الصعداء، ويحمدون الله على أنه أنقذهم من بلاء عظيم! وشعر أبو العلاء بسجنه الفلسفي والطبيعي دائما، ثم لم يكتف بهما ، بل أضاف إليهما سجنا ماديا ثالثا، وأقام في هذه السجون شاعرا بها ملائما بين حياته وبينها، لا حظ له من حرية في سيرته؛ لأنه رفض هذه الحرية، أو اعتقد أنها لم تتح له، ولم تهد إليه، فلم يسئ إلى أحد بيد ولا بلسان ولا بنية، ولم يكد يسيء إليه أحد، ولعل بعض الناس أن يكونوا قد آذوه بأيديهم وألسنتهم فلم يضطغن على أحد منهم، ولم يضمر لأحد موجدة، وإنما عفا وغفر؛ لأنه كان يعتقد أن «من صبر وغفر إن ذلك لمن عزم الأمور» وقد عمر حتى نيف على الثمانين في عصر كثرت فيه الفتن، واشتد فيه الظلم، وانتشر فيه الفساد، وشاع فيه الكيد، واختلفت فيه على وطنه الدول، فلم يبسط عليه السلطان يده، ولم ينله بأذى على كثرة ما امتنع على السلطان، وعلى كثرة ما نعى على الملوك والأمراء سرا وجهرا. كان وادعا هادئا مكفوف الأذى عن الناس، فكف الله عنه أذى الناس. فلما مات كان الواجدون به أكثر جدا من الواجدين عليه.
وأما أبو الطيب: فقد نشأ وعاش في عصر قريب من عصر أبي العلاء، مشبه له في أكثر خصاله، وقد شارك أبا العلاء في ذكاء القلب، ونفاذ البصيرة، وفي التفوق والنبوغ، وشاركه في الشعور بفساد الحياة العامة للمسلمين من جميع أنحائها، وشاركه في الشعور بتفوقه وامتيازه، وفي اعتداده بنفسه، ولكنه لم يشاركه في هذه الآفة التي اضطرته إلى العجز، وأخذته بالوحدة، وفرضت عليه الاعتزال. ومع أن أصول الفلسفة العلائية توشك أن توجد كلها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك في غير هذا الحديث، ومع أن أصول الفن العلائي يوجد أكثرها في شعر أبي الطيب، وقد نبهت إلى ذلك أيضا في غير هذا الحديث، ومع أن أبا العلاء كان مقلدا لأبي الطيب، مفتونا به حتى لنستطيع أن نعده تلميذا من تلاميذه، مع هذا كله فما أعظم الفرق بين الرجلين لا في حياتهما العملية وحدها، بل في حياتهما العقلية أيضا! كان أبو الطيب عبدا لشهواته بشرط ألا نفهم من هذه الشهوات شهوات اللذة والفسوق، ونعيم الحياة، وإنما نفهم منها شهوات أخرى ممتازة بعض الشيء، شهوات الثروة والغنى والاستعلاء على الناس. أنفق حياته كلها في إرضاء هذه الشهوات، واحتمل في سبيل ذلك ما يطاق وما لا يطاق. ذاق مرارة البؤس، واحتمل ذل السؤال، وباع شعره في سوق الكساد، ومدح من كان يحتقرهم أشد الاحتقار، وتملق من كان يزدريهم أقبح الازدراء، ودفع إلى المخاطرة والمغامرة، وانتهى إلى السجن، وتعرض للموت، وباع نفسه وحريته وكرامته للملوك والأمراء، وتبدل رأيا برأي، ومذهبا بمذهب، وذل للفرس بعد أن كان لهم عدوا، وبهم مغريا، وعليهم محرضا، وما زال يتقلب في هذا الفساد السياسي والخلقي حتى تلقاه الموت في بعض الصحراء، فأراحه وأراح منه!
فأين هذا من أبي العلاء الذي لم يدع لنفسه شهوة إلا أذلها، ولا عاطفة إلا أخضعها لسلطان عقله، والذي اعتد بنفسه فارتفع بها عما تحتاج إليه الحياة من صراع، وآثرها بالعافية، وألزمها القصد والاعتدال، وضن بها على الكذب والمين، وعلى البيع والشراء، ولم يرد أن يتشبه بالملوك والأمراء في ملكهم وإمارتهم، ولا أن يطمع فيما يفيد عندهم الشعراء والأدباء والعلماء من رخيص اللذات، يشترونه بأغلى الأثمان، وإنما أراد ما هو أرفع من ذلك مكانا، وأبعد من ذلك منالا، وأجل من ذلك خطرا. أراد أن يتوحد؛ لأن الله واحد، فقال:
توحد فإن الله ربك واحد
Unknown page
ولا ترغبن في عشرة الرؤساء
وازن بين المطمحين، وقس إلى ضعة أبي الطيب رفعة أبي العلاء إن كان يمكن أن تقاس الرفعة إلى الضعة، ومع ذلك فقد لقي كل من الرجلين في سبيل مطمحه آلاما شدادا لا يبلغها الإحصاء، إلا أن آلام المتنبي تقص فلا تثير في نفسي إلا غيظا وازدراء، وقد تثير في نفس غيري من الناس إكبارا وإعجابا، وآلام أبي العلاء تقص فتثير في نفسي حبا وإجلالا، كما تثير فيها عطفا وحنانا وإشفاقا. وما أرى أنها تثير في نفوس غيري من الناس ازورارا عن الرجل أو تنكرا له، أو استخفافا به. وأنا أقرأ شعر الرجلين فأذكر قول أبي العلاء حين شفع إلى صالح في قومه:
فيسمع مني سجع الحما
م وأسمع منه زئير الأسد
ولكن زئير الأسد كان يدل على شيء حين كان يصدر عن صالح وأشباهه من المغامرين الذين كانوا يعملون ولا يقولون. فأما زئير الأسد الذي كان يصدر عن المتنبي فقد كان فارغا لا يحتوي شيئا، ولا يدل على شيء. وأصدق وصف له قول أبي العلاء حين سمع شعر ابن هانئ الأندلسي: كأني أسمع رحى تطحن قرونا! فقد كان شعر المتنبي جعجعة فارغة إذا فخر وتكثر، ولم يكن شعره ذا غناء. لم يكن شعره يمس النفس، ويبلغ القلب إلا حين كان يتغنى حزنه، ويشكو بثه، ويصور آلامه في تواضع واعتدال. لم يشعر المتنبي قط بأنه سجين إلا حين اضطر إلى السجن بعد ثورته أثناء الشباب، وقد استقبل هذا السجن المادي في أول أمره كبير النفس، حمي الأنف، ولكنه لم يلبث أن ذل واستكان، وأنفق أيامه في السجن ضارعا مستعطفا، يتوسل إلى الأمير، ويتبرأ مما اتهم به حتى أدركه العفو، وردت إليه حريته، هذه الحرية المبتذلة التي يستمتع بها الناس جميعا؛ لأنها حرية الأجسام لا حرية النفوس. فأما أبو العلاء فقد شعر بسجنه، بل بسجونه، وألح على نفسه بهذا الشعور، واحتمل من أجل ذلك آلاما تملأ النفوس رحمة له وإشفاقا عليه، ولكنه استمتع في هذه السجون بهذه الحرية العليا التي لا يستمتع بها إلا الممتازون من الناس؛ لأنها حرية النفس والقلب والعقل. ومع ذلك فقد كان أبو العلاء يرى نفسه مجبرا، ويرى أن ليس له من الحرية حظ!
أرأيت إلى الموازنة بين أبي العلاء وصاحبيه هذين إلام تنتهي؟ وماذا تعقب في النفس من إعجاب مر بهذا الرجل الضئيل النحيل، الذي شارك صاحبيه في كثير من أشياء كانت تقتضي أن تتشابه حياتهم، ولكنه مع ذلك امتاز منهما أشد الامتياز وأعظمه؟
أنا أعجب ببشار وأكبر فنه، ولكني لا أحبه، ولا أراه يثير في نفسي إلا صدودا عنه، وضيقا به. وأنا أقدر فن المتنبي، وأعجب ببعض آثاره إعجابا لا حد له، وأعجب ببعضها الآخر إعجابا متواضعا - إن صح أن يتواضع الإعجاب! - وأمقت سائرها مقتا شديدا. ولا تثير حياة المتنبي في نفسي إشفاقا عليه، ولا رثاء له وإنما هو مغامر طلب ما لم يخلق له، وتعرض لما كان يحسن أن يعرض عنه، فانتهى إلى ما ينتهي إليه أمثاله المغامرون. فأما أبو العلاء فإن له في نفسي شأنا آخر لا يغيظني، ولا يحفظني؛ لأن حياته كلها قد برئت مما يحفظ أو يغيظ، وهو قد يغيظ فريقا من الناس، وقد يحفظهم؛ لأنه يخالفهم في الرأي، ولأنه ينكر ما يعرفون، ويسخر مما يرتفعون به عن السخرية، ويستهزئ بما يرون الاستهزاء به إثما ونكرا. ولكنك تعلم أن الذين يسيغون الحرية ويذوقونها لا يحفظهم خلاف في الرأي، ولا يغيظهم افتراق في المذهب. وأبو العلاء حري بعد ذلك أن يثير في نفسك الإشفاق لا الحفيظة؛ لأنه لم يخالفك في الرأي معاندا ولا مكابرا، وإنما خالفك في الرأي بعد أن اجتهد ما وسعه الاجتهاد، وبعد أن نصح لنفسه ولك ما وسعه النصح. وما يحفظك من رجل أراد الصواب فانتهى إلى ما تراه أنت خطأ؟ وما يغيظك من رجل طلب الخير وجد في طلبه فانتهى إلى ما تراه أنت شرا، وهو قد احتمل في ذلك آلاما لا تكاد توصف ولا تحصى؟
كان هؤلاء الشعراء الثلاثة: بشار، والمتنبي، وأبو العلاء كبارا في أنفسهم، وكانت كبرياؤهم أظهر ما سيطر على حياتهم من خصلة، ومصدر ما لقوا من مكروه. فوازن بين الكبرياء عند هؤلاء الشعراء الثلاثة، ووازن بين ما تركت كبرياؤهم من آثار لهم أولا، ولغيرهم من الناس بعد ذلك. فأما كبرياء بشار فقد أذاقته لذات عارضة، وبغضته إلى الناس، وانتهت به إلى بطش السلطان، ثم أبقت له آثارا يعجب بها الناس إعجابا فنيا خالصا، ولكنهم قلما ينتفعون بها في تقويم الأخلاق والعقول، ولعل أساءتها إلى الأخلاق والعقول أن تكون أكثر جدا من إحسانها. وأما كبرياء المتنبي فقد حرمت عليه اللذة وجرعته الألم أثناء حياته، وأذاقته الذلة والهون، وانتهت به إلى أن يغتاله بعض الأعراب في بعض الصحراء، وأبقت للناس منه آثارا يعجبون بها إعجابا فنيا يختلف قوة وضعفا باختلاف الأذواق والميول، ولكنها لا تجعل من صاحبها مثلا يحتذى، ولا نموذجا يتوخى في تقويم العقول والأخلاق، ولعلها أن تكون إلى إثارة الغرور والاقتناع بالقول دون العمل والرضا بالعرض دون الجوهر أدنى منها إلى إشعار النفس هذا التواضع الخصب المنتج الذي يجعل صاحبه نافعا لنفسه وللناس.
وأما كبرياء أبي العلاء فقد جرعته مزاجا من الألم واللذة أثناء حياته الطويلة، ولكنه ألم يطهر النفس ولا يفسدها، ولكنها لذة ترفع النفس ولا تضعها، وتقويها ولا تضعفها. والغريب من أمر هذه الكبرياء التي لا أعرف أن شاعرا عربيا قد شقي بمثلها أنها أنتجت لأبي العلاء تواضعا لا أعرف أن شاعرا أو فيلسوفا عربيا سعد بمثله. وقد انتهت كبرياء أبي العلاء به إلى موت هادئ لا عنف فيه، بعد حياة طويلة هادئة لا عنف فيها إلا ما كان يشق به أبو العلاء على نفسه من التكاليف. وقد أبقت كبرياء أبي العلاء للناس منه آثارا خصبة أشد الخصب، مختلفة أشد الاختلاف، مختلفة في طبائعها، مختلفة في نتائجها، منها العلم الذي يغذو العقل، ومنها الفن الذي يغذو القلب والذوق، ومنها الفلسفة التي تغذو العقل والقلب والخلق جميعا. وفي آثار أبي العلاء شدة على الناس، شدة في ألفاظها، وشدة في معانيها، وشدة في أساليبها أيضا. ولكن في هذه الآثار شدة على أبي العلاء نفسه! فقد لقي في إنشائها عناء وجهدا، أرجو أن أصورهما بعد حين، فلا أقل من أن نلقى في الفهم عنه والانتفاع به بعض ما لقي من العناء في إفهامنا ونفعنا. وفي آثار أبي العلاء ثقل على النفوس التي لا تحب إلا الهين من الأمر، ولا تألف إلا الحياة اليسيرة الوادعة التي لا تكلف أصحابها مشقة ولا عسرا. ولكن أبا العلاء نفسه لم يكن يحب الهين من الأمر، ولم يكن يألف أقصر الطرق كما قال بول فاليري فيما ترجمت عنه في أول هذا الكتاب، والله لا يكلف نفسا إلا وسعها. وما ذنب أبي العلاء إذا كان لم يخلق للسهولة ولا للين، وإنما خلق للمشقة والجهد! وحسبه أنه لم يلق في حياته سهولة ولا لينا، أو أنه قد حمل نفسه حملا في حياته على الإعراض عن السهولة واللين.
وفي كثير من آثار أبي العلاء كآبة وشحوب لا تستريح إليهما النفوس التي تألف الإشراق والابتسام، ولكن الحياة ليست إشراقا كلها ولا ابتساما، والرائد لا يكذب قومه، وقد وكل الله بإشراق الحياة وابتسامها من الكتاب والشعراء من يعرضونها على الناس فيملأون نفوسهم إشراقا وابتساما وأملا. ووكل الله بما في الحياة من ظلمة وعبوس كتابا وشعراء يعرضونهما على الناس فيملأون نفوسهم ظلمة وعبوسا، ويشرفون بها على اليأس أحيانا. وصدقني إن الحياة لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا البهجة والرضا، كما أنها لا تستقيم لك إذا لم تلتمس فيها إلا الحزن والسخط. فلائم بين ذلك، وخذ من هذا ومن ذاك بحظ، وإذا وجدت البهجة والرضا عند هذا الشاعر أو ذاك من الشعراء المتفائلين فلا تكره أن تلتمس شيئا من الحزن والسخط عند بعض الشعراء المتشائمين، فإن السرور المتصل كاذب، وهو خليق أن يقتل النفس، ويميت القلب، وإن الحزن المتصل صادق، ولكن نفوس الناس لا تطيق له احتمالا، فلا أقل من أن تلم به، وتشرف عليه، وتصيب منه قليلا يصلح من أمرها، ويعصمها من هذا النسيان الذي هي منتهية إليه إن كانت حياتها صفوا خالصا، وهل إلى الصفو الخالص من سبيل؟
Unknown page