ومن ثم، فعند مواجهة تحد كبير كفقدان وظيفة مثلا، قد يشلنا القلق، وينصب كامل تركيزنا على الجوانب السلبية لما حدث، ونحدث أنفسنا قائلين: «الآن لن أكون قادرا على دعم عائلتي» و«يا لي من مسكين! لن أحصل على وظيفة أخرى». خطر هذا الموقف أن التركيز على ورطتنا المباشرة من منظور ضيق للغاية، سيتركنا غير قادرين على أن نحرك ساكنا حيالها. وعلى العكس من ذلك، سنجد أن استخدام فطنتنا للنظر في المواقف في سياقها الأوسع ومن وجهات نظر مختلفة يساعدنا في التوصل إلى حلول. (4) عدم اليقين الحتمي
من المؤكد أننا مهما حاولنا بجد، فستظل الفطنة البشرية دائما غير مكتملة. وما لم نكن مستبصرين أو كليي المعرفة، مثل بوذا أو مثل الإله، فلن نرى الصورة كاملة أبدا، ولن نعرف جميع الأسباب التي أدت إلى أي موقف. ونحن لا نستطيع أيضا توقع جميع عواقب أفعالنا. سيظل عنصر عدم اليقين حاضرا على الدوام. من المهم أن نعترف بهذا، لكنه ينبغي ألا يقلقنا. وينبغي أيضا ألا يجعلنا نيئس من قيمة التقييم العقلاني. وإنما ينبغي أن يلطف من حدة أفعالنا بدرجة مناسبة من الحذر والتواضع. ففي بعض الأحيان، يكون الاعتراف بأننا لا نعرف الإجابة مفيدا في حد ذاته. إذا كنا لا نعرف شيئا، فالاعتراف بذلك صراحة أفضل من التظاهر باليقين النابع من كبرياء في غير محلها أو غرور.
إن عدم اليقين هو سبب آخر لضرورة ارتكاز الأخلاق على مستوى الدافع كما قلت، بدلا من التفكير في العواقب فحسب. الحقيقة هي أن عواقب أفعالنا غالبا ما تكون خارج نطاق سيطرتنا. لكن ما نتمتع بالسيطرة عليه هو مستوى الدافع، إضافة إلى استخدام قدراتنا النقدية وفطنتنا. وعندما نجمع بين هذين العنصرين، فإننا نضمن بذلك أننا نبذل قصارى جهدنا. (5) ثمار الفطنة
إن جميع تطبيقات حسن التمييز التي ناقشتها فيما سبق، تمنحنا فهما، ويمنحنا التأمل في هذا الفهم وعيا أعمق وأكثر استدامة. فعندما تقترن الفطنة بدافع من دوافع الرأفة، يصبح لدينا المكونان الرئيسيان لنهج شامل للأخلاق والرفاهية الروحية في سياق علماني. وهذان المكونان: الرأفة والفطنة يعزز كل منهما الآخر. فعن طريق الحد من الخوف وانعدام الثقة تخلق الرأفة مساحة هادئة ومستقرة في قلوبنا وعقولنا، وهذه المساحة تسهل علينا كثيرا فيما يتعلق بممارسة الفطنة أو الذكاء. وبالمثل، فإن ممارسة الفطنة يمكنها أن تعزز اقتناعنا بضرورة الرأفة ومزاياها. ولذا، فكل منهما يكمل الآخر على نحو عميق.
الفصل السابع
الأخلاق في عالمنا المشترك
(1) تحدياتنا العالمية
في مسكني في دارامسالا، تلك المدينة الواقعة على التلال في شمال الهند، التي ظلت موطني منذ أوائل ستينيات القرن العشرين، أمارس عادتي اليومية في الاستيقاظ مبكرا، عادة في حوالي الساعة 3:30 صباحا. وبعد بعض ساعات من التمارين الذهنية والتأمل، أستمع عادة إلى أخبار العالم عبر الإذاعة. في أغلب الأحيان، أستمع إلى محطة «بي بي سي وورلد سيرفيس» الإذاعية. وتلك عادة يومية أمارسها منذ سنوات عديدة، كوسيلة للاطلاع على الأحداث حول العالم.
وبينما أستمع إلى التيار المتدفق من التقارير التي تناقش النقود والأمور المالية والأزمات والصراعات والحرب، يخطر على ذهني عادة أن المشكلات المعقدة التي نواجهها في العالم: مشكلات الفساد والبيئة والسياسة وما إلى ذلك، تشير في معظم الأحيان إلى غياب القيم الأخلاقية والداخلية. فعلى جميع المستويات، نرى نقصا في الانضباط الذاتي. كما أن العديد من المشكلات تعزى أيضا إلى غياب الفطنة، وقصر النظر أو ضيق الأفق.
لا شك في أن الأسباب والظروف المحيطة ببعض المشكلات تكون شديدة التعقيد. فعلى سبيل المثال، يعود تاريخ بذور العنف العرقي، والتمرد والحرب في الغالبية العظمى من الحالات إلى عقود أو حتى قرون ماضية. بالرغم من ذلك، إذا كنا مهتمين حقا بمعالجة مشكلاتنا من جذورها، سواء أكنا نتحدث عن الصراع الإنساني أو الفقر أو تدمير البيئة، فعلينا أن ندرك أنها ترتبط في نهاية المطاف بقضايا أخلاقية. إن مشكلاتنا المشتركة لا تسقط من السماء، ولم تخلقها أيضا قوة أعلى. وإنما هي في الغالب نتاج الفعل البشري والخطأ البشري. وإذا تمكن الفعل البشري من خلق هذه المشكلات في المقام الأول، فلا شك بأننا نتمتع - نحن البشر - بالقدرة على إيجاد حلولها وبالمسئولية تجاه ذلك أيضا. الطريقة الوحيدة التي يمكننا من خلالها تصحيح هذه الأوضاع هي تغيير نظرتنا إليها وطرقنا في حلها، إضافة إلى اتخاذ الإجراءات اللازمة. (2) المسئولية العالمية
Unknown page