Luther Muqaddima Qasira
مارتن لوثر: مقدمة قصيرة جدا
Genres
غير أن هس خلف زملاء مؤيدين وحركة إصلاح حقيقية في مسقط رأسه بوهيميا؛ إذ هب أتباعه التشيكيون وقد ثارت ثائرتهم لإعدامه، وألهبت نيران سخطهم مشاعر قومية ليقفوا في مجابهة ملك تشيكوسلوفاكيا والكنيسة الرومانية، واختاروا كأس العشاء الرباني شعارا يرمز لمطالبتهم بالخمر الذي حرموا منه في قداس العشاء الرباني، والذي اقتصر تقديمه على القسيسين. وأطلق على المعتدلين من أتباع هذه الحركة «الأتراكوست» (وهو اسم مشتق من اللاتينية يعني «كلا»)؛ لأن أتباعها احتفلوا بقداس العشاء الرباني بتقديم الخبز والخمر كليهما لجميع المتناولين، واستجاب مجلس بازل عام 1431 لمطالبهم، بعد سلسلة من المعارك التي فشلت في قمع ثورتهم، وصمدت جماعتهم تحت اسم الإخوان البوهيميين، مع بقاء عدد قليل من الكاثوليكيين المخلصين للكنيسة الرومانية حتى حرب الثلاثين عاما (التي امتدت من عام 1618 إلى عام 1648). اندلعت تلك الحرب بعد أن قذف بعض البروتستانتيين الساخطين مسئولين من الكنيسة الكاثوليكية ومساعدهما من نوافذ قلعة براج، متهمين إياهم بتقويض حريتهم الدينية، وعلى الرغم من أن الرجال الثلاثة هبطوا على كومة من الروث ونجوا من الموت، قادت تلك الواقعة إلى هزيمة البروتستانتيين ونهاية حركة الإصلاح الديني الهسية.
آخر أسلاف لوثر الذين صوروا على نصب فورمس التذكاري هو جيرولامو سافونارولا (1452-1498) وهو راهب دومينيكي حرمه البابا أليكساندر السادس كنسيا، ثم أعدم بعدما ارتدت عليه محاولاته لقلب فلورنسا إلى جمهورية مسيحية ملتزمة، فبعد أن طردت القوات الفرنسية أسرة ميديشي الحاكمة من إيطاليا، ليخلفها هو كحاكم فلورنسا الفعلي، بذل مع مؤيديه قصارى جهده لقمع الخطيئة والقضاء على صور العبث بالمدينة؛ فأصدر قوانين تحرم الميسر والإسراف في الملبس للاقتصاد في الإنفاق، حتى إن نساء المدينة تدفقن على ميدانها العام سنة 1497 لإلقاء أدوات الزينة والمرايا والملابس الفاخرة والحلي الباهظة الخاصة بهن في محرقة هائلة أضرمت في الخلاء، عرفت باسم حادثة «حرق الباطل». وبرر سافونارولا هذه الإجراءات في عظات حماسية ، تستند إلى رؤى خاصة به، تنبأت بميلاد عصر روحاني جديد، بعد أن تطهر العالم من آثامه من خلال المحن الهائلة التي تعرض لها. ولما رفض سافونارولا الامتثال لأوامر استدعائه إلى روما، هدد بابا الكنيسة الرومانية بحرمان فلورنسا بأسرها من تلقي القرابين المقدسة. ونظرا لحرمان شعب فلورنسا من التأييد الفرنسي، انقلب على سافونارولا، واقتحم بعض الغوغاء دير سان ماركو وأسروه مع اثنين من مساعديه، وسلموا الثلاثة إلى السلطات المدنية، حيث خضعوا للاستجواب وعذبوا وشنقوا جميعا في 23 من مايو عام 1498 في وسط المدينة، وأحرقت جثامينهم.
كان لمصممي نصب مدينة فورمس أسباب قوية لتصوير الولدينيسيون وويكليف وهس وسافونارولا كأسلاف للوثر، فقد اشتركوا معه في الكثير من السمات؛ فكان الإنجيل هو أصل دعواهم لإصلاح الحياة الدينية، وقد أيدوا ترجمة أجزاء منه إلى اللغة العامية؛ ليتسنى لعامة الناس قراءة الكتاب المقدس بأنفسهم، وشجعوا أتباعهم على أن يجعلوا تعاليم المسيح والمسيحيين الأوائل في العهد الجديد مثلهم الأعلى، وكان الوعظ الديني أداة قوية لنشر أفكارهم، وواصلوه حتى بعد أن أثنوا عنه وحرموا كنسيا. علاوة على ذلك، فقد انتقدوا سلوك رجال الدين بالكنيسة الرومانية وتحدوا السلطات البابوية، وتمتعت حركة إصلاحهم بتسامح سياسي وتأييد جعلها تصمد لفترة في فرنسا وإيطاليا وإنجلترا وبوهيميا؛ فالإصلاح من المبادئ القديمة في المسيحية، وأغلب محاولات التغيير على مر تاريخها بما في ذلك التجديدات الرهبانية اتسمت بسمة أو أكثر من تلك السمات.
ما الذي ميز لوثر إذن عن الإصلاحيين الآخرين الذين يحمل نصب فورمس أسماءهم؟ فيما يتصل بجون هس - وهو أكثر من ألم لوثر به من أسلافه في الإصلاح - فقد أجاب لوثر عن هذا السؤال أكثر من مرة؛ ففي مناظرة في مدينة لايبزيج عام 1519 اتهم رجل الدين الكاثوليكي جون إيك لوثر بأنه اعتنق ثلاثا من هرطقات هس، فكان رد الأخير هو اتهام أتباع هس بأنهم بوهيميون منشقون، غير أنه أعلن أيضا أن بعضا من تصريحات هس التي أدينت في كنيسة كونستانس؛ استمدت إلى حد كبير مصدرها من الإنجيل وتعاليم الدين المسيحي. وقد أرسل له اثنان من جماعة الأتراكوست في براج نسخة من كتاب هس عن الكنيسة في وقت لاحق من هذا العام، والراجح أنه قرأ الكتاب قراءة سريعة، ففي أوائل عام 1520 قال لوثر واصفا تأثير الكتاب:
آمنت واعتنقت إلى الآن جميع تعاليم جون هس دون أن أعرف ذلك ... باختصار، جميعنا نتبع هس دون أن ندري ... وتذهلني هذه الأحكام الإلهية المريعة التي تصدر بحقنا. أبرز حقائق الكتاب المقدس - التي أحرقت علانية قبل أكثر من مائة عام - تدان اليوم ولا يسمح لأحد بأن يقر بها.
هذه الكلمات التي تقر بأن هناك فارقا ضئيلا فقط، أو فارقا لا يذكر، بين هس ولوثر بدا كأنها تحقق نبوءة شهيرة، عزاها لوثر بعد 11 عاما إلى هس الحبيس الذي قال: «سيحرقون هذه الإوزة (فاسم هس يعني إوزة)، لكن بعد 100 عام سيضطرون رغما عنهم إلى تحمل الاستماع إلى أغنية بجعة.» لا يوجد ما يدل على أن هس قد أدلى بهذه النبوءة، لكن أتباع لوثر في كتاباتهم ورسوماتهم التي صوروا فيها بجعة إلى جانب لوثر آمنوا بأنها تحققت بالأخير.
غير أن لوثر لم يتوحد مع هس على الدوام، ففي عام 1520 زعم أن نقد هس للبابوية لم يبلغ الحد الكافي، وأن نقده هو لها بلغ خمسة أضعاف ما حققه هس. وفي كتاب «أحاديث المائدة» - وهو عبارة عن نسخ منقحة لمحادثاته على الموائد - ينتقد تشبث هس بخرافات العامة واهتمامه بانتهاج السلوكيات السليمة أكثر من اهتمامه بالتعاليم الصحيحة، فقال:
لا بد من التمييز بين العقيدة والسلوك. نحن نسيء السلوك كما يسيء البابويون، لكننا لا نحارب البابويين أو نشجبهم لهذا. لم يع ويكليف وهس هذا وهاجما البابوات لسلوكهم ... (أما مهاجمة العقائد) فهي ما أدعو إليه.
يرجح أن لوثر كان يشير إلى كتابات ويكليف وهس التي تهاجم السيمونية (شراء المناصب الكهنوتية) والفساد الأخلاقي بين رجال الدين، لكن الفارق البين الذي وضعه للفصل بين العقيدة والسلوك مغالى فيه، فمع أنه أكد على أن عقيدة المسيحية الأساسية لا تتمحور حول الفضيلة، بل حول الإيمان، فقد ذكر أيضا أن الإيمان الحق لا يتجزأ عن المحبة والرأفة، ففي عظة أدلى بها بعد عودته من مدينة فيتنبرج عام 1522 وبخ مستمعيه قائلا:
أنتم على استعداد للتمتع بكل الأطياب التي وهبها لنا الرب في القرابين المقدسة، لكنكم لا تبدون استعدادا لمنحها ثانية في صورة محبة ... وا أسفاه! لقد استمعتم إلى الكثير من الخطب الدينية عن هذا، وكتبي مليئة بالموضوعات التي تتناول هذا الشأن، والتي كتبت لهذا الغرض؛ لحثكم على الإيمان والمحبة.
Unknown page