ويقولون: فلان حميد النوايا، يريدون النيات جمع نية، وإنما النوايا جمع نوية مثل الطوايا جمع طوية. ولم ترد النوية في شيء من كلامهم بهذا المعنى.
ويقولون: هو وريث فلان ووريث العهد وهم الورثاء، ولم ينقل عنهم لفظ الوريث، إنما هو الوارث، والجمع الورثة والوراث.
ويقولون: وحش كاسر؛ أي: ضار، وإنما الكاسر في مثل هذا من صفات جوارح الطير، يقال: كسر الطائر: إذا ضم جناحيه يريد الوقوع، وباز كاسر، وعقاب كاسر.
ويقولون: حكم صارم؛ أي: عنيف، ورجل صارم مثله، وفلان من أهل الصرامة؛ أي: من أهل الشدة والعنف، وإنما الصرامة بمعنى الشجاعة، وفسرها في الأساس بمعنى المضاء في الأمور، وقد صرم الرجل بالضم وهو صارم، نادر.
ويقولون: انجلى القوم عن المكان؛ أي: خرجوا منه، ولا يأتي انجلى بهذا المعنى، والصواب جلوا وأجلو، وقيل: جلوا من الخوف وأجلوا من الجدب، وهذا أوان جلائهم بالفتح.
ويقولون: اقتصد كذا من المال: إذا استفضل منه فضلة، فيغيرون معنى الفعل ووجه استعماله؛ لأن الاقتصاد في اللغة بمعنى الاعتدال والتوسط في الأمر. يقال: فلان مقتصد في معيشته إذا توسط بين التقتير والإسراف، واقتصد الرجل في أمره إذا لم يبالغ فيه، وأصل معنى القصد استقامة الطريق، فكأن المقتصد لا يميل إلى التفريط ولا الإفراط ، ولكن قصدا بين الطريقين، وحينئذ فلا معنى لأن يقال: اقتصدت مالا فضلا عن أن الفعل لازم لا يحتمل التعدية، ويا عجبا! لم لا يستعمل التوفير في هذا الموضع، وهو اللفظ اللائق به مع شهرته على الألسنة وعدم مباينته لأصل المعنى الذي وضع له. بلى إنا لم نجد هذا اللفظ في كلامهم على وجهه الذي نستعمله اليوم، ولكن يمكن رده إلى كلامهم من أسهل سبيل، وذلك إنهم يقولون: شيء وافر: أي تام لا نقص فيه. وقد وفره توفيرا: إذا جعله تاما، وكذلك إذا تركه تاما. يقال: وفر شعره إذا لم يأخذ منه، ووفرت عرضه إذا لم تنتقصه بشتم. وجاء في اصطلاح العروضيين إطلاق الموفر على ما جاز من الأجزاء أن يخرم فلم يخرم، فسمي ترك الخرم توفيرا. فيتحصل من ذلك أنك تقول: وفرت المال إذا لم تنقص منه، ثم استعمل في الحصة التي استبقيت منه فجعل استبقاؤه توفيرا، وهو غير خارج عن أصل المعنى كما ترى. وقد تضافرت على هذا الاستعمال أقوال مشاهير الكتاب من المولدين، ولا بأس أن ننقل شيئا منها في هذا الموضع ولو أطلنا تقريرا للفائدة.
فمن ذلك ما جاء في مروج الذهب للمسعودي في الكلام على خلافة المعتضد نقلا عن ابن حمدون أن المعتضد أمر أن تنقص حشمه ومن كان يجري عليه من كل رغيف أوقية ... قال: قال ابن خلدون: فتعجبت من ذلك في أول أمره، ثم تبينت القصة فإذا إنه يتوفر من ذلك في كل شهر مال عظيم. ا.ه. وجاء في المجلد الثاني من نفح الطيب للمقري (صفحة 528 من النسخة المطبوعة في مصر): أمضي إليكم وألقاكم في بلادكم رفقا بكم وتوفيرا عليكم. وفي المجلد نفسه (صفحة 613)، وما ذلك منه إلا توفير لرجاله وعدته ودفع بالتي هي أحسن. وفي المجلد الثاني من كتاب ألف با للبلوي (صفحة 168) نقلا عن بعض التفاسير أن سليمان سأل مرة نملة: كم تأكلين في السنة؟ فقالت: ثلاث حبات. فأخذ النملة وجعلها في حق، وجعل معها ثلاث حبات، ثم نظر إليها بعد سنة فوجدها قد أكلت حبة ونصف حبة، فقال: كيف هذا؟ فقالت: لما سجنتني هنا وأنت ابن آدم خشيت أن تنساني فوفرت قوت عام آخر. ا.ه. وبهذا القدر كفاية.
ويقولون: رجل تعيس وقوم تعساء، وهو من أهل التعاسة، وكل ذلك خلاف المنقول عن العرب. والمسموع عنهم رجل تاعس وتعس بوزن كتف، وقد تعس بفتح العين وكسرها، والمصدر التعس بالفتح والتعس بالتحريك، ويعدى الأول بالهمزة؛ تقول: أتسعه الله إتعاسا، والثاني بالحركة تقول: تعسه بالفتح، وهو متعس ومتعوس لم يحك فيه غير ذلك.
ويقولون: نوه بالأمر عنه؛ أي ذكره تلويحا وأشار إليه من طرف حفي. وليس ذلك من استعمال العرب في شيء، وإنما هو من تواطؤ العامة. قال في الأساس: نوهت به تنويها رفعت ذكره وشهرته ... وإذا رفعت صوتك فدعوت إنسانا قلت: نوهت به ونوهت بالحديث: أشدت به وأظهرته. ا.ه. فهو لا يخلو أن يكون على عكس استعمالهم كما ترى.
ويقولون: انفرط العقد؛ أي انتثر وتبدد، وهو من أوضاع العامة صيغة ومعنى. ومن الغريب أن هذا اللفظ ورد في كلام ابن حجة الحموي في خزانة الأدب، وهو قوله في الكلام على نوع الانسجام: «وقد ألجأتني ضرورة الجنسية إلى ضم المتقدمين مع المتأخرين؛ لئلا ينفرط لعقودها نظام.» ومثله بعد صفحات: «وقدمت عصر المتأخر لئلا ينفرط سلكه.» فجعل هنا الانفراط للسلك وهو أغرب؛ لأن المتعارف في معنى هذه اللفظة عند العامة الانتثار، وقد فرط الشيء فانفرط، يقولون: فرطت حب الرمانة وانفرط عنقود العنب ونحو ذلك، ولا يقولون: انفرط الخيط أو الحبل.
Unknown page