تمنيت لو وقفت أمام أعضاء اللجنة من جديد لأسمعهم كلمتي. وتخيلت نفسي أواجههم في ثقة، فمضيت أنتقي عباراتي في دقة وعناية. وجرفتني الرغبة، فقمت من فوري ووضعت شريطا خاليا في المسجلة، وأقمتها فوق المكتب، ثم وقفت أمامها كما لو كانت لجنة.
تردد صوتي قويا ثابتا في الغرفة الخالية وأنا أقول: «لقد ارتكبت - منذ البداية - خطأ لا يغتفر؛ فقد كان من واجبي لا أن أقف أمامكم، وإنما أن أقف ضدكم؛ ذلك أن كل مسعى نبيل على هذه الأرض يجب أن يتجه للقضاء عليكم.
وأسارع فأقول إني لست من السذاجة بحيث أتصور أن هذا الهدف لو تحقق سيكون نهاية المطاف؛ إذ من طبيعة الأمور أن تحل مكانكم لجنة جديدة، ومهما كان حسن نواياها وسلامة أهدافها، فلن يلبث الفساد أن يتطرق إليها، وتصبح عقبة بعد أن كانت علامة، ويتحتم إزالتها بعد فترة من الوقت، طالت أم قصرت.
لكني تبينت من استقرائي للتاريخ والحالات المماثلة أنه عن طريق هذه العملية بالذات، عملية التغيير والإحلال المتكررة، ستفقد جماعتكم تدريجيا ما لها من سطوة، بينما ترتفع مقدرة أمثالي على مواجهتها والتصدي لها .
إلا أني للأسف لن أكون هنا عندما يحدث ذلك؛ بسبب المصير المقرر لي، والذي يعود في أحد جوانبه إلى طموحي الذي تجاوز إمكانياتي، وسعيي المهووس وراء المعرفة، وفي جانب آخر إلى تورطي في محاولة متهورة - لكنها كانت حتمية - لتحدي لجنتكم في وقت ومكان غير مناسبين. لكن ما يخفف من أسفي هو ثقتي بما سيحدث، مهما طال الوقت؛ فهو منطق التاريخ وسنة الحياة.»
لم أبالغ في كلمتي، ولم يجرفني تيار الحديث أمام المسجلة؛ فالآن وأنا أتأمل كل شيء بعين متجردة، وأحسب المكاسب والخسائر بنظرة شاملة، أجدني غير نادم على المصير الذي ينتظرني. وبالمقارنة مع مصائر آخرين - من جيلي على الأقل - لا يوجد ما يعيبه. ما يبعث على الأسف حقيقة أن اليوم العظيم سيفوتني، لكن هذا نفسه لم يكن ذا قيمة كبيرة، طالما أني موقن بمجيئه.
وإذ وصلت إلى هذه النتائج شعرت بصفاء عقلي غريب، وامتلأ صدري بسكينة نادرا ما عرفتها، ومرت بي لحظات من النشوة لم أعهدها إلا عندما أصغي للموسيقى. وأردت أن يطول بي أمد هذه اللحظات حتى النهاية، فلجأت إلى ما لدي من تسجيلات موسيقية أعتز بها، فقلبت بينها طويلا، مستبعدا ما يتميز منها بالألحان العذبة الرقيقة، كما لدى موتسارت وجريج، أو يغلفه الشجن كمؤلفات شوبرت وتشايكوفسكي. وعفت نفسي بالمثل عن العوالم الساحرة لبرليوز وسكريايين، والتأملية الرصينة لمالر وسيبيليوس.
وقع اختياري أخيرا على أعمال سيزار فرانك، الذي يتحول جلال الشك عنده إلى نعمة اليقين، وكارل أورف الذي يتفجر بالحيوية والصراع، وبيتهوفن الذي يتغنى بالانتصار والفرح بعد الألم، وشوستاكوفتش الذي يمزج كل هذا بالسخرية.
كان الظلام قد حل، فوضعت تسجيلات هؤلاء المبدعين العظام في متناول يدي، وأخذت مكاني المفضل خلف المكتب، عند الحائط الأخير لمسكني.
مضيت أنصت للموسيقى التي ترددت نغماتها في جنبات الحجرة. وبقيت في مكاني، مطمئنا منتشيا حتى انبلج الفجر.
Unknown page