لم يبق أمامي غير الانتظار، فلزمت البيت لا أغادره إلا لماما كي لا تفوتني إشارة من اللجنة تبلغني فيه بقرارها، إن سلبا أو إيجابا، أو تستدعيني أمامها لهذا الغرض.
وكنت أهم بتناول عشائي ذات مساء ، عندما وصلتني منها برقية أثارت حيرتي؛ فبدلا من دعوة للحضور، أو بلاغ وجيز بالقرار النهائي، طالعتني هذه الكلمات: «ننتظر دراسة عن ألمع شخصية عربية معاصرة».
كانت المعلومات القليلة التي تجمعت لدي عن إجراءات اللجنة تؤكد أني أمام إجراء غريب ليس له سابقة؛ فقد جرت اللجنة على أن تبت في أمر من يسوقه حظه للمثول أمامها، من خلال لقاء وحيد لا يتكرر.
ولم يكن من سبيل لتعليل هذا التحول الغريب في تقاليدها إلا بافتراض حدوث انقسام في الرأي بشأني بين أعضائها؛ ومعنى هذا أن قوة مركزي هي الدافع لهذا القرار، الذي أرادت به اللجنة - ولا شك - إرضاء المعترضين علي (وبينهم بالتأكيد ذلك القصير قبيح الوجه)، وإعطائي فرصة جديدة لتبيان مواهبي.
رفع هذا التأويل من معنوياتي إلى أن تبينت الوجه الآخر من الأمر؛ فماذا يمنع أن يكون ضعف مركزي، على العكس، هو الذي جعل اللجنة تحاول إرضاء من تصدى للوقوف بجانبي، بمنحي فرصة ثانية؟ ومعنى هذا - في الغالب - أن المهمة المطروحة ليست لها قيمة كبيرة، وإنما هي ذريعة لتأجيل القرار الذي تحدد جوهره بالفعل.
وقبل أن أهوي إلى قرار اليأس، تراءى لي احتمال ثالث، هو أن تكون اللجنة قد أدخلت بعض التطوير على إجراءاتها. ومن الطبيعي أني لم أسمع بالنبأ منذ كانت الصحف لا تخوض في شئونها من قريب أو بعيد.
ساعد على ميلي للأخذ بهذا التفسير أن الدراسة المطلوبة ستكشف عن مدى تمكني من لغة اللجنة، حيث إنها ستقدم إليها مكتوبة كما يفهم من ثنايا البرقية. ولم تكن تهتم في السابق بهذا الجانب من قدرات الماثلين أمامها.
اتجه اهتمامي بعد ذلك إلى دراسة البرقية بحثا عن الفخاخ التي اشتهرت اللجنة بها، فوجدتها حافلة بالعديد منها؛ فهي أولا لم تحدد زمنا لهذه الدراسة ولا حجما لها، فلا أعرف إذا كان المطلوب هو عجالة سريعة مثل ما ينشر بالصحف، أو بحثا أكاديميا في مئات الصفحات. كما أنها لم تحدد المقصود باللمعان، أهو الشهرة؟ أم تحقيق إنجازات معينة؟ وأي نوع من الإنجازات؟ وعلى أي مستوى؛ فردي أم عام؟ وفي أي مجال؟
لم يكن من الممكن الاستفسار من اللجنة عن هذه الأمور؛ لأن هذا من شأنه - إذا فرضنا أنه تيسر - أن يظهرني بمظهر العاجز، ويقضي على كل فرصي منذ كانت اللجنة تعول كثيرا على طريقة تفسير أسئلتها؛ لهذا لم يكن أمامي سوى الاعتماد على نفسي.
لجأت إلى معاجم اللغة فوجدت أن للمعان في لغة اللجنة معنى واحدا يقتصر على خاصية عكس الضوء. أما العرب فقد أضفوا على الكلمة معاني متعددة فاستخدموها بمعنى البرق والإضاءة، وبمعنى السرقة عندما قالوا: لمع بالشيء؛ أي ذهب به واختلسه. كما قالوا إن الأنثى ألمعت؛ أي ظهر حملها وتحرك الجنين في بطنها. وقالوا أيضا إن الألمع هو الذكي المتوقد. أما ألمع الناس فهو أكثرهم كذبا. ويبدو أن المعنى الأخير هو الذي اشتق منه التعبير الشعبي المعاصر «أبو لمعة الأصلي»، الذي عرف في البداية كاسم تجاري لأجود أنواع الطلاءات المستخدمة في تلميع الأحذية، ثم أصبح مع الوقت علما على كل من أدمن الكذب والمبالغة والادعاء.
Unknown page