Kharitat Macrifa
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
استند بطليموس في عمله إلى عمليات رصد للسماء أجراها فلكيون سابقون، وتحديدا المصادر البابلية القديمة والبيانات التي أعدها هيبارخوس، ولكنه هو الآخر أجرى بنفسه عمليات رصد خلال الفترة من 26 مارس سنة 127 وحتى 2 فبراير سنة 141. في هذه المرحلة من تاريخ الفلك، اقتصرت عمليات الرصد هذه على التحديق في السماء ليلا وتدوين ملاحظات عن مواضع النجوم والكواكب. استخدم بطليموس أدوات متنوعة لأخذ القياسات، بما في ذلك المساطر وذات الحلق والأسطرلاب، ولكنها لم تكن دقيقة على الإطلاق. كانت الأسطرلابات، التي اخترعت في وقت ما في القرن الثاني قبل الميلاد أجهزة معقدة؛ إذ كانت عبارة عن صفائح دائرية من النحاس الأصفر منقوشة عليها إسقاطات خرائطية معقدة للقبة السماوية، يمكنها قياس الزوايا والمساعدة في التنبؤ بتحركات النجوم. على مر التاريخ، كانت الحاجة إلى تصميم أدوات فعالة أحد أعظم التحديات التي تواجه الفلكيين، وهي محور جهدهم لإنتاج أدق بيانات يستندون إليها في عمليات الرصد العلمية التي يقومون بها.
شكل 2-3: إعادة ترميم (بلوحات الإفريز الأصلية) لهيكل زيوس الهائل، وهو واحد فقط من المباني العامة الرائعة في بيرجامون القديمة، حيث نشأ جالينوس.
وفي الوقت الذي كان فيه بطليموس مشغولا بوضع نظام منهجي لنظرية فلكية في الإسكندرية، وصل شاب آخر إلى المدينة ليبحث في نوع آخر من المعرفة وهو الطب. وعلى النقيض من الشخصيات الغامضة لإقليدس وبطليموس، نجد كلاوديوس جالينوس وكأنه يثب خارجا إلينا من صفحات التاريخ، التي كتب كثيرا منها بنفسه. كان جالينوس، وهو الاسم الذي صار معروفا به، واحدا من أغزر كتاب العصور القديمة، وكان يقوم بدعاية غير عادية لذاته (زعم تكرارا أنه «وصل بالطب إلى الكمال»)،
11
والذي أدت به عبقريته في الطب إلى الانتقال من موطنه في بيرجامون إلى جوار الإمبراطور في روما. يمكننا تخيله وهو يصل بالقارب إلى الإسكندرية، شاب ماهر مفعم بالطاقة، يمتلئ بغطرسة الشباب، عازم على ترك بصمته في هذا العالم.
كان الحظ حليف جالينوس حيث ولد في بيرجامون عام 129 ميلادية. في هذه المرحلة، كانت المدينة تنعم بفترة من النجاح الباهر؛ إذ كانت الدولة الرومانية تحميها وتفضلها، وكانت عوائد ضخمة من الزراعة والمعادن والتجارة تتدفق على خزائن البلدية، وإلى جيوب مواطني بيرجامون. كان والد جالينوس معماريا ثريا ومهما؛ وهو اختيار ممتاز للمهنة في مدينة كانت تخضع لبرنامج رائع من إعادة البناء والترميم. فهناك عاش وعمل في مجتمع ضخم من العمال والبنائين المتخصصين؛ فكان من المتوقع أن يتردد في الشوارع صوت مطارقهم وهم ينحتون المعابد الجديدة وقاعات المحاضرات والمسارح من الحجارة والرخام. وزادت هذه الإنشاءات الجديدة من تميز مدينة كانت تعد بالفعل واحدة من أروع المدن في العالم القديم، والتي كانت مقرا لهيكل ضخم مكرس لزيوس، ومسرح مدرج منحوت في جانب الجبل، وأكروبوليس على غرار الأكروبوليس الكائن في أثينا.
6
تلقى جالينوس تعليما متميزا في الأجواء الفكرية المفعمة بالحيوية التي سادت المدارس العليا والمكتبة في بيرجامون، تحت رعاية تمثال أثينا، إلهة الحكمة ذات العينين الرماديتين. ربما كان يقتفي أثر والده، ولكن، عندما كان في السابعة عشرة من عمره، حدث أمر غير مجرى حياته. رأى والد جالينوس حلما أخبره فيه الإله أسكليبيوس أن ابنه ينبغي أن يصير طبيبا. ومن تلك اللحظة، ركز جالينوس على الطب. كان هذا أيضا بداية علاقته الشخصية العميقة بالإله الذي اتبع نصيحته، التي تلقاها عن طريق الأحلام، بقية حياته. تدرب جالينوس على يد أساتذة كانوا يعملون في الأسكليبيون (معبد الإله أسكليبيوس)؛ الذي كان جزء منه عبارة عن مستشفى، وجزء يمثل منتجعا، وجزء بمثابة مزار مقدس، وأحد أهم المراكز العلاجية في العالم القديم. كان الناس يأتون من كل حدب وصوب ليعالجوا هناك، والقرابين الصغيرة (النذور) التي كانوا يتركونها لاسترضاء أو شكر الآلهة هي أبلغ دليل على يأس الجنس البشري في مواجهة المرض. مات والد جالينوس عندما كان جالينوس في العشرين من عمره، وسرعان ما شد الرحال بعد ذلك مباشرة إلى مدرسة الطب في سميرنا، قبل أن ينتقل إلى كورينثوس. ومن هناك، سافر إلى الإسكندرية - التي كانت في ذلك الوقت، مركزا كبيرا للطب والمكان الوحيد الذي يمكنك أن تدرس فيه الهياكل العظمية البشرية - تلك المدينة التي كانت بمثابة وجهة مهمة للطبيب الشاب الطموح.
لم يمتدح جالينوس الإسكندرية مطلقا، ولكن على الرغم من أنه اشتكى من كل شيء، من الطعام إلى الطقس ومن المصريين أنفسهم، فقد مكث في المدينة خمسة أعوام وتعلم الكثير عن التشريح والجراحة. كذلك درس عن كثب علم الأدوية؛ إذ كان يوجد تراث عظيم فيما يتعلق بإنتاج الأدوية في مصر وكان بمقدوره أن يحصل على صيغ دقيقة غير محرفة من الوصفات الدوائية. كتب جالينوس باستفاضة عن النباتات المحلية والطعام؛ فهو يصف الذهاب إلى ميناء المدينة للتحدث إلى البحارة بشأن الحصول على عقاقير من مناطق بعيدة. وكان هذا النهج الوقائي العملي فيما يتعلق بالطب هو السمة التي ميزت مساره العملي بكامله.
شكل 2-4: نذور تشريحية عثر عليها في معبد أسكليبيوس في أثينا، منحوتة بحيث تجسد أجزاء مختلفة من الجسم. يعتقد أنها كانت تقدم قرابين للإله أسكليبيوس أملا في أن يشفي المرضى الذين كانوا يعانون من أسقام معينة.
Unknown page