Kharitat Macrifa
خريطة المعرفة: كيف فقد العالم أفكار العصر الكلاسيكي وكيف استعادها: تاريخ سبع مدن
Genres
لا بد أن بطليموس كان رجلا يتسم بفضول هائل، وشخصا منبهرا بالعالم الذي كان يعيش فيه وعازما على إثراء إدراكنا له. فألف كتبا كثيرة، تغطي مجموعة مذهلة من الموضوعات وهي علم الفلك والرياضيات والجغرافيا والتنجيم، بل أيضا نظرية الموسيقى والبصريات؛ وهي دراسة الضوء والرؤية. ولقرون عديدة بعد موته، كان أكثر ما يشتهر به هو كتابه «الجغرافيا»، والذي يعد محاولة ثورية لوصف ووضع خريطة للعالم المعروف. أما في وقتنا الحاضر، فإن أكثر ما يشتهر به هو تأليف كتاب «الأطروحة الرياضية» الذي تناول فيه بالوصف السماوات والأجرام السماوية (وقد ترجم إلى العربية باسم «المجسطي»، ومنه جاء اسمه اليوناني
Almagest ). يشرح جيرد جراسهوف، مؤلف كتاب «تاريخ فهرس نجوم بطليموس»، تأثيره غير العادي، فيقول: «يتشارك كتاب بطليموس «المجسطي» مع كتاب إقليدس «العناصر » المجد من حيث كونه النص العلمي الأطول أمدا من حيث الاستخدام. فمنذ أن تبلورت فكرته في القرن الثاني وحتى أواخر عصر النهضة، صنف هذا العمل الفلكي باعتباره علما.»
9
كشأن إقليدس، عمل بطليموس في مكتبة الإسكندرية، ربما إلى جانب باحثين آخرين، آخذا في فرز كل ما يمكنه العثور عليه من أعمال في مجال الفلك، من التراث البابلي والمصري واليوناني، إلى جانب مصادر تراث أخرى. فأخضع نظريات وملاحظات للتقييم والاختبار، قبل أن يضع المعلومات بطريقة واضحة عقلانية ويضيف إسهامات مبتكرة من بنات أفكاره. كما يوضح في تمهيد كتاب «المجسطي»:
سنحاول أن ندون ملاحظاتنا عن كل شيء نظن أننا قد اكتشفناه إلى وقتنا الحاضر؛ وسنفعل هذا بأوجز ما يمكن وعلى نحو يمكن متابعته من جانب أولئك الذين أحرزوا بالفعل بعض التقدم في المجال. وحرصا على الاكتمال في معالجتنا سوف نضع كل شيء من شأنه أن يفيد نظرية السماء بالترتيب الصحيح، ولكن حتى نتجنب الإطالة التي لا داعي لها، سنسرد فقط ما أثبته القدماء إثباتا كافيا. أما تلك الموضوعات التي لم يتعامل أسلافنا معها على الإطلاق، أو لم يتعاملوا معها باهتمام يكافئ مدى أهميتها الحقيقية، فسنناقشها باستفاضة قدر استطاعتنا.
10
كان نهج بطليموس في التعاطي مع الكون رياضيا، وهو بديل لوصف أرسطو المادي للسماء، الذي افترض فكرة أن النجوم مرتبة على كرات كريستالية تدور حول نفسها. في هذا الشأن، استرشد بطليموس بأطروحة «العناصر» ودورها الجوهري في تطور الرياضيات؛ فهو لم يستخدم عمل إقليدس العظيم نموذجا أسلوبيا فحسب، بل أيضا يقول بصراحة إنه يعتمد على امتلاك القارئ خلفية قوية عن النظرية الهندسية. ووضعت نماذجه الخاصة بحركة الكواكب بالاستعانة بالهندسة الإقليدية وشرحت باستخدام نظام المسلمات والرسوم البيانية. أضف إلى ذلك أن عمل بطليموس، مثل أطروحة «العناصر»، مقسم إلى ثلاثة عشر كتابا تأخذ القارئ في جولة في سماء الليل، مبتدئا في الكتابين الأول والثاني بالمعرفة الرياضية اللازمة، ثم مركزا على الشمس والقمر في الكتب الثلاثة التالية. الكتاب السادس يدور كله حول الخسوف والكسوف، بينما يضع الكتابان السابع والثامن قائمة للنجوم. وتدور الكتب الخمسة الأخيرة حول الكواكب، وتجسد إسهام بطليموس الأهم والمبتكر في مجال الفلك؛ إذ تصف نموذجا رياضيا معقدا يبين الكيفية التي تتحرك بها الكواكب، اعتمادا على بيانات أخذها من عالم الفلك اليوناني الأسبق هيبارخوس،
5
ومن عمليات الرصد التي أجراها بنفسه. كان نموذج بطليموس للسماء قائما على مركزية الأرض، وفيه الأرض ثابتة في المركز، وكما سنرى، ظل هذا هو الاعتقاد السائد حتى عام 1543، عندما طرح كوبرنيكوس مبدأ الكون الشمسي المركز، حيث وضع الشمس في المركز. •••
يوجد الكثير من أوجه التشابه بين أفكار كل من إقليدس وبطليموس؛ لذا من السهل نسيان أنه كان يفصل بينهما أربعة قرون من الزمن. كانت الإسكندرية مختلفة اختلافا تاما عندما كان بطليموس يجوب شوارعها، لكن تراث المعرفة الذي بدأ في فترة حياة إقليدس كان لا يزال باقيا وكانت الإسكندرية لا تزال مكانا رائعا لأي شخص لديه اهتمامات فكرية. اجتذبت المكتبة الطلاب والباحثين من جميع أنحاء منطقة البحر المتوسط، الذين، بدورهم، أضافوا إلى مجموعات الكتب أعمالهم وكتبهم التي جلبوها معهم. آنذاك، كما هو الحال الآن، كان البحث العلمي يزدهر معتمدا على التعاون وتشارك الأفكار؛ أي نقل وتبادل المعرفة. استطاع بطليموس تأليف كتاب «المجسطي»؛ لأن الإسكندرية منحته الظروف التي احتاجها لإنتاج هذا العمل المتفرد، الظروف التي ببساطة لم تكن متاحة في أي مكان آخر في ذلك الوقت.
Unknown page