وعلي أن أشكر لك ذلك يا ثراسيماخس؛ لأنك استعدت خلقك وعدلت عن السخط علي. مع ذلك لست أتعلل التعلل التام، على أن اللوم في ذلك علي لا عليك؛ لأنه كما أن النهمين يذوقون كل صحن أولا ليروا ما يختارون بعده، هكذا أنا أراني أهملت المسألة الأولى التي كنا نفحصها فيما يختص بطبيعة العدالة قبلما آخذ الجواب عنها، مندفعا حول هذا الشيء المجهول لأرى أفضيلة هو أم رذيلة، أوحكمة أم جهل؟ ثم برزت مسألة «أن التعدي أنفع من العدالة»، فلم يمكنني إلا الخروج عن حدود المسألة الأولى والدخول في البحث الجديد؛ ولذلك كانت نتيجة بحثنا الحالي أني لم أعرف شيئا؛ لأني إذا كنت لا أعرف ما هي العدالة، فلا يمكنني أن أعرف أفضيلة هي أم رذيلة؟ أوسعيد صاحبها أو تاعس؟
الكتاب الثاني: المدينة السعيدة
خلاصته
يشغل غلوكون وأديمنتس في أول الكتاب ميدان البحث الذي أخلاه ثراسيماخس، وهما يسران باليقين أن حياة العدالة تؤثر على حياة المتعدي، على أنهما لا يمكنهما التعامي عن مغالاة المدافعين عن العدالة في صفاتها العارضة، معرضين عن صفاتها الذاتية، أفليس الإنسان ميالا للتعدي متى أمن العواقب؟ أوليست العدالة تسوية قضت بها الضرورة الاجتماعية؟ وهل مدحها الشعراء لذاتها؟ وبناء على اعتقاد وجود الآلهة فكيف تعامل هذه الآلهة العادلين والمتعدين من بني الإنسان؟ ألا تصفح عن آثام الأشرار بواسطة ذبائح التكفير؟ فيكون المتعدون كالعادلين من حيث السعادة الأخروية، وهم أوفر سعادة منهم في العالم الحاضر؟
فاعترف سقراط بصعوبة المسألة، واقترح أن يفحص طبيعة العدالة والبطل في ميدان أوسع ووسط أكبر. ألا تتصف الدول بالعدالة كالأفراد؟ وعليه: أفليس تجليها في الدول أتم وأوضح؟ فلنقتف أثر الدولة منذ نشأتها، فنتمكن من تبين نشأة العدالة والتعدي.
إن المرء لا يستغني عن إخوانه، هذا هو منشأ الهيئة الاجتماعية والدولة، ولا بد فيها من أربعة أو خمسة رجال على الأقل يمثلون العناصر الأولى في توزيع الأعمال، ويتسع مجال ذلك كلما نمت الجماعة، فتحتوي الحياة في بدء نشأتها على الزراع والبنائين والحاكة والأساكفة، يضاف إلى هؤلاء لأول وهلة النجارون والحدادون والرعاة، ومع الزمان تنشأ التجارة الخارجية التي تستلزم زيادة المنتوجات في الوطن لدفع بدل الواردات من الخارج، وازدياد المنتوجات يستلزم وجود طبقات من الباعة وأصحاب المخازن والصرافين، وتحتاج الأمة إلى تجار وبحارة ومستخدمين وعمال، وإذا نشأت الأمة على هذا النسق حصلت على حاجاتها، إذا لم يزد عددها على ثروتها نسبيا. على أنها إذا جهزت بالكماليات مع الحاجيات لزمها طهاة وحلوانيون وحلاقون وممثلون وراقصون وشعراء وأطباء، وذلك يستلزم طبعا مجالا شاسعا.
وقد يفضي إلى اشتباكها في الحرب مع جيرانها، فتحتاج الدولة إلى جيش دائم وطبقة حكام، فكيف يختار هؤلاء الحكام؟ وما هي الأوضاع التي يمتلكونها؟ يجب أن يكونوا أقوياء، سراعا، شجعانا، حماسيين، ولكن ودعاء وفيهم ميل إلى الفلسفة. فكيف يهذبون؟ أولا يجب أن نكون غاية في التأنق في انتقاء القصص التي تملى على أسماعهم في حداثتهم، فلا يباح في هذه القصص ما يمس كرامة الآلهة، فلا يقال فيها أنها تشهر حربا بعضها على بعض، أو أنها تنقض العهد والميثاق، أو أنها تنزل الكوارث بالناس، أو أنها تتلون في مظاهرها في الأرض، أو أنها تخدعنا بكذبها.
متن الكتاب
قال سقراط: لما قلت ما قلت خلت أننا انتهينا من المباحثة، والظاهر أنه لم يكن سوى مقدمة؛ لأن غلوكون الشجاع في كل معمعان لم يستحسن انسحاب ثراسيماخس من الميدان، فبدأ الكلام قائلا:
غلوكون :
Unknown page