Jughrafiya Siyasiyya
الأصول العامة في الجغرافيا السياسية والجيوبوليتيكا: مع دراسة تطبيقية على الشرق الأوسط
Genres
ويجب أن نضيف هنا أن من أهم أسباب التغير في أيديولوجية سكان الريف سرعة الاتصال، ونقل الأخبار بالإذاعة والصحف والتليفزيون مما ساعد على سرعة تكوين الرأي العام الثوري، وكذلك فإن الأوضاع الاقتصادية المتردية بالنسبة للمنتجات الزراعية وانخفاض أسعارها في السوق جنبا إلى جنب مع ارتفاع السلع المصنعة والفوائد الاقتصادية الاجتماعية لنقابات العمال؛ كلها عوامل أدت إلى ضعف دخول الريفيين مع ارتفاع تكاليف المعيشة، وهذا يجعل منه قوة قابلة للقيام بأعمال إيجابية من أجل التغير السياسي: الثورة.
وهكذا فإن سكان المدن عامة - نتيجة لما يتمتعون به من استقرار ورخاء نسبي جاءهم نتيجة كفاحهم المستمر - قد أصبحوا أقل ثورية مما كان في النصف الأول من هذا القرن، لكن هذه الثورية ما زالت قائمة طالما بقيت العوامل الاقتصادية المسببة لها كالبطالة وكساد الإنتاج.
ومع ذلك فإن الرأي الأصوب، والذي لا تختلف حوله الآراء كثيرا، هو أنه ما زال للمدينة دورها القيادي في التشكيل السياسي والتغيرات السياسية المختلفة، فسكان الريف عامة ما زالوا أميل إلى روح المحافظة والجمود على فكر معين متى استوعبوه، وسكان المدينة نراهم دائبي الحركة بحكم المساحة الصغيرة والتجمع العددي الكبير والتواجد داخل مصدر الفكر والدعوة.
وكذلك فإن المناطق المدينية الكبيرة أقل استقرارا في مجموعها من المناطق الريفية، ويكفي أن نقارن بين عدم الاستقرار المستمر في المدن الكبرى كنيويورك ولندن وباريس وبين الاستقرار النسبي في المدن الزراعية الصغيرة، ويرجع ذلك في الحقيقة إلى عاملين جوهريين يؤديان إلى نتيجة واحدة: (1)
عدم الاستقرار في السوق الدولية نتيجة المنافسة الصناعية العالمية يؤدي إلى ذبذبات كثيرة في سوق العمالة، ومن ثم تحدث البطالة أو انخفاض الأجور. (2)
أن المدن الكبيرة - بما فيها من قوى الجذب السكاني - كثيرا ما تفيض سكانا عن قاعدتها الإنتاجية، ومن ثم تحدث البطالة أيضا ويدفع ذلك بالحكومات إلى محاولة إنشاء مشروعات لاستيعاب العمالة الزائدة، ولكن ذلك دون جدوى؛ إذ سرعان ما يفيض السكان مرة أخرى على قاعدة الموارد الإنتاجية، ولا شك أن للتخطيط أهميته في هذا المجال، ولهذا فإن تخطيط تحديد الهجرة إلى المدن - كما يحدث في بعض الدول الاشتراكية - يؤدي إلى نتائج أفضل نسبيا.
وعلى هذا النحو فإن تحليل القوى على ضوء العناصر السالفة الذكر ليس أمرا سهلا، فهناك أولا مشكلة صحة الأرقام والنسب المبنية عليها في محاولات تحليل القوى، وهناك ثانيا الدراسة النوعية التي لا تظهر من وراء النسب والأرقام، وهي - كما رأينا - على جانب كبير من التعقيد، ولهذا كله نعود إلى تأكيد أن المنهج التحليلي يعطينا فقط إطارا عاما وأساسا طيبا لا غنى عنه في دراسة الموضوع السياسي. (2) المنهج التاريخي
يركز هذا المنهج اهتماما كبيرا حول الجغرافيا السياسية التاريخية من أجل فهم أعمق لمشكلات الماضي، وتكوين خلفية تحليلية لمشكلات الحاضر.
ومثل هذه الدراسة تتناول بالبحث نمو الدولة من القلب إلى الأطراف، والأساليب التي اعتمدت عليها في جذب أو ضم الأقاليم المختلفة حتى حدودها الراهنة، وتحدث هذه الدراسة على ضوء الظروف الطبيعية والحضارية في المنطقة، إلى جانب الكثير من علاقات الأرض بالدولة النامية مثل دور بعض العوائق الطبيعية (الجبال - المستنقعات - الأنهار والبحيرات - الحافات والانحدارات ... إلخ) في حماية الدولة النامية كحدود طبيعية يتوقف عندها النمو أم يتخطاها إلى حدود أخرى، ومن العلاقات الأخرى بين الأرض والدولة مدى سهولة الاتصال من القلب إلى الأطراف، وبعبارة أخرى؛ تأثير مركز أو عاصمة الدولة بالنسبة لبقية أراضي الدولة.
وهذا المنهج التاريخي وإن كان يلقي ضوءا على سير التاريخ السياسي للدولة، إلا أن قيمة معظم الدراسات في الجغرافيا السياسية التاريخية مرتبطة بتفسير أحداث الماضي بما صادفها من ظروف طبيعية وتكنولوجية وعلاقات الدول وشخصيات الحكام والقادة في إطار زمني معين؛ ولهذا فإنه لا يمكن أن نتخذ من مثل هذه الدراسات مؤشرا لما يحدث اليوم، أو أن نسقط نتائج هذه الدراسات على نشاطات الدول المعاصرة، فالتاريخ لا يعيد نفسه إلا في بعض الشكل الخارجي فقط، بينما يمتلئ بالمفارقات والملابسات لتعقد العلاقات الإنسانية والأرضية الناجمة عن التغيرات التكنولوجية من ناحية والأيديولوجية من الناحية الأخرى.
Unknown page