89

Jinusayid

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

Genres

خارت قوى مايكل، في بداية الأمر لم يكن يصدق ما سيقوم به، فتح آفيرام الباب ثم ولجوا خلفه إلى الثكنة، كانت الجثث مكدسة فوق بعضها البعض كأنها سيقان أشجار مقطوعة ومكومة، نساء ورجال شبان بعمر الورود وأطفال ومراهقون وشيوخ.

كان مايكل يتحاشى النظر إلى الوجوه، لكن ما من سبيل، لا بد من النظر قبل حملهم إلى المحرقة، وكان روبرت يتشارك معه في حمل الجثة من قدميها وهو من يديها أو العكس، ذهابا وإيابا من الثكنة إلى المحرقة، حتى يتكدس المكان بالجثث، فيأتي آفيرام ويغلق باب المحرقة الحديدي من الداخل ثم الباب الثاني ويفتح صمام الوقود الذي يصل بأنابيب داخل غرف المحرقة لدقائق معدودة فيتم رشها بالوقود، ثم يوصد قفل الصمام ويضرم النار في فتيل ويقذفه من فتحة دائرية إلى الغرفة، فيهب النار فيها وتحترق الجثث وهم يسمعون أزيز احتراق جلودهم وخروج دهون أجسادهم.

كان المشهد أقسى ما يمكن أن يراه الإنسان في حياته، بشر يحترقون أمامهم وهم يسمعون أزيزا مقرفا ويشمون رائحة نتنة، كان بعضهم لا يستطيع تحمل المنظر والرائحة فيستفرغ كل ما في جوفه، ويسقط أرضا وهو يسعل ويبكي. رفع مايكل بصره نحو المدخنة فرأى أعمدة الدخان تتصاعد منها إلى السماء وكأن أرواحهم تتطاير بهدوء وسكينة لم يعهدوها منذ مدة طويلة وهي تعرج إلى السماء، قال في نفسه: «ليتنا لا ندرك حقيقة كل ما يلفت أنظارنا في الحياة، ما أجمل توقعاتنا وما أقسى الواقع والحقيقة، حين رأيتها في ذلك اليوم توقعت أنها احتراق للفحم من أجل أفران صهر الحديد! لا عزاء لإنسانيتنا اليوم؛ فقد تبخرت إلى الأبد. أي قلب يتحمل كل هذا؟ إني أعجب كثيرا من تحملنا مثل هذه المواقف دون أن يغشى علينا! يبدو أن الإنسان يمكنه القيام بكل الأعمال البشعة والشنيعة لمجرد أن يفعلها مرة واحدة، مرة واحدة فقط ويكسر الحاجز، ونحن لم يبق حاجز ولم نكسره بإرادتنا أو رغما عنا.»

في الجولة الثانية من عملية نقل الجثثت، سحب مايكل جثة شاب من بين الجثث المتكومة من يديه فسقط أمامه، توجه روبرت إلى الجهة الأخرى ليحمله من قدميه، لكن مايكل بقي صامتا ينظر في وجهه ويداه ترتجفان. - ما بك يا مايكل؟ ما بك ترتجف؟! - إنه ديفيد، ديفيد!

ثم صرخ مايكل بأعلى صوته «أخيييي» ضمه إلى حضنه وهو يبكي ويلعن نفسه ويندبها: أنا الذي قتلتك يا ديفيد، أنا القاتل، سقط روبرت منهارا مدهوشا أمامه، تجمعوا فوق رأسه وهم يحاولون تهدئته ثم أقبل آفيرام مسرعا. - مايكل هون عليك، يجب أن تتركه، سينتقل المرض إليك.

كان يبكي بكاء الأطفال ويحرك جثة أخيه بحضنه والدموع تذرف من عينيه وكأنه يبكيه بكل ما فيه، لم يرد على آفيرام. - هيا انتزعوا الجثة من يديه. - لا تقتربوا منه، سأحرق من يحمله هناك، ابتعدوا عنه. - اهدأ يا مايكل اهدأ، لا يمكننا إبقاء أية جثة هنا، سيتم قتلنا جميعا .. الحي أبدى من الميت يا مايكل. - وهل تعتبرون أنفسكم أحياء؟ إن الموت أشرف من هذه الحياة القذرة التي تحاولون الحفاظ عليها!

حاول روبرت تهدئته لكنه لم يستطع؛ فالمشهد الذي أمامه كتم على صدره وبات يخرج صوته مبحوحا .. عندما رأى آفيرام ألا جدوى من انتزاع جثة ديفيد منه، أمر البقية بإكمال عملية النقل بعيدا عن مايكل .. بقي ديفيد بحضنه إلى أن تم حرق جميع الجثثت إلا جثته .. أقبلوا إليه جميعا. - مايكل، إن كانت حياتك لا تهمك فهي تهمنا نحن، أرجوك أن تعطينا الجثة قبل أن يأتوا ويروك هكذا، سيضعوننا في المحرقة أحياء ويضرمون النار فينا .. هيا لا نريد إجبارك بالقوة.

حدق في وجوههم الشاحبة وبحث عن وجه روبرت فأبصر في عينه ما في أعين البقية .. ثم قال: أنا من سيضعه في المحرقة.

انفرجت أساريرهم جميعا، وربت آفيرام على كتفه .. حمل جثة أخيه، حاول روبرت مساعدته لكنه امتنع بحركة من يده، عندما دخل المحرقة سحب الباب على نفسه ونادى: إن أردتم حياتكم فاحرقوني مع أخي، وإلا فسنحترق جميعا!

من سوء الحظ لم يكن هناك قفل من الداخل، القفل خارجي فقط، سحبوا الباب وأخرجوه منها بالقوة وهو يصرخ ويبكي. - دعوني أحترق معه، اتركوني مع أخي، لا أريد حياتكم هذه، أنقذوني منها وأنقذوا أنفسكم!

Unknown page