Jinusayid
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
Genres
بعد تفتيش القافلة من قبل الجنود، سمح لهم بالدخول إلى المدينة التي لم يروا مثل جمالها قط، حيث البيوت الفاخرة للأثرياء والمبنية من الرخام الأبيض والمآذن الطويلة التي تعانق السماء والأزقة المرصعة بأحجار مربعة دقيقة وتفوح منها روائح الأزهار المتسلقة على الجدران، أما الناس فكثر من كل بقاع الأرض يملئون الأسواق وأرصفة الشوارع والحدائق وشواطئ البسفور، وهي مدينة تعج بالحياة ليلا ونهارا.
كان «تهلريان» الرجل المسئول عن إيصالهم إلى الآستانة في تلك القافلة، وهو من أرمن الآستانة ولم يفصح لهم عن عمله في الحزب، كان يدخلهم من زقاق إلى زقاق ومن سوق إلى آخر، وهم لم يأبهوا به؛ فقد أخذت المدينة عقولهم وشغلت أذهانهم وكأنهم تحولوا إلى آلة للنظر، مرت أمامهم دورية للجنود يسيرون بشكل منضبط وكأنهم في ساحة استعراض عسكري، ضربات أقدامهم كأنها ضربة قدم واحدة، كل شيء حولهم كان لافتا للانتباه ومثيرا للاهتمام. •••
كان القبو واسعا ومظلما تملؤه رائحة رطوبة ثقيلة، مكونا من عدة غرف وممر ينتهي إلى بهو صغير، تناهت إلى مسامعهم أصوات بعيدة غير مفهومة، ساروا باتجاه الممر البعيد ثم توقف تهلريان فجأة أمام باب خشبي متهالك، طرقه ثلاث مرات متتالية، مرت دقائق سمعوا ذف أحذية تقترب، سأل من خلف الباب عن كلمة السر فقال تهلريان: «رأس الحية.» فتح لهم الباب شاب عشريني يحمل قنديلا بالكاد يضيء الممر أمامه، ثم قال: الحقوا بي.
عند نهاية الممر ولجوا غرفة مضاءة بالكامل، كان الحاضرون قد التفوا حول طاولة خشبية مستطيلة وعليها خارطة الآستانة، وعلى رأس الطاولة شخص منحن يحمل قضيبا طويلا يشرح مخطط العملية بشيء من التفصيل ويشير إلى قصر يلدز وميدان تقسيم، والأسواق المزدحمة في المدينة ويضع في مكان مجموعة لتنفيذ المهمة التي ستزلزل الآستانة والعالم برمته.
كان أرتين يظن وهو في «وان» والقائد فارتان يتكلم عن العملية النوعية ويزيد من حماسه ومعنوياته أثناء توجيهه للمهمة، أنه هو ومجموعته من سيقومون بالعملية، فكانت المفاجأة عندما تم توزيع المهام أن مجموعة أرتين ليست من ستقوم بعملية اغتيال السلطان؛ فقد أنيط بهم القيام بتفجير القنابل في «ميدان تقسيم» بعد التأكد من نجاح عملية الاغتيال.
كان «إدوارد جوريس» خبير متفجرات تم جلبه خصيصا للتخطيط وصناعة القنابل التي ستستخدم في العملية؛ إذ لا يمكن إدخال المتفجرات إلى الآستانة بسبب التشديد الأمني في مداخلها؛ لذا فقد تكفل بتحضير المتفجرات اللازمة لكل مجموعة من بعض المواد الأولية التي يسهل توفيرها من السوق، وتم استغلال فترة صناعة القنابل بالذهاب إلى ميدان تقسيم للتعرف على المكان والأزقة التي سيتم سلكها بعد التفجيرات، وأماكن الضعف والقوة في الميدان، وهكذا فعل بقية المجموعات لتتم تكملة العملية بنجاح بعد اغتيال السلطان.
تمت التحضيرات الكاملة لكل المجموعات وإيصال المتفجرات الخاصة بهم داخل أكياس الخضار والفواكه الورقية، عن طريق أرمن الآستانة الذين يعرفون المدينة وأزقتها جيدا، وكذلك تمت إضافة عنصرين مهمتهما نقل الخبر اليقين بمقتل السلطان بعد العملية إلى المجموعات خارج المسجد للبدء بالتفجيرات التي تهز المدينة وتخلق نوعا من الفوضى، فيستغل حزب الاتحاد والترقي تلك الأجواء للانقلاب على الحكم بعد مقتل السلطان.
كان كل شيء يجري كما هو مخطط له بإحكام، وفي يوم الجمعة 21 تموز من سنة 1905 خرجوا نحو «ميدان تقسيم»، كان أرتين حاملا على كتفه اليسرى حقيبة مصنوعة من الصوف وضع فيها القنابل بعدما لفها بعدة أقمشة وجعل جزءا من القماش يتدلى خارج فتحة الحقيبة لكي يظهر للمارة أنه يحمل نماذج أقمشة يعرضها للتجار بغية تحديد النوع قبل الاتفاق بجلب الكمية المطلوبة.
في الجهة الأخرى توجهت المجموعة المنفذة للعملية إلى مسجد قصر يلدز، قبل وصول السلطان إليه وحسب مراقبة السلطان في الجمع الماضية، كان الحرس يوقفون عربته في باحة المسجد ثم يتوجه السلطان مع حاشيته إلى الحرم في الصف الأول للمصلين، ويبقى حارسان قرب العربة مع مجموعة من الحراس المتوزعين في باحة المسجد. حسب خبرة «جوريس» فقد تم حساب الزمن الذي يتأخر فيه السلطان بعد انتهاء الصلاة، فالقنبلة المجهزة للاغتيال كانت تحوي مؤقتا زمنيا للانفجار عكس القنابل التي تم توزيعها للمجموعات، التي تحتاج إلى إشعال فتيلها ثم رميها إلى المكان المستهدف.
وصل السلطان المسجد والجميع منشغلون به، والبعض يحاول الوصول إليه بغية طرح مشكلته أو مظلمته عليه، والحرس يحيطون به من كل الجوانب ويمنعونهم منه. جلس السلطان في المكان المخصص له كالعادة، قرئ القرآن ورفع الأذان ثم اعتلى الخطيب المنبر، كان صوته يصدح خارج المسجد والحاضرون في خشوع تام وهو يتكلم عن فضل الجهاد في سبيل الله ضد أعداء الله من الكفار وأعوانهم من الخونة، ثم أكمل الخطبة بالدعاء للسلطان وحفظه بكنف الرحمن، أقاموا الصلاة وكبروا في جو إيماني كبير.
Unknown page