63

Jinusayid

جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ

Genres

كانت الأفكار المكسوة باليأس تدور في خلد أرتين بعدما فشلت الثورة في «وان»، وانسحبت جميع الفصائل منها إلى الجبال والقرى الأرمنية الموالية للثورة .. ولم تنجح خطة التضحية البلغارية مرة أخرى، لم تتدخل روسيا عسكريا ولا الدول الأوروبية، وساءت أحوال الأرمن في المدينة. كان أرتين يحدث نفسه عن النتيجة التي خرجوا بها من الثورة وخسارة عشرات المقاتلين، ويقول: «دخلنا المدينة لنصرة أبناء شعبنا ولم نستطع الصمود، ولا الوصول إلى هدف العملية، ومن ثم فررنا منها وتركنا الأرمن وراءنا يلاقون جريرة أفعالنا، وأصبح حال الأرمن في المدينة، إذا خرجوا إلى السوق خرجوا على شكل مجموعات خشية الوقوع فريسة الأعمال الانتقامية الفردية، وكل ذلك لم يحصل لولا الثورة الفاشلة، لا أدري ماذا نفعل نحن؟! أحيانا أظن أحلامنا أكبر بكثير مما نعمل من أجل الوصول إليه، وأننا نرتكب الحماقات ضد شعبنا الذي لا يعلم من أين يتلقى الضربات الموجعة.»

كان الطبيب يعالج إصابة بانوس في الغرفة المقابلة حيث يجلس أرتين، وغريغور قد تجمع حوله خمسة مقاتلين في باحة الدار يتكلم بحماس شديد عن بطولاته في الثورة، وأنه لم يرض بالانسحاب، كان بإمكانه رد العثمانيين لو حصل على العتاد الكافي وبعض المقاتلين الأشداء؛ فالانسحاب بنظر غريغور جبن لا يليق بالرجال، كان يتكلم متحسرا على ذلك القرار غير الموفق حسب رأيه، لكنه يعود ويبتسم وبحركة مضحكة يمثل لهم كيف انقض على الجندي الذي حاول التسلل إلى الحي الأرمني في الليل، ثم أمسك من رأس أحد الجالسين ليبين لهم كيف كسر رقبة ذلك العثماني، كان المقاتلون لا يحلو لهم السمر إلا مع غريغور، فحديثه شيق ومليء بالبطولات التي تهفو نفوسهم إليها، وهو لا يتكلم دون فعل؛ فالجميع يشهدون بشجاعته وإقدامه. كان غريغور يحمل في جوفه قلب طفل ببساطته ووجهه الدائم الابتسامة والمرح حتى في أشد الأوقات لا يصيبه اليأس ولا يهتز حماسه، لا يفكر كأرتين وبانوس بالنجاحات والإخفاقات، فهو يحارب لأجل أن يحارب؛ لأنه يجد نفسه بتلك الأجواء القتالية. •••

كان ديكران يجري نحوهم على ظهر فرسه الأسود اللامع كالريح وكأنه يحمل خبرا مصيريا في جعبته، وما إن وصل مشارف القرية التي احتموا بها بعد فشل الثورة حتى خرج إليه أحد المقاتلين، أخذ اللجام من يده، ثم ولج هو على عجل عند القائد فارتان بعدها استدعي أرتين إلى الداخل.

حينما ولج الغرفة رأى فارتان قد وضع أحجارا متفرقة على سجاد فارسي أحمر منقوش عليه طاووس كبير يغطي الجزء الأكبر منه، يشرح الخطة للحضور، جلس قرب ديكران ليستمع. - الطريق من هنا يمر خلال نتوءات صخرية وأخاديد رسمتها مياه الأمطار الغزيرة على جانبيه، وفيه يضعف أي قوة مهما كان عددهم وعدتهم، يحتمي المقاتلون خلف الصخور ونطوق هذه النقطة ويكون القناص هنا في أعلى نقطة.

كان اختيار المكان دهاء كبيرا من قائد العملية «فارتان» ودليلا على معرفته الجيدة بكل تضاريس المنطقة.

كانت العملية تستدعي الكثير من المقاتلين لأجل نصب كمين كبير لقافلة زكي باشا القادمة من أرضروم مقر قيادة الفرسان الحميدية نحو مدينة وان، ثأرا لقتلى الثورة.

في صباح يوم العملية انطلق أرتين على صهوة جواده خلف قائده المباشر ديكران إلى الوادي الذي سيمر منه موكب زكي باشا، وأخذ كل مقاتل موقعه في المهمة كما خطط فارتان، تركز مواقع القناصة في أعلى نقطة على جانبي الطريق، وانتشر المقاتلون خلف الصخور متأهبين للعملية، كانت مهمة أرتين هي التركيز بالتصويب على الحراس القريبين من زكي باشا، لفتح باب الرؤية للقناص في الأعلى على الهدف حسب الخطة المرسومة.

كانت منطقة صخرية جرداء فيها منحدرات شاهقة، وعلى الحافة وقف طائر بري رمادي اللون يصدر صوتا متقطعا، ثم يطير من قمة صخرة إلى أخرى، انتبه أرتين على يساره فإذا بحرباء أخرجت رأسها من ثقب صغير على الصخرة تراقبه بصمت وحذر متلونة بلون الصخور لا يمكن تمييزها إلا إذا دققت النظر فيها، ابتسم بوجهها أرتين وقال لها اطمئني لم نأت هنا لقتلك، فقط سنزعجك قليلا بأصوات البنادق، ولأجل ذلك سنترك لك جثة زكي باشا بعدما نقتله هو وجنوده، ستكون وجبة دسمة لك ذلك الدود الذي ينهش لحمه.

سمعت أصوات أحصنة تقترب من المكان، بدأ المقاتلون يشيرون بأيديهم ملوحين بأيديهم أنهم قد وصلوا، كان نظام الحراسة العثمانية للقادة والشخصيات الكبيرة في الدولة مشابها تماما في جميع المواكب؛ ففي المقدمة كانت هنالك أربعة فرسان بزيهم العثماني الخاص للحرس على صهوة جوادهم، يليهم فارسان أمام عربة «زكي باشا» وفارسان خلفها، وفي النهاية أربعة فرسان أيضا، والجنود المشاة على جانبي العربة قد جعلوا طوقا مستطيلا حول العربة.

عندما وصلت العربة إلى منتصف الكمين رفع «فارتان» يده وأنزلها إشارة ببدء إطلاق النار.

Unknown page