Jinusayid
جينوسايد: الأرض والعرق والتاريخ
Genres
قبل حلول الفجر كان المقاتلون قد توزعوا إلى مجموعات صغيرة للهجوم على القرية من أربعة محاور مختلفة، كان مايكل مع المجموعة التي ستقتحم القرية من جهة الجنوب الغربي، تحت إمرته سبعة من المقاتلين للسيطرة على المرتفعات بين دير ياسين ومستوطنة بيت هكيرم، صوب المقاتل الذي تم تزويده بمدفع رشاش نوع
Bren
نحو بيوت القرية منتظرا إشارة البدء بالهجوم برشقة ضوئية في السماء من سلاح أحد مقاتلي مجموعة القائد كوهين.
كان الهجوم على دير ياسين بالنسبة لمايكل يمثل إثبات النفس أمام القيادة بعد توليه إمرة مجموعة من المقاتلين، على الرغم من عدم اقتناعه بكلمة قائد العملية كوهين قبل التحرك نحو القرية، لكنه ظن أنه كان يريد دب الحماسة في قلوبهم، وشعر لأول مرة أن الحياة أحيانا تفرض قوانينها بالقوة، إن لم تقتل تقتل، هكذا هي المعادلة اليوم، والبقاء له ثمن، يجب أن تفقد شيئا من إنسانيتك لتستمر فيها، كل الذين تمسكوا بالقيم قذفتهم الحياة من الحافة وكأنهم الفرخ الأضعف في عش طائر اللقلق.
انطلقت الرشقات الضوئية في الهواء وكأنها نجوم تصعد إلى السماء إيذانا ببدء المعركة، كانت السيارة المصفحة تتجه نحو منتصف القرية ببطء وترشق بوابل من الطلقات النارية يمنة ويسرة، وتشتبك مع مقاتلي القرية، تسلل مايكل مع مقاتليه الواحد تلو الآخر حتى أصبحوا على مقربة من ثلاثة منازل متلاصقة، ثم فجأة سكنت طلقة في صدر أحد مقاتليه فأردته قتيلا، انبطحوا جميعا، نادى مايكل صاحب المدفع الرشاش: - إنه على السطح!
انهمرت الطلقات على جدران السطح، فأتت طلقة برأس صاحب مدفع الرشاش، كان المقاتل الذي أمامهم قد اتخذ موضعا يصعب الوصول إليه، مما شل حركة مجموعة مايكل، شعر أنه في ورطة كبيرة، لقد خسر اثنين من مقاتليه في الدقائق الأولى للمعركة، يبدو أن الذي يقبع خلف الجدار قناص ماهر، أخرج مايكل من جعبته قنبلة يدوية، سحب المفتاح ورماها بقوة نحو مكان القناص، فانفجرت القنبلة على سطح المنزل وأصدرت دخانا كثيفا استطاعوا خلاله التراجع للخلف والابتعاد عن مكان الخطر. بقوا منبطحين لحين بزوغ النهار وظهور ملامح البيوت أمامهم، كانت أصوات الطلقات النارية تأتي من كل جهات القرية، أرسل مايكل أحد مقاتليه إلى مقر قيادة العملية في الخطوط الخلفية ليخبرهم بأمر القناص ومعالجته، ثم تحرك مع الباقين بعيدا عن تلك المنازل الثلاث.
خلال الساعات الأولى للعملية استطاعوا التوغل إلى منتصف القرية، كانت صيحات النساء وبكاء الأطفال تتعالى مع أصوات الإطلاقات النارية والانفجارات المتقطعة هنا وهناك، وصل مايكل وسط ساحة القرية مع مجموعته، كانت السيارة المصفحة تتوسط الساحة والمقاتلون قد أعدموا عشرة من رجال القرية وكدسوا الجثت فوق بعضها البعض وتجمعت النساء في زاوية قريبة منهم ويتم سوقهن الواحدة تلو الأخرى من خلال باب خشبي داخل بيت كبير وصرخاتهن تتعالى مع ضحكات المقاتلين المتمتعين بهن، للوهلة الأولى صدم مايكل بما رأى، التفت إلى يساره فرأى أحد المقاتلين يسحب شابا من قدميه وقد تخضب وجهه بالدماء وقطرات من دمه ترسم نقاطا متقطعة على التراب، اختلطت المشاهد بذاكرة مايكل، فتذكر الدماء التي كانت ترسم خطا أحمر على الثلوج عندما كان حراس النازية يجرون قدم ذلك المعتقل الذي فقد إرادته في الحياة في معسكر أوشفيتز، خارت قواه وجلس متكئا على حائط أحد المنازل يراقب ما يحدث أمامه مذهولا، كانت أصوات صاخبة تتعالى في مخيلته، أصوات صفارات القيادة هناك وصيحات النساء وبكاء الأطفال هنا، صور القتل بدم بارد هنا وهناك حتى اشتم رائحة لم تكن غريبة على أنفه، لكنه لم يكن ليصدق أن غير النازية يفعلونها، انتصب واقفا واتجه نحو تلك الرائحة النتنة المألوفة، ولج أحد البيوت فرأى المقاتلين يتضاحكون وقد جمعوا أطفالا ونساء وشيوخا في غرفة يحرقونهم بعد القتل، وصوت أزيز احتراقهم يصدر منها، بشكل يبعث الاشمئزاز ويظهر مدى التوحش لدى الإنسان، لم يتمالك نفسه مايكل، وقع على ركبتيه ثم أخرج كل ما في جوفه وهو يسعل ويبكي ويتذكر وجه ديفيد، برودة يديه، أزيز احتراق جثته، شعر أن اليهود تحولوا إلى نازية جدد وأنهم يحرقون جثة ديفيد وكل من يقف في وجههم، لم يكن بمقدوره الانسحاب، فحمل سلاحه وانطلق إلى حيث لا يدري، لحق به مقاتلوه من زقاق إلى آخر حتى ولجوا كرم عنب على أطراف القرية، كان مقاتلوه ينادونه: «الى أين يا مايكل؟ إلى أين؟» وهو لا يبالي ولا يسمع غير صخب الذكريات الأليمة في مخيلته، إلى أن تعرض لطلقات نارية من سطح منزل وحيد بين تلك الأشجار، لم يبغ القتال مايكل، لكن مجموعته اشتبكوا معه، في البداية ظنوا أنه بمفرده على السطح، لكن تبين فيما بعد أنهما اثنان، سقط أحد مقاتليه أرضا بعدما أصيب بطلقة في صدره، ثم سقط آخر فبقي معه مقاتل واحد ولج البيت بحركة بطولية. سمع مايكل إطلاقات نارية داخل البيت فعلم أنه قتل هو الآخر، لم يكن أمامه خيار آخر سوى القتال، فأخرج قنبلته اليدوية الثانية ورماها نحو السطح، فسمع صراخا ظن أنه أصابهما بتلك القنبلة، ولج البيت بحذر شديد، تفحص الغرف فلم يجد أحدا، اعتلى الدرج بخفة مصوبا بندقيته نحو الأعلى، اتكأ على حائط الدرج وصعد بحذر دون أن يصدر صوتا، استرق النظر نحو السطح فرأى في الجهة البعيدة شابا يودع صديقه الذي يحتضر، اقترب منه مايكل ببطء ووضع فوهة بندقيته على رأسه وقال: ارفع يديك!
وضع الشاب رأس صاحبه على مهل ثم رفع يديه، وعندما التفت نحوه سقطت البندقية من يد مايكل ونادى بأعلى صوته: «ديفيد»، وسحبه إلى حضنه. كانت تأثيرات المجزرة في ذهن مايكل قد أعادته إلى معسكر أوشفيتز، ولم يكن يرى أمامه سوى ديفيد. بكى مايكل بحرقة ومظاهر الاستغراب والدهشة مرسومة على وجه الشاب، انتبه إلى بندقية مايكل على بعد قريب منه، خطر في ذهنه أن يحمل السلاح ويفاجئه بحركة مباغتة، وقال في نفسه: ما الذي يضمن لي أن ليس هنالك جنود آخرون سيأتون بعد قليل؟ إن لم يقتلني هو فسيقتلني أولئك .. لكنه شعر أن ما فعله الرجل معه لا يمكن رده بهذه الطريقة، الغدر ليس من شيم الرجال ولو تعرضوا للموت المحتم.
ابتعد عنه مايكل وقال: يجب أن نغادر من هنا، سيأتون في أية لحظة. - أخبرني من أنت، ولماذا فعلت ما فعلت؟! - ألا تتذكرني؟ أنا صديق بنيامين، التقينا بك في باحة الأقصى عند باب المغاربة. - آااه! أنت الألماني. - نعم. - ومن ديفيد هذا الذي ناديتني به؟ - لا وقت لدينا للنقاش، سأحدثك عنه لاحقا، لكن الآن يجب أن نبتعد، إنهم يقتلون الجميع ويحرقون الجثث. - إذن سنهرب باتجاه عين كارم، لكن يجب أن تغير ملابسك، إن رآك جيش الإنقاذ العربي فسيقتلونك، انزل إلى الغرف وابحث لك عما ترتديه، وأنا سأحمل كاظم على ظهري، لن أترك جثمانه مهما كلفني الأمر.
انطلق مايكل كالبرق وهو يحمل سلاحه نحو الأسفل، ثم اتكأ حسن على ركبة واحدة فقبل جبين كاظم ثم رفعه على ظهره، كان كاظم ضعيف البنية، لكنه كان شجاعا لا يهاب الموت، ترك أهله ودياره ومدينته الآمنة بغداد وحياته المرفهة فيها، وجاء يطلب الشهادة وقد نالها، شعر حسن أنه يحمل على ظهره كل شهداء الثورة .. هشام، عمر الصفدي حتى عبد القادر الحسيني. ثم هبط الدرج على مهل متكئا على الحائط، أقبل إليه مايكل وقد ارتدى الزي الفلسطيني القروي، حمل بندقية الجندي الميت عند عتبة الغرفة وعلقها على ظهره، ثم حاول مساعدة حسن للإسراع بالخروج .. اتجها نحو البساتين وبين الأشجار، تناوبا حمل كاظم حتى ابتعدا عن القرية، وتضاءلت أصوات الإطلاقات النارية القادمة من القرية.
Unknown page