وبعد قليل، عادت زوجة فؤاد ومعها الطبيب وسيدتان لم يعرفهما سليم، فاقتربت كبراهما منه وهي في ثياب تنم عن الثراء والتبرج، وقبلته بحنان قائلة: «لا بأس عليك يا ولدي. لقد جزعنا جميعا حين علمنا بأنك مريض في القاهرة، وكنت مصرة على مصاحبة والدتك في سفرها للاطمئنان عليك.» ثم التفتت إلى الطبيب وكان قد شرع في فحص سليم وقالت له: «أرجو يا دكتور أن تبذل أقصى عنايتك بعزيزنا سليم، فهو عندي في معزة إميلي ابنتي.» قالت ذلك وهي تشير إلى الفتاة التي دخلت معها. فعلم سليم أنها ابنتها، وعجب لمبالغتها في الاحتفاء به، ومعاملته كأنها تعرفه منذ عهد بعيد.
وبعد أن انتهى الطبيب من فحص سليم، التفت إلى تلك السيدة وقال: «اطمئني يا سيدتي، إنها حمى بسيطة لا خطر منها، ولكن يحسن أن يصحب تناول الدواء الذي سأصفه الآن، العناية بتبديل الهواء، أو الإقامة بمكان هواؤه نقي منعش مثل منطقة الرمل.»
فقالت: «هذا أمر سهل جدا يا دكتور، وأنت تعرف أن منزلنا في الرمل يمتاز بحسن الموقع. وبما أن والدته ليست هنا، فإن واجبي أن أقوم مقامها، وسأنتقل معه إلى منزلنا ذاك لأشرف على خدمته وتمريضه حتى ترجع والدته من القاهرة بسلامة الله.»
ثم التفتت إلى قرينة فؤاد وقالت لها: «إن منزلي ومنزلكم واحد كما تعلمين، وأنت مشغولة بالأولاد وتربيتهم، أما أنا فأستطيع تخصيص وقتي كله للقيام بهذه المهمة.»
فأعجب سليم بلطف تلك السيدة وإخلاصها وكرمها، ثم رآها تودع الطبيب وتشير إلى ابنتها أن تكلف بعض الخدم بإعداد منزل الرمل للانتقال إليه بعد قليل، فخاطبها لأول مرة قائلا وفي وجهه علامات التأثر الشديد: «إننا جميعا عاجزون عن شكرك يا سيدتي، وليس في الأمر ما يدعو إلى تعجيل الانتقال.»
فقالت له: «إنني لم أقم إلا ببعض الواجب علي، فوالدتك أعز علي من أخت شقيقة، وأنت عندي بمنزلة وحيدتي هذه (وأشارت إلى ابنتها إميلي). وكن على يقين من أن وجودك عندنا هو أسعد ما نتمناه. ومتى عادت والدتك بالسلامة فستخبرك كما يخبرك عزيزنا فؤاد وقرينته بأنه ليس بيننا أي تكليف.»
ولم يسع فؤاد وقرينته إلا أن يشكراها بدورهما على صدق مودتها ومروءتها، تاركين أمر الانتقال أو البقاء لرغبة سليم، فقال موجها الكلام إلى وردة: «إنني ولا شك يسعدني أن ألبي هذه الدعوة الكريمة المشكورة، ولكني الآن ما زلت في نوبة الحمى، وربما كان في الانتقال ما يزيد وطأتها، فننتظر إلى غد، ثم يفعل الله ما يشاء.»
فقالت وردة: «لقد سألت في ذلك صديقنا الطبيب، فأكد لي ألا خطر من الانتقال الآن على أن يكون في عربة مغلقة.»
ثم التفتت إلى ابنتها وقالت لها: «هل كلفت الخدم بإعداد منزل الرمل؟»
فقالت: «نعم، وقد ذهب أحدهم لإحضار مركبة مغلقة حسب أمر الطبيب.» ثم أطرقت وقد توردت وجنتاها خفرا وحياء. فلم يجد سليم وجها للمعارضة، وسكت متنهدا إذ ذكرته رؤية إميلي بسلمى وما كان من إعجابه بكمالها وأدبها وحيائها. وكادت الدموع تنحدر من عينيه تأثرا لولا أن جاء أحد خدم وردة وقال لها: «إن المركبة بالباب يا سيدتي.» فنهضت، وتعاون الجميع على توصيل سليم إلى المركبة وإدخاله فيها، حيث جلس بين شقيقه فؤاد والسيدة وردة، وسارت المركبة، وخلفها مركبة أخرى فيها إميلي وزوجة فؤاد.
Unknown page